تفسير سفر يهوديت – المقدمة للأنبا مكاريوس أسقف المنيا
تمثل يهوديت النفس البشرية الغيورة، التي تغير لمجد الرب، وتستمد منه القوة والحكمة لمواجهة قوى الشر، فقد قطعت رأس الشر وهزمت الشيطان في عقر داره.
كما يمثل سفر يهوديت الانتماء، انتماء العضو لبقية الجسد، وانتماء الشخص للوطن والكنيسة وشعوره بالمسئولية من نحو الآخرين والوطن.. فالسفر مملوء بالحماس الديني والوطني ومليء بالمشاعر الروحية الجياشة.
أما يهوديت نفسها فهي امرأة ذات صفات يندر وجودها مجتمعة في شخصية واحدة – فقد تحلت بالفضائل الروحية والمقومات الهامة للشخصية الروحية والوطنية.. فقد جمعت بين الحكمة واللياقة وبين الغنى والنسك وبين الشجاعة والاتضاع.. والجمال الجسدي والعفة.
إنه سفر مملوء بالكثير من التعاليم الروحية والفضائل (المسيحية) وقد حان الوقت لكي تأخذ هذه الأسفار مكانها بين بقية الأسفار في دراستنا الكتابية من خلال العظات والكتب والمسابقات وبرامج مدارس الأحد.. وأقترح أن نقدم هذه الأسفار في صور تراتيل وقصص مبسطة للأطفال تحت سن العاشرة حتى تختلط بوجدانهم منذ الصغر.
1. محور السفر
نبوخذ نصر الملك الأشوري، بعدما أخضع بلاد مادي شرقًا، أرسل يطلب تأييد بلاد الغرب ومساندتهم، ولكن الأخيرين سخروا من رسله، ورفعوا راية العصيان، فما كان منه إلاَ لأن حمل عليهم بجيش كالجراد، وعتاد لا قبل لهم بمثله فانتقم منهم شر نقمة، وذلك عن طريق أليفانا قائد جيوشه، الذي حصد الرجال بالسيوف وأحرق محصولات الأرض، وفرض الجزية عينية ومادية.
ومن ثم فقد أرسل إليه قواد المدن التي لم يصل إليها بعد بجيشه، يترضَون وجهه معلنين طاعتهم وخضوعهم مقدمين المؤونة لجيش الجرار. إلاّ اليهود الذين رفضوا أن يندرجوا ضمن الخاضعين، فلم يرسلوا معتذرين مستسلمين كالباقين، فلما علم قائد الجيوش بعصيانهم وعدم خضوعهم، تعجب وعقد “مجلس حرب” استحضر فيه قواد عمون وموآب يستفسر منهم عن طبيعة شعب اليهود ومن عساهم أن يكونوا حتى يتمردّوا، ولكن على الرغم من أن العمونيين والموآبيين هم الأعداء التقليديين لليهود، فقد حذّر أحيور قائد بنى عمون، أليفانا من خطر الاصطدام باليهود ناصحًا إياه بالتحول عنهم لأن إله السماء يحارب عنهم، وقد عرض أحيور ذلك في شرح مطول.
غير أن القائد لم يقنّع بشيء من هذا وإنما هدد أحيور بالقتل في حالة هزيمة اليهود ومن ثم أرسله اليهود ليلقى نفس مصيرهم، وكانت (بيت فلوى) هي الخط الأمامي لليهودية، وكان أهلها قد تلقوا تعليمات من رئيس الكهنة في أورشليم بأن يسدوا كل المنافذ التي يحتمل أن يتسلل العدو من خلالها، كذلك فقد كانت جغرافية الأرض تجعل من اقتحام الأعداء للمدينة، نوعًا من المغامرة والمقامرة، مما جعل أليفانا يقبل نصيحة الناصحين باللجوء إلى الحصار وقطع موارد الماء عن المدينة وذلك بغية تحقيق هدفين أشار إليهما مشيرو أليفانا من جيران اليهود:
أولهما: تعُرض الشعب للجوع والعطش مما يدفعهم إلى الضغط على قادتهم بتسليم المدينة.
وثانيهما: إجبارهم على استهلاك نصيب الله من العشور والبكور مما يجلب غضبه عليهم فيسلمهم ليد أعدائهم.
وقد حدث بالفعل بعد مرور خمسة أسابيع من بدء الحصار، أن نفذ الماء من المدينة ولاحت المجاعة بوجهها القاسي الكريه، فلما هاج السكان على قادتهم الثلاثة هناك وعدوهم بتسليم المدينة.
هنا وتخترق يهوديت أحداث السفر، وهي أرملة جميلة وغنية ومشهود لها بالتقوى من الجميع، فقد سمعت بعزم الرؤساء على تسليم المدينة، فجاءت توبخهم على تقلص ثقتهم في الله، وتطلب إليهم مهلة يصنع فيها الله خلاصًا على يديها فوافقوها دون أن يعلموا خطتها ودون أن تطلب هي بدورها مساعدة من أحد، ومن ثم فقد قدمت صلاة طويلة في مكان تعبدها في علّية بيتها، وبعد ذلك تزينت بكل ما تملك من مجوهرات كانت قد ألقتها جانبًا منذ موت زوجها منسى، وانطلقت إلى باب المدينة ففتح لها الحراس الباب فخرجت مع جاريتها متجهة إلى معسكر الأعداء الذين بهرهم جمالها فأرسلوها إلى قائدهم كطلبها.
هناك سلبت عقل أليفانا لا سيما وقد خدعته بأن الشعب منهزم لا محالة وأنها إنما قد هربت إليه لتنجو من الهلاك المحقق، وتشير عليه بما يجب أن يعمل، وعليه أن ينتظر منها إشارة البدء والتي سوف تأخذها من الله، لذلك فعليه أن يسمح لها بالخروج للصلاة ليلًا والاغتسال في الماء.
وبعد ثلاثة أيام دعاها أليفانا إلى وليمته، وبينما هو يفكر فيها بالشهوة كان الله يعد خلاصًا لشعبه في تلك الليلة، حيث تثقّل بالشراب فسكر مثل الميت، ولما تركه جنوده معها وخرجوا، وجدت يهوديت أن اللحظة الحاسمة قد جاءت، فاستنجدت بالله وجمعت أطراف شجاعتها ثم هوت بخنجر على عنقه مرتين فانفصل رأسه عنه، فأخذتها مرتجفة ووضعتها في مذود طعامها وحملتها مع جاريتها وخرجت من المعسكر كعادتها في كل ليلة فلم يعترضها أحد، ولما وصلت إلى سور المدينة نادت على الحراس ففتحوا لها، وصرخت فيهم معلنة أخبار النصرة، فانطلق الكل مرتجفين واجتمع الرؤساء والشعب.. وعلموا بالخبر فعلقوا الرأس على السور مقابل معسكر الأعداء، وفي الصبح أطلقوا أبواب الحرب، فقام الأشوريون مستخفين غاضبين ليوقظوا قائدهم ليصدر لهم الأمر بسحق أولئك الجسورين فوجدوه قتيلًا بلا رأس، وفي تلك اللحظة وقفوا على الأمر كله، وتجمعت أمامهم الفصول الكاملة للحيلة التي حبكتها امرأة عبرانية جريئة.
فانزعج الجيش وهرب الجنود بطريقة عشوائية، أتاحت لليهود مطاردتهم وتشتيتهم على الرغم من عددهم الذي كان يقدر وقتها بحوالي المائتي ألف مابين جندي وفارس، ومن ثم فقد استولوا على أمتعتهم ومحتويات خيامهم، وصار بيهوديت سلام لإسرائيل طوال أيام حياتها وبعدها أيضًا لفترة طويلة.
كذلك فإن هناك محورًا هامًا أيضًا في السفر وهو قانون (معادلة) النصر والهزيمة في لاهوت العهد القديم، حيث يلقى السفر الضوء على موازين الله في الحروب.
2. كاتب السفر
قام بكتابة السفر كاتب يهودي يجمع بين الملاحظة الدقيقة للناموس مع الروح الوطنية القومية، والكاتب غير معروف، ولكن يحسن بنا أن نتخيلّ أن يهوديت نفسها قد دونت ما حدث ما حدث ووضعته ضمن الهدايا التي أوقفتها على الهيكل وكانت قد تلقتها كهدايا تذكارية من متاع أليفانا وصاحب هذا الرأي هوالقديس إيرونيموس 1.
ثم جاء بعد ذلك كاتب يهودي أعدّ مذكرات يهوديت هذه لتدرج ضمن الأسفار القانونية، على أن ذلك الكاتب لم يحذف ولم يضيف وإنما أضفى أسلوبه وشخصيته على الكتاب، حيث يتضح جليًا أن السفر قد كتب بيد واحدة كما استنتج ذلك العالم تشارلز R. H. Charles2 وعلى الرغم من أن الكاتبة (يهوديت) أثبتت في الكتاب ثقافتها اليهودية، وعكست محبتها للشريعة، ووطنيتها وبعدها الروحي، فإن المترجم في القرن الثاني قد ظهر عليه التأثير الهيليني. (في الترجمة السبعينية).
هذا وقد اقترح الكاتب J. E. Bruns في عام 1954 م. أن الكاتب قد نشأ في مصر ولكن هذا الرأي لم ينل تأييدًا ما، وكذلك اقترح كاتب آخر نفس الرأي سنة 1965 م، ولعلّ السبب الذي دفعهم إلى اقتراح مصر كموطن للكاتب هو انتشار السفر في مصر بين يهود الإسكندرية، ولكن يجب أن نعرف أن يهود الإسكندرية كانوا في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد يفوقون يهود أورشليم عددًا، كما كان السفر مستخدمًا بينهم لاتساع أفقهم اللاهوتي بالنسبة ليهود أورشليم. 3
أما العالم فولف فينسب كتابة السفر إلى أحيور العموني ربما بسبب الوصف التفصيلي للحوار الذي بينه وبين نبوخذ نصر 4، أما العالم كلمت فينسبه إلى يشوع بن يوصاداق رفيق زربابل عند العودة من السبي 5.
ولكن المرجح أن السفر كتب في زمن الأحداث وبالقرب منها نظرًا لما فيه من تفاصيل.
وربما أيضًا يكون كاتب السفر هو ألياقيم رئيس الكهنة نفسه، بسبب تركيزه على عمل الصلاة والتسبيح وبعض تفاصيل تجدر في معرفتها بشخص عالم ديني مطلع على الدقائق والناموس أكثر من الباقين، كما أنه كان وقتها هو الممثل الديني والسياسي في اليهودية.
والسفر حيوى من حيث الأسلوب، ترتفع بعض مقاطعه إلى مستوى الشعر الحقيقي، وقد جعل الكاتب الرد والأحداث والجمل، مرتبة ترتيبًا تصاعديًا فاتجهت القصة ببطء إلى الصورة المعرابية (صورة بلاغية تكون فيها العبارات والجمل مرتبة تصاعديًا) حتى يبلغ أثرها البلاغي بقوة في نفس المطالع.
وظهرت الصلوات والتسابيح في السفر، مثل عربات! على طول السفر تنقل التعليم والعظات والنصح، وقد رأى بعض العلماء أن أسلوب السفر يشبه في جماله مؤلفات الأديب اليوناني Parthenius فيما بعد، وقد ظهرت اللمسات الروائية في شرح التفاصيل والإثارة في العرض.
ومن هنا فهو سفر إلى جانب أنه مسياني، فهو يثقف ومسّلي ومهذّب، ويرى بعض الشرَّاح أن هناك أوجه كثيرة للشبه بينه وبين أعمال الرسل، كما يتفوق على طوبيا في أسلوبه المفعم بالحيوية.
ويصف العالم Charles ، كاتب السفر بأنه له موهبة في التعليم، ويتَّسم أسلوبه في الكتابة بالواقعية وعدم التضخيم وأنه على دراية واسعة بآداب شعبه وعاداتهم، وكذلك فهو مطّلع على أسفار العهد القديم حتى دانيال وأستير، كما أنه متأثر بقصة إبراهيم كما وردت في المدراش، راجع (يهو 5: 6 – 9).
ومرة أخرى نقول أن هناك شخصًا أعد السفر للنشر، من خلال صورته الأولى التي يحتمل جدًا أن تكون قد تمت على يد يهوديت نفسها.
3. تاريخ كتابة السفر
حدد العلماء الفترة التي لا بُد وأن السفر كتب خلالها، وهي الفترة من القرن السابع قبل الميلاد، ولهم في كل قرن من تلك القرون الستة دلائل يستندون عليها 1.
ويرجع العالم R. H Charles زمن ما بعد السبي مباشرة كوقت كتابة السفر حيث لا يوجد ملك للبلاد، وحيث يعمل الشيوخ مع السنهدريم gerusia (جيروسيا)، وهو كذلك يقول أن القصة دارت أحداثها في وقت غير الوقت الذي نشرت فيه.
ولكي نستطيع أن نحدد تاريخ كتابة السفر حتى في صورته الأولى، لا بُد لنا أن نحدد الوقت الذي عاشت فيه يهوديت وجرت أحداث السفر فيه، وهناك ثلاث نظريات في هذا الصدد.
فالنظرية الأولى تقترح الفترة التي كان فيها منسّى الملك مأسورًا في بلاد مابين النهرين، حيث لا يوجد ملك في البلاد، في ذلك الحين يقوم ملك الشمال بحملة 2 نحو الجنوب مارًا باليهودية، ووقتها جرت أحداث بيت فلوى (وهذا هو الأرجح في نظرنا).
والنظرية الثانية تقترح فترة ملك سنحاريب الأشوري حيث قام بحملة تأديب بعد هزيمته الشهيرة في فجر القرن السابع قبل الميلاد، منتقمًا أولًا من أرفكشاد صديق اليهود ثم متجهًا نحو اليهودية جنوبًا.
وأما النظرية الثالثة فتقترح القرن الرابع قبل الميلاد، في عصر أرتحتشتا الثالث وحملته الجنوبية والتي توقفت في اليهودية عند بيت فلوى..
أما السبب في ترجيح القرن السابع زمنًا لكتابة السفر، فهو أن أرفكشاد المذكور هنا كملك لميديا، بنى مدينة أحمتا، ومعروف أن هذه المدينة بنيت في سنة 700 ق. م، مما يعنى أنه عاش في القرن السابع وأن أحداث السفر بالتالي قد وقعت في ذلك الوقت، وعليه فمن غير المنطقي أن يكتب السفر بهذه التفاصيل الدقيقة بعد مرور ثلاثة قرون على أحداثه!!
كما أن السفر لا يذكر سبى بابل وهو حدث كبير لا يمكن لكاتب أي سفر إهماله، كما أن الأسفار التي جاءت بعد السبي ذكرت مثل المكابيين، مما يعنى أن السفر كتب في نفس القرن الذي وقعت فيه الأحداث.
4.3. النسخ الأصلية للسفر ولغته
يجمع كل العلماء حاليًا على أن النسخة الأصلية للسفر وجدت في لغة سامية والأرجح أنها عبرية وليست أرامية كما ظن البعض، حيث يشير القديس جيروم إلى نسخة سامية مفقودة [1] حيث تعتبر النسخة السريانية للسفر، أكثر تمثيلًا للأصل السامي 2 فقد وجدت النسخة اليونانية التي عثر عليها للسفر، غير متطابقة مع لغة كتابة العهد الجديد كما وردت في المخطوطات اليونانية، وحتى إذا كانت خالية من المصطلحات السامية، فإنها حرفية جدًا، حتى أنه يمكن ردها بسهولة إلى أصلها العبري، كذلك فإن استخدام الكاتب للتعبيرات العبرية كثيرًا جدًا، وبطريقة غير مألوفة في اليونانية 3
وعلى سبيل المثال فإن الاسم أحيور وفي العبرية ومعناها (أخي النور) قد كتبت في بعض المخطوطات اليونانية أخيود وذلك بسبب التشابه الكبير بين حرفي الدال في العبري والراء في أخيود فإنها تغير المعنى يصبح رمزًا لا اسمًا لشخص، إذا أن أخيود تعني (أخي اليهود وصديق اليهود) ويصبح حل هذه المشكلة في الرجوع إلى الأصل العبري، ويرد في الموسوعة اليهودية أن السفر كتب أولًا بالعبرية وأن الترجمة اليونانية تحمل علامات لا تخطئ، بأنها ترجمت عن العبرية، كما أن اللهجة في السفر هي لهجة نابعة عن اليهودية الكلاسيكية وأنها لهجة حية. وقد أيد هذا الرأي كثير من العلماء، أمثال (Fabricius & John & Eichhorn ) كذلك فإن الاقتباسات هي من النسخة اليونانية من العهد القديم، وقد جاءت متفقة مع الترجمة السبعينية للعهد القديم، كما أن الكثير من الغموض في النسخة اليونانية لا يمكن كشفه إلا بالرجوع إلى الأصل العبري. 4كما أشرنا.
ويردد في مقدمة السفر باللغة العبرية والتي نشرها العالم أفراهام كاهانا أم السفر ترجم عن أصل عبري، بل إنه ترجم كلمة بكلمة تقريبًا، فإذا ما نجحنا في ترجمة النسخة اليونانية كلمة كلمة إلى العبرية سنحصل على الأصل العبري (أنظر النص العبري في نهاية الكتاب).
أما أول إشارة إلى النسخة اليونانية الأولى للسفر، جاءت عن طريق القديس إكليمندس الروماني وذلك في سنة 90 م.، حيث يلمّح إليها باعتبارها معروفة لدى اليهود اليونانيين (يهود الشتات) مثلما يتحدث عن سفر إستر كسفر معروف لدى قرائه 5 وحيث الأصل العبراني للسفر مفقود، فإن أقدم صورة وصلت إلينا فيها هي ترجمته اليونانية وهذه وصلت إلينا في ثلاثة أشكال:
- الشكل المعتاد وهو الأكثر أصالة تمثله المخطوطات (النسخة السينائية).
- الشكل الموجود في المخطوطتين رقم (19 و108).
- الشكل الموجود في المخطوط رقم (58) وهو متفق مع النسختين اللاتينية والسريانية بصورة ملحوظة.
ومع ذلك فإن هذه الأشكال الثلاثة تمثل نفس النسخة، وترجع إلى نفس الأصل وهي متفقة فيما بينها، عدا خلافات طفيفة ترجع إلى فوارق شخصية بين المترجمين أنفسهم 6.
هذا وتعتبر النسخ اليونانية المختلفة لسفر يهوديت أكثر تطابقًا فيما بينها، بالنسبة لنسخ سفر طوبيا.
وقد قام القديس جيروم بعمل ترجمته للسفر ضمن ترجمته المعروفة باسم الفولجاتا أي الشعبية في سنة 398 م. عن نص كلدانى وجده، ولم يبذل مجهودًا كبيرًا فيها، إذ قام بترجمة السفر كله في ليلة واحدة، وقد قال جيروم في المقدمة: (أنه غير راضى تمامًا عن عمله هذا).
وبقدر ما هي عبارة غامضة إلاّ أنه يود ولو يعثر على النسخة العبرية ليترجم منها 7، كذلك فإنه استعان بنسخة مدراش أرامية تعرض القصة بتصرف 8 (أنظر النص العبري في نهاية الكتاب).
5. نسخ أخرى للسفر
إن اليهود ولو أنهم لا يعترفون بقانونية سفر يهوديت، إلاّ أن القصة معروفة لديهم ويذكر في ليتورجية عيد الحانوكا، وهو عيد تجديد الهيكل بواسطة يهوذا المكابي في 25 كسلو (ديسمبر) وتظهر القصة عندهم في أشكال متعددة في نصوص مدراشيم صغيرة بالعبرية وقد تم طبع بعضها.
وهناك ثلاثة أشكال أخرى للسفر بالعبرية موجودة في مكتبة البودليان بإكسفورد، كذلك يوجد نص آخر مترجم إلى العبرية عن الفولجاتا (اللاتينية) يتفق مع النصوص السابق ذكرها، حيث نشر في فينسيا تحت عنوان (معشاه يهوديت)، ولكن يبدو أن تلك النسخ عبارة عن صياغة حرة للسفر وليست ترجمة عن اليونانية ومن ثم فهي نسخ لا يعتمد عليها.
ولكن بعض الترجمات عن اليونانية نشرت تحت عنوان Hanukka (حانوكا) وهو كما ذكرنا الاسم العبري لعيد التجديد لدى اليهود، وقد نشؤت بمعرفة (مايير بن أشير) وذلك في برلين سنة 1766 م. Benseb في سنة 1819 م، وكذلك ضمن بقية كتب الأبوكريفا بمعرفة فرانك في ليبزج وذلك سنة 1830 م، كذلك فقد ظهرت في فرانكفورت ترجمة يهودية ألمانية للسفر بواسطة S. Landau وذلك في سنة 1715، ثم ظهرت نسخة فارسية منقولة عن الفولجاتا، كتبت سنة 1600 وبدون توقيع.
أما النسخة السريانية فقد طبعت في Walton’s Plygot وذلك عن مخطوطتين حديثتين للسفر موجودتان الآن في مكتبة بودليان، ترجع إحداهما إلى سنة 1614 م. والثانية إلى سنة 1627 م، حيث قامت عليهما دراسة مقارنة مع نسخة موجودة في كامبردج كما وجدت مخطوطة للسفر بالمتحف البريطاني، ترجع إلى القرن العاشر، ويملك نفس المتحف مخطوطتين أخريتين ترجع إلى القرن الثاني عشر، بينما ترجع الأخرى إلى القرن السابع عشر.
أما النصوص العبرية فقد قام العالم (دو بارل) بعمل ثلاث ترجمات بلغات مختلفة في القرن السادس عشر، أما دار النشر المعروفة (S.B) في لندن، فقد قامت بنشر السفر ضمن الأسفار القانونية الثانية في طبعتها للعهد القديم، وذلك باللغتين اليونانية والإنجليزية وقد صدرت آخر طبعة منها في 1986 م.
وأخيرًا ومع ازدياد الاهتمام بالسفر مضطردًا في الآونة الأخيرة ليحتل مكانة بين بقية الأسفار، قامت دار الكتاب المقدس بعمل طبعة جديدة للكتاب المقدس تتضمن هذه الأسفار (راجع مقدمة سفر طوبيا).
6. قانونية السفر
على الرغم من خلو قائمة الكتب المقدسة العبرية من السفر، إلا أنه كان مستخدمًا في العبادة اليهودية الجماعية، مثلما كان يحدث في احتفال الحانوكا Hanukka وهو عيد التجديد المذكور في (يو 10) أي أنه كان معروفًا في الأوساطا الشعبية، حيث يظهر كذلك في المدراش اليهودي، ويشير القديس كليمندس الروماني إلى السفر في رسالته إلى أهل كورنثوس باعتباره معروفًا.
ويحتج اليهود على السفر، بسبب أنه لم يكن موجودًا في عصر عزرا الكاتب، وكذلك لأن يوسيفوس المؤرخ اليهودي لم يورده في قائمة الأسفار التي ذكرها، ولكن يجب الانتباه هنا إلى أن بعض الأسفار القديمة لم يعثر عليها عزرا عندما جمع الأسفار المقدسة، ربما بسبب الشتات، كما أن البعض الأخر لم يكن قد كتب بعد مثل سفر يشوع بن سيراخ وسفريّ المكابيين، وأما يوسيفوس فقد أشار إلى أن هذه الأسفار (مثل يهوديت) كان موقرًا عند اليهود وإن كانت ليست بمرتبة الأسفار الأخرى، مع ملاحظة أن من بين الأسباب التي جعلت اليهود ينظرون إلى الأسفار التي ظهرت بعد عزرا: نظرة شك، هو عدم ثقتهم في الكتبة في تلك الحقبة (ك 1 ضد إييون رأس 8) 1.
وأما عن سبب قبول اليهود لسفر أستير دون يهوديت، أن قصة يهوديت حدثت في مكان ضيق، في حين جرت أحداث سفر أستير في وسط العالم المعروف عندئذ (البلاط الملكي) كما أن سفر أستير مصحوب بعيد سنوي في التقويم العبري.
وهكذا أيضًا كان معروفًا لدى الكتاب المسيحيين الأوائل بما فيهم أولئك الذين كانوا يعارضون قانونيته معارضه نظرية فقط 2، هذا وقد وجد السفر مكانًا له في الترجمة السبعينية التي أصبحت تمثل العهد القديم بالنسبة للمسيحيين، وزاد مع تأثيره في وجدان الشعب حتى شاعت صور بطلته مع أحداث السفر في الفن الديني 3. ويرد في الموسوعة اليهودية أن وجد اهتمامًا في العالم اليهودي المسيحي.
هذا وقد اعتاد اليهود قراءة بعض الأسفار في أعيادهم، مثل:
- عيد الفصح: سفر نشيد الأناشيد.
- عيد الحصاد والأسابيع: سفر راعوث.
- عيد المظال: سفر الجامعة.
- عيد الفوريم: سفر أستير.
- ذكرى خراب الهيكل (9 أغسطس): مراثي إرميا.
- عيد الحانوكا (التجديد): سفر يهوديت.
وعلى الرغم من انتشار قصة أستير أكثر من يهوديت، فإن السفرين متساويان في القيمة والمضمون، ولكن أحداث سفر أستير وقعت في البلاط الإمبراطوري بينما وقعت أحداث يهوديت في مدينة صغيرة غير مشهورة.
وقد ظل السفر مستخدمًا في العبادة المسيحية وبين يهود الشتات، حتى جاء عصر الإصلاح فرفضه مارتن لوثر ضمن أسفار أخرى لم ترق له، وعمومًا فقد استند أعداء قانونية السفر على أمرين، أولهما الأخطاء التاريخية في السفر والثاني مسلك يهوديت بما فيه من خداع وكذب وقتل، ولكن ما يبدو أنها أخطاء تاريخية، لا يعيب السفر كان سفر دانيال مشكوكًا في تاريخيته حتى وقت قريب حيث أثبتت بعض الحفريات الحديثة سلامته وصحته، ومع ذلك فقد ظلّ معتبرًا سفرًا قانونيًا موحى به، وذلك من جميع الكنائس، وأما بخصوص الاعتراض الثاني فإن اليهود كانوا في حالة حرب حيث يسمح باستخدام كل الطرق، ومع ذلك فقد حفظت يهوديت نفسها من الدنس، ولها في تصرفها هذا، أسوة بـ(ياعيل) وأستير، وسوف نعود إلى دفع مثل ذلك الاعتراضات في حينه.
وقد اعترض البعض على السفر بقولهم أن مليتون أسقف سرديس من الجيل الثاني، عندما استلم من يهود فلسطين قائمة الأسفار القانونية لم يكن السفر من بينها، ولكن يجب ألا يؤخذ برأي واحد فقط، لا سيما إذا كان أولئك الذين سلموه القائمة لم يكونوا أمناءً موثوق بهم، كما أن سفر يهوديت انتشر بين يهود الشتات أكثر من يهود أورشليم الذين خلت مجلداتهم منها بعض الوقت، كما أن اليهود أنفسهم قد رفضوا بعض الأسفار من تلك التي يقرونها حاليًا – لبعض الوقت قبل أن يدرجونها ثانية ضمن كتبهم المقدسة.
كما قال البعض أن إيرونيموس في تعليقه على أسفار سليمان قال: كما تتلو الكنيسة أسفار يهوديت وطوبيا والمكابيين، دون أن تنظمها ضمن الأسفار القانونية، وللرد على ذلك نقول أن إيرونيموس كان يعبر عن رأى بعض المسيحيين في عصره وليس جميعهم.
وعلى الرغم من موقف البروتستانت المعادي للسفر، فإنهم قد أقروا بصلاحيته للتعليم 3، بل أن الناقد البروتستانتي O. Walff قد دافع عن السفر وتاريخه 4 كذلك فقد دافع عنه العالم G.L. Bauer ، وكذلك بعض علماء اليهود، ويزداد تأييدًا بين البروتستانت مع الوقت 5.
ولكن الذي يجب الإشارة إليه هنا، هو أن كنيسة الإسكندرية كانت على مر التاريخ بعيدة عن الصراع حول قانونية السفر، حيث قبلته منذ البداية مستندة في ذلك على قوانين الآباء الرسل وتعاليمهم 6 وكذلك على المجامع المقدسة وقديسيها الأوائل.
وفيما يلي قائمة بالمجامع التي أقرت قانونية السفر:
- مجمع نيقية سنة 325 م.
- مجمع هيبو سنة 393 م.
- مجمع قرطاجنة الأول سنة 397 م.
- مجمع قرطاجنة الثاني سنة 419 م 7
ومن مجامع الكنيسة الكاثوليكية:
- مجمع فلورنسا سنة 1124 م.
- مجمع ترنت سنة 1546 م.
(واعتبر الفولجاتا هي الترجمة المعتمدة لدى الروم والكاثوليك) - مجمع القسطنطينية سنة 1642 م (مجمع الروم)
- مجمع الفاتيكان الأول سنة 1870 م.
وورد السفر كذلك في قوانين الآباء الرسل (هيبوليتس). كما ضمن لائحة الكتب القانونية التي وضعها البابا (إينوشنسيوس) بابا رومافي سنة 405 م.
أما القديسين والعلماء الذين أقروا قانونية السفر واقتبسوا منه في تعاليمهم وكتاباتهم، فإليك قائمة بأسماء بعضهم:
- القديس كليمندس الروماني تنيح سنة 90 / 100 م.
في رسالته إلى أهل كورنثوس (فصل 55 / عدد 4، 5) - القديس كليمندس السكندري تنيح سنة 155 – 220 م.
في كتاب المربى (2: 7، 4: 9)
- العلامة ترتليانوس
- العلامة أوريجانوس تنيح سنة 254 م.
تفسير إنجيل يوحنا وكتاب الصلاة (فضل 13، 29)
- القديس أثناسيوس الرسولي 296 – 373 م.
في خطبته الثانية لأريوس (2: 35)
- القديس أمبروسيوس 319 – 397 م.
- القديس جيروم(إيرونيموس) 354 – 419 م.
في أغلب رسائله (وقام أيضًا بعمل ترجمة للسفر نفسه)
- القديس أغسطينوس
في كتابه مدينة الله
- القديس باسيليوس الكبير 329 – 379 م.
في تعليمه عن الروح
- البابا غريغوريوس الكبير 329 – 389 م.
- القديس يوحنا ذهبي الفم 347 – 407 م.
كما وردت هذه الأسفار ومن بينها سفر يهوديت في قوانين الشيخ الصفي بن العسال في مصر وقوانين العلامة شمس الرياسة المعروف بابن كبر.
أما بخصوص بقية الكنائس، فقد عقدت الكنيسة اليونانية مجمعًا في أورشليم سنة 1672 م. برئاسة البطريرك دوسيناوس، حيث أيد قرارات المجامع السابقة عليه في الاعتراف بالسفر، أما الكنيسة الهندية والحبشية والأنجليكانية في إنجلترا فهي تقرها بطبيعة الحال.
7. القيمة اللاهوتية للسفر
يصور السفر الجهاد المستمر للنفس في العالم، وتربص الشيطان المخيف المرعب لها، هو وجنوده الكثير، إنه رابض أمامها في انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض عليها وسحقها (أر 5: 6) ولكن النفس المجاهدة، تتسلح بالصلاة وتلجأ إلى كل الوسائل المتاحة، والنتيجة أن يهلك الشيطان بشره في حين تنجو النفس، وبعد أن انتظر الشيطان طويلًا فاغرًا فاه لابتلاعها، فإذا به هو يصبح فريسة وتنزعج قواته ويفروا مهزومين (سحق أعداءنا في هذه الليلة يهو 13: 15) ومن ثم يعظم الرب وحده وله يقدم كل التسبيح، كما يظهر السفر عمل الله العجيب مع شعبه، والخلاص الذي أتمه.
صفات الله المذكورة في السفر:
على العكس من سفر إستير، فإن سفر يهوديت مغموس في اسم الله، ومرادفات ذلك الاسم المبارك وصفاته، حيث يظهر الله في السفر على النحو التالي:
- الرب هو اسمك (9: 8).
- سرمدي (أنت صنعت أحداث الماضي والحاضر والمستقبل 9: 5).
- السيد المطلق (ما قدرته كان وما أردته كان فقال هاءنذا 9: 5، 6، 16: 14).
- نصير الضعفاء والمظلومين (إله الرضعاء ومغيث الصغار، نصير الضعفاء، حامى المُهملين، مخلص اليائسين 9: 11).
- الخالق (رب السموات والأرض وخالق المياه ولك خليقتك كلها 9: 12)، (خلق السموات والأرض 16: 2).
- قوى (إله كل قدرة وكل قوة 9: 14)، (إله كل قوة 13: 4) (عظيم أنت وممجد عجيب في القوة 16: 13)، (لا يقوى عليك أحد 16: 12)، ليس من يقاوم صوتك 16: 14) راجع أيضًا (16: 15).
- يدافع عن شعبه (الرب الإله يمحق الحروب 16: 2)، (المحطم الحروب 9: 7) (حامى إسرائيل ليس لنسل إسرائيل حام سواك 9: 14).
- ديان (ينتقم… في يوم الدينونة (…….) يجعل النار والدود في لحومهم فيبكون ألمًا للأبد 16: 17).
- معبود (إياك تعبد الخليقة بأسرها 16: 14).
قيم إيمانية أخرى:
في السفر تعليم عن الحياة الأبدية، مثله في ذلك مثل سفر طوبيا، ويظهر هذا التأثير الاسخاطولوجي في (16: 17) حيث يشير السفر إلى المصير الأبدي الذي ينتظر الأشرار، وهو نفس المصير الذي أشار إليه السيد المسيح في العهد الجديد، ومن حيث النار التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت، والخلود في العذاب (راجع أيضًا أش 66: 24).
وعلى الرغم من أن السفر يخلو من المعجزات في صورتها التقليدية، وإنما يركز على التعليم بأن الحكمة والخير ينتج عنها الخلاص والبر، بينما تتسبب الخطية في الشر والهلاك.
وتبرز في السفر أيضًا قيمة الشفاعة، حين يطلب الشعب من الله أن ينقذهم ناظرًا إلى وجوه قديسيه (أنظر في هذا اليوم إلى وجه المقدسين لك 6: 19) وكذلك حين يطلب الشعب من يهوديت الصلاة لأجلهم بمن فيهم شيوخ الشعب قائلين لها (والآن فصلى لأجلنا فإنك امرأة تقية 9: 31) كما أن يهوديت وبصفة عامة قد عملت كشفيعة عن الشعب عمومًا لدى الله.
وأخيرًا فهو سفر مسياني السمة، يركز بصورة خفية غير واضحة على تفوق إله إسرائيل على آلهة الأمم الأخرى وعمله الخلاصي مع شعبه على مر التاريخ (راجع خطاب أحيور العموني ص 5) واحتجاج نبوخذ نصر على اعتبار إله إسرائيل إلهًا قويًا… (ص 6).
8. القيمة الليتورجية للسفر
تظهر يهوديت في السفر كمثال للورع اليهودي، كما تمثل الولاء والطاعة للناموس، فهي تستمد قوتها وشجاعتها – في مواجهة العدو – من أمانتها في العلاقة بالله، ولذلك فهي تستعد للمعركة بالاختلاء مصلية وهي صائمة.
يهوديت كذلك تعطى مثالًا حيًّا لما يجب أن يكون عليه الخادم، فهي مثال للتكريس، فالعفة في ترملها تعتبر علامة مميزة لها، فقد نحت جمالها وغناها وشبابها جانبًا، وانقطعت للعبادة في علية بيتها، فيما يشبه القلاية، غير أنها تركت وحدتها عندما دعتها الضرورة إلى ذلك، حيث تعرض شعبها للخطر، وهي بذلك تعطى تأكيدًا على أن الراهب والمتوحد، هو شخص عضو في جسد المسيح الذي هو الكنيسة، مثلما ترك الأنبا أنطونيوس مغارته، ليشترك مع الكنيسة في محاربة الأريوسية.
وقد حافظت يهوديت على وصايا الناموس من حيث مراعاتها للسبوت والأعياد، متحفظة تجاه ما يتعلق بالطعام الطاهر غير النجس، متشددة في ذلك حتى في الوقت الذي يمكن فيه تجاوز القانون (وجودها في معسكر الأعداء) كذلك محافظتها على الصلاة في مواعيدها والاغتسال للصلاة كما يقضى التقليد.
وقد سجل التلمود اليهودي عن القديسين أمثال يهوديت، قائلًا: ” النسل المثقف بالتوراة، الواحد القدوس، سر أن يأخذهم تحت أجنحة الشاكيناه ” 1 ويرد في صلاة يهوديت إلى الله (إنك إله الوضعاء ومغيث الصغار ونصير الضعفاء وحامى المهملين ومخلص البائسين 9: 11) والحقيقة أن هذه الآية هي نفس مضمون أوشية المرضى، ونصلى نحن بذات الشعور ولنا نفس الرجاء في الله الذي ينظر إلى ضعفنا ويعين مسكنتنا ويهوديت تعبر عن فرحتها بالرب ونصرتها فيه، عن طريق التسبيح والإنشاد حيث تنسب النصرة لله، لقد انتصر الرب لها.. ووضع النصرة في رصيدها، شأنها في ذلك شأن جميع رجال الله في تعبيرهم عن النصرة.
كما يظهر السفر، اليهود وقد اتسع أفقهم اللاهوتي وخرجوا قليلًا عن (الجيتو) 2 فعلى الرغم من أن السفر مصطبغ بصفة وطنية، حيث يظهر فيه الله كإله وطني، بينما تظهر فيه الوثنية كخطية قومية، إلا أن الباب قد فتح أمام الأمم، متمثلًا في قبول أحيور الدخيل العموني إلى اليهودية (تهوّده) في جو من الترحاب والبهجة، وعلى الرغم من أن ذلك كان أيضًا بطريقة استثنائية بسبب إيمانه الشديد بيهوه، كما هو الحال بالنسبة لراعوث، وكان القانون اليهودي يمنع دخول الدخلاء إلى جماعة الرب إلا في الجيل العاشر خوفًا من التأثير الوثني لهم على اليهود.
ويركز السفر على العبادة الجماعية، فالخطيئة هنا هي خطيئة قومية، فيها هلاك للكل، ومن هنا فإن توبتهم وبرهم سيكون سببًا في خلاصهم راجع (يهو 5: 20، 21) ويظهر الشعب من ثم في ثوب رائع من الورع متمثلا ُ في الصلوات الكثيرة المقرونة بالصوم والمسوح والدموع، لاستدرار مراحم الله:
(وغَطَّوا مَذبَحَ الرَّبِّ بِمِسْح وصَرَخوا صُراخًا حارًّا إِلي إِلهِ إِسْرائيلَ بِصوتٍ واحِد، أَلاَّ يُسلِمَ أَطْفالَهم إِلي النَّهْبِ ونِساءَهم إِلي السَّبْيِ ومُدُنَ ميراثِهم إِلي الدَّمار والمكانَ المُقَدَّسَ إِلي التَّدْنيس وإِلي شَماتِ الأمَمِ المُهين. 13 فسَمِعَ الرَّبُّ أَصْواتَهم ونَظَرَ إِلي شِدَّتِهِم) يهوديت 4: 12 – 13
وهكذا تظهر بوضوح المساحة الكبيرة في السفر للنسك، حيث يرد كثيرًا، دموعهم وانطراحهم على الأرض وتغطية المذبح بالمسوح، وتطلب يهوديت من الشعب أن يلتمس الغفران من الله بدموع، ويستدر مراحم الله.
الصلاة:
ويركز السفر على الصلاة كسبيل، ووسيلة للتخلص من ضيقاتنا.. وطرح متاعبنا عند قدميّ الله، بينما نسكب ذواتنا أمامه.
* وصرخ جميع رجال إسرائيل إلى الرب صراخًا حارًا جدًا… بكل قوتهم (4: 9، 15)
* فارتمى الشعب وسجد لله وصرخ قائلًا… ارحم تذلل نسلنا… (6: 18، 19)
* وخارت عزيمة بني إسرائيل فصرخوا إلى الرب إلههم
* وارتفع في وسط الجماعة كلها نحيب شديد كنحيب رجل واحد وصرخوا إلى الرب الإله بصوت عظيم (7: 29)
* وسقطت يهوديت على وجهها… وصرخت صراخًا عظيمًا إلى الرب (9: 1)
* … وبعد صعودها كانت تتضرع إلى الرب إله إسرائيل.. (12: 8)
* وخرجتا كلتاهما على عادتهما للصلاة… والآية السابقة تشير إلى عادة خروجهما للصلاة في الأيام السابقة (13: 10)
التسبيح:
التسبيح في السفر هو التعبير الروحي والترجمة اللائقة في السفر، للفرح بالرب، والاحتفال بالنصر، إن الاحتفالات هنا هي روحية أيضًا… الأغاني روحية.. والتحدث هو بأعمال الله فيهم.. هذا ويحتل التسبيح مساحة كبيرة من النص في السفر على هذا النحو:
يهوديت تدعو الشعب للتسبيح 8: 25 – 27
يهوديت تسبح الله في صلاتها 9: 1 – إلخ
عزيا يبارك يهوديت 13: 18 – 20
الشعب يقدم الشكر لله ويباركون يهوديت 15: 9، 10
نشيد الخلاص 16: 1 – 17
هذا ويعد التسبيح أرقى أشكال الصلاة، إذ يصلى الإنسان بما لله، فينسب إليه كل مجد وكل بركة وكل خير ويمتدح كل صفة من صفاته.
العفّة:
امتدح السفر كثيرًا عفة يهوديت، وأقام وزنًا كبيرًا لحياة الطهارة، فقد أشاد شيوخ اليهود بطهارة يهوديت، ويرد في السفر أنه رغم شهرتها قبل الخلاص من جيش الأشوريين وهي تزال في عليتها، وبعد النصر تزايدت شهرتها وكرامتها، ورغب كثيرين في التزوج منها ولكنها آثرت حياة العفة منذ وفاة زوجها منسىّ (راجع 16: 21، 22).
الصوم:
ورد في السفر أن يهوديت كانت تصوم جميع أيام ترمّلها ما خلا أيام السبوت والأعياد والاحتفالات (يهو 8: 6) شأنها في ذلك شأن الكثير من النساك الذين عرفناهم في تراث الآباء بالبرية، على الرغم من أن الناموس يحدد أوقاتًا معينة للصوم في السنة.
كما أن الصوم هنا لم يكن انقطاع عن الطعامفقط ولكنه شمل أيضًا الامتناع عن بعض الأطعمة (10: 5)، (12: 1 – 2، 19) كما صام الشعب نفسه ليستدروا مراحم الله (4: 13) بل أن الصوم – وكما هو الحال في نينوى قد شمل النساء والأولاد والعبيد والإماء والبهائم والطيور (4: 9).
9. اقتباسات العهد الجديد من السفر
وكانت يهوديت مترملة في بيتها منذ ” ويوحنا هذا كان لباسه من وبر
ثلاث سنوات وأربعة أشهر وكانت الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد و
قد هيأت لنفسها عليه على سطح بيتها كان طعامه جرادًا وعسلًا بريًا “
وكانت تضع مسحًا على وسطها و (متى 3: 4)
ترتدي ثياب ترملها وكانت تصوم جميع وكانت بنية حننه بنت فنوئيل…
أيام ترملها عاشت مع زوج سبع سنين بعد
(يهو 8: 5) (16: 21، 22) بكوريتها وهي أرملة نحو أربع و
ثمانين سنة لا تفارق الهيكل عابد بأصوام
وطلبات ليلًا ونهارًا (لو 2: 36، 37)
لأنكم لن تكتشفوا أعماق قلب الإنسان و ” ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه
لن تدركوا أفكار ذهنه فكيف تهتدون إلى عن الاستقصاء لأنه من عرف فكر
الله الذي صنع كل ذلك وتفهمون فكره الرب ومن صار له مشيرًا “
وتدركون تدبيره
يهو 8: 14 (رو 11: 33، 34)
” لأن من من الناس يعرف أمور
الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه
هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد
إلا روح الله” (1 كو 2: 11)
فلنشكر الرب إلهنا الذي يمتحننا كما ” احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما
امتحن آباءنا اذكروا كل ما صنعه إله تقعون في تجارب متنوعة عالمين
إبراهيم وكم امتحن اسحق وكل ما أن امتحان إيمانكم ينشئ صبرًا و
جرى ليعقوب… فكما أنه امتحنهم أما الصبر فليكن له عمل تام لكي
ليسير (يفحص) قلوبهم كذلك لن ينتقم تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين
منا بل الرب يؤدب الذين يقتربون منه في شيء.
إنذارًا لهم (يع 1: 2 – 4)
(8: 25 – 27)
باركك يا بنية الإله العلى فوق جميع مباركة أنت في النساء… (لو 1:
النساء اللواتي على الأرض وتبارك 28، 42) فقالت مريم… فهوذا
الرب الإله الذي خلق السموات والأرض منذ الآن جميع الأجيال تطوبني لأن
والذي هداك لضرب رأس قائد أعدائنا القدير صنع به عظائم واسمه
فإن رجاءك لن يفارق قلوب الناس الذين قدوس
يذكرون قوة الله للأبد عسى الله أن يرفع (لو 1: 46 – 49)
شأنك للأبد وأن تفتقدي بإحساناته
13: 18 – 20
10. أوجه الاعتراض على السفر ومناقشتها
وفيما يلي عرض لبعض التساؤلات التي تدور حول السفر:
1. يقول البعض أن اسم السفر والمستمد من الشخصية الرئيسية فيه وهي “يهوديت” إنما هو اسم رمزي (معناه يهوديت: مؤنث يهودي) وبالتالي فالقصة رمزية تمثل الشعب اليهودي كله؟
ج – عنوان السفر في اللغة اليونانية هو يهوديت أما في العبرية فقد جاء (يهوديت) مسبوقًا بكلمة تعني “سفر” و”عمل” ومن المعاني المحتملة أيضًا لاسم يهوديت هو يهودية Jewess (وبالتالي فإن العالم جروتيوسGrotius وآخرون، يشرحون القصة بطريقة رمزية فيجعلها تمثل الشعب اليهودي بأسره، ولكن هذا الأسلوب، فضلًا عن أنه مفتعل وغير مقنع، فلا حاجة بنا أن نفترض أن الاسم يوحى بهذا المعنى لأن اللفظة قد وردت في الكتاب المقدس كاسم لزوجة عيسو، وهي من أصل حثي (تك 26: 34) والاسم في هذه الحالة لا يمكن أن يعنى يهودية Jewess .
2. يقولون أن هناك مشاكل تاريخية وجغرافية في السفر.
ج – الالتباس الشكلي الوارد في السفر فيما يختص ببعض الأسماء التاريخية والجغرافية، يعود إلى الترجمات المختلفة واستخدام بعض ألفاظ لاتينية ويونانية دون غيرها على حد تعبير القديس أغسطينوس 1
تاريخية السفر: المعروف أن نبوخذ نصر لم يكن ملكًا أشوريًا بل ملكًا بابليًا، وأنه لم يملك على نينوى، بل ملك سنة 605 ق.م. أي بعد هرب نينوى الذي تم في سنة 612 ق.م.، وأن ميديا لم تكن ذات قوة حربية يُخشى منها، وفي وقت العودة من السبي سنة 536 ق.م.، كانت بابل قد ضمت إلى فارس.
وهناك ثلاث نظريات تفسيرية لحل مشكلة التاريخ في السفر:
أ- النظرية الأولى: تقول هذه النظرية، أن زمن حدوث وقائع السفر، سابق على زمن نبوخذ نصر الملك البابلي المعروف (605 – 562 ق.م.) حيث أن المقصود بنبوخذ نصر في السفر هو أسرحدون ابن سنحاريب الملك الأشوري، فلما هُزم سنحاريب في حملته المشهورة على اليهودية، فقد انتقم ابنه من جميع الأمم المذكورة في السفر، لا سيما من أرفكشاد ملك ميديا، الذي عرف عنه محبته لليهود وتعاطفه معهم، ثم اتجه جنوبًا نحو اليهودية، حيث توقف عند بيت فلوى، مسرح أحداث السفر. 1 كما أن وجود نبوخذ نصر كاسم لملك بابل لا يلغى استخدام الاسم بين شعوب أخرى وفترات زمنية مختلفة. ويرد في (1: 1) أن أرفكشاد الذي حارب نبوخذ نصر بنى مدينة أحمتا والمعروف أنها بنيت سنة 700 ق.م. مما يعنى أنه كان يحيا في القرن السابع الميلادي وبالتالي فقد حدثت القصة في ذلك الوقت كما أن السفر لم يشر إلى السبي البابلي وإنما السبي الذي كان قد وقع قبل زمن السفر.
ويرد في الآثار الآشورية ما يؤكد أن أحداث السفر قد وقعت في عهد آشور بانيبال، والسبب أن اسمه في السفر نبوخذ نصر يحتمل أن يكون قد غير اسمه بعد استيلائه على بابل، فإن آثار بانيبال (هانيبال) المسمارية Cuneiform قد دلتنا على الكثير مما ورد في السفر، حيث يرد أنه أخضع مصر وصور، وأدى له الجزية 22 ملكًا في سوريا وقبرص وأن أخاه (سما سو موقين) ملك بابل قد عصاه وأثار عليه القبائل الخاضعة له فقهرهم بنفسه وقواد جيشه، وهو ما ينطبق على السفر من عظمته، ومن رد رسله خائبين فينيقية ودمشق ولبنان وفلسطين، حيث ساعدوا أخوه الذي كان مشغولًا بمحاربة الماديين، حيث ذكر هذا في اسطوانته الأولى عامود 3، 4 حيث يقول أنه قام بحملته الرابعة على ملك الحيثين (أحسارى) من العيلاميين كثيرة، وهو يطابق ما ورد في السفر عن ظفره ب أرفكشاد في أرض عيلام 2.
ب – النظرية الثانية: رأى الكثير من العلماء والناقدين أن أحداث السفر قد وقعت في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث أن أرتحتشتا أوكوس الثالث (358 – 338 ق.م.) قد شن حملة على الساحل الفينيقى سنة 353 ق.م.، حيث كان هولوفرانس (أليفانا) أحد قواد جيشه، والذي هو شقيق أرياراطيس ملك كبادوكية الذي تولى الإغارة على مصر، في حين كان بوغا، أحد جنرالات الجيش، فلما استسلم الساحل الفينيقى، اتجهت الحملة جنوبًا مرورًا بمنطقة بزرعيل، حيث توجد بيت فلوى، مسرح أحداث السفر، ويبرر عدم وجود هذه الحادثة في سجلات الأشوريين، كونها مجلية للخزي، بما لا يتفق مع عظمة الأشوريين 1.
ج – النظرية الثالثة: تفترض النظرية الثالثة، أن تكون أحداث السفر قد دارت بعد القرن الثاني قبل الميلاد، حيث يرى العالم بول Ball ، أن نبوخذ نصر هو أنطيوخس أبيفانيوس الرابع الملك السلوقى، أشهر مضطهدى اليهود، لا سيما وأنه قد أعتبر أنه المقصود ب (نبوخذ نصر) وذلك في سفر دانيال النبي (12: 6، 7) وأن الأشوريين المعنيين هم السوريين، وأن نينوى هي أنطاكية، وأما أرفكشاد هو أرساكيس الفارس ملك ميديا، والذي قام أنطيوخس بحملة ضده 1
المسألة الجغرافية في السفر:
تتمثل المشكلة الجغرافية للسفر، في أن الكثير من المدن المذكورة، أسماءها ليست مألوفة لدى قارئ العهد القديم، كذلك تحرك الجيش الجرار للأعداء، بسرعة كبيرة فوق المألوف.
ولكن وإن لم تكن جميع البلاد والحصون المذكورة في السفر معروفة ومحددة على خريطة العهد القديم، فإن أغلبها يمكن التعرف عليه، وإن احتاج الأمر إلى مجهود قليل، لا سيما بالنسبة إلى بلاد غرب آسيا، وسوف نتعرض لكل من تلك البلاد بالشرح والتحقيق في حينه (أنظر التفسير) .
أما فيما يختص بمعدل تحرك الحملة العسكرية، فيجب الانتباه إلى أن الجيوش الجرارة، تسير مسافة طولية كبيرة جدًا، حيث يمكن أن تكون بداية الحملة في مدينة بينما مازالت مؤخرتها في مدينة أخرى بعيدة، والدليل على ذلك أن نبوخذ نصر وأليفانا رئيس جيوشه، احتاج إلى شهر كامل مكثه في منطقة جبع ليجمع أطراف الجيش ويعيد تنظيمه (3: 10).
ويعترض البعض قائلين، كيف تكون ” بيت فلوى ” فوق قمة جبل وهي محاطة بالجبال؟،ولكن المعروف أن تلك المنطقة عبارة عن مجموعة من المرتفعات وفوق أحدها تقع بيت فلوى.
بقية الاعتراضات:
- كيف يتحدث الكاتب عن الرجوع من السبي، إذا كان لم يحدث بعد.؟
ج – المقصود هنا السبي الذي حدث في عهد الملك منسى الملك (2 أخ 33: 13) وذلك في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، أثناء حملة أشور بانيبال ملك أشور، والذي ساعد اليهود على الرجوع هو (فرارتس) الذي لقب بلقب (الملك الحليم) لهذا السبب، مما جلب عليه نقمة أسرحدون المدعو في السفر نبوكد نصر. - كيف يكون رئيس الكهنة هو المتولى أمور البلاد، حيث لا ذكر لملك هناك؟ كما أن الياقيم المذكور هنا لا وجود له في سلسلة رؤساء الكهنة التي سجلها يوسيفوس؟
ج – في فترات كثيرة سمح الملوك الشماليون لليهود، بإدارة شئونهم، عن طريق وجهاء اليهود، فإن النظام القبلي كان ما يزال موجودًا، مع وجود رؤساء الأسباط والعشائر، ذلك في وجود الملوك أيضًا أما أن يوسيفوس لم يذكره في سجلات رؤساء الكهنة، فإن ذلك لا يعتد به كثيرًا، بل بالكتاب المقدس الذي ورد فيه أن ذلك الكاهن كان في عهد سنحاريب ملك أشور وحزقيا ملك يهوذا (2 مل 18: 18) وكان ذا منزلة رفيعة وقد تنبأ النبي ببلوغه إلى مرتبة سامية بقوله (ويكون في ذلك اليوم أنى أدعو عبدي ألياقيم بن ملقيا…. فيكون أبًا لساكن أورشليم ولبيت يهوذا (إش 22: 20) وربما لقب باسم أبيه (2 مل 4) 1 - يقولون أنه لا ذكر في التاريخ، لأرفكشاد ولا لحملته، وأن الذي بنى أحمتا هو ديوجس؟
ج – الذي بنى (أحمتا) أكبتانا وحصنها هو بالفعل، ديوجس الملك في القرن السابع ق.م ولكن أرفكشاد وهو ابنه، قد أكمل بناءها وقام بتوسيعها، ومعروف في التاريخ أن بناء مدينة واحدة، قد ينسب إلى شخصيتين وأكثر. أما عن عدم ورود هذه الحملة في التاريخ، فقد أهمل التاريخ ذكر أحداث ووقائع كثيرة، وردت وتأكدت فيما بعد من خلال الحفائر التي قام – ومازال يقوم – بها العلماء، إضافة إلى أنه من البديهي أن يهمل الملوك تسجيل أخبار هزائمهم. أما أرفكشاد نفسه، فهو الذي يسميه بعض المؤرخين (فرا) كما يسميه هيرودتسالمؤرخ (فرارتس) ومعناها الملك العظيم حيث أن فرا اسم علم للملك وأرتس لفظة فارسية معناها العظيم وكتب كثيرًا (أرفا). وأضيفت مع الوقت إلى الاسم كلمة (كشاد) ومعناها الحليم، وهكذا فقد صار معنى الاسم الملك الحليم العظيم، وقد عرف عنه محبته لليهود والإحسان إليهم، حينما كانوا أسرى في مملكته 1 - يعترضون على مدح يهودست لشمعون، مع أن شمعون قد سلك مع بنى عمون بالغدر وكدّر نفس يعقوب أبيه، وعليه فإن عمل يهوديت غير مقبول، لأنها سلكت بالغش والخداع والقتل؟!
ج – يهوديت والتي تنتمي إلى سبط شمعون، امتدحت فيه غيرته على شعبه وعلى عفة أخته وشرفها (تك 34) كذلك فإن بيت فلوى (مسرح الأحداث الحالية) هي نفسها شكيم، وبالقرب منها، كما يظن بعض الشراح، وهي كانت مسرح أحداث قصة شمعون قديما.
- كيف يكون سفرًا موحى به من الله، ذاك الذي تستخدم فيه بطلته طبيعتها كامرأة، في الإغراء والخداع والكذب والشهوة والقتل؟
ج – اليهود كانوا في حالة حرب، حيث يُسمح باستخدام كافة السبل المتاحة، كذلك فإن يهوديت لم تغو شخصًا قديسًا ليسقط في الدنس، وعلى الرغم من أن اليهود كانوا في حالة دفاع عن النفس، فإن يهوديت لم تفرط في أي شيء، بداية من عفتها وطهارتها حتى طعامها اليهودي وصلواتها، كما أن سفر أستير، والذي يقره اليهود قبل المسيحيين، قد جاء الخلاص فيه على يدي امرأة استخدمت تأثيرها مثل يهوديت. - الضمير المسيحي لا يوافق على أن الغاية تبرر الوسيلة، بل يجب أن تكون الغاية شريفة والوسيلة كذلك، فكيف يبرر السفر وسيلة كهذه للتخلص من الهزيمة؟
ج – أبطال القصة يهود، محدودوا الأفق اللاهوتي، ولم يكونوا قد نعموا بعد، بالعمق الروحي في المسيحية في ظل بركات تجسد ابن الله، ولقد رأينا كيف أن المكابيين اضطروا إلى التعامل مع السبت بمرونة، بعد أن تعرضوا لخطر الإبادة، في حرب شنها العدو عليهم في يوم السبت، ولكن ذلك كان في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، أي في الوقت الذي كانوا فيه قد ارتقوا فكريًا وروحيًا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد أقدموا على تلك التضحية في الوقت الذي كان الأمر فيه يتعلق بحياتهم، وحقيقي أن (القتل السياسي ممنوع) ولكن الدفاع عن النفس مشروع ومسموح به في مثل هذه الحالات حيث لا توجد بدائل أخرى له، ونذكر هنا تجسس أرض كنعان، وحيلة يعقوب لأخذ البكورية والبركة… إلخ. - قال البعض أن السفر هو مؤلف إغريقي، يمكن أن يحتل مكانًا بين مجموعة مؤلفات الكاتب الإغريقي بارثينوس Barthinius (Parthinius)لأنها تحمل نفس سمات الأسلوب الإغريقي؟
ج – لا أساس لهذا الكلام من الصحة، والمعترض لم يرى في السفر سوى قصة إغراء فقط، ولكن سمات القصة الإغريقية مُغايرة تمامًا لأسلوب السفر، من حيث ظهور الله كبطل للقصة، ثم التركيز على بر الناموس، والحديث عن الفضيلة، مما يخلو منه النمط الأدبي اليوناني، ويقول بعض العلماء أن هذا الاتهام غير صحيح، وأن أحداث السفر حقيقية ظلت محفوظة بالتقليد الشفاهي إلى أن سجلت كتابة في زمن متأخر عن وقت حدوثها. 1
- يدعّى البعض أن نشيد يهوديت، في الإصحاح الأخير من السفر، هو نشيد قديم، يشبه نشيد دبورة وأن السفر قد بنى أساسًا على النشيد!؟
ج – صاحب هذا الرأي هو العالم Reuss ، وقد أثبتت الدراسات التي قامت على السفر، أن كاتب السفر هو شخص واحد، ولا مانع من وجود تشابه بين نشيد يهوديت ونشيد دبورة النبية، تمامًا مثل التشابه الموجود بين نشيد مريم أخت موسى بعد عبور البحر الأحمر ونشيد دبورة نفسها، فإن موضوع النشيد في الحالات الثلاث، هو الخلاص الآتي من الرب بالنصرة على العدو، وقد اعترض نفس الاعتراض – العالم Ander في كتابه Apocryphes ، لأن المزمور لا يذكر أن المديانيين أعداء نبوخذ نصر، بينما يذكرها السفر، ولكن المزمور نشيد خلاص، وليس ملخصًا للسفر! - يقول البعض أن القديس جيروموالذي قام بترجمة السفر ضمن بقية الأسفار المعروفة بالفولجاتا، اعترف بأنه لم يبذل فيه مجهودًا كبيرًا، مثل بقية الأسفار؟
ج – عندما قام جيروم بترجمة السفر إلى اللاتينية سنة 398 م.، لم يستطيع العثور على الأصل العبري، بل أن النسخة الكلدانية التي قام بترجمتها (مستعينًا بالترجمة القديمة) كانت قديمة مستهلكة ولم تكن عباراتها واضحة، فلم يحاول ترجمتها بدقة، وإنما أن ينقل معانيها فقط، وقد كتب في مقدمة السفر: (أنه ترجمة في ليلة واحدة) ولكن يجب ألا نفهم من هذه العبارة، أن السفر في نظره أقل من باقي الأسفار، وإنما يعبر عن رغبته في العثور على النسخة العبرية 1، كذلك فقد قال القديس جيروم أنه تشكك قليلًا في السفر ولكنه قبله لأن مجمع نيقية في سنة 325 م. قد أقر قانونيته، كما يشير هو ذاته في موضع آخر إلى أن السفر كان متداولًا بين أفراد الشعب ويهود الشتات اليونانيين، مستخدمًا في العبادة الجماعية، مثلما كان يحدث في عيد الحانوكا أي التجديد، حين يدخل السفر ضمن الاحتفالات في ذلك اليوم. - يعترض البعض بأن السفر كتب من قبل الحسيديين Hasideans (كلمة عبرية معناها التقاة)، في القرن الثاني قبل الميلاد لإثارة حمية اليهود ضد السلوقيين الذين اضطهدوهم ليتركوا عنهم التمسك بالشريعة؟
ج – الحسيديون يرفضون أن يكون للمرأة دور بارز كهذا، الذي ليهوديت، كما أنهم قوم يؤثرون الحياة في الجبال، ويرفضون حمل السلاح، بخلاف التعليم الذي يقدمه سفر يهوديت. كما أن التركيز على الاهتمام بالأعياد والطقوس سمة يهودية عامة وليست فريسية (لأن الفريسيين هم خلفاء الحسيديين).