تفسير سفر أيوب 37 للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح السابع والثلاثون
الله في العاصفة

 

جاء هذا الأصحاح كنقطة تحولٍ في أحاديث أليهو مع أيوب، إذ يبدو أنه قد ظهرت علامات عاصفة قادمة، وكأن الطبيعة تستعد للظهور الإلهي لأيوب. فانطلق قلب أليهو وفكره من الأحداث الزمنية التي تحيط به إلى التمتع بالحضرة الإلهية، والدخول في حالة دهش في الإلهيات والسماويات.

يكمل أليهو أحاديثه عن تمجيد قوة الله العظيمة وحكمته، ضاربًا مثلًا بتغيرات الجو. فإن كنا نخضع في هذه الأمور لإرادة الله، إذ لا سلطان لنا على تغيير الجو، فلماذا لا نخضع له في تدبيره لأمورنا. هنا يُبرز أليهو بوضوح يد الله في الطبيعة، مطالبًا أيوب أن يتأمل أعمال الله في البروق والسحب والرياح والحرارة والَبَرْد، وفي تكوين السماوات، وتغيير الجو.

 

1. الرعد والبرق

لِهَذَا اضْطَرَبَ قَلْبِي،

وَخَفَقَ مِنْ مَوْضِعِهِ [1].

مع بدء ظهور ملامح العاصفة، شعر أليهو بأن عاصفة داخلية تجتاح قلبه، فصار يرتعب لشعوره بالحضرة الإلهية. شعر باضطراب لا عن قلقٍ وفقدانٍ للسلام، وإنما عن اهتزاز قلبه لدخوله في دهشٍ أمام عظمة الخالق. وكأن قلبه صار هيكلًا للرب يهتز أمام مجد الله.

بقوله “لهذا“، يقصد: “عندما سمعت رعد العظمة الإلهية”. ربما كانت قد بدأت العاصفة التي من خلالها تحدث الله مع أيوب.

مع أن أليهو أفاض في وصف هذه الظواهر الطبيعية -العواصف والرعد والبروق- بكونها تحمل شهادة لعظمة الله وقدرته وسلطانه، لكن ما أن بدأت العاصفة حتى اهتز كيانه الداخلي. فكثيرًا ما يرعب الرعد والبروق، ليس فقط الأشرار، بل وأحيانًا بعض الأبرار.

قيل عن الإمبراطور Caligula إنه أعتاد أن يجري لينزوي في ركن من قصره أو ينزل تحت السرير عند سماعه الرعد ورؤيته البرق.

*     هنا بعد التأمل في نور المدينة الأبدية، بحق قيل: “لهذا اضطرب قلبي“. كأنه يقول: انطلقت إلى خارج نفسي من فرط الدهشة، ولأن الذهن قد أُوحي إليه بروح رجاء جديد، هجر طرق التفكير القديمة.

حسنًا قيل: “وخفق من موضعه”، لأن مسرة الحياة الحاضرة هي موضع القلب البشري. ولكن إذ يُلمس قلبنا بوحي إلهي، يحل حب الأبدية. لهذا يتحرك العقل من موضعه بالتأمل في الأبديات. إنه يترك السفليات، ويركز في التفكير في العلويات.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     قال لي أخ: حينما كان يُخطف عقلي لهذه النظرة البهية، كنت أراه يتفرس في بحر الحياة، يسبح في لججٍ من نورٍ، ويستنشق رائحة الحياة، ويدهش ويتجلى بفرح عظيم، ويتغطى بالنور، ويغلي بفعل الحب والفرح بإشراق عجيب… وفي الوقت الذي تكون فيه هذه الموهبة في النفس، فلو كانت كل الخليقة أصوات واضطرابًا، لا تستطيع أن تجعل العقل يهبط من موضعه، أو يعود إلى ذاته، من فرط انشغاله بالتعجب والدهش، وفقدان كل صلةٍ بشعور الجسد.

*     عندما تنظر إليه وهو متحد بك هكذا، يسبي ذاتك من أمام ذهنك لكي يتراءى وحده لذهنك، إذا كانت قوته الرائية قادرة على ذلك. وإن لم تستطع، فليبق في الذكر الدائم. هكذا يكون ذهن الإنسان مجتمعًا في ذاته بذكر الله وبالتحدق به. هذا ما يسميه آباؤنا حفظ الذهن، ولا شيء عالٍ مثله بين الفضائل والأعمال كلها(1320).

 الشيخ الروحاني

اسْمَعُوا سَمَاعًا رَعْدَ صَوْتِهِ،

وَالدَّوِيَّ الْخَارِجَ مِنْ فَمِهِ [2].

“اسمعوا سماعًا” يكرر كلمة السماع مرتين، ويشبِّه كلماته بعاصفة رعد وبرق، وكأنها قصف مستمر على بيته، وبرق يضيء أمام العيون، فليس لأيوب ومن معه عذر، إنما يلزمهم أن ينصتوا بكل مشاعرهم.

وقد بقيت العاصفة مستمرة حتى تكلم الرب نفسه من السماء مع أيوب.

كثيرًا ما يرتبط حديث الرب مع شعبه أو مؤمنيه بالعاصفة، وكما يقول المرتل: “إله المجد أرعد… صوت الرب يزلزل البرية، يزلزل الرب برية قادش” (مز 29: 3، 8). “الله في العاصفة”، لا في الطبيعة فقط، وإنما في عاصفة النفس الداخلية أيضًا؛ إنه في أعماقنا يعلن عن ذاته خلال العواصف التي تجتاح طبيعتنا الداخلية. جاء كلمة الله ليدخل النفس ويثير فيها ثورة داخلية ضد الشر ليحطم فينا الإنسان العتيق ويهبنا الإنسان الجديد.

حتمًا كان آدم وحواء يترقبان بفرحٍ صوت الله الذي يقدم ماشيًا في الجنة، لكن بعد سقوطهما في الخطية صار صوت الرب الإله موضع خوفٍ ورعبٍ لهما، متى سمعاه كانا يختبئان من وجه الرب (تك 3: 8). بسبب ارتباطنا بالأرضيات صرنا نسمع صوته في العاصفة وخلال الرعد، “أرعد الرب من السماوات، والعلي أعطى صوته” (2 صم 22: 14). عندما استلم موسى النبي الناموس، قيل: “وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق، والجبل يدخن، ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد” (خر 20: 18؛ راجع خر 19: 16). ويقول المرتل: “صوت رعدك في الزوبعة، البروق أضاءت المسكونة، ارتعدت ورجفت الأرض (مز 77: 18، راجع مز 97: 4، 135: 7). كما قيل: “إذا أعطى قولًا” تكون كثرة مياه في السماوات، ويصعد السحاب من أقاصي الأرض، صنع بروقًا للمطر، وأخرج الريح من خزائنه (إر 10: 13، 16).

*     حقق الكتاب بهذا القول (خر 29: 18-19) إنه ليس للمخلوقات طاقة لسماع صوت الخالق. وإذا سمعوه يكادون أن يموتوا من خوفه، لهذا أنعم علينا بالتجسد في آخر الزمان، حتى يمكن لبني البشر أن يسمعوا صوته ولا يموتوا(1321).

القديس مار أفرام السرياني

*     تقف َالسماء برعدةٍ، فهي تضعف حتى تصير كلا شيء أمام عظمتك، ولكن الرحم استقبلك واحتواك وحمل مجدك.

القديس مار يعقوب السروجي

*     يليق بنا أن نلاحظ أنه قيل عن صوت الله إنه يُسمع لا في فرحٍ، بل في رعدةٍ. بالتأكيد كل خاطي يفكر فقط في الأمور الأرضية، ويحمل قلبًا غارقًا في أفكار سفلية، متى تلامس فجأة بوحي النعمة الإلهية يدرك فوق كل شيء أن كل أفعاله يعاقبها الديان الأبدي. لذلك فإن صوت الرب في البداية يكون في رعدة، ليتحول بعد ذلك إلى العذوبة

إذن يمكننا أن نفهم من رعد صوته قوة الخوف، ومن صوت فمه عذوبة التعزية. فإن الذين يملأهم الروح القدس يحذرهم من أفعالهم الأرضية، وبعد ذلك يعزيهم بالرجاء في السماويات، وذلك لكي ما يفرحوا مؤخرًا بالأكثر في يقين المكافأة بقدر ما كانوا في خوفٍ حين كانوا يتطلعون إلى العقوبات وحدها. يقول بولس: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ: يا أبا الآب” (رو 8: 15)… ها أنتم ترون رعدة الاهتداء قد تحولت إلى قوة، يعاقبون خطاياهم بالندامة، ويصعدون حتى إلى ممارسة الحكم، ليقبلوا هذه القوة من الله، هذه التي كانوا يرتعبون منها عند يديه.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

يقول المرتل: “صوت الرب يحطم الأرز، الرب يكسر أرز لبنان” (مز 29: 5). صوت الرب في الرعد، غالبًا ما يكسر شجر الأرز، حتى أرز لبنان أقوى أنواعه وأكثرها صلابة. رياح العاصفة تقتلعه أحيانا بجذوره، وتحطم قممه العالية المتشامخة، فتنبطح أرضًا. تمثل هذه الأشجار النفوس المتشامخة المعتدة بذاتها، فقد جاء صوت الرب أو كلمة الله المتجسد ليدخل بهذه النفوس إلى حياة التواضع خلال حزن التوبة.

وقد اختار الله ضعفاء العالم ليخزي بهم الأقوياء (1 كو 27:1)، لكي يتمتعوا هم أيضًا بذاك الذي صار بذاك القدير الذي من أجلهم صار في صورة ضعف.

*     “صوت الرب يحطم الأرز”. بالتوبة يكسر الرب أولئك الذين يمجدون ذواتهم بشرف أصلهم الزمني، والذين يقفون في خجل حينما يختار أدنياء هذا العالم ليُطهر فيهم قوته الإلهية.

القديس أغسطينوس

تحْتَ كُلِّ السَّمَاوَاتِ يُطْلِقُهَا،

كَذَا نُورُهُ إِلَى أَطْرَافِ الأَرْضِ [3].

حديثه أشبه بالبرق الذي ينطلق من أقصى المسكونة إلى أقصاها كما يرى الإنسان، ففي غمضة عين يرى الكل حنوه ويسمع الجميع صوته.

إلى أطراف الأرض”، جاء النص في العبرية: “إلى أجنحة الأرض”، مشبهًا الأرض كلها بطائرٍ يبسط جناحيه فيطير، وها هو يتمتع بصوت الرب ونوره، ليحلق في السماوات عينها.

مع أن حديث الرب شخصي للمؤمن، لكنه كمحبٍ لخليقته يتحدث علانية تحت كل السماوات، ويُسمع صوته في أركان المسكونة الأربعة، لكي يسمع السمائيون والأرضيون جميعهم صوته، ويدركون أسراره. في حديثه يهتم بالأبرار العظماء في الإيمان، كما بالخطاة فينقيهم حتى من أتفه الضعفات.

*     كأنه يقول بوضوح: ذاك الذي يدير الأمور العلوية لا ينسى حتى الأمور الضئيلة جدًا… إنه يهتم بكل شيءٍ بالتساوي، يدبر كل شيءٍ بالتساوي. ذاك الحاضر في كل المواضع، لا يُحد بموقع ما، ولا يهتم بمواضع مختلفة بطريقة بتحيزٍ…

إنه يهتم حتى بأتفه ما في ضعفاتنا. يُرى نوره كما في أقاصي الأرض تحت السماوات. بعد عبور الأعمال السامية التي للذين يقفون أمامه، يهتم بطرق وأفعال الخطاة باستنارة نعمته عليهم. وإن كان لا يًظهر علامات عجيبة في حياة المؤمنين، إلا أنه لا يتخلى عن هؤلاء المؤمنين وذلك بالعمل فيهم.. بالتأكيد نهاية الأرض هي نهاية الخطاة. فإن كثيرين ينسون الله خلال حياتهم مرتبطين بالشهوات الجسدية، لكن إذ تعمل نعمة الله في وقت متأخر من حياتهم يرجعون إلى الله.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يرى القديس مار يعقوب السروجي أن الرعد الذي صاحب الحضرة الإلهية عند استلام موسى الناموس إنما يشير إلى صوت البوق الذي يتقدم العريس القادم للعُرس، وكأن غاية الناموس أو الوصية الإلهية اتحادنا المفرح بالعريس السماوي.

*     نفخ في الضباب كما لو كان في القرن، وصدر رعد شق الأرض بقوته،

بهذا أيضًا كان نظام ذلك العرس محترمًا، لأن الختن يدخل إلى خدره بصوت القرن…

موسى أعطى هذه العلامة التي كان يعرفها هو وحده قبل أن ينحدر عند الشعب…

ارتجت الخلائق بالأصوات والرؤى الرهيبة، لأن رب البرية حل في سيناء في الضباب،

انتشرت الرعود بعيدًا على قمة الجبل، وأشارت صارخة: الملك موجود هنا،

صرخت الأبواق بقوة على مرتفع سيناء، لتجتمع الأرض إلى موعد الصوت: الرب موجود هناك(1322).

القديس مار يعقوب السروجي

بَعْدُ يُزَمْجِرُ صَوْتٌ،

يُرْعِدُ بِصَوْتِ جَلاَلِهِ،

وَلاَ يُؤَخِّرُهَا، إِذْ سُمِعَ صَوْتُهُ [4].

بعدها، أي بعد البروق أو الإنارة، حيث يُرى نور البروق يصحبه صوت الرعد. هذا ما يفعله الرب بسموه نحو الإنسان، يشرق بنوره ويرعد بصوته، لكي يتمتع بالوعود الإلهية، أو يتجاوب مع تأديباته له.

لا يؤخرها، إذ سمع صوته”، ربما يعني أنه لا يؤخر بروقه التي يشرق بها على قلب الإنسان وفكره، أو لا يؤخر المطر الذي يصحب العواصف حتى ترتوي الأرض بمياه النعمة الإلهية، وتتحول البرية إلى جنة مفرحة، تحمل ثمر الروح.

يرى البعض أنه مع تأكد الإنسان من ظهور البروق وسماع صوت الرعد، يصعب عليه جدًا أن يقتفي أثار هذه الظواهر، ويحدد أماكنها وتحركاتها بدقة. هكذا يتلامس كلمة الله مع المؤمن، فتنفتح عيناه ليرى محبة الله، ويسمع الوعود الإلهية، لكنها تبقى فوق إدراكه، إذ هي فائقة بالنسبة للعقل البشري.

لا يؤخرها، إذ سمع صوته”، إذ يسمع الإنسان صوت الرعد، لا يقدر أن يمسك بالبروق ويؤخرها لكي يحدد مكانها أو مسافتها إلخ.

*     يا من لُدغ بخطيئة الموت ها إن الحياة معلقة إزاءك. فأنظر إلى الصليب وعش. ما لم تنظر إليه تموت. اسقط عليه كالميت على عظام اليشع (2 مل 13: 21). اسمع صوته مثل لعازر من شقوق الهلاك. لا تقطع رجاء حياتك، لأن رجاءك ثابت فيه. فالميت لا يشمئز من الاتكال على باعث الحياة. ليس حسنًا لمن فيه جرح أن يبتعد عن باب الأسي… من واجب الخاطي الذي يلح ألا يكف عن أن يطلب المراحم حتى إذا لم ينل الغفران. إن ظن الخاطي في نفسه أنه لا يستحق المراحم، وهو يعلم أنه غير مستحقٍ لنوالها لا يكف عن التوسل. هذا ما يستحق المراحم(1323).

القديس مار يعقوب السروجي

اَللهُ يُرْعِدُ بِصَوْتِهِ عَجَبًا.

يَصْنَعُ عَظَائِمَ لاَ نُدْرِكُهَا [5].

في وصفٍ رائعٍ يقول إن الله حاضر في كل العاصفة يوجهها حسبما يشاء، يصنع عجائب لا يمكن للعقل البشري أن يدركها. “عجيبة هي أعمالك، ونفسي تعرف ذلك يقينًا” (مز 139: 14). كأنه يقول إن صوت رعده مدهش للغاية، يعلن عن قوته وجلاله وحكمته. ليس فقط في الرعد والبروق، وإنما في كل شيءٍ نتلمس عمل الله العجيب.

هكذا كان أليهو يهيئ أذهان كل الحاضرين لظهور الرب وحديثه خلال العاصفة. يقول المرتل: “أبصرتك المياه يا الله، أبصرتك المياه ففزعت، ارتعدت أيضًا اللجج؛ سكبت الغيوم مياهًا، أعطت السحب صوتًا، أيضًا سهامك طارت؛ صوت رعدك في الزوبعة، البروق أضاءت، المسكونة ارتعدت ورجفت الأرض” (مز 77: 16-18).

*     يرعد الله بطريقة عجيبة بصوته، إذ يخترق قلوبنا بقدرته السرية بطريقةٍ لا يُعبر عنها. فبينما يسيطر صوته علينا بالخوف بفعله السري ويشَُكلنا في الحب، يعلن بطريقة صامتة كيف يشتاق أن نتبعه…

يصنع عظائم لا ندركها (غامضة)“. فالإنسان الذي استسلم للأمور الأرضية، واستبدت به الشهوات الشريرة، يصير فجأة غيورًا لمساعٍ جديدة، وباردًا من جهة العادات القديمة، فيجحد الاهتمامات الخارجية، ويشغف بالتأمل الداخلي. من يقدر أن يعبِّر عن قوة هذا الصوت العلوي…؟ إنه ينطق بصوته حتى بواسطة الرسل، وهو الذي ينير قلوب السامعين في الداخل بنفسه. يقدم بولس شهادته، إذ يقول: “أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله كان ينمي” (1كو 3: 6). فإنهم وإن كانوا لا يمنحون الاستماع للصوت الإلهي في أذهانهم، لكنهم أرسلوا لكي يقدموا الكلمات من الخارج.

البابا غريغوريوس (الكبير)

ما هي العظائم التي لا ندركها عندما يرعد الله بصوته العجيب، سوى عمل نعمته الخفية فينا، فيقيم منا عجبًا خلال كلمته الفعالة ونعمته الغنية. فكلمة الله ترعد بقدرة عجيبة، وتعمل بغنى في داخلنا، وكما يقول المرتل: “أرسل كلمته فشفاهم، ونجاهم من تهلكاتهم” (مز 107: 20).

*     يُخبر بعجائب الله (مز 1:9) من يراها تتحقق ليس فقط علنًا في جسده، وإنما أيضًا بطريقة غير منظورة في نفسه، بل هذه العجائب أكثر سموًا ورفعة. فالبشر كأرضيين وينقادون بما يرونه بالعين يتعجبون بالأكثر أن لعازر الميت يقوم في الجسد، أكثر من تعجبهم أن بولس المُضطهِد يقوم في الروح (يو 11؛  أع 9). ولكن تدعو الأعجوبة المنظورة النفس للتمتع بالنور، أما بالأعجوبة غير المنظورة فيعبر الإنسان ليتحدث عن كل عجائب الله(1324).

القديس أغسطينوس

*     لا تخجلوا من عطية النعمة، فإنها أكثر عجبًا من قوة إقامة الموتى وصنع العجائب(1325).

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. الأمطار الغزيرة والثلج

لأَنَّهُ يَقُولُ لِلثَّلْجِ: اسْقُطْ عَلَى الأَرْضِ.

كَذَا لِوَابِلِ الْمَطَر،ِ وَابِلِ أَمْطَارِ عِزِّهِ [6].

يتحدث أليهو عن العواصف الثلجية، حيث يسقط الثلج الثقيل – وليس البَرَدْ – فبسبب شدة برودة الجو يتحول المطر إلى ثلج، ويسقط ويستقر على الأرض، فيجعل منها بساطًا ناصع البياض، يعكس النور بطريقة مبدعة. يشير هذا الثلج إلى حكمة الله التي يهبها على كنيسته ويتمتع بها المؤمنون، فيحملون برّ المسيح الطاهر، ويعكسون بهاءه.

بأمره يسقط المطر الخفيف، كما الأمطار الثقيلة، فكل الظواهر لا تتحرك إلا بأمره، إذ هي تحت سلطانه.

*     إذ يقول المرتل: “تغسلني فأبيض أكثر من الثلج” (مز 51: 7). ماذا نفهم بالثلج إلا قلوب القديسين التي صارت بيضاء بنور البرّ…؟ الماء إذن هو عقول الكارزين التي تثبت في معانٍ عالية للأمور، عندما يرتفعون بالتأمل في السماويات…

بالتأكيد كان بولس يمطر ماءً على الأرض عندما عرف الناموس بطريقة جسدانية. لكنه إذ ارتفع إلى المعرفة السماوية تحول إلى ثلج. لقد غيَّر معرفته السابقة الواهية إلى صلابة الحكمة الحقيقية، رجع ونزل غلى إخوته، إذ عاد ثلجًا إلى الأرض. فإنه حتى بعد بلوغه أعالي الفضيلة، كان يعرف كيف كان غير مستحقٍ، قائلًا: “أنا الذي كنت مجدفًا ومضطهدًا” (1 تي 1: 13). انظروا كيف وضع بعين الاعتبار أن يستدعي عقله ليتذكر ضعفه، لكي يحتمل ضعفات الآخرين. عاد بولس كما بكونه في السماء إلى الأرض التي أُخذ منها، هذا الذي بعد بلوغه إلى الأسرار العظيمة لتأملاته، يتذكر أنه كان خاطئًا حتى يفيد الخطاة بتواضعه….

أمطار قوة الله عِزِّهِ“، هي الكرازة بناسوته، التي قال عنها بولس (1 كو 1: 25)، وأيضًا: “لأنه وإن كان قد ُصًلب في ضعفٍ، لكنه حيّ بقوة الله” (2 كو 13: 14). لكن القديسين كرزوا هكذا بضعف ناسوته لكي يسلكوا في قلوب السامعين بقوة اللاهوت أيضًا.

ليتنا نسمع خلال رعد السحاب أمطار قوته: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله” (يو 1: 1). لنسمع أمطار ضعفه: “والكلمة صار جسدًا وحلٌ بيننا” (يو 1: 14).

 البابا غريغوريوس (الكبير)

     لأننا قد تجددنا بالتجديد الذي نلناه في المعمودية، وتجددنا خلال سكب الروح القدس، وسنتجدد أيضًا بالقيامة، كما يقول في داود نصٍ آخر: “فيتجدد مثل النسر شبابك” (مز 103:5) فاعلموا طريقة تجديدنا: “تنضح عليَّ بزوفاك فأطهر، تغسلني فأبيض أكثر من الثلج” (مز 51:9) وفي إشعياء: “إن كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيض كالثلج” (إش 1:18) ومن يتغير من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدد فعلًا. لهذا فإن ذاك الذي تلطخ قبلًا بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوع أكثر بياضًا من الثلج(1326).

القديس أمبروسيوس

يَخْتِمُ عَلَى يَدِ كُلِّ إِنْسَانٍ،

لِيَعْلَمَ كُلُّ النَّاسِ خَالِقَهُم [7].

في البلاد التي تسقط فيها الثلوج خلال العواصف الثلجية، كان الكل، خاصة الفلاحون، يلزمون بيوتهم في فترة الشتاء، وكأن الله بمحبته يختم على أيديهم ليستريحوا في فصل الشتاء القارس من الأعمال خارج البيت، ويخرجون بعد الشتاء للعمل بنشاطٍ وقوة.

الطبيعة التي خلقها الله لخدمتنا صارت معلمًا لنا. فخلال تعاقب الفصول يدرك البشر خطة الله من نحو الإنسان. فيعرف الإنسان أن للعمل وقتًا وللراحة وقتًا. هكذا يليق بالإنسان من حين إلى آخر أن يدخل إلى راحة التأمل في عمل الله وطلب إشراق روح الله عليه، ليكشف له عن محبة الله كما يكشف له عن ضعفاته وأخطائه، فيقدم دائمًا توبة مستمرة مع رجاءٍ مفرحٍ وشكرٍ لله غافر الخطايا.

*     إذ يستخف البشر بالتفكير في الخطايا التي يرتكبونها، لهذا عندما يسمعون بقوةٍ الحزم السماوي، يدركون ثقل أفعالهم الرديئة التي تهدر حياتهم…

يمكن أن تفهم هذه العبارة (أي 37: 7) بمعنى آخر. فإن الخالق قدير عن كل الخلائق التي بلا حسٍ ولا عقلٍ، لكي يلتزم الإنسان ألا يجهل ما يفعله. إنه ملتزم بناموس الطبيعة، ليدرك ما يفعله إن كان حقًا أو خطأ. فإنه لماذا يُدان على سلوكه لو كان جاهلًا ما فعله…؟ لذلك حسنًا قيل: “لأن الشر يدل على الجبن، حين يحكم على نفسه أن سلوكه يستحق الإدانة” (راجع حك 17: 11)… مقابل هذا قيل بيوحنا: “إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله” (1 يو 3: 21).

 البابا غريغوريوس (الكبير)

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن يد الله الواضحة في الطبيعة والتي تشهد لقدرته الفائقة تدفع الإنسان إلى اكتشاف ضعفه الذاتي مع إمكانياته الجبارة بالله القدير، وفيما هو ضعيف يدرك أنه بالله قوي. “ليقل الضعيف بطل أنا” (يوئيل 3: 10). كما يقول الرسول بولس: “لأني حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوي” (2 كو 12: 10).

*     يقول هذا هو السبب لأعماله الخلاّقة، السبب لوجود البرد والحر، ولهبوب الرياح بطريقة تبدو بلا هدف. أما كان ممكنًا أن يقدم مجموعة متناسقة معًا؟ لم يفعل الله ذلك، لكي ما يمنع بكل وسيلة الفكر المتكبر المتعجرف.

يفعل هذا لكي يعرف كل إنسانٍ ضعفه. على عكس هذا جاءت خلقة تكوين الجسم وسير حياتنا، فقد نُظمت بطريقة تقودنا إلى التواضع حتى نتعلم السلوك باعتدال، وأن ندرك ضعفنا. لنقل مثل إبراهيم: “أنا تراب ورماد” (تك 18: 28)، ومثل داود: “أنا دودة لا إنسان” (مز 22: 6)، ومثل الرسول: “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا” (1 كو 15: 8).

لقد خلق الإنسان ضعيفًا، لكن الإنسان يحسب نفسه قويًا، ولذلك صار أكثر ضعفًا. لكن يظهر الله قوته أحيانًا لكي يهبنا فهمًا (وقوة) في داخلنا.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

*     يحثنا الله الكلمة ويقوينا حتى نبتعد عن الشياطين، ونتبع الله الحيّ وحده بابنه.

 نحن الذين اِنغمسنا زمانًا في الزنا، الآن نقبل الطهارة وحدها.

 استخدمنا قبلًا فنون السحر، والآن نكرس أنفسنا لله الحيّ الصالح.

كان همنا فوق كل شيء أن نكسب ثروات وممتلكات، والآن نأتي بما نملكه ليصير ملكًا عامًا ليأخذ منها كل محتاجٍ.

 كرهنا بعضنا البعض ودمرنا بعضنا البعض بسبب اختلاف سلوكنا، إذ كنا نرفض العيش مع من هم من قبيلة أخرى، أما اليوم فمنذ مجيء المسيح نعيش معًا في أُلفة. اليوم نصلي من أجل أعدائنا، ونحاول أن نحث الذين يبغضوننا باطلًا أن يذعنوا لمبادئ المسيح الصالحة ولوصاياه بغية أن يشاركونا ذات الرجاء المفرح لنوال مكافأة يقدمها الله ضابط الكل(1327).

الشهيد يوستين

فَتَدْخُلُ الْحَيَوَانَاتُ الْمَآويَ،

وَتَسْتَقِرُّ فِي أَوْجِرَتِهَا [8].

يرى أليهو حكمة الله ليس فقط من جهة الإنسان، وإنما حتى من جهة حيوانات البرية المفترسة. ففي فترة الشتاء حيث البرد القارس تلتزم هذه الحيوانات بالبقاء في خمول في جحورها وكهوفها، تكاد تكون بلا حركة، وهي بهذا لا تحتاج إلى طعامٍ كثيرٍ تقتات به.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أليهو يتحدث عن الحيوانات المفترسة، إبليس وجنوده، الذين يدخلون في قلوب الأشرار وأفكارهم ويستقرون فيها بكونها مملكتهم. أما بالنسبة للأبرار، فإن الشياطين تهاجمهم، وقد تقتحم أعماقهم إلى حينٍ، ولن يستطيعوا أن يستقروا فيها.

*     ماذا يقصد بالحيوان إلا عدونا القديم الذي بعنفٍ هدف نحو خداع الإنسان الأول وتشويه كمال حياته بمشورته الشريرة؟ ضد هذا جاء الوعد بكلمات النبي بخصوص إصلاح كنيسة المختارين إلى حالها القديم: “وحش مفترس لا يصعد إليها” (إش 35: 9)…

أظن أنه يلزم ملاحظة أن هذا الحيوان قيل عنه ليس أنه يدخل عرينه، بل يستقر فيه. فإنه يدخل أحيانًا في أذهان الصالحين، ويقترح أفكارًا غير لائقة، ويرعبهم بالتجارب، ويسعى أن يفسد استقامة الروح بملذات الجسد. إنه يجاهد أيضًا لأن يحمل اللذة قدر ما يقبلها الشخص. إنه يدخل عقول الصالحين، لكنه لا يقدر أن يستقر فيها، لأن قلب البار ليس عرينًا لهذا الشخص.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

مِنَ الْجَنُوبِ تَأْتِي الأَعْصَارُ،

وَمِنَ الشِّمَالِ الْبَرَدُ [9].

في الكتاب المقدس حيث أغلب الأحداث الواردة فيه تمت في منطقة الشرق الأوسط، يُنظر إلى الرياح الجنوبية أنها حارة، بينما الشمالية باردة. حين تحل الرياح الشمالية الباردة تمتلئ السماء بالسحب مع الرعد والبرق، وإذا تهب الرياح الجنوبية الحارة تَتبدد السحب ويزول الضباب.

 يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الأعصار الحارة تأتي من الجنوب والبَرَد من الشمال، الأولى تشير إلى المؤمنين الحارين في الإيمان حيث تشرق عليهم الشمس كما في منتصف النهار، والثاني يشير إلى غير المؤمنين المحرومين من الشمس، فيبقون في برود روحي.

*     من يتعلم أن يمارس عمل الله في هذا العالم – وادي الدموع والأتعاب هذا – يصير متهللًا مثل المزارع المُجِدْ الذي يزرع البذار حتى في موت الشتاء، فهل تقدر الرياح الباردة والجو القاسي أن يمنعه عن العمل؟ حتمًا لا! هكذا يليق بنا أن نتطلع إلى متاعب هذه الحياة. تُلقى الملاهي في طريقنا بواسطة الشرير، بقصد أن نَحد عن الأعمال الصالحة التي خُلقنا لكي نعملها. تطلعوا ماذا يقول المرتل: “من يخرج باكيًا…” بالحق يجد علة للبكاء، يجد كل واحدٍ منا ذلك. ومع هذا يلزمنا أن نسير، ممارسين أعمال الله الصالحة في طريقنا.

كم نكون بائسين إن كنا قد دُعينا للعمل بجدية لكي نبكي فقط دون التطلع إلى أية ثمرة لعملنا. يا لنا من بائسين إن كنا لا نجد أحدًا يمسح دموعنا.

لكننا نعرف أن الروح القدس يعمل لكي نستمر في الغرس وسط دموعنا. لأن الروح يعدنا خلال المرتل أننا نعود مندهشين بالفرح! نحمل ثمر تعبنا كتقدمة له(1328).

القديس أغسطينوس

*     “استيقظي يا ريح الشمال، وتعالي يا ريح الجنوب” (نش 4: 16)… دعنا نوجه اِهتمامنا إلى الطريقة التي تجعل بها الملكة ريح الشمال يبتعد عنها ثم يرجع إليها. إنها لا تأمره أن يسكن كما أمر السيد المسيح العاصفة أن تهدأ عندما كان سائرًا على المياه (لو 8: 23-24) ولكنها أمرت ريح الجنوب أن تهب وأن لا تعترضها أي ريح معاكسة قالت لريح الشمال: “استيقظي” ما هو السبب في حركة هذه الرياح؟ تتكلم الأمثال عن هذه الرياح: “من يخبئها يخبئ الريح ويمينه تقبض على الزيت” (أم 27: 16)، ولكن لا تهب ريح الشمال عن يمين الشخص في اِتجاه الغروب… وحركة الشمس في اِتجاه الغروب. أنت تفهم حقيقة ما تحتويه هذه الكلمات من أسرار: تشرق الشمس من الشرق وتسرع نحو الغروب أي ناحية قوى الظلمة، يقع الشمال على يمين الشمس ويستقبل إهانات أثناء رحلته التي تنتهي في الظلمة. لذلك يجد الشخص الغير منضبط نفسه كأنه ريح الشمال يسلك ويعمل أعمالًا مشينة. هذه الريح الشريرة على اليمين تمتلئ طمعًا عندما ترفع أكوامًا من الأشياء المالية، كأنها رمل أو تراب، ونتيجة لهذا فإن ريح الشمال تتعاون مع أخطاء كل شخص وتهبّ على جانبه الأيمن ولكن إذا كانت هذه الريح شديدة جدًا فإنها تغيّر وتقلب الأمور وتزيل متعة الفرح، لذلك تجعل العروس ريح الشمال التي تأتي قوتها من الأهواء أن تهرب تحت مسئوليتها: “اِستيقظي يا ريح الشمال”.

تشير ريح الشمال إلى القوى المضادة (لله)، ويظهر هذا بوضوح لأي شخص يبحث في طبيعة الحق المرئي فمن لا يدري بمسار الشمس بعد شروقها؟ أنها تظهر وكأنها تتحرك نحو الجنوب وتغرب في الغرب. ويقول الخبراء أن الأرض كرويّة، فإذا أضيء نصف الأرض بالشمس يكون النصف المقابل له مظلمًا لوقوعه في منطقة ظل الأرض. ولما كان القطب الشمالي للأرض باردًا باِستمرار ولا تدفئه أو تضيئه أشعة الشمس، فإن القوة المتحكمة في الظلمة تُحجز النفوس وتجعلها جامدة، يسمي النشيد هذا التجمد، “الشمال” أي تأثير ظلام الشتاء. إني أُسميه الشتاء الذي أشار إليه الإنجيل قائلًا: “وصلوا لكي لا يكون هربكم في الشتاء” (مت 24: 20). وفي الشتاء تنطفئ الصفات المزدهرة حسب الفضيلة.

أصابت الملكة حينما أمرت بسلطانها دفع ريح الشمال بعيدًا. ونادت على ريح منتصف النهار الدافئ الذي تسميه ريح الجنوب، وبواسطته يفيض تيار جارف من السرور: “تعالي يا ريح الجنوب، هبِّي على جنتي فتقطر أطيابها”. وتشبِه هذه الريح القوية التي هبت في العلية عندما كان التلاميذ فيها (أع 2:2) “وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم”. وكأنهم نباتات حيَّة تساعد هذه الريح حديقة الله على إنتاج الأعشاب العطرة، وتصدر نبوءات يفوح منها روائح ذكية ووصايا الخلاص للإيمان بفم الرسل ويخرج منها عطر تعاليمهم بكل اللغات. لقد جعلت ريح الجنوب هذه تعاليم المائة والعشرين… الذين كانوا نابتين في بيت الرب تفيض على كل أمم الأرض (أع 1: 15).

تقول العروس الآن لريح الجنوب “هبِّي على جنتي”، لأن عريسها جعلها أمًا للحدائق: ويشمل النص حدائق وينبوع. من أجل هذا يرغب العريس لحديقته، الكنيسة، التي تمتلئ بالأشجار الحيّة، أن تهب عليها هذه الريح، لكي تحمل منها روائح عطورها. ويقول النبي: “الريح العاصفة الصانعة كلمته” (مز 148: 8). تزينت العروس بزينة الملكة البهية، وغيّرت النهيرات التي تفيض عطرًا إلى شيء أكثر جمالًا، فجعلتها تفيض من أشجار الحدائق بواسطة قوة الروح القدس. ويمكننا بهذه الصورة أن نتعلم الفرق بين العهدين القديم والجديد: يمتلئ نهر النبوة بالمياه بينما تمتلئ أنهار الإنجيل بالعطر. وكان نهر القديس بولس يحمل رائحة المسيح العطرة، ويفيض من حديقة الكنيسة بواسطة الروح القدس. والأمثلة الأخرى كيوحنا، ولوقا ومتى ومرقس وجميع الرسل الآخرين كلهم يرمزون إلى نباتات نبيلة في حديقة العروس، وعندما تهب عليها في منتصف الظهيرة تصير ريح الجنوب جميعًا ينابيع عطور لرائحة الأناجيل الزكية(1329).

القديس غريغوريوس النيسي

مِنْ نَسَمَةِ اللهِ يُجْعَلُ الْجَمَد ُ(الجليد)،

وَتَتَضَيَّقُ سِعَةُ الْمِيَاهِ [10].

يُسمح بنزول الجليد (الماء المجمد). وإن كان ظهور الجليد نتيجة عوامل طبيعية، لكن حتى الظواهر لا تتم اعتباطًا، بل الله هو ضابط الطبيعة. يقول المرتل: “الذي يعطي الثلج كالصوف، ويذري الصقيع كالرماد. يلقي جمده (ثلجه) كفتات، قدام برده من يقف؟” (مز 147: 16-17).

*     من الذي يصب الهواء بفيضٍ شديدٍ… لا يقدمه بمقاييس حسب رتبة البشر وثرواتهم، ولا يُحد بواسطة تخوم معينة، ولا يقسمه حسب أعمار الشعب، وإنما كما كان يوزع المن (خر 16: 18)، يقدم بما فيه الكفاية للكل بالتساوي، ومركبة الخليقة المجنحة، وكرسي الرياح، وفصول السنة الوسيطة، والمحيي الكائنات الحية، أو بالأحرى حافظ الحياة الطبيعية للجسم، التي بها تعيش الأجسام وبها تتكلم، وفيها يكون النور وكل ما يشرق عليها، والبصر الذي يفيض خلالها…؟ ما هي مخازن الرياح؟ ما هي كنوز الثلج…؟ وكما يقول الكتاب من الذي ولد قطرات الندي؟ من أي رحم جاء الثلج؟ ومن الذي يربط الماء في السحب، ويثبت أجزاء السحب…(1330)

*     “عندما ينفخ الله يتجمد الثلج” [10]. إذ ينفخ الروح القدس على قلوب المؤمنين، ويهب عجائب القوة العظيمة، ينمو الجسد الذي يسبب شللًا (تخديرًا) في بلادة قلوب غير المؤمنين. تصير الجموع غير المؤمنة قاسية ضد الله بذات الأسباب التي تجعل الشعب المتواضع يكف عن العناد الذي ارتبط به. فإنه إذ ينفخ الله عليهم، أولئك صاروا ثلجًا، إذ قالوا خلال حسدهم على المعجزات التي صنعها: “هوذا العالم قد ذهب وراءه” (يو 12: 19). لقد رأوا الآيات، وأدركوا المعجزات التي تمت بواسطة خدامه، وسبق فرأوا العالم كله يذهب ليتبع كرازة الإيمان. ومع هذا فكلما ملأ الروح القدس العالم تشبثوا بالأكثر بخبث الحسد الذي يقيد أذهانهم.

ويفيض بالماء بغزارة“. لأنه الرب بالحقيقة يسكب المياه بغزارة بعد هذا الجليد. بعد أن احتمل قسوة اليهود، بعد موته، للحال أذاب قلوبهم من قسوة عدم إيمانهم، إذ نفخ عليهم نسمة الحب نحوه، حتى يجروا إليه لطاعته بشغفٍ، قدر المستطاع كما قيل بالحكيم: “كما الجليد في جو سليم هكذا تذوب خطاياكم وتُنزع عنكم” راجع (سي 3: 15)…

عن المياه، أي الشعب المحتشد معًا نحو الرب، يُقال: “يُرسل كلمته فيذيبها. يهب بريحه (بنسمته) فتسيل المياه” (مز 147: 18).

ألم يكن بولس جليدًا وهو ذاهب إلى دمشق، بعدما تسلم رسائل، وكان يعمل ضد بذور كلمة الله التي انتثرت في قلوب المؤمنين كما في الأرض، حتى لا تنبت وتبلغ كمال الأعمال الصالحة؟ لكن هذا الجليد تحول إلى ماء، وإذ رُوي فيما بعد بمجارى النصائح المقدسة أولئك الذين سعى قبلًا للضغط عليهم بالاضطهاد. هذا لكي ما يأتوا بحصادٍ وفيرٍ للمختارين قدر ما ترويها أمطار الله من فم المُضطهد.

 القديس غريغوريوس النزينزي

أَيْضًا بِرِيٍّ يَطْرَحُ الْغَيْمَ.

يُبَدِّدُ سَحَابَ نُورِهِ [11].

إذ يروي الرب الأرض يقوم بتفريغ السحاب السميك لكي يهطل أمطارًا على الأرض، حتى تنبت وتظهر براعم. جاء في الترجمة السبعينية: “الحنطة تطلب سحابًا”.

“يُبَدِّدُ سَحَابَ نُورِه”.ِ يرى البعض أن الله في محبته يجعل السحب الكثيفة أشبه بالسيدة الحامل التي تتوجع وهي تنجب طفلًا. تجلب السحب الكثيفة أمطارًا فتتبدد، كأنها تحتمل آلامًا من أجل خدمة الإنسان وإرواء الأرض له.

إذ تسقط الأمطار تصير السحب خفيفة ومنيرة.

فَهِيَ مُدَوَّرَةٌ مُتَقَلِّبَةٌ بِإِدَارَتِهِ،

لِتَفْعَلَ كُلَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ الْمَسْكُونَةِ [12].

تبدو السحب كأنها تدور حول نفسها بطريقة عشوائية. يحرك الله السحب حسب مسرته، فتطيعه وتذهب من موضع إلى آخر على وجه الأرض. ليس لدى السحب الإمكانية لتتحرك حسب هواها، إنما تتم مشيئة الخالق.

إن كانت حركات السحب تحتاج إلى تدبير إلهي، كم بالأكثر تحتاج البشرية إلى هذا التدبير. يقول الحكيم: “حيث لا تدبير يسقط الشعب، أما الخلاص فبكثرة المشيرين” (أم 1: 14). “المقاصد تثبت بالمشورة، وبالتدبير أعمل حربًا” (أم 20: 18).

يحدثنا المرتل عن خضوع الطبيعة بكل ظواهرها لله، قائلًا: “النار والبرد الثلج والضباب، الريح العاصفة الصانعة كلمته” (مز 148: 8).

سِوَاءٌ كَانَ لِلتَّأْدِيبِ،

أَوْ لأَرْضِهِ أَوْ لِلرَّحْمَةِ يُرْسِلُهَا [13].

تحركات الطبيعة مثل السحب المثقلة بالأمطار التي تبدو عشوائية، هي بسماحٍ من الله، إما للتأديب أو علامة رضا الله على الإنسان أو من قبل حنانه ورحمته عليه.

يسمح بالعواصف والطوفان أحيانًا للتأديب، كما حدث في العالم القديم (تك 7: 11-12).

لأرضه“، إذ يرسل الله مطرًا على الأرض علامة رضاه ومسرته بالإنسان، يحسب الأرض أرضه هو. يقول المرتل: “للرب الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها” (مز 24: 1).

جاء النص في الفولجاتا: “سواء في قبيلة واحدة أو في أرضه أو في أي أرض، حسب رحمته يرسلها”. فإن كانت العواصف والسحب المملوءة مطرًا تتحرك حسب مسرته، فهو أيضًا يحدد لها الموضع الذي تهب فيه أو تسقط عليه.

بقوله “لأرضه” يود الله أن يؤكد أنه يشتاق أن يعيش الإنسان كما في أرض الرب، كأنه يقيم منه آدم آخر يسكن في جنة الله التي يغرسها بيديه ويرويها بمياه نعمته، لتقدم ثمارًا مفرحة ومبهجة للإنسان التقي.

3. أيوب قاض غير مؤهل للحكم على عناية الله

أنْصُتْ إِلَى هَذَا يَا أَيُّوبُ،

وَقِفْ وَتَأَمَّلْ بِعَجَائِبِ اللهِ [14].

يدعو أليهو أيوب أن يحول نظره عن الضيقات التي تحل به، والتي دفعته للتذمر، إلى التأمل بجدية في عجائب الله، وأعماله الفائقة من أجل المؤمنين. بهذا يمتلئ فكره وقلبه بحب الله ويدرك رعايته الإلهية، فتستريح نفسه في داخله. يقول المرتل: “عظيمة هي أعمال الرب، مطلوبة لكل المسرورين بها” (مز 111: 2).

أَتُدْرِكُ انْتِبَاهَ اللهِ إِلَيْهَا،

أَوْ إِضَاءَةَ نُورِ سَحَابِهِ [15].

يتساءل أليهو: هل يمكن للإنسان أن يدرك كيف يحرك الله العواصف والسحب والأمطار الخ، وكيف يخرج برقًا منيرا من سحب قاتمة مظلمة؟

أَتُدْرِكُ مُوازَنَةَ السَّحَابِ،

مُعْجِزَاتِ الْكَامِلِ الْمَعَارِفِ [16].

من يعرف كيف تصير السحب معلقة في الجو في اتزانٍ عجيب، وكيف تتكون من الماء المتبخر وتتجمع معًا في الهواء، وتبقى سابحة في مكانٍ معينٍ لمدة معينة، كأن يدًا خفية تمسك بها وتحفظها، ثم تهطل كأمطارٍ لتروي الأرض. إنها تكشف عن حكمة عظيمة وكاملة!

مع ما بلغه العلم والمعرفة فإن هذه الظواهر يمكننا تبريرها، لكنها ليست تحت سلطان الإنسان، ويعجز عن إدراك كل أسرارها بدقة.

كَيْفَ تَسْخُنُ ثِيَابُكَ إِذَا سَكَنَتِ الأَرْضُ مِنْ رِيحِ الْجَنُوبِ [17].

كيف يفسر الإنسان أن جسمه يصير دافئًا عندما تهب الرياح الجنوبية الدافئة، وتصير حتى الملابس دافئة؟

رأينا في سفر النشيد كيف تطلب العروس أن تهب عليها ريح الشمال وأيضًا ريح الجنوب، فتعطي جنتها الداخلية ثمار الروح المبهجة (نش 4: 16).

يرى البعض أن أليهو يقدم هذا التساؤل بطريقة تهكمية، فإنه من أبسط الأمور أن تصير الثياب دافئة عندما تهب رياح دافئة، مع هذا لا يقدم الإنسان تفسيرًا دقيقًا لهذه الظاهرة.

هَلْ صَفَّحْتَ مَعَهُ الْجَلَدَ الْمُمَكَّنَ كَالْمِرْآةِ الْمَسْبُوكَةِ؟ [18]

يسأله: هل بسطت مع الله جَلَدْ السماء القوي مثل مرآة مسبوكة؟ هل كنت مع الله حيت صنع اتساع الرياح وامتدادها بما يتناسب مع وزنها؟

ألاَّ ترى كيف تكون السماء وهي صافية أشبه بمرآة مسبوكة ضخمة وقوية؟

هنا يتحدث عن جَلَدْ السماء كمرآة. يتحدث عنها الكتاب المقدس أيضًا بكونها أشبه بخيمة أو ستارة: “الذي ينشر السماوات كسرادق (كستارة)، ويبسطها كخيمة للسكن” (إش 40: 22). وأيضًا كدرجٍ: “وتلتف السماوات كدرجٍ، وكل جندها ينتثر كانتثار الورق من الكرمة، والساقط من التينة” (إش 34: 4). وأحيانًا كثوبٍ: “السماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى، كلها كثوبٍ تبلى، كرداءٍ تغيرهن فتتغير” (مز 102: 25-26).

قوية” حتى أنها تسند نفسها بنفسها.

عَلِّمْنَا مَا نَقُولُ لَهُ.

إِنَّنَا لاَ نُحْسِنُ الْكَلاَمَ بِسَبَبِ الظُّلْمَةِ! [19]

يدعو أليهو أيوب إلى الاهتمام بالرعد، الذي يرمز إلى صوت الله، الذي يعبّر عن عظمة الله. في تواضعٍ يعلن أليهو أن فكر الإنسان مظلم للغاية، عاجز عن الدخول في جدالٍ مع الله العظيم، وإن فعل هذا فليتوقع دماره [19-20].

إذ يشعر أليهو بالرهبة الشديدة نحو الله يسأل أيوب أن يعلمه ماذا يقول لله المهوب، أية كلمات يمكنه أن ينطق بها مع عظمة الله.

كثيرًا ما ردد أيوب ملتمسًا أن يدخل في محاكمة مع الله، وأن يلمس الحضرة الإلهية لكي يشكو له مما هو عليه. لذا ينصحه أليهو ألاَّ يطلب هذا، فستهرب الكلمات من شفتيه حين يقف أمام جلال الله العظيم.

كأنه يقول له: “يبدو عليك أنك حكيم جدًا، ولك معرفة كاملة عن الله؛ هب لنا أن نكون حكماء مثلك، فنقدر أن نقترب من الله، ونتحدث معه، لأننا نشعر كمن قد التحفوا بالظلمة. من جانبنا نعترف بجهلنا وعجزنا، أخبرنا وعلمنا كيف نقف لنحاوره!” أو كأنه يقول له: “لا يقدر البشر على تفسير عجائب الله وإدراك أسرارها، وبالتالي لا نقدر أن ندخل في خصومة معه. علَّمنا كيف يمكننا أن نفعل هذا؟”

هَلْ يُقَصُّ عَلَيْهِ كَلاَمِي إِذَا تَكَلَّمْتُ؟

هَلْ يَنْطِقُ الإِنْسَانُ لِكَيْ يَبْتَلِعَ؟ [20]

يقول: هل يمكنني أن أتجاسر وأهمس في حضرة الله؟ وإن تكلم أحد ضدي، واتهمني أمامه بسبب ما قلته، حتى وإن قدم الاتهام بنية صادقة، كيف أتجاسر وأقف في حضرته؟ فإنني أُبتلع من الرعب، وأهلك بسمو عظمته.

إن تجاسر أحد وتكلم بما لا يليق بعظمة الله، أي كان متذمرًا، يُبتلع تمامًا!

وَالآنَ لاَ يُرَى النُّورُ الْبَاهِرُ الَّذِي هُوَ فِي الْجَلَدِ،

ثُمَّ تَعْبُرُ الرِّيحُ فَتُنَقِّيهِ [21].

إن كانت عظمة الله الآن مخفية، حتمًا ستُعلن في وقت ما فجأة في كمال بهائها، حيث تبدد الظلمة عن عيني أيوب. وذلك كما يحدث بالنسبة للشمس التي تختفي أشعتها خلف الغيمة، لكن ما أن تهب الرياح وتبدد السحب حتى يظهر بهاؤها.

هكذا يليق بالمؤمن الذي تحجب التجارب عن عينيه رؤية بهاء مجد الله وبرَّه وعدله أن ينتظر في صبرٍ وطول أناةٍ، إذ يهب الروح القدس عليه، فيزيل عنه غمامة الظلمة، ويرى ما كان مخفيًا عن عينيه.

إذ كانت العاصفة قد بدأت فعلًا يطلب أليهو من أيوب أن ينتظر بصبرٍ، فقد اقترب الوقت الذي فيه يتجلى الله له ببهائه، ويتحدث معه بعد أن تطرد الرياح سحابة التجارب التي أظلمت عينيه.

يرى البعض أن أليهو هنا يشير إلى عجز الإنسان عن رؤية الشمس في بهائها متى هبت الرياح وصارت السماء صافية من السحب، فكيف يطلب أن يرى الله وجهًا لوجه ليعرض شكواه أمامه. يليق به عوض ذلك أن يسجد أمامه، خاضعًا له بروح التواضع، عوض التذمر والتحدث مع الله كمن يتهمه.

يعلن الله عن ذاته كسحابة جارية هذه التي تترك نور الشمس لامعًا للغاية، يمكن أن يرى في بهاء مجده الذي يكتنفنا [21-22].

مِنَ الشِّمَالِ يَأْتِي ذَهَبٌ.

عِنْدَ اللهِ جَلاَلٌ مُرْهِبٌ [22].

جاء في الترجمة السبعينية: “السحب تتلألأ مثل الذهب“.

إذ رأى أليهو العاصفة قادمة من الشمال، أوضح أن السحب القادمة مع العاصفة تبرق مثل الذهب الخالص اللامع كرمزٍ لاقتراب الله.

يرى القديس أغسطينوس أن الشمال يشير إلى مدينة الأمم حيث صهيون في الجنوب، وأن إبليس كان يسيطر على الشمال، حيث يقول: “أصعد إلى السماوات، ارفع كرسي فوق كواكب الله، وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال” (إش 14: 12-13). إذ يقبل الأمم الإيمان بالسيد المسيح، يتركون مملكة إبليس، ويتحررون منها، فيأتون من الشمال، وقد صاروا ذهبًا، أي صاروا ملوكًا، استناروا بالنعمة في المسيح يسوع؛ صاروا سحابًا ذهبيًا(1331).

4. الله كامل وعظيم ومهوب

الْقَدِيرُ لاَ نُدْرِكُهُ.

عَظِيمُ الْقُوَّةِ وَالْحَقِّ وَكَثِيرُ الْبِرِّ.

لاَ يُجَاوِبُ [23].

إن كان الله يقترب نحو أيوب خلال بهاءٍ منظورٍ تحفه السحب والعواصف ويجلس على عرش من ذهبٍ مصقول، لكن – في رأي أليهو – يستحيل لأحدٍ ما أن يدرك الله، فإن عظمته فائقة للغاية، وقدرته لا تُحد، وهكذا عدله وبرّه. وأنه يليق بأيوب أن يعلم مقدمًا أن ظهور الله له لا يعني أن سيجاوب على أسئلته، فليس من حق الخليقة أن تستجوب الله، وهي عاجزة عن إدراك حكمته.

لِذَلِكَ فَلْتَخَفْهُ النَّاسُ.

كُلَّ حَكِيمِ الْقَلْبِ لاَ يُرَاعِي [24].

يليق بالبشر حين يلتقون بالله أن يعترفوا أنهم خطاة وجهلاء وبائسون، يخشون القدوس الحكيم وحده.

لا يحابي الله إنسانًا كمن هو حكيم في عينيه، لأنه أية حكمة تُنسب لإنسان ما إن قورنت بالله كلي الحكمة والعلم والمعرفة؟ أي صلاح ينسب إليه إن قورن بالقدوس وحده؟

هكذا يختم أليهو حديثه بطريقة مختلفة تمامًا عن الثلاثة أصدقاء. يختمه بإبراز عظمة الله وجلاله وحكمته وقدرته التي يليق بكل إنسان – مهما كانت قدرته ومواهبه – أن يخضع في انسحاق أمام الله.

ختم حديثه بأنه يرى العظمة الإلهية تقترب لتلتقي مع أيوب كسحابةٍ من ذهب بهي مصقول، ويود أن يتهيأ أيوب لهذا اللقاء بالكف عن التذمر والشكوى، وأن يعترف بأعمال الله العظيمة وعدله وبرّه.

يرى أليهو أن الرب قادم، ويليق أن يتوقف كل حديث بشري أو جدال، ليخضع الكل في صمتٍ، وينصتوا للصوت الإلهي.

يكفينا أن نقتنع بأنه يعمل بعدلٍ [23-24].

 

من وحي أيوب 37

ليرعد صوتك في قلبي!

 

*     لتهبّ عاصفة حبك في أعماقي، وليرعد صوتك في قلبي!

ليس من يقدر أن يغير أعماقي سوى صوت حبك.

وليس من يهبني مخافتك الرهيبة والمملوءة عذوبة سوى صوتك.

رعد صوتك يهز كل كياني. يحطم كل فسادٍ في داخلي،

ويعزل نفسي عن كل مشاغلٍ زمنية.

في رهبة عذبة يرتفع فكري إلى عرش نعمتك.ويُمتص عقلي في جلالك!

أود ألا أفارقك حتى أنطلق من هذا العالم.

*     رعد صوتك يحطم الأرز المتشامخ، فيقتلع مني كل كبرياء.

تمطر سحب حبك على أرض قلبي، فتحولها إلى جنة سماوية مفرحة.

تحمل ثمار الروح الفائقة.

*     وسط هذا السحاب الكثيف تبرق فجأة.

أرى أشعة أنوارك إلى لحظات، فتستنير نفسي بك، وأتعرف علي أسرارك.

نورك يبرد كل ظلمة فيَّ. ويحوِّل ظلمتي إلى نورٍ بهي!

*     تتحول مياه الأمطار إلى ثلجٍ ناصع البياض.

يصير قلبي وقد غطاه الثلج غاية في النقاوة!

تسبحك نفسي، إذ تبدد خطاياي وتنزعها، وتمتلئ نفسي بثلج حكمتك البهية.

*     يبذل عدو الخير- الوحش المفترس – كل الجهد أن يقتحم جنتك فيَّ.

لن يستطيع أن يقترب مادمت أنت في داخلي.

وإن خدعني ودخل لن يستقر، فإن نعمتك تطرده سريعًا!

نعم، لتحفظ جنتك من هذا العدو الخبيث!

*     لتهب ريح الجنوب الدافئة على جنتك. فتمتلئ نفسي بدفء الروح.

ويلتهب قلبي بغيرتك المقدسة!

إن سمحت بريح الشمال الباردة أن تهب عليَّ؛ إن سمحت للتجارب أن تحدق بي،

فإني واثق في غنى حبك وحكمتك.

يا من تحرك الطبيعة بكل عظمتها لحسابي،

كيف لا أثق في حسن تدبيرك لكل حياتي؟!

 

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى