كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس اسقف ورئيس دير أنبا مقار

برية التجربة

عندما بدأ يوحنا المعمدان خدمته الكرازية، نادى في برية اليهودية قائلا: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت ٣: ١).

وبعد أن اعتمد الرب يسوع من يوحنا المعمدان، اقتاده الروح القدس إلى البرية ليجرب من إبليس، وهناك صام أربعين يوماً وأربعين ليلة (مت ٤: ١).

لم تكن برية التجربة أرضاً صحراء قاحلة، مغطاة بالرمال، وتنتشر فيها الكثبان الرملية؛ بل كانت منطقة جبلية وعرة، تكتنفها الهضاب والتلال، وتأوي إليها الوحوش والطيور الجارحة.

وإذا عدنا إلى النص اليوناني للعهد الجديد نجد أنه يستعمل كلمة واحدة، وهي (إريموس) عندما يريد أن يصف أي منطقة برية. أما النص العبري للعهد القديم فإنه يستعمل عدة كلمات مختلفة يمكن ترجمتها إلى “برية”، ولكن كل منها يعطي وصفا مختلفاً لتلك البرية.
وعموماً فإن المقصود بكلمة برية في الكتاب المقدس، عدة مناطق جغرافية تحيط بمنطقة إسرائيل قديماً، وهذه المناطق تقع إلى الجنوب، وإلى الجنوب الغربي، وإلى الشرق من المنطقة التي كانت مأهولة بالسكان في إسرائيل، والتي يقابلها جغرافياً شبه جزيرة سيناء وصحراء النقب وعبر الأردن. أما البرية التي قضى بها الرب يسوع الأربعين المقدسة فهي تختلف عن تلك البراري، وهي تقع على المنحدرات الشرقية لجبال الأردن، والتي غالبا ما كانت تعرف باسم: “يشيمون” والتي تترجم إلى “القفر”.

والكلمة اليونانية “إريموس” التي ترجمت إلى “برية” في العهد الجديد، يأتي معناها الأساسي من معنى “التخلية والهجران”. فهي تُستعمل للأشخاص عندما يهجر إنسان أهله وذويه؛ وتستعمل للأماكن عندما يهجر إنسان مكان سكناه أو معيشته؛ كما تستعمل أيضا عندما يتخل انسان عن فكرة أو رأي معين. وعندما تستعمل للأماكن فهي لا تعني بالقطع معنى “الصحراء”، لكنها تشير فقط إلى أي مكان خال أو غير آهل بالسكان كالمدن المهجورة والمقاطعات التي يندر وجود المقيمين بها.
وترتبط البرية في أذهان الشعوب القديمة في الكتاب المقدس بالمكان الذي تعيش فيه العقارب والحيات والوحوش المفترسة، لذلك فهي تعد من الأماكن الخطرة والمخيفة: «الذي سار بك في القفر العظيم المخوف، مكان حيَّات مُحرقة وعقارب وعطش حيث ليس ماء» (تث ١٥:٨).

والتقليد اليهودي يرى أن البرية هي المأوى المفضل للشياطين والأرواح الشريرة:
+ “لأَنَّهُ أَمَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ مُنْذُ زَمَانٍ كَثِيرٍ كَانَ يَخْطَفُهُ، وَقَدْ رُبِطَ بِسَلاَسِل وَقُيُودٍ مَحْرُوسًا، وَكَانَ يَقْطَعُ الرُّبُطَ وَيُسَاقُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَى الْبَرَارِي.” (لو 8: 29).
+”مَتَى خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ، يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً،” (لو 24:11).
+ «هناك يستقر الليل (أو الغول) ويجد لنفسه محلاً» (إش ٣٤: ١٤).
وهناك يكتنف الظلام البرية وتنقطع فيها سبل الحياة:
“…أَيْنَ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، الَّذِي سَارَ بِنَا فِي الْبَرِّيَّةِ فِي أَرْضِ قَفْرٍ وَحُفَرٍ، فِي أَرْضِ يُبُوسَةٍ وَظِلِّ الْمَوْتِ،” (إر2: 6)

الأهمية التاريخية:

ترجع أهمية البرية تاريخياً إلى ارتباطها برحلة خروج بني إسرائيل من أرض مصر. فخبرة الخروج من أرض مصر تربط أولاً بين البرية والعناية الإلهية، عندما قاد الله شعبه في البرية وصنع به قوات وعجائب عظيمة إلى أن أدخله أرض الميعاد. كما أنها تربط ثانياً بين البرية وعصيان شعب الله. ففي برية سيناء اختبر الشعب قدرة الله عندما أعطاه المن والسلوى، وعندما أخرج له الماء من الصخرة، وعندما قاده بعمود النار ليلاً وبالسحاب نهاراً. ومع ذلك فقد كان رد الشعب التذمر عل الله عدة مرات والتمرد عل موسى النبي: “الْيَوْمَ، إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي الإِسْخَاطِ، يَوْمَ التَّجْرِبَةِ فِي الْقَفْرِ حَيْثُ جَرَّبَنِي آبَاؤُكُمُ. “(عب ٣: ٧ -٩).

وفي البرية مال الشعب إلى مشورة الجواسيس العشرة الذين ذهبوا ليتجسسوا أرض كنعان ورفضوا مشورة يشوع بن نون وكالب بن يفنة. وكنتيجة لذلك عاقبهم الله في البرية بأن أفنى ذلك الجيل كله الذي خرج من أرض مصر ،ولم يدخلهم أرض الميعاد بسبب تمردهم عل الله وعصيانهم، وعدم تصديقهم لمواعيده: «اخْتَبَرُونِي وَأَبْصَرُوا أَعْمَالِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. لِذلِكَ مَقَتُّ ذلِكَ الْجِيلَ، وَقُلْتُ: إِنَّهُمْ دَائِمًا يَضِلُّونَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا سُبُلِي. حَتَّى أَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي: لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي» (عب٣: ٩ -١١).

الأهمية اللاهوتية:

ابتداء من أسفار الأنبياء في العهد القديم، ومرورا بأسفار ما بين العهدين (الأسفار القانونية الثانية) حتى نصل إلى زمن العهد الجديد، نجد أن البرية بدأت تحتل أهمية خاصة ومعنى رمزياً أغنى عند الشعب اليهودي، وذلك بصفتها المكان الذي منه سيخلص الله شعبه.

ففي الفترة الزمنية الواقعة بين خروج بني إسرائيل من مصر وعصر الأنبياء، وهي فترة تقدر بعدة مئات من السنين، اختفت الذكريات المرة والأليمة المرتبطة برحلة الخروج. وبدأ الأنبياء يرون أن عبادة كنعان الوثنية كانت هي السبب وراء متاعب شعب إسرائيل. كما أن الذكريات الطيبة المتبقية من رحلة الخروج ألهمت الكُتَّاب بأن يذكروا البرية بتعبيرات عظيمة ومجيدة. فعل سبيل المثال صار لمعجزة نزول المن في البرية معنى مسياني، إذ أنه ارتبط في أذهانهم ببركات العصر المسياني المرتقب. بل وصار هناك توقع في المستقبل أن الله سوف يخرج شعبه مرة ثانية إلى البرية حتى يتم تجديده لخروج جديد مماثل لخروجه من أرض مصر:
+ “لكِنْ هأَنَذَا أَتَمَلَّقُهَا وَأَذْهَبُ بِهَا إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَأُلاَطِفُهَا، وَأُعْطِيهَا كُرُومَهَا مِنْ هُنَاكَ، وَوَادِي عَخُورَ بَابًا لِلرَّجَاءِ. وَهِيَ تُغَنِّي هُنَاكَ كَأَيَّامِ صِبَاهَا، وَكَيَوْمِ صُعُودِهَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ.” (هو 2: 14و15).

+«صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: «أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا. كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ، وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَيَصِيرُ الْمُعْوَجُّ مُسْتَقِيمًا، وَالْعَرَاقِيبُ سَهْلاً. فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا، لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ» (إش 40: 3-5).
+ “حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ…وَأُخْرِجُكُمْ مِنْ بَيْنِ الشُّعُوبِ، وَأَجْمَعُكُمْ مِنَ الأَرَاضِي …وَآتِي بِكُمْ إِلَى بَرِّيَّةِ الشُّعُوبِ… وَأُمِرُّكُمْ تَحْتَ الْعَصَا، وَأُدْخِلُكُمْ فِي رِبَاطِ الْعَهْدِ.” (حز20: 33-37)

وقد أخذ هذا التقليد ينمو إلى زمن العهد الجديد حتى ساد الاعتقاد أن الخلاص الأبدي سوف يبدأ من البرية، وأن المسيا سوف يظهر أولا في البرية. وهذا التقليد يفسر لنا قول الرب يسوع لتلاميذه عن المجيء الثاني للمسيح: «فإن قالوا لكم: ها هو في البرية فلا تخرجوا!» (مت24 :36). ونتيجة لهذا التقليد ظهرت بعض حركات التمرد المسيانية، وخاصة بين فئة الغيورين، واتجهت إلى البرية لتبدأ من هناك حركة التمرد ضد روما. وقد وجه قائد الكتيبة الرومانية هذه التهمة لبولس الرسول: «أفلست أنت المصري الذي صنع قبل هذه الأيام فتنة، وأخرج إلى البرية أربعة الآلآف الرجل من القتلة؟» (أع ٢١ :٣٨)، حتى صار هذا التقليد يعرف عند مفسري الكتاب المقدس بـ “تقليد البرية”.

ولم يختف هذا التقليد تماماً بعد مجيء الرب يسوع بالجسد، فيصف لنا سفر الرؤيا المرأة المتسريلة بالشمس التي حاول التنين أن يبتلع ولدها متى ولدت. فبعد أن ولدت ابناً ذكراً عتيداً أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد، حدث أن المرأة هربت إلى البرية حيث لها موضع معد من الله لكي يعولها هناك (رؤ ١٢: ١ -٦). فعلى كنيسة الله أن تظل مختفية في برية هذا العالم حتى مجيء المسيح الثاني لينهي عل مملكة إبليس.

وقد أشار الإنجيليون عدة مرات إلى البرية ليوضحوا أن الخروج الجديد للبرية المعد لشعب الله قد تم بمجيء المسيح. فكما أن الرب عال شعبه في البرية إذ أطعمهم المن من السماء، هكذا أطعم الرب يسوع الجموع في البرية (مر 8: 1-9). لكن الأكل من المن الأول تبعه موت لجميع الشعب، أما الأكل من المن الجديد أو المن الحقيقي، الذي هو جسد المسيح، فيتبعه حياة أبدية: «أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبر النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت» (يو٦: ٤٨-٥٠).

و رفع موسى الحية النحاسية في البرية حتى يعطي نجاة وقتية للشعب الذي هاجمته الحيات المحرقة نتيجة لتمرده، هكذا رُفع المسيح عل الخشبة حتى يعطي حياة أبدية لكل من يؤمن به:
+”وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، 15لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.” (يو3: 14و15)

وكما شرب الشعب من الماء الذي خرج من الصخرة في البرية بعد أن كاد يهلك من العطش، هكذا أعطى المسيح شعبه ماء الحياة الذي كل من يشربه لن يعطش إلى الأبد:
+«كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا. وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو ٤: ١٣و١٤).

أما عن خروج الرب يسوع نفسه إلى البرية فيشرحه القديس كيرلس الكبير – في تفسيره لإنجيل القديس لوقا – موضحاً أن خروجه كان مكسبا لنا ومن أجلنا. فقد خرج بنا، وهذا هو الخروج الجديد الذي انتظرته البشرية، لكي يعطينا النصرة على الشيطان، ويكلل في نفسه الطبيعة البشرية بأسرها:
[لقد سكن الرب في البرية تاركاُ مساكن المدن، وهناك في البرية صام وتجرب من الشيطان. هناك انتصر من أجلنا. هناك سحق رؤوس التنين. هناك كما يقول داود الطوباوي: “العدو تم خرابه إلى الأبد. وهدمت مدناً” (مز 6:9)، أي هدمت أعوانه الذين كالأبراج والمدن. لذلك فبعد ما تسلط على الشيطان وكلل في نفسه طبيعة الإنسان بالانتصارات التي أحرزها عليه، رجع بقوة الروح؛ سالكاً بقوة وسلطان، وعاملاً معجزات كثيرة جداً أثارت اندهاش الكثرين].

الختان كتب أنبا إبيفانيوس أنقياء القلب
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى