الرب يُغير النفس ويُجددها

‏العظة الرابعة والأربعون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

[أ] الرب يُغير النفس الوحشية إلى الصلاح

1 – الذي يتقدم إلى الله ويروم حقا أن يكون جليساً[1] للمسيح ، يلزمه لأجل هذه الغاية أن يتقدم ليتغير ويتحول عن حالته وسيرته السالفة ، ويغدو إنساناً صالحاً وجديداً لا يحمل شيئاً من الإنسان العتيق ، لأنه يقول : “إن كان أحد في المسيح هو خليقة جديدة ” ( ۲ کو 17:5 ). فإن ربنا[2] لأجل هذا قد أتي ، لكي يغير الطبيعة ويُحولها ويجددها ويخلق ثانية هذه النفس التي طوحت بها الأهواء بسبب المخالفة ، مازجا إياها بروحه الخاص – روح الألوهة ؛ يخلقها ذهناً جديداً ، ونفساً جديدة ، وعيوناً جديدة ، وآذاناً جديدة ، ولساناً جديداً روحانیاً[3]. ومجمل القول إنه قد أتی ليجعل من الذين يؤمنون به أناساً جُدداً، أو أزقاقاً جديدة ، ماسحاً إياها بنور معرفته الخاص، لكي يضع فيها الخمر الجديدة التي هي روحه ، لأنه يقول : « الخمر الجديده يلزم[4] أن توضع في زق جديد » ( لو 5: 38 ) .

۲ – فكما أن العدو لما أحكم قبضته على الإنسان ، جعله جديداً لنفسه وألقى فيه خمر كل إثم وتعليم شرير ، كاسياً إياه بأهواء الشر وماسحاً إياه بروح الخطيئة؛ هكذا الرب أيضا لما افتداه من العدو ، جعله جديداً، ماسحاً إياه بروحه الخاص ، وسگب فيه خمر الحياة الذي هو تعليم الروح القدس الجديد . فإن الذي غير طبيعة الخمس خبزات إلى كثرة [5]، والذي أعطى صوتاً لطبيعة الحمار غير الناطقة[6]، والذي حوَّل الزانية إلى العفة ، والذي هيَّا طبيعة النار المحرقة لتندي على الذين كانوا في الأتون[7]، والذي ذلل لدانیال طبيعة الأسود ، الوحوش البرية[8]، لهو قادر كذلك أن يُغير مثل هذه النفس الخربة الحرون ، من الخطيئة إلى صلاحه ولطفه وسلامه ، « بروح الموعد القدوس »[9] الصالح .

[ب] الرب هو طبيب النفس الحقيقي

٣- لأنه على غرار الراعي الذي يستطيع أن يشفي الخروف الأجرب ويحرسه من الذئاب ، بالمثل أيضاً المسيح ، الراعي الحقيقي ، لما أتی استطاع وحده أن يشفي الخروف الضال والأجرب ، الذي هو الإنسان ، ويرده من جرب الخطيئة وبرصها . لأن الكهنة واللاويين والمعلمين الذين كانوا قبلاً ما استطاعوا أن يشفوا النفس بتقديم القرابين والذبائح ورش الدم ، لا ولا حتى ذواتهم استطاعوا أن يشفوها ، لأنهم أيضاً مُحاطون بالضعف[10] ، لأنه يقول : « لا يمكن أن دم ثيران وتیوس يرفع خطايا» ( عب 10 : 4 ) ؛ أما الرب، فلكي يبين ضعف الأطباء آنذاك ، قال : « على كل حال تقولون لي هذا المثل ” أيها الطبيب اشف نفسك » ( لو 4 : 23) ، فكأني به يقول : ” إني لست مثل أولئك الذين ما استطاعوا أن يشفوا ولا حتى ذواتهم . أنا الطبيب الحقيقي والراعي الصالح الذي أضع نفسي من أجل الخراف[11] ، القادر أن أشفي كل مرض وكل ضعف للنفس[12] . أنا هو الخروف الذي بلا عيب الذي « قُدم مره واحدة » [13]، القادر أن أشفي الذين يتقدمون إلي . لأن شفاء النفس الحقيقي يتأتی من الرب وحده ، لأنه يقول : « هو ذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم » ( يو 1 : 29) ، أي خطيئة النفس التي آمنت به وأحبته من كل قلبها.

 

4 – فالراعي الصالح إذا يشفي الخروف الأجرب ، أما الخروف فما يستطيع أن يشفي خروفاً؛ وإذا لم يُشف الخروف الناطق أي الإنسان ، فإنه لا يدخل إلى « گنيسة الرب » السماوية[14] ، إذ هكذا قد قيل في الناموس خلال ظل ورمز. فإنه بشأن الأبرص والذي فيه عيب يُلمح الروح مشيراً إلى هذه الأمور فيقول : « لا يدخلن الأبرص والذي فيه عيب إلى كنيسة الرب » ( قارن : لا ۱۷:۲۱ ؛ تث ۲۳ : ۱-۳ ؛ لا ۲۱ : ۱۸-۲۱ ) . لكنه أمر الأبرص بأن يمضي إلى الكاهن ويطلب إليه كثيراً بأن يجيء إلى بيت خيمته ، ليشير هو له على موضع ضربة البرص ، فيضع الكاهن يديه على البرص ويشفيه ؛ على ذات المنوال أيضا المسيح « رئیس كهنة الخيرات العتيدة »[15] الحقيقي ، حين ينعطف على النفوس البرصاء ببرص الخطيئة حالما تدعوه ، فإنه يدخل إلى خيمة أجسادها ويشفي أهواءها ويداويها ، وهكذا تتمگن النفس من الدخول إلى كنيسة القديسين السماوية ، كنيسة إسرائيل الحقيقي . لأ كنل نفس تحمل برص أهواء الخطيئة ولا تتقدم الآن إلى رئيس الكهنة الحقيقي وتُشفى ، فلن تدخل إلى معسكر القديسين أي الكنيسة السماوية . فلأن هذه الكنيسة بلا عيب ونقية فإنها تطلب نفوساً بلا عيب ونقية ، لأنه يقول : « طوبي لأنقياء القلب ، لأنهم يُعاينو الله » ( مت 5 : 8 ) .

[ج] الروح القدس يطير بالنفس فوق هذا العالم

5- فينبغي للنفس التي تؤمن حقاً بالمسيح أن تنتقل وتتغير من سيرتها الشريرة الحاضرة إلى سيرة أخرى صالحة ، ومن طبيعتها الذليلة الحاضرة إلى طبيعة أخرى إلهية ، وأن تتجدد بقوة الروح القدس ، وهكذا يمكنها أن تكون لائقة بالملكوت السماوي. أما الحصول على هذه الأمور فيتحقق لنا إن كنا نؤمن به ونحبه بالحق ونسلك في جميع وصاياه المقدسة . لأنه إن كان في زمان أليشع التي ، لما ألقيت الخشبة – وهي بطبيعتها خفيفة – في المياه رفعت الحديد الثقيل بطبيعته[16] ، فكم بالأحرى هنا يرسل الرب روحه الخفيف النشيط الصالح السماوي ، وبواسطته يرفع النفس التي قد أُغرقت في مياه الشر ، ويُصيرها خفيفة وينبت لها أجنحة فتُخلق في أعالي السماوات ، وينقلها ويُغيرها من طبيعتها الخاصة . 

 6 – وكما أنه في الأمور الظاهرة ليس أحد بستطيع من ذاته أن يعبر البحر ويجتازه إلا إذا كان له سفينة سريعة خفيفة قد صُنعت من الخشب ، تلك التي وحدها تستطيع أن تمشي فوق المياه ، إذ إن من يصعد إلى البحر يغرق ويهلك ؛ بنفس الطريقة لا تستطيع النفس من ذاتها أن تجتاز وتتخطى وتعبر بحر الخطيئة المر ولجة القوات الشريرة الصعبة التي لظلمة الأهواء ، إلا إذا قبلت روح المسيح الخفيف السماوي ذا الأجنحة الصالحة ، ذاك الذي يمشي فوق كل الشر ويعبره ، والذي بواسطته تتمكن النفس من الوصول مباشرة وباستقامة إلى ميناء الراحة السماوي ، إلى مدينة الملكوت . لكن كما أن الذين في السفينة لا يستقون ماء من البحر ويشربونه ولا يقتنون منه ثيابهم ولا طعامهم ، بل من الخارج يأتون بهذه في السفينة ؛ هكذا نفوس المسيحيين تحصل على طعام سماوي وثياب روحانية ، لا من هذا الدهر بل من فوق ، من السماء ، وإذ تحيا من هناك وتبحر في سفينة الروح الصالح والمحيي ، تتجاوز القوات المعادية الشريرة التي للرؤساء والسلاطين . وكما أنه من طبيعة الخشب الواحدة تُبنى كافة القوارب التي بها يتسنى للناس أن يعبروا البحر المر ، هكذا كل نفوس المسيحيين إذا ما نالت القوة من اللاهوت الواحد ذي النور السماوي ومن مواهب الروح الواحد المتنوعة ، تُحلق عالياً فوق كل الشر.

[د] المسيح الربان البارع لسفينة النفس

۷- ولأن السفينة يعوزها أيضا رُبان وريح موافقة طيبة لكيما تُبحر حسنا ، فهذه جميعا هي الرب نفسه الحاضر في النفس المؤمنة والعابر بها العواصف المروعة وأمواج الشر العاتية وزوابع ريح في الخطيئة العاصفة ، ببأس وحنكة ودراية ، كما يعلم هو ، مبطلاً ثوراها . فبدون المسيح ، الربان السماوي ، هيهات لأحد أن يعبر بحر قوات الظلمة الشرير وأنواء التجارب المُرة ، لأنه يقول : « يصعدون إلى السماوات ويهبطون إلى الأعماق » ( مز 106 : 29 س ) . فالمسيح له كل المعرفة التي لربان حاذق في الحروب والتجارب ، فيبحر فوق الأمواج العاتية ، لأنه يقول : « في ما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين » ( عب ۲ : ۱۸ ) .

٨- من ثم ينبغي لنفوسنا أن تتغير وتنتقل من سيرتها الراهنة إلى سيرة أخرى وطبيعة إلهية ، فتغدو جُددا من عتقاء ، أي صالحين ولطفاء وأمناء من بعد مرارة وعدم إيمان ، وهكذا نصبح لائقين للعودة إلى الملكوت السماوي. فالطوباوي بولس يكتب عن تغييره وعن الإدراك الذي به أدركه[17] الرب هكذا : « لكني أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح » ( في ۱۲:۳ ) . فكيف أدركه الله؟ كما لو أن طاغية يسوق سبياً قد اختطفه ، ثم يدركه الملك الحقيقي ؛ هكذا بولس أيضاً لما كان يعمل فيه روح الخطيئة الطاغي كان يضطهد الكنيسة وينهبها[18] ، لكن لأنه كان يعمل هذا غيرة الله، عن جهل كأنما يجاهد من أجل الحق[19] ، فإن الرب لم يغفل عنه بل أدركه ، إذ أبرق حوله الملك السماوي الحقيقي على نحو لا يُنطق به ، مانّاً عليه بصوت منه ، ولطمه كعب ثم أطلقه[20]. فانظر صلاح السيد وتغييره للإنسان ، كيف يستطيع أن يُغير النفوس التي جُدلت بالشر ونگصت إلى الوحشية ، وينقلها في لحظة من الزمان إلى صلاحه وسلامه ! 

9- « فإن كل شيء مُستطاع عند الله »[21] ، مثلما صار مع اللص الذي بإيمانه نُقل في لحظة من الزمان ورُد إلى الفردوس[22] . فمن أجل هذا جاء الرب لكي يُغير نفوسنا ويخلقها من جديد ويجعلها – كما هو مکتوب – « شريكة للطبيعة الإلهية » ( ۲ بط 1: 4 ) ، ولكي يهب لنفوسنا نفساً سماوية ، أي روح اللاهوت کمرشد لنا نحو كل فضيلة ، حتی يمكننا أن نحيا الحياة الأبدية. فيا ليتنا نؤمن من كل قلوبنا بمواعيده التي لا يُعبر عنها ، لأن الذي وعد هو صادق.

فيتعين علينا إذا أن نحب الرب، ونجتهد بكل وسيلة في سائر الفضائل ، ونسأله بمداومة ومثابرة ، لكي نقبل موعد روحه[23] بالتمام والكمال ، حتى تحيا نفوسنا ونحن بعد في الجسد . فما لم تقبل النفس “تقدیس الروح”[24] في هذا العالم بإيمان كثير وتوسل ، وما لم تصر « شريكة للطبيعة الإلهية »[25] وممتزجة بالنعمة التي تمكنها من تکمیل کل وصية بلا لوم وبنقاوة ، فإنها تحسب غير لائقة بملكوت السماوات ، لأن ما اقتناه أحد من صلاح منذ الآن ، هذا عينه سيكون له حياة في ذلك اليوم ، بواسطة الآب والابن والروح القدس إلى الأهور ، آمین . 


  1. = جالس بجانب . 
  2. تضيف نسخة ال PG هنا يسوع المسيح PG 34 , 780 A 
  3. انظر : العظة 4:2 ( نهاية الفقرة ) .
  4.  بحسب الترجمة الأدق للكلمة 
  5. انظر : مت 17:14-21؛ مر 6 : 38-45 ؛ لو 9: 13-17.
  6. انظر : عد 22: 28 ۔ 
  7. انظر : دا 3 : 50 س
  8. انظر : دا 6 : 23
  9. أف 13:1.
  10.  انظر : عب 5 : 2. 
  11. انظر : يو 11:10 
  12. وردت هاتان الكلمتان ” كل مرض وكل ضعف” هكذا متجاورتين ثلاث مرات فقط في الكتاب المقدس، وفي هذه المواضع الثلاثة جميعها يوصف بها عمل المسيح ( مت 4 : 23؛ 9 : 30؛ 1:10).
  13. عب 9: 28 . 
  14.  عبارة « كنیسة الرب » عبارة شائعة في الترجمة السبعينية ( تكررت سبع مرات ) ، وهي مُترجمة جماعة الرب في الترجمة العربية الدارجة عن العبرية ( انظر : تث 23: 2 ، 3 ، 23 : 4 ، 9، می2: 5 ) .
  15.  عب 9: 11.
  16. انظر : 2 مل 6 : 6
  17. الفعل المترجم يدرك ست مرات في هذه السطور ، يعني : يمسك بـ، يلحق بـ ، يبلغ
  18.  انظر : غل 13:1 ؛ في 6:3. 
  19. انظر : رو 2:10 ؛ 1تي 13:1 
  20. إشارة إلى إصابته بالعمى مدة ثلاثة أيام جراء رؤيا دمشق ، ثم شفائه بعد ذلك . 
  21. مر 27:10
  22. انظر : لو 23: 43 .
  23.  انظر : أع 2: 33 ؛ غل 3: 14 . 
  24. 2تس 13:2 . 
  25. 2بط 4:1 . 

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى