تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 4 للأنبا عريغوريوس

الفصل الرابع

1:4- 13 السيد المسيح يجرب من الشيطان :

وقد رجع السيد المسيح من الأردن بعد أن اعتمد من يوحنا المعمدان وهو ممتلئ من الروح القدس، فذهب به الروح إلى البرية حيث ظل هناك أربعين يوماً مـتـوحـداً منقطعاً . عن الطعام انقطاعاً كاملاً، ومداوماً على الصلاة والتأمل في سكينة وهدوء، قاصداً من ذلك . وقد تهيأ لأداء رسالته السامية ـ أن يتيح للروح في هيكله الإنساني أن تزيح جانباً ما تحـجـبـه كثافة الجوهر الجسدي من شفافية الجوهر الروحي، ومن ثم تتألق الروح بكل ما فيها من نور إلهي. كما أن السيد المسيح أراد أن يتعرض وهو في صورة الناس لما يتعرض له كل الناس من هجمات إبليس الذي هو الرمز المجسم للشر، والمغرى به، والمعرض عليه، قاصداً أن يقهر إبليس ويكسر من شركته، إذ كان ذلك من أهداف رسالته. وإذ كان إبليس يعرف ذلك ويخشاه ، بدأ هجومه على السيد المسيح منذ أول لحظة من لحظات الوحدة في البرية. ولم يكن هجومه في صورة وساوس أثيمة يوحى بها إليه، أو إغراءات شريرة يبثها في نفسه، كما يفعل، مع سائر الناس، لأن الوقوع فريسة الوساوس والإغراءات لا يتعرض له إلا ضعاف النفوس من بني الإنسان الذين سرعان ما ينقادون لإبليس في كل ما يوسوس لهم به أو يغريهم بارتكابه، في حين أن السيد المسيح كان طاهراً طهارة كاملة، ولا خطأ ولا خطيئة فـيـه أبداً، ومن ثم كان إبليس يظهر له علانية في صورة خارجية مرئية، متوهماً أنه قادر على أن يثنيه عن أداء رسالته التي جاء من أجلها إلى العالم، بأن يجعله زاهداً في تلك الرسالة أو غير أهل لأدائها، بأن يغريه بالمـجـد الدنيوي، أو يشككه في بنوته لله، أو في عناية الله به، أو يدفع به في أي صـورة من الصـور إلى ارتكاب خطيئة نحو الله تؤدى إلى عدم رضاء الله عنه وإنعدام ثقته فيه وحرمانه من الامتياز الذي أسبغه عليه ليكون مخلص العالم. وبذلك يأمن إبليس على نفسه من الحرب التي جاء السيد المسيح ليشنها عليه كي يهزمه ويحطمه ويقضى على سطوته وسلطانه على البشر. بيد أن إبليس ظل أربعين يوماً كاملة عاجزاً على الرغم من كل ما استخدم من حيله وأحابيله وأضاليله – على أن يجعل السيد المسيح ـ وهو مستغرق في ابتهالاته وتأملاته – يلتفت إليه أو يعيره أي اهتمام. حتى جاءت في النهاية لحظة ظن إبليس أنها الفرصة الذهبية ليتغلب بها على السيد المسيح وصلابته وقوة صموده، لأنه لم يأكل شيئاً في تلك الأيام الأربعين التي قضاها متعبداً، حتى إذا انتهت جاع أخيراً، فقال له إبليس وإن كنت ابن الله، فمر هذا الحجر أن يصير خبزاه . وكان إبليس بخبثه يريد بهذا القول أن يزعم للسيد المسيح أن الله قد تخلى عنه، وإلا لما تركه يجوع ، ومادام قد تخلى عنه فهو ليس ابنه. فإن كان مع ذلك يعتقد أنه ابنه، فليثبت أنه قادر بما لابن الله من قدرة إلهية أن يصنع معجزة يحول بها الحجر إلى خبز ليأكله. بيد أن السيد المسيح وإن كان قادراً على أن يصنع هذه المعجزة التي أثبت بعد ذلك أنه قادر على أن يصنع أعظم منها، لم يشأ أن يصنعها لكلا يكون بذلك قد أطاع إبليس، وفي طاعة إبليس معصية لله. كما أن كل المعجزات التي صنعها السيد المسيح فيما بعد لم يكن يقصد بها خيراً لنفسه، وإنما خيراً للناس، وبره برهاناً لديهم على حقيقة شخصيته ليؤمنوا به، ومن ثم أجاب إبليس قائلاً مكتوب ليس بالخبز وحـده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله،، لأنه ـ كإنسان ـ قد أطاع كل ما هو مكتوب في شريعة الله. وقد جاء في تلك الشريعة «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان، (التثنية 8 : 3) وليس معنى أن الله لم يرسل إلى السيد المسيح خبزاً في صومه أنه تخلى عنه، لأن الله كان راضياً عن ذلك الصوم، وإلا كان أنزل عليه المن والسلوى اللذين سبق له أن أنزلهما على بني إسرائيل، وهم في صحراء سيناء بعد خروجهم من مصر (الخروج 16 : 4 – 16). كما أن الخبز المادي ليس هو الطعام الوحيد الذي يحيا به الإنسان، وإنما الذي يحيا به قبل كل شيء وفوق كل شيء هو الخبز الروحي الذي هو كلمة الله، التي تتضمن تعاليمه ووصاياه، والتي إن حفظها الإنسان وترنم بها وأطاعها كانت هي الطعام الذي يحيا به حياة حقيقية أبدية، لا حياة وقتية زائلة، وبكلمة الله هذه كان يحيا السيد المسيح طوال الأربعين يوماً التي انقطع فيها عن الطعام المادي، والتي كان أثناءها دائم الصلة بالله الذي هو أبله وكلمته. فكان بذلك هو كلمة الله بطبيعته الإلهية، وكانت كلمة الله هي طعامه بطبيعته البشرية.

وإذ فشل إيليس في محاولته تلك مع السيد المسيح لجأ إلى محاولة أخرى كان واثقاً بأنه ما من إنسان يرفضها، وهي إغراؤه بالتسلط على العالم كله والتمتع بكل ما فيه من أملاك وأمجاد. وقد أفاح إبليس بهذا الإغراء في أن يدفع بأغلب الناس إلى الانصياع لمشيئته، والخضوع لسلطانه والرضاء بأن يكون سيداً لهم وأن يكونوا عبيدا له . ومن ثم صعد إبليس بالسيد المسيح إلى جبل شاهق وأراه كل ممالك العالم في لمحة من الزمان، وقال له «أعطيك كل هذا السلطان ومجده ، لأنني أملكه، ولى أن أعطيه من أشاء. فإن سجدت لي، يكن هذا كله لك. . وقد زعم إبليس أن له السلطان على كل ممالك العالم وأمجاده، لأن الإنسان حين عصى الله وقع بالفعل، في قبضة إيليس، فصار هو المتحكم في الناس وفي ممالكهم وأمجادهم، حتى أصبح كما قال السيد المسيح فيما بعد هو «رئيس هذا العالم، (يوحنا 12: 31)، (14 : 30)، (16: 11)، لا لأن الله قد نخلى عن سلطانه على البشر، فهو صاحب السلطان الأعلى عليهم منذ خلقهم إلى الأبد، وإنما لأن البشر تمردوا على الله وأخضعوا أنفسهم لإبليس، فاستحقوا بذلك الهلاك الذي قضى به الله عليهم كما قضى به من قبل على إبليس . ولولا رحمته التي شاءت أن يجيء السيد المسيح ليكفر عنهم ويفديهم، مخلصاً إياهم من سيطرة إبليس، لظل حكم الهلاك سارياً عليهم إلى نهاية الدهر. ولذلك أراد إبليس أن يحول بين السيد المسيح وبين أداء تلك الرسالة ، فحاول كما حاول من قبل البشر جميعاً أن يعرض عليه ذلك العرض المغري، نظير أن يتخلى عن طاعة الله والسجود له، وأن يطيعه هو ويسجد له ، وبذلك يضمن تراجع السيد المسيح عن أداء رسالته في سبيل المجد الدنيوي الذي عرضه عليه وأغراه به، كما يضمن بقاء البشر جميعاً مطيعين له خاضعين لسلطانه الشيطاني. بيد أن السيد المسيح عندئذ لم يفحمه بحجته القوية فحسب، وإنما طرده من أمامه في غضب قائلاً له ، إليك عنى يا شيطان، فإنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبده . وبذلك رفض ذلك العرض الوقع الذي عرضه عليه، معلناً له مرة أخرى أنه ـ كإنسان – قد أطاع كل ما هو مكتوب في شريعة الله. وقد جاء في تلك الشريعة أنه لا ينبغي العبادة إلا لله، ولا ينبغي السجود إلا له وحده (التثنية 6 :13)، قلتن عصى البشر جميعاً شريعة الله فلن يعصاها هو بطبيعته البشرية. كما أنه من غير المعقول أو الممكن أن يعصاها بطبيعته الإلهية، لأنه ابن الله، ولأنه هو الله ذاته ، والشريعة هي شريعته..

غير أن إبليس اللعين، على الرغم من أن السيد المسيح انتهره وطرده من أمامه، راح في صفاقة ينصب له شركاً آخر عساه أن يفلح في أن يغريه بأن يقع فيه . وإذ رأه يبدى خضوعه لأحكام الشريعة ويمتثل بأقوالها، جعل في هذه المرة الشرك الذي نصبه له مأخوذاً من الشريعة ذاتها، إذ جاء به إلى أورشليم وأوقفه على جناح الهيكل الشاهق الارتفاع، وقال له وإن كنت أنت ابن الله فألق بنفسك من هنا إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصى ملائكته بك ليحافظوا عليك، فيحملوك على أيديهم لئلا تصدم بحجر قدمك.. وهذه عبارة واردة بالفعل في سفر المزامير (المزمور 90 (91) : 11). بيد أن الشيطان إذ أراد أن يجارى السيد المسيح في استشهاده بأقوال الشريعة كان غبياً، لأن ذكاءه الذي اشتهر به هو ذكاء في عمل الشر، وأما في عمل الخير فينقلب ذكاؤه إلى غباء، ولأنه لا يمكنه أن يفهم أقوال الشريعة وما تنطوي عليه من خير، ولذلك فإنه يستخدمها على عكس معناها الصحيح فيما يقصد إليه من شر. فإن المقصود بهذه الآية التي استشهد بها أن يتكل الإنسان على الله فينقذه الله عندئذ بواسطة ملائكته مما يتعرض له من أخطار، وليس المقصود بها أن يلقى الإنسان بنفسه إلى التهلكة ثم ينتظر من الله أن ينقذه . كما أنه ليس المقصود بها أن يلقى الإنسان بنفسه إلى التهلكة لا لشيء إلا لأن يرى إن كان وعد الله بأنه سينقذه صحيحاً أم غير صحيح، ممتحناً بذلك الله ومجرياً إياه ، لأنه إن كان يليق بالله أن يمتحن عـبـده ويجربه، فلا يليق بالعبد أن يمتحن إلهـه ويجربه، وإلا كان في ذلك إهانة لله وامتهان لعظمته وجلاله، ومن ثم فإن السيد المسيح إذ رأى أن إبليس استشهد بأقوال الشريعة كشف له عن جهله بالشريعة وأقوالها، لأنه إن كانت قد وردت بها تلك العبارة التي ذكرها، فقد وردت بها عبارة أخرى في سفر التثنية (التثنية 6 : 16)، تجعل ما طلب منه إبليس أن يفعله مخالفاً للشريعة، قائلا له إنه قيل لا تجرب الرب إلهك.. فلا يصح أن نستغل إساءة فهمنا للوصية الأولى، في عصيان الوصية الثانية وبذلك أفحم السيد المسيح إبليس وأبكمه والجمه. وإذ رأى إبليس أنه قد أفرغ كل ما في جعبته من كل تجربة أراد أن يدفع بها السيد المسيح إلى ارتكاب الخطيئة، ويثنيه عن إنجاز رسالته التي جاء من أجلها إلى العالم، أنصرف عنه، ولكن إلى حين، ريثما يملأ جعبته بعدد آخر من التجارب ليشهرها في وجهه، لأن السيد المسيح قد أعلن عليه الحرب مصمماً على هزيمته، فظل إبليس على الرغم من انصرافه عنه، حاقداً عليه ، عاقداً العزم على أن يتسلح بكل سلاح في متناول يده ليخوض هذه الحرب، مدافعاً عن نفسه، وعما له في هذا العالم الذي سيطر عليه، من سيادة وسطوة وسلطان.

4 : 14 و 15 السيد المسيح يبشر في الجليل :

وبعد أن انقضت أيام صوم السيد المسيح وهزيمته الشيطان بدأ ينجز رسالته، فرجع من البرية بقوة الروح القدس الذي كان ملازماً له، لأنه متحد به اتحاداً كاملاً. ولم يتجه إلى منطقة اليهودية حيث كانت تقع أورشليم عاصمة اليهود، وحيث كان يقوم الهيكل مركز عبادتهم، وإنما أتجه إلى منطقة الجليل في شمالي فلسطين، لأنها كانت موطناً لكثير من الخطاة . وقد طالما صرح بأنه إنما جاء ليبحث عن الخطاة كي يهديهم إلى طريق الصلاح والخلاص. ولأن يهود منطقة الجليل كانوا أقل تعالياً وصلفاً من يهود منطقة اليهودية الذين كانوا يتصفون بالكبرياء لادعائهم العلم بالشريعة، كما كانوا يتصفون بالرياء لأنهم كانوا يطبقون الشريعة تطبيقاً شكلياً مظهرياً بعيداً كل البعد عن روح الشريعة وجوهرها. فكانوا من ثم تربة غير صالحة لأن يغرس فيها السيد المسيح أول غراس تعاليمه. وقد صنع في الجليل من المعجزات الإلهية وأذاع من التعاليم السماوية ما جعل أمره يذيع في كل أنحاء الجليل والأنحاء المحيطة به. وكان يعلم في مجامع الجليليين التي هي بيوت عبادتهم، فكان الجميع يمجدونه مبهوتين من سحر بيانه وقوة سلطانه على النفوس.

4 : 14 و 30 المسيح يرفض في وطنه :

ثم جاء إلى الناصرة حيث نشـأ، وذهب كـعـادته إلى المجـمع في يوم السبت الذي كـان مخصصاً للعبادة . وهناك طلبوا إليه أن يقوم ليقرأ فصلاً من فصول الكتاب المقدس لليهود الذي يتضمن شريعتهم. وقد تأولوه سفر إشعياء النبي. وقد كان من التدبيرات العجيبة التي جاءت بترتيب من الله أنه لما فتح السفـر وجـد الموضع الذي يتضمن إحدى النبوءات عنه هو وعن رسالته. إذ كان مكتوباً فيه إن روح الرب على، لأنه مسحنى وأرسلني لأبشر المساكين. أرسلني لأشفى المنكسرى القلوب، وأنادي للمأسورين بالخلاص، وللعميان بالإبصار، وأطلق سراح المنسحقين وأبشر بسنة الرب المقبولة، . ثم طوى السيد المسيح السفر وأعاده إلى الخادم وجلس ، إذ كانت العادة قد جرت على أن الذي يقوم ليقرأ فصلاً من الشريعة، يجلس بعد ذلك ليفسر للحاضرين الفصل الذي قرأه . وقد كانت شهرة أعمال السيد المسيح وأقواله قد بلغت أسماع أهل الناصرة، ومن ثم كانوا متلهفين على أن يستمعوا إليه. فكانت أبصار جميع الذين في المجمع شاخصة إليه. فقال لهم اليوم تم هذا المكتوب الذي تلى على مسامعكم، معلناً بذلك أنه هو الذي كانت تعنيه نبوءة إشعياء النبي، وأنه هو الذي مسحه الرب لينجز الرسالة التي جاء تفصيلها في النبوءة . وقد حلت بمجيئه سنة الرب المقبولة، أي الموعد الذي حدده الرب ليصفح فيه عن البشر بواسطة مـسـيـحـه ويقبلهم في ملكوته من جديد، بعد أن كـان قـد رفضهم وطردهم من ذلك الملكوت. وقد كان فيما قاله السيد المسيح من السحر والسلطان ما جعل جميع الحاضرين في أنه المجمع يشهدون له، معجبين به، متعجبين من كلمات الاهمة التي كانت تخرج من فمه . بيد على الرغم مما أبدوه من إعجاب به وتعجب من كلماته لم يؤمنوا بأنه هو المسيح الذي ينتظرونه كما قال عن نفسه، لأنه كان من مدينتهم، وكانوا يعرفونه من قبل إنساناً بسيطاً متواضعاً من أسرة بسيطة متواضعة، لم يكن عائلها إلا نجاراً فقيراً، ومن ثم قالوا متسائلين في استخفاف وازدراء «أليس هذا هو ابن يوسف؟» وهكذا انقلبوا من النقيض إلى النقيض في لحظة، وقد محت هذه الفكرة التي راودتهم عن السيد المسيح كل أثر للإعجاب والتعجب الذي تركه فيهم لأول وهلة، وقد أدرك هو ذلك. كما أدرك أنهم ـ إذ كانوا لا يفكرون إلا في أنفسهم – سيطالبونه، علي الرغم من عدم إيمانهم به، بأن يشفي مرضاهم، كما شفي المرضى في كفر ناحوم بمعجزاته التي طالما سمعوا عنها، لأنهم وهم أهل مدينته أحق بذلك من أهل المدن الأخرى، ومن ثم قال لهم ولابد أنكم ستقولون لي هذا المثل : أيها الطبيب أشف نفسك. فكل ما سمعنا أنك فعلت في كـفـر نـاحـوم افعل هنا أيضاً في مدينتك، . ثم أوضح لهم أن عدم إيمانهم به لكونهم يعرفون تواضعه وتواضع أسرته، يجعلهم غير مستحقين لأن يصنع بينهم معجزاته، قائلاً لهم «الحق أقول لكم إنه ما من نبي مقبول في وطنه. وبحق أقول لكم إن أرامل كثيرات كن في إسرائيل في أيام إيليا، حين أغلقت السماء ثلاث سنوات وستة أشهر وحدثت مجاعة عظيمة في الأرض كلها، ولكن إيليا لم يرسل إلى واحدة منهن، إلا إلى أرملة في صرفات التي في أرض صيدون. وإن برصاً كثيرين كانوا في إسرائيل في عهد أليشع النبي، ولم يطهر واحد منهم الإ نعمان السورياني، وقد أوضح السيد المسيح لهم بذلك أن طبيعة البشر تأبى عليهم أن يؤمنوا بنبي نشأ في وطنهم، أنهن لأنهم لا يرون فيه النعمة التي أسبغها الله عليه، وإنما يرون فيه مجرد إنسان عادي كان يعيش بينهم كواحد منهم، فهم يزدرونه ويحسدونه، ومن ثم قلما تثمر تعاليمه فيهم. ولذلك يجد من الأجدى والأجدر أن يغرس تعاليمه في وطن آخر لا يكون متأثراً بذلك الضعف البشري. وقد ضرب السيد المسيح لأهل الناصرة مثلين وردا في كتبهم المقدسة يبرهن بهما على صحة قوله. فقد نشأ إيليا النبي في إسرائيل، ومع ذلك فإنه حين انقطع المطر ثلاث سنوات وستة أشهر وحدثت مجاعة عظيمة، لم يصنع إيليا معجزة يطعم بها واحدة من أرامل إسرائيل مع كثيرات، وإنما صنع تلك المعجزة لأرملة غير إسرائيلية كانت تعيش في مدينة «سرفات, الفينيقية التي كانت في أرض صيدون (الملوك الأول 17 : 7 ـ 16). وكذلك نشأ أليشع النبي في إسرائيل، وكان فيها عدد كبير من المصابين بالبرس، ومع ذلك فإنه لم يصنع معجزة لشـفـاء واحد منهم، وإنما صنع معجزة شفى بها رجلاً غير إسرائيلي، بـل كـان عـدوا للإسرائيليين، وهـو نعمان قائد جيش بنهـدد ملك الآراميين في سوريا، وكـان فـي حـرب مع إسرائيل (الملوك الثاني 5 : 1 – 14). فلما سمع الذين في مجمع الناصرة ما قاله السيد المسيح،  استشاطوا كلهم غضباً، لأنه شبه نفسه بإيليا وأليشع أعظم أنبيائهم، ولأنه شبههم هم بأهل ذلك الجيل الفاسد من الإسرائيليين الذين كانوا في عهد هذين النبيين، ولأنه أخيراً. وكان هذا موضع حنقهم الأكبر – أثني في كلامه على الأرملة الوثنية التي أطعمها إيليا، وعلى القائد الوثني الذي شفاه أليشع، إذ كان اليهود يعتبرون الوثنيين نجسين وملعونين من الله. ومن ثم قاموا وراحوا يدفعون بالسيد المسيح إلى خارج المدينة، حتى جاءوا به إلى قمة الجبل الذي كانت مدينتهم مقامة عليه، وقد عقدوا العزم على قتله بأن يطرحوه من هناك إلى أسفل. بيد أن شخصيته المهيبة شلت أيديهم عن أن يغطوا ذلك، فمر في وسطهم ومضى.

4 : 31 و 32 تعجب الناس من تعليمه :

ثم انحدر مخلصنا إلى كفر ناحوم، وهي مدينة أخـرى من مدن الجليل، مواصلاً رسالته التعليمية، ولا سيما حين كانوا يجتمعون في مجامعهم العيادة في أيام السبوت . فكانت تتملكهم الدهشة من تعليمه، لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك الذي كانت تقيض من بين شفتيه أروع آيات الحكمـة وأبدع كلمـات العلم الغـزير، لم يكن مع ذلك قد تعلم على أيدى أولئك الذين كانوا يعتبرونهم أصحاب الحكمة وأرباب العلم من رؤساء كهنتهم وكبراء فقهائهم ومشاهير علمائهم، وكانت تتملكهم الدهشة كذلك أكثر وأكثر من ذلك الإنسان الوديع المتواضع إذ كان يعلمهم لا كما كان يفعل معلموهم تعليماً تقليدياً معاداً فاتراً مرددين به أقوال الذين سبقوهم ترديداً آليا لا روح فيه ولا أثر له في النفوس، وإنما كان يعلمهم بكلام جديد عليهم، يلقيه في مسامعهم بسلطان الذي لا يلقن تعاليم غيره، وإنما الذي يعلن تعاليمه هو. ولا يطبق تشريع غيره، وإنما يضع هو التشريع ويمليه على الناس كما يملي الملك تشريعه على رعيته بما له عليهم من سطوة وسلطان.

4 : 33 و 37 معجزة طرد الشيطان من رجل في المجمع :

وقد حدث أن كان السيد المسيح في أحد مجامع كفر ناحوم، وكان في المجمع رجل به شیطان نجس، قـد أحـتـل جـسـده ليعذبه، لأن الشياطين هي أرواح نجسة، تمردت على الله، فسقطت في هوة الظلام السحيقة البعيدة عن نورا الله، وفقدت طهارتها فلم تعد تجرؤ على الاقتراب من الله الطاهر طهارة كاملة، ومن ثم ظلت تهيم على وجهها في ذلك الظلام، يملؤها الرعب من الهلاك الذي ينتظرها في يوم الدينونة، كما يملؤها الغيظ والحقد والحنق من حالها الذي صارت إليه في حاضرها، ومن مآلهـا المـحـتـوم في ذلك اليـوم الرهيب، ومن ثم يدفعها غيظها وحقدها وحدتها لأن تشفي غليلها من الإنسان الذي دفعت به خطيلته إلى غضب الله عليه فسار فريسة سهلة لها، فهي لا تفتأ تحوم حوله لتغريه بالشر كي يكون مصيره كمصيرها. وهي لا تفتاً تتربص له، حتى إذا وجدت فيه منفذاً لها احتلت جسده احتلالاً كاملاً، لتعاقبه وتعذبه، مستشعرة في ذلك لذة شريرة، وانتقاماً دنيئاً لما تعانيه هي من عقاب وعذاب. بيد أن ذلك الشيطان النجس الذي كان يحتل جسد الرجل المسكين ما إن أبصر السيد المسيح في المجمع حتى صرخ بصوت عظيم في ذعر وارتعاب، قائلاً ما لك ولنا يا يسوع الناصري؟ أجات لتهلكنا؟ أنا أعرف من أنت. أنت قدوس الله.. وهكذا فعلى الرغم من أن الناس لم يدركوا حقيقة شخصية السيد المسيح ولم يؤمنوا به، أدرك هذا الشيطان هذه الحقيقة، لأنه روح على أي حال، وإن يكن روحاً شريراً. والروح تدرك ما لا يدركه الناس، ومن ثم صاح معلناً أنه يعرفه ويعرف أنه قدوس الله. وكان هذا هو سبب فزعه ورعبه، لأنه خشي أن يكون المسيح قد جاء ليهلك الشياطين قبل الموعد المحدد لهلاكهم. ومن ثم قال له وما لك ولناء، أي دعنا وشأننا. ومع أنه كان في موقف التوسل والضراعة لم تشأ له طبيعته الشيطانية إلا أن يخاطب ذلك الذي يعلم أنه قادر على إهلاكه، لا في أدب وتوقير، وإنما في وقاحة ورغبة في التحقير إذ على الرغم من أنه اعترف بأنه هو قدوس الله لقبه مع بيسوع الناصري، لأن اليهود كانوا يحتقرون أهل الناصرة، زاعمين أنهم يجهلون الشريعة ويخالطون الوثنيين، ومن ثم كانوا يقولون أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح ؟. (يوحنا 1 : 46) . وبذلك أراد الشيطان أن يشكك الحاضرين في المجمع في أن هذا هو المسيح ابن الله، في حين أنه هو نفسه قد اعترف بذلك. بيد أن السيد المسيح لم يلبث في نفس اللحظة أن أثبت أنه هو ابن الله وهو قدوس الله، إذ انتهر الشيطان انتهار السيد للعبد قائلا له اخرس وأخرج منه، فلم يسع ذلك النجس الوقح إلا أن يمتثل على الفور للأمر الصادر إليه، وإن كان قد فعل ذلك في غيظ وحنق، إذ صرح الرجل الذي كان يحتل جسده ، ملقياً به على الأرض بعنف في وسط الحاضرين وخرج منه. ولكنه على الرغم من أنه كان يريد أن يمزقه تمزيقاً، لم يستطع أن يلحق به أي أذى بفضل قدرة السيد المسيح وسلطانه، فارتعب كل الذين في المجمع وراحوا يخاطبون بعضهم بعضاً قائلين في دهشة ، ما هذا؟ إنه بسلطان وقوة يأمر الأرواح النجسة فتخرج، ومن ثم ذاعت شهرة فادينا في كل أنحاء تلك المنطقة، فكان ذلك سبيلا لأن يؤمن الناس بأنه المسيح الذي ينتظرونه، أو في القليل لأن يتساءلوا فيما بينهم عما إذا كان هذا هو المسيح ؟

4 : 38و 44 معجزة شفاء حماة بطرس وكثيرين آخرين :

وقد أثبت مخلصنا في المعجزة السابقة سلطانه على الشيطان. ثم لم يلبث في نفس اليوم أن أثبت بمعجزاته سلطانه على الإنسان جسداً وروحاً. فقد قام وخرج من المجمع يومئذ. ثم دخل بيت تلميذه سمعان بطرس. وكانت حماة سمعان قد أصيبت بحمى شديدة ، فتوسل أهل البيت إليه من أجلها كي يشفيها، فاستجاب لتوسلهم على الفور وأقترب منها وزجر الحمى ففارقتها، وقامت على الفور تخدمهم، لأنه كما أن الشيطان شرير يؤذي الإنسان، فإن المرض شر يؤذي الإنسان كذلك. فكما زجر مخلصنا الشيطان ليفارق الرجل في المجمع ففارقه في الحال، زجر الحمى لتفارق هذه السيدة في بيت بطرس، ففارقتها في الحال أيضاً بمجرد كلمة منه، وبسلطانه هو نفسه. وقد استردت السيدة صحتها وقوتها الكاملة على الفور، حتى لقد استطاعت أن تقوم وتخدمهم كأنها لم تكن مريضة قط. مما يدل على سلطان السيد المسيح الإلهي على الأمراض، إذ ينتهر الحمى ويزجرها كما لو كانت كائناً مشخصاً يأتمر بالأمر ويطيعه، وفعلا أطاعت الحمى الأمر الصادر إليها من رب الحياة ، فولت مدبرة هاربة.

وسرعان ما ذاع أمر هذه المعجزات بين الناس في تلك النواحي. بيد أنه إذ كان اليوم الذي صنعها فيه يوم سبت، وكان فقهاء اليهود يمنعونهم في ذلك اليوم حتى عن أن يعالجوا مرضاهم ولو كانوا على شفا الموت. انتظروا حتى انقضي اليوم، فما إن غربت الشمس حتى كان جميع الذين لديهم مرضى بعلل مختلفة قد جاءوا بهم إليه، فكان يمنع يديه على كل منهم فيشقون من أمراضهم على الفور، مهما كان نوع تلك الأمراض، ومهما كانت درجة خطورتها أو طول أمدها أو استعصاؤها على الشفاء. وكان كثيرون من أولئك المرضى قد احتلت الشياطين أجسادهم فأصابتهم بالجنون أو العمى أو الصمم أو غير ذلك من المال الشنيعة القاسية، فكان مخلصنا يأمر الشياطين بأن تخرج منهم فتخرج على الفور وهي تصرخ في فزع قائلة وأنت المسيح ابن الله، بيد أنه كان ينتهرها ولا يسمح لها بأن تجاهر بهذه الحقيقة التي أدركتها تلك الأرواح الشريرة، وإن لم يدركها الناس بعد، لئلا يبدو أن الشياطين إذ تشهد بحقيقة شخصيته إنما هي متحالفة أنا معه. في حين أنه ما جاء إلا ليعلن الحرب عليها ويهزمها. كما أنه لم يكن يريد أن يعلن هذه الحقيقة على فم الشيطان لئلا يتعطل عمل الفداء، وإنما كان يريد أن تكشفها بالتدريج أعماله وأقواله ذاتها، لأن تلك الأعمال وتلك الأقوال كانت هي البرهان الأعظم على أنه هو المسيح ابن الله.

ويبدو أن فادينا قد مضى في صنع معجزات الشفاء الليل كله، حتى إذا كان الصباح خرج من المدينة ومضى إلى موضع قفر ليختلي بعض الوقت، فراح الناس يبحثون عنه، حتى إذا وجدوه حيث كان في القفر تشبثوا به كي لا يذهب عنهم، لأنهم بهرتهم معجزات الشفاء التي صنعها، ولأنهم كانوا يطمعون في مزيد من تلك المعجزات. ولكنه إذ كانت رسالته تقتضي أن يرتاد كل مكان لينتشر نورها في أوسع نطاق، قال لهم «إنه لابد لي أن أبشر في المدن الأخرى أيضاً بملكوت الله . لأنني لهذا أرسلت، . ومن ثم راح يجـول مـبـشـراً في مجامع منطقة الجليل كلها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى