تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 4 للقمص متى المسكين

الأصحاح الرابع:

( د ) تجربة المسيح (1:4-13)

(مت 4: 1-11)

واضح أن الأناجيل المتناظرة جميعاً التزمت بوضع عماد المسيح مع التجربة كعملين أساسيين لبدء الخدمة. هكذا التزم ق. لوقا أيضاً في إنجيله مما يكشف لنا كشفاً وثيقاً أن الكنيسة الأولى سجلت في وعيها وفي تقليدها الشفاهي والمكتوب هذا التقليد الموروث الذي التزمت به الأناجيل. كذلك نجد أن الحادثتين مرتبطتان معاً ارتباطاً سرياً قوياً، إذ بمجرد أن حل الروح القدس على المسيح، للوقت قاده وهو متقو به إلى عمله الجديد لمصارعة الشيطان والصمود أمام محاولته لزعزعته عن خضوعه الله كابن له، وبالتالي تعويقه عن رسالته المسيانية التي وضعها عليه الله. وقد باءت كل محاولات الشيطان بالفشل، وخرج المسيح من هذا الصراع المكشوف بقوة أكبر لبدء خدمته التي انحصرت في بدايتها في ملاحقة الشيطان والأرواح الشريرة التابعة له وهزيمتها، وإخراجها عنوة من الذين استحوذت على أشخاصهم، بعد أن ربطتهم وأذلتهم وطرحتهم مرضى ومجانين.

 وهكذا نجد أن المعمودية وحلول الروح القدس ودخول المسيح إرادياً في التجربة على الجبل كانت هي البداية الصحيحة والمدخل المدبر من الله لبدء رسالة الخلاص، بتأمين دحر الشيطان أولاً وربطه قبل أن ينزع سلاحه الذي اعتمد عليه في قتله للناس، ألا وهو الخطية، تمهيداً لبدء افتتاح ملكوت الله :

+ «ولكن إن كنت (أنا) بإصبع الله أُخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله. حينما يحفظ القوي داره متسلحاً، تكون أمواله في أمان. ولكن متى جاء من هو أقوى منه فإنه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه.» (لو 11: 20 -22) ولكن لم يكن عمل المسيح في العماد والتجربة عملاً منفرداً خاصاً به وحده، ولكنه قدمه بكل دقائقه وملابساته وانتصاراته القائمة على القوة التي باشرها بالروح القدس، والخضوع الكلي للمكتوب أي وصايا الله، نقول قدمها من أجل احتسابه كنموذج يتعين علينا أن نعيه لأنفسنا تماماً. فهو الطريق المرسـوم مـن قبـل الله لكي يسيره الإنسان معتمـداً عـلـى المسيح والروح ووصايا الله لغلبـة الشيطان ليتهيأ للدخول إلى ملكوت الله؛ بل وبالأكثر جداً فقـد تمـم هـذا العمل ابن الله وهو حامل بشريتنا فيه ليكون هذا العمل وهذا الفعل – بهذه القوة الروحية وهذا الخضوع الله وسلطان الاقتدار بكلمة الله لغلبة الشيطان ـ جزءاً حيا من نصيبنا الذي ورثناه في المسيح. بمعنى واضح وقوي وصريح أننا في المسيح اعتمدنا وفي المسيح نلنا قوة الروح القدس وفي المسيح لقتاد إلى التجربة كل يوم غير هيابين؛ بل وبنفسية وإيمان من هم أعظم من منتصرين بإحساس الخضوع الكلي لكلمة الله، عالمين أن المسيح انتصر لنا ونحن فيه كابن الله.

ولو لاحظنا منهج المسيح في مقاومة الشيطان معتمداً على كلمة الله المكتوبة نجده يستخدم سفر التثنية بوضوح:

+ «وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر لكي يذلك ويجربك ليعرف ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا. فأذلك وأجاعك وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان.» (تث 8: 2 و3)

+ «الرب إلهك تتقي وإياه وحده تعبد وباسمه تحلف .» (تث 13:6)

+ «لا تجربوا الرب إلهكم كما جربتموه في مشة.» (تث 16:16)

+ «فالآن يا إسرائيل اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أعلمكم لتعملوها لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي الرب إله آبائكم يعطيكم.» (تث 1:4)

 وواضح هنا أمام القارئ كيف اتخذ المسيح من وصايا الله وأحكامه سلاحه البتار الذي صرع به العدو، ملتزماً بدقة متناهية بكلام الله، مما يكشف لنا كشفاً ملزماً بأن نفتح عقلنا لنفهم أن وصايا الله لم توضع للحفظ والاستذكار وإنما للعمل بما كأسلحة في حربنا مع  العدو، والمسيح استخدمها لنا ومن أجلنا بحذق ووعي ومحاكمة قوية لتصبح أسلحتنا لحياتنا.

وللأسف هذه المذخرات الإلهية الثمينة التي ادخرها الله لإسرائيل لتغلب وتحيا أهملتها واستهانت بها، ففقدت قوتها، وباتت معلقة على صفحات التوراة للزينة والفخار بلا أي قوة أو فائدة .

وهكذا جاء المسيح ليفتح أول صفحة في منهجه الخلاصي باستخدام التوراة نفسها وبنفس الوصايا لكي يهزم عدوا مارداً لينخيه عن طريق خلاصنا وحياتنا.

وقد امتاز ق. لوقا في سرده لتجربة المسيح عن القديس متى والقديس مرقس كونه جعل التجربة الأخيرة في أورشليم لكي يحرز المسيح فيها نصرته الأخيرة، كما أكملها على الصليب.

ولكن الذي نستخلصه أيضاً من قصة تجربة المسيح على الجبل، أن المسيح يعتبر الشيطان شخصاً حقيقياً ذا قوة تخريبية سلبية ضد كلمة الله والخضوع له، معانداً للتدبير الإلهي، ومعطلاً لطريق الخلاص والحياة. وهو بهذه التجارب يكشف ما بداخل الشيطان من فكر وحيلة ومراوغة بصورة مأساوية مدمرة. وواضح أيضاً أن المسيح بخروجه من التجربة سلمنا منهجاً مدروساً مطبقاً وعدواً مغلوباً ونصرة روحية باقية واعتماداً مستميتاً على الآب السماوي.

1:4 «أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس، وكان يُقتاد بالروح في البرية».

واضح أن هذه الآية جاءت لربط المعمودية بالتجربة بعد أن اعترضت جداول الأنساب بين العملين. واضح وتفيد هذه الآية أنه بعد أن اعتمد المسيح وحل الروح القدس عليه كان دائماً على منتهى الملء من الروح القدس، مع ملاحظة أن إصرار ق. لوقا على لقب “يسوع” فقط هو لكي يوضح البشرية فيه وقد استُعلن فيها الملء الدائم من الروح القدس. على أن المسيح لم يكن في وقت ما منذ أن حبل به في البطن غير ممتلئ من الروح القدس، بل وكان حتى وهو في بطن العذراء قادراً أن يهب الروح القدس للمعمدان وهو جنين، ولأمه أيضاً. على أنه لا ينبغي أن ننسى أن المسيح هو “الرب الروح” وليس من دونه.

وعمل الروح القدس في المسيح بعد العماد لم يكن مجرد قوة مرافقة بل التحام المثيل بالمثيل ليصير يسوع هو بالفعل المسيح ابن الله، بكل عمل الله واقتداره. فيسوع واجه الشيطان كابن الله المتجسد الأمر الذي حير الشيطان وجعله يراوغ ليتحقق من هذه الحقيقة.

وعبارة: «يقتاد بالروح» تفيد أن يسوع” دخل في عمق التدبير الإلهي لتكميل رسالة الابن. أما قوله: «في البرية » τῇ ἐρήμῳ فالقديس لوقا يأخذ بالتقليد الذي أخذ به القديس متى والقديس مرقس، الذي أحبك أصلاً . الله لإظهار المسيح كإسرائيل الجديد الذي قضى الأربعين يوماً على غرار الأربعين سنة التي أخرج فيها إسرائيل العتيق إلى برية صين إلى قفر أعوزه فيه الماء والطعام. وكان أصلاً ليجربه بحسب الآية (تث 8: 2و3) التي ذكرناها أعلاه. والإحكام هنا في الأماكن والأرقام ملفت للنظـر جـداً، ويوجه الفكر العميق نحو تطابق التدبير لتجديد العهود ولخروج البشرية الخروج الأخير والنهائي من ضيق العالم إلى رحب الله والسماء.

2:4 «أربعين يوماً يجرب من إبليس. ولم يأكل شيئاً في تلك الأيام. ولما تمت جاع أخيراً».

«يجرب»: πειραζόμενος

تعني الفحص والاختبار، وهي على وزن ما عمل الله لإسرائيل في البرية فعلاً: «فقال الرب لموسى: ها أنا أمطـر لـكـم خبزاً من السماء فيخرج الشعب ويلتقطون حاجة اليوم بيومها لكي أمتحنهم : أيسلكون في ناموسي أم لا» (خر 4:16)، «فقال موسى للشعب: لا تخافوا لأن الله إنما جاء لكي يمنحنكم ولكي تكون مخافته أمام وجوهكم حتى لا تخطئوا.» (خر 20:20)

 أما تحديد التجربة بأربعين يوماً فهي شديدة الصلة بالأربعين سنة التي قضاها إسرائيل في البرية تحت التجربة. أما اختزال الأربعين سنة إلى أربعين يوماً فهي تتوافق مع اختزال تجربة شعب إسرائيل وهو أمة مكونة من ستمائة ألف رجل إلى تجربة إسرائيل الواحد يسوع الرب، باعتباره قائد الأمة في معركتها الفاصلة. وهذه الأربعين يوماً تكاد تكون الصورة الأوضح لصوم موسى الأربعين يوماً: «وكان هناك عند الرب أربعين نهاراً وأربعين ليلة لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماء فكتب اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر» (خر 28:34). وبهذا يتطابق الوضع كنموذج باهر من إعداد الكلمات محفورة على لوح من حجر لكلمات محفورة على صفحة السماء تعكسها القلوب لتضيء طريق الحياة الأبدية (2كو 3:3). وأما الصوم هنا سواء عند موسی أو عند المسيح فكان حرماناً كلياً من أعواز الجسد لتتفرغ الروح حرة من مجاذبات الجسد، لتواجه عند موسى مستويات الوحي الإلهي ليترجمها صحيحة قوية مضيئة إلى معرفة لتدبير الحياة مع الله، أما عند المسيح فكان الصوم المطلق سلاحاً خفياً لصد هجمات العدو باتجاه الجسد إن في أعوازه أو مشيئاته. 

ومن هنا دخلت فلسفة الصوم في الكنيسة على شقيها الاثنين: صوم موسى لانفتاح الوعي الروحي في غيبة إلحاحات الجسد لقبول صوت الله ومشوراته وتدبيره، ونوال قوة من الروح والنعمة لتوازن ثقل الجسد ورذالته وجموحه المخرب للروح، أما الشق الثاني في صوم المسيح فقد أعلنه المسيح صراحة: «هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم» (مر 29:9). فالصوم المسيحي ولو أنه منظور جسدياً ولكنه حقا سلاح روحي مزهب رادع لإلحاحات الجسد المعيبة ودافع لهجمات الشيطان التي يركزها على الجسد ويزيد من عنفها على الأهواء والشهوات، حتى إذا انهزم الجسد أذل الروح واستعبد النفس.

ولا يغيب عن القارئ أن صوم المسيح الأربعيني المقدس لم يكن للمسيح فيه شيء، فالروح فيه للملء والفيض والقوة بسلطانها الإلهي حاضرة قبل الصوم وفي الصوم وبعد الصوم. ولكن إن كان المسيح قـد دخـل تـدبير الصـوم الأربعيـني فلكي يكس خبرتـه وجـهـاده وحركاتـه وردوده وصـدوده للعدو لتدخل في صميم خزانة تقليد الكنيسة كقوة تعيشها وتمارسها في المسيح لتستظهر دائماً وأبداً على عدو الخلاص والمعكر لصفاء الحب والسلام. فصوم المسيح الأربعيني المقدس ميراث إلهي قبلته الكنيسة من يد الرب وروحه وفي صميم جسده ودمه، أخذته كوديعة وتوزعه كميراث لأبنائها يتسربلون به كل عام كثوب يقيهم من سهام العدو الحارقة، يخرجون منه إلى نصرة على الموت وقيامة في بماء المحد. فالذي يمارس حقه الإلهي في صوم الأربعين مع المسيح يعيش بروح الغلبة ويذوق معنى الدوس على الخطية ووطأة رعبة الموت. فصوم الأربعين يحمل في أعماقه قوة القيامة بعد اجتياز الموت الإرادي. وبقدر ما تنهزم خبرات وملذات الجسد في عمق الصائم، بقدر ما تذوق الروح خبرات السماء وملذات الروح فيقتنع الإنسان قناعة الاختبار والرضى أنه روح قبل أن يكون جسداً وفوق أن يكون جسداً.

 ولكن لنا مع القارئ كلمة من جهة اقتياد الروح للمسيح ليجرب من إبليس، فهنا نود أن ينتبه القارئ أن التجربة داخله بوضوح في تدبير رضى الله ومشيئته، وإن كان برضى الله أن يسلم “يسوع” للتجربة من الشيطان، إذن، فالتجربة داخلة تحت مشيئة الله. أما فرحة الشيطان بتسليم يسوع لمثل هذه التجارب فقد فتحت شهيته لكي تكون له الفرصة لاقتناص الهزيمة لابن الله بحيله ودهائه، فاستخدم أكثر ما عنده من الحيل والدهاء. ولكن ما كان أملاً عند الشيطان في هزيمة ابن الله كانت مقابله الثقة عند الله إلى أقصاها بالانهزام للعدو في كسرة أدت به عند الصليب إلى القبض عليه متلبساً بجريمة قتل ابن الله التي أرسلته إلى الهاوية فاقداً كل هويته محكوماً عليه بالإعدام! 

هذا ومن نفهم أن أولاد الله داخلون تحت هذه المشيئة الإلهية عينها، ولكن استحالة أن يدخل واحد من أولاد الله المؤمنين باسمه تجربة أيا كانت دون أن يكون الروح القدس واقفاً بالمرصاد، حتى إذا انحاز الإنسان إلى الله وكلمته في مواجهة الإغراء والدفع والمحاورة والدهاء من الشيطان؛ فإن سيف النعمة يهوى على رأس الشيطان ليخرج من المعركة مهزوماً ومضروباً: «سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ» (1كو 13:10). كما أنه لا يمكن أن تتجربوا فوق ما تستطيعون! لأن قوة الشيطان بالرغم من أنها أعلى من قامتنا إلا أن المسيح أحنى ظهر الشيطان وجعله أضعف من طفل إزاء اسم المسيح والصليب. 

ويلاحظ القارئ المدقق أن تجربة المسيح دامت على مدى الأربعين يوماً، ولكنها تركزت في الأيام الأخيرة حينما جاع الجسد وصار في متناول شد الشيطان وجذبه.

ولكن كما سبق وقلنا في شرح إنجيل ق . مرقس الذي لم يتعرض قط لأنواع التجارب ولا ظروفها ولا إجابات المسيح عليها جملة، إذ قلنا إنه من الصعب للغاية أن يدخل الفكر البشري مهما علت إمكانياته ومواهبه في دائرة صراع يتم بين فكر ابن الله الفائق الإدراك مع فكر الشيطان القـوة المخربة شديدة الدهاء والمكر والخداع. فالذي حدث بين المسيح والشيطان في هذا الصراع الرهيب البالغ حد أقصى قوة الله لمواجهة أقصى حد لقوة هذا المارد المعاند الشرير لا يمكن أن يصلنا منه إلا مجرد صورة لأحد التشبيهات التي شبه كما ابن الله أمور الله. فالذي تسجل في إنجيل ق. متى وق. لوقا من هذا الصراع الرهيب يكفي حقا ليغطي فكرنا بمفهوم صراع ابن الله مع الشيطان، ولكن صعب أن يكون هو على مستوى الحقيقة الكاملة في مستواها الفائق لقدرات العقل البشري. 

3:4 «وقال له إبليس: إن كنت ابن الله، فقل لهذا الحجر أن يصير خبزاً».

«إبليس»: διάβολος

وقد أسماه ق. متى بالمجرب : «من أجل هذا إذ لم أحتمل أيضاً أرسلت لكي أعرف إيمانكم لعل المحرب يكون قد جربكم فيصير تعبنا باطلاً» (1تس 5:3)، ولكن ق. لوقا يستخدم كلمة ذیافلوس’

‏ وبدأ الشيطان يطرح تجربته مشككاً في هوية المسيح كابن الله”، وتأتي في اليونانية مشددة هكذا: «إن كنت كنت انت ابن الله» أما نوع التجربة فهو في غاية التوافق مع مؤهلات المسيا المعروفة والمنتظرة أنه سيأمر فينزل خبز من السماء، ولماذا السماء؟ فالحجارة يمكن أن تتحول إلى خبز بذات القوة، وحينئذ يستعلن المسيا. فالتجربة من صميم اختصاصه وعمله!! هنا المناسبة دائماً يحبكها الشيطان حتى يجعلها أقرب إلى التنفيذ. فالمن نزل في البرية عن عوز جوع الشعب، وها هو جائع وفي البرية أيضاً. ثم لا يغيب عن بالنا أن المسيح صنع معجزة الخمس خبزات في مكان قفر ليشبع الشعب الجائع، فكانت آية كفيلة أن تنصبه ملكاً كمسيا في عين الشعب. فالتجربة تختص باستعلان ملكه، وهذا الاستعلان يدخل في صميم رسالته، فلماذا لا! على كل حال فالشيطان يسوقها عليه كي يجرب نفسه هل له هذه القوة الإعجازية كابن الله؟ والخطورة هنا أن يجر المسيح ليعمل عملاً من نفسه لنفسه دون الرجوع إلى الله، هذا أهم نقطة في تجربة الشيطان أن يعمل عملاً من دون أمر الله فیلغي خضــــوع بنوتـه لأبيــه الأمـر الـذي الـتـــم بـه طــول حياتـه أن لا يأتي عملاً إلا ويكون هو عمل الآب!! إذن، فضربة الشيطان موجهة لخلخلة العلاقة بين الابن و وهيهات! وهذا أدركه المسيح وقطع على الشيطان خط الرجعة وأسقطه تحت مشورته مكسوراً.

4:4 «فأجابه يسوع قائلاً: مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله».

المسيح هنـا يلتجئ مباشرة في رده إلى المكتوب Γέγραπται كـأمر وصية ثابتة من الله (تث 3:8). والرد هنا قاطع أن حياة الإنسان لا يستمدها من الطبيعة أو الخبز عامة بل من الله أولاً وأخيراً. فالطاعة الله أولاً وأهم حتى وفي الجوع والعطش، لأن قوته على إعطاء الحياة بالرغم من الجوع والعطش قائمة، فالجوع لا يبرر المخالفة ولا يعفي الإنسان من الطاعة لله حتى الموت. ولكن وراء رد المسيح تكمن حقيقة هامة أخرى وهي صلابة المقاومة في أحرج أوقات الضيق والتعب مهما كلفت؛ لأن «الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء، والرجاء لا يخزي.» (رو 5: 3 -5) 

وهكذا قد أسس المسيح قيمة للتجربة في الحياة المسيحية لتزكية الإيمان والجهاد والصبر على الضوائق مهما أتقن الشيطان في التضييق حتى الاختناق. وهكذا تتحول التجارب والضيقات في حياة الإنسان إلى رصيد طاعة وخضوع الله يفوق في قيمته كل جهاد إيجابي من صوم ونسك وتأليم إرادي.

5:4 «ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان».

في الحقيقة لا يلزم هنا أن نتصور مكاناً على المستوى الجغرافي يمكن من علوه أن يطل على العالم. لذلك فالاعتماد على الواقع الرؤيوي في الارتفاع بالنظر غير الحسي وارد بالضرورة، الذي يكفي أن يكشف ممالك العالم في لحظة. والكشف هنا لا يغطي الكثرة بقدر ما يغطي المجد الدنيوي والعزوة. والخطورة هنا قائمة في عرض المظهر الخلاب للدنيا بأسرها من منظور خارجي وهو في حقيقة جوهره مظهر كاذب وخداعات وأقنعة تحمل أجمل صورة للعدم. وقد حقق عدميتها سليمان الحكيم: «الكل باطل وقبض الريح» (جا 14:1). ولكن وإن كانت لم تجز على المسيح لأنه هو الحق”، فهي تجربة تجوز على كل بني الإنسان، فمن تحميل المناظر وتعظيم الخداعات وتزويق الأكاذيب يكمن المدخل الذي يدخل به الشيطان إلى أقوى العقول وأصلب الإرادات ليرديها العطب والهلاك.

6:4 «وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن، لأنه إلي قد دفع، وأنا أعطيه لمن أريد».

لقد فات على العلماء هنا مقدار الصدق والكذب في كلام الشيطان، فاعتبروا أنه كاذب وملفق وأنه لا يملك ولم يُعط ولا هو قادر أن يعطي، فالله وحده المالك وصاحب المجد. والخطأ الذي وقع فيه العلماء ضيع قيمة التجربة ومعناها، بل وضيع علينا نحن أيضاً إدراك قوة التجربة التي لا يزال يلعب بها الشيطان ويسقط عظماء العقول والمقتدرين في الناس.

فالشيطان هو رئيس هذا العالم المنظور وصاحب المجد الدنيوي ويعطي ويكافئ منها أتباعه. وقد سبق أن قلنا هذا كثيراً. فالعالم المادي يترأس عليه الشيطان وقد دعاه المسيح: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو 30:14). لذلك فالمسيح لم يعتبر نفسه أنه من هذا العالم ولا مختاريه أيضاً: « لأنهم ليسوا مـن العـالم كما أني أنا لست من العالم» (يو 14:17). ومعروف أن الظواهر تزول والشيطان يمتلك هذه الظواهر المادية الفانية. أما الحقائق التي وراء ظواهر هذا العالم ومجدها فهي باقية ومستمرة وهي التي تخص عمل الله في العالم ووجوده فيه، لذلك نسمع المسيح يقول بالحق: «أنا هو نور العالم» (يو 12:8)، «والجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور» (إش 2:9). لذلك فالتعلق بظواهر العالم وأمجاده الفانية باطل، لأن العالم يمضي وشهوته، أما الذي يعمل مشيئة ا الله – وهو في العالم ـ فباق إلى الأبد (1يو 17:2). 

وواضح أن مال وجمال العالم وشهواته وغناه ومجده متغيرات، وكل ما هو متغير زائل. والشيطان يملك على ظواهر العالم ومتغيراته لأنها تتبع الكذب والتزييف، والشيطان هو الكذاب وأبو كل كذاب . كذلك فالشيطان أخصاءه وأتباعـه كـل مـا في العالم من الظواهر والمتغيرات، أي كـل مـا هـو يمنح كذب وخداع وفان، فكأنه لا يعطي شيئاً. فالشيطان ملك الخداع.

لذلك حينما تقدم للمسيح واعداً أنه يعطيه كل ممالك العالم ومجدهن، كان يقصد ما يقول وهو يستطيع بالفعل أن يعطي، ولكن الذي يعطي ما هو كذب وتزييف وخداع لا يعطي شيئاً لأنها أوهام وأباطيل.

7:4 «فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع».

«سجدت»: προσκυνήσῃς

السجود هنا يعني العبادة التي هي من مخصصات الله وحده.

عرض سخي لتنصيب المسيح ملكاً على ممالك الدنيا دون آلام وصلب وموت! فالشيطان هنا يختزل للمسيح كـل أتعابـه وآلامه، فعوض أن يقف المسيح قبالة الشيطان في صراع ينتهـي بالموت ،  عليه أن يهادن الشيطان ويعترف له بالسيادة، والشيطان بالمقابل يعطيه العالم بكل ممالكه.

التجربة هنا خطيرة، فهي محاولة لإلغاء رسالة الخلاص بجملتها، فمهادنة الشيطان والاعتراف له برئاسته على العالم معناها إلغاء الصليب والفداء وبقاء الخطية والموت. لأن سيادة الشيطان هي بالتالي سيادة الخطية والموت. 

والشيطان هنا يلعب لعبة الموت، فهو يريد أن يفلت من معركة الصليب مضحياً برئاسته على العالم وممالك الدنيا. فهو يريد أن يملك المسيح على العالم من باطنه لينجو هو من الهلاك، وبآن واحد يضيع على المسيح خضوعه وطاعته الله أبيه.

8:4 «فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان! إنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحدة تعبد».

هي هنا رد المسيح يقيم تجربة الشيطان أنها مصوبة ضد الله الواجب له العبادة والسجود وحده، وبالتالي الخضوع له والتمسك بكلمته. وهنا رفض المسيح القاطع للحوار مع الشيطان يعطي المنهج الواضح في مقاومة التجارب من كل نوع. فمناقشة الشيطان مرفوضة والمقاومة الفعالة بكلمة الله: «الرب إلهك تتقي وإياه وحده تعبد وباسمه تخلف.» (تث 13:6)

وهكذا إزاء محاولة الشيطان فرض وجوده أمام المسيح كصاحب ممالك الدنيا، وكمدع بالقدرة على العطاء والسيادة، تلقى من المسيح لطمة أرجعته إلى خلف كمن لا حق له في الوجود أمام المسيح، وهكذا في الحال أعلن المسيح سيادته على الوجود وقدرته على الردع بقوله: «اذهب يا شيطان»

9:4 «ثم جاء به إلى أورشليم، وأقامة على جناح الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل».

هذه هي التجربة الثالثة بالنسبة لإنجيل ق. لوقا. وواضح أن ق. لوقا حرّك في ترتيب التجارب لتكون التجربة الأخيرة في أورشليم، ذلك لكي يوقع هذه التجربة على الواقع التاريخي الذي تم، إذ أن تجربة المسيح العظمى والأخيرة كانت في أورشليم وعلى الجلجثة! حيث رفض أيضاً أن ينزل من . على الصليب بحسب التجربة التي قدمها رئيس الكهنة نيابة عن الشيطان. والشيطان هنا يستخدم المكتوب كما سيأتي في الآية القادمة: «لأنه مكتوب» وذلك رداً على رد المسيح في الآية السالفة، وذلك لكي يقطع خط الرجعة على المسيح. فإن كان المسيح يلجأ إلى المكتوب فالشيطان لجأ أيضاً للمكتوب حتى تصبح التجربة موافقة لكلمة الله!!

10:4 «لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته يك لكي يحفظوك».

الشيطان هنا يلجأ إلى ما هو مكتوب في المزامير: «لأنه : يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك.» (مز 91: 11 و12)

والشيطان هنا بحيلة ملتوية أراد أن يستخدم المسيح حقه في المكتوب، مخفياً في نفس الوقت محاولة وضع المكتوب كدافع للتجربة. وبمعنى آخر يضع المسيح في حالة عدم الإيمان الكامل بالله والمكتوب إن هو رفض الانصياع له!

11:4 «وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك».

 هذه الآية تعطي للشيطان غاية المناسبة لكي يجرب المسيح، بأن يلقي نفسه من أعلى الهيكل والملائكة تحمله فلا تصدم بحجر رجله. هنا يستخدم الشيطان منتهى الإقناع والمناسبة، مع أن التجربة كلها تخرج عن القصد من النبوة، فالملائكة تخدم الخلاص وتحفظ المخلّص من عثرات الطريق وليس لتمكين المسيح من استخدام العظمة والظهور. وهنا يتضح البعد السحيق في فكر الشيطان عن حق المسيح والمجد الحقيقي. فالشيطان ولو أنه هنا يستخدم المكتوب من كلمة الله، ولكن خداع الشيطان واضح في عدم استقامة الفكر وإساءة استخدام المكتوب .

12:4 «فأجاب يسوع وقال له: إنه قيل: لا تجرب الرب إلهك».

المسيح هنا يرد أيضاً من سفر التثنية: «لا تجربوا الرب إلهكم كما جربتموه في مسة.» (تث 16:6)

فرق شاسع بين فكر الشيطان وفكر المسيح. فكلمة الله والمكتوب عامة هي في فكر المسيح للطاعة والخضوع بمقتضاه لمشيئة الله، وليس كما يراها الشيطان لاستخدامها وتطويعها لمشيئتنا وأهوية قلوبنا. وكلمة الله موضوعة لاختبارنا نحن وتجربتنا نحن إن كنا على مستوى الإيمان والطاعة، وليس لاختبار الله وتجربة صدقه. فالأولى حق علينا، والثانية تجديف .

والصيغة التي قالها المسيح هنا هي صيغة أمر الوصية لإسرائيل ينقلها المسيح كأمر صادر له أيضاً. فكلمة الله أمرة بطبيعتها، ولكن في صورتها الأمرة تحمل حقها وقوة تنفيذها. فمهما كانت صعبة فهي ضامنة نجاحها ولابد أن تنجح إذا ما أخذت بأمانة ونُفذت بأمانة. وكلمة الله في حقيقتها وطبيعتها نور الله بالنسبة لظلمة العالم والإنسان والشيطان. تخترق الظلمة، والظلمة لا يمكن أن تدركها أو تطغى عليهـا مـن يحملهـا في قلبـه تضـيء في أعماقـه، ومـن يحملهـا في فمـه تـضـيء علـى قـلـوب الآخرين. من يحفظها تحفظه ومن يكرمها تكرمه ومن يرفعها ترفعه، ومن يهملها يدخل في عداد المزدرى وغير الموجود، يخاف الحق ولا يقول الحقيقة، يبغض النور ويرتاح في الظلمة.

13:4 «ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقة إلى حين».

 قوله هنا «كل تجربة» يكشف عن تجارب أخرى كثيرة لا ندرك عددها ولا خطورتها. فالمسيح لم يسرب لنا من تجاربه إلا ما كان على قامة إدراكنا، ولا نحن على مستوى ابن الله لندرك هذه التجارب بقوة تفوقه العالية، لأن منطق الله أنه لا يعطي تجربة فوق احتمالنا: «ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا» (1 كو 13:10). فهو يعطي مع التجربة المنفذ الذي يفتحه هو لنخرج سالمين. ولعلم المسيح أن التجارب عامة هي فوق ما تحتمل طبيعتنا الضعيفة أمرنا أمراً أن نصلي دائماً لله: «لا تدخلنا في تجربة» وأن يسلحنا إزاء تجارب الشيطان ومقاوماته بالنجاة: «لكن نحنا من الشرير» (لو 4:11). ولولا قوة نجاة الله لنا إزاء محاصرة الشيطان ما خلصت نفس. فلو فتح الله عين النفس لترى وتدرك عمل الله معها منذ أن خرجت من البطن وكيف نجت من آلاف الضربات التي صوبت نحوها، لما كف الإنسان عن الصراخ ليل نهار : نجيتني نجيتني نحيتني”!!!

وإن كان الشيطان قد فارق المسيح فإلى حين، لأنه عجـم عـود التلاميذ فوجد يهوذا يصلح للسكنى فسكن، ويصلح للخيانة فدربه على أصولها وفتح له الباب على رؤساء الكهنة فأكرموا وفادته وأجلسوه في وسطهم كصديق حميم. ووزنوا له الفضة، وفضة الهيكل بركة من يقدر أن يرفضها. وما لم يستطعه الشيطان المسيح استطاعه عند يهوذا. فاختطف الشيطان واحداً من الاثني عشر، وهذا مكسب لا يستهان به، وسلمه لحضن رؤساء الكهنة: «إن واحداً منكم يسلمني» (مر 18:14). وأعتقد أن المسيح لميا دخـل حثسيماني وانفرد ليصـلـي وقـال لبطرس ويعقوب ويوحنا: «نفسي حزينـة جـداً حتى الموت »(مت 38:26) كان حزنه من أجل هذا التلميذ الخائن. لأنه عوض أن يسنده في محنته كان هو الخائن والمسلم، ومن ضيق نفس الرب قال: «كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد.» (مر 21:14) 

وهكذا حينما يقف الإنسان قبالة التجارب بشجاعة الإيمان ويغلب، يذهب الشيطان يبحث حوله عن نقطة ضعف في الأقربين منه ليدخل منها ويكيل للإنسان كيلاً ويكمل تجاربه المرة ولا يكون للإنسان حول ولا قدرة ويشرب كأس المرارة حتى النهاية. ولكن عزاؤنا أنها كلها تكون تجارب بشرية لها العوض السمائي: « لم تصبكم تجربة إلا بشرية» (1كو 13:10). وهنا يصرخ الإنسان الموجوع: «حقي عند الرب.» (إش 4:49)

رابعاً: خدمة الجليل (14:4 -11:5)

يحصر القديس لوقا في هذا القسم خدمة المسيح منذ بدء انسحابه من البرية ليخدم رسالة ملكوت الله قبل أن يثبت وجهه شطر أورشليم ليكمل آلامه هناك.

( أ ) أخبار الملكوت السارة (14:4 – 11:5)

هنا يظهر أسلوب ق. لوقا الإنجيلي، فهو يبدأ يصور لنا كيف بدأ المسيح يعلم، ورد الفعل المباشر على تعليم المسيح، ويعلّق من عنده شارحاً التقليد الإنجيلي المسلم للكنيسة، إذ يعطي أعمال المسيح التي أكملها بقوة كما أخذها من إنجيل ق. مرقس حسب تقليد ق. مرقس الخاص، ولكنه يضيف عليها بعض مواصفات الرسالة كما نطقها المسيح.

1 – مختصر البداية (15,14:4)

يبدأ هذه البداية المختصرة وهـي مأخوذة عـن ق . مرقس (14:1 إلخ) وتحاكي أيضـاً (مـت 12:14-17)، ويظهر فيها المسيح وهو يعلم وسط تهليل الشعب ومسرته. ولكن سرعان ما يتغيّر حال الشعب خاصة أثناء الحضور في مجمع الناصرة الذي يبلغ فيه الشعب غاية الغضب ويحاولون قتله. وهكذا يكشف ق. لوقا في مدى خمس عشرة آية كيف يهلل الشعب ويهتف ويمجد، وكيف يتغير إلى درجة محاولة القتل. وصح فيه قول موسى النبي الذي اختبره عن قرب وذاق تهليله وذاق غضبه :
+ «إنهم أ أمة عديمـة الـرأي ولا بصيرة فيهم، لـو عـقـلـوا لفـطـنـوا بهذه وتأملوا آخرتهم. كيف يطرد 
واحد ألفاً ويهزم اثنان ربوة (عشرة آلاف)؟ لولا أن صخرهم باعهم والرب سلمهم … لأن من جفنة سدوم جفنتهم ومن كروم عمورة، عنبهم عنب سُم ولهم عناقيد مرارة. خمرهم حُمة الثعابين وسُم الأصلال القاتل.» (تث 32: 28-33)

وقد لاحظ العلماء أن أخذ القديس لوقا من تقليد ق. مرقس فيه تغيير طفيف ظنوه أنه من مصدر ثالث دعوه Q ، ولكن لا يخرج كثيراً عن تقليد القديس مرقس.

14:4 «ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل، وخرج خبر عنه في جميع الكورة المحيطة».

هنا يلزمنا أن نذكر القارئ أن ق. لوقا كان قد توقف عن سرده لخدمة المعمدان عند حبس هيرودس للمعمدان في السجن (19:3و20)، الأمر الذي ذكره ق. مرقس في (14:1 إلخ)، والذي كان بمثابة رفع الستار لبدء عمل المسيح في الجليل، موضحاً أن رجوع المسيح إلى الجليل كان على مستوى قوة الروح القدس التي انسكبت عليه في الأردن وشهادة الآب مـن السماء لفتح صفحة الخدمة للابن بالأخبار السارة: «أنت ابني الحبيب بك سررت» وهنا قوة الروح القدس تشير مباشرة إلى سلطان الكلمة والعمل الذي علم به المسيح وأجرى الآيات معاً.

والذي لم يذكره القديس لوقا هنا هو اسم هذه الكورة المحيطة، فهي واضحة في إنجيلي ق . مرقس وق. متى أنها كفرناحوم التي بدأ فيها عمله وكرازته وآياته الكثيرة التي عمل، مما أثار غيرة أهل الناصرة (وطنه) بشدة حتى أخذوه على ذلك، إذ كان في نظرهم أن مدينته أولى بعمله.

15:4 «وكان يعلم في مجامعهم ممجداً من الجميع».

«يعلم»: ἐδίδασκεν

وهنا تعليم يسوع المسيح عرف في التقليد الإنجيلي باسم kerygma في الأناجيل الثلاثة، وهي كلمة مشتقة من الفعل … أي يكرز ” (مر 14:1). ولا يذكر ق. لوقا شيئاً عن هذا التعليم ونوعه ولكن أجله لحين التعرض له، واكتفى هنا بأن هذا التعليم الإنجيلي كان يحمل سلطان وقوة الروح القدس حتى أنه أثار تمجيد السامعين. وكلمة تمجيد المستعملة هنا تخص عادة تمجيد الله “، وكان هذا دائماً مستوى السامعين قبل أن يلوثه الكتبة والفريسيون بالمعارضة والنقد. والمعروف أن ق. لوقا ولو أنه يتبع تقليد ق. مرقس إلا أنه كان يلتزم هو الآخر بالتقليد السائد في أيامه.

2 – تعليم المسيح في الناصرة (16:4-30)

(مت 13: 53 -58، مر 1:6-6)

بالرغم من أن تعاليم المسيح ومعجزاته أثارت تمجيد أهل المجامع في الجليل، إلا أن خدمته في الناصرة بنوع استثنائي حزينة جداً تكشف عن رفض أهل الناصرة لتعليم المسيح. وقد تعرض لها القديس لوقا هنا بتطويل أكثر من تقليد ق. مرقس، ولكن الملاحظ أنه ابتدأ يقدم تعليم المسيح في الناصرة مباشرة بعد رجوعه من الأردن ممتلئاً من الروح القدس. فبالرغم من أن ق. لوقا كان هدفه الأساسي في ذلك هو ذكر حادثة قراءة سفر إشعياء (1:61 إلخ) التي تحسب وكأنها خطاب العرش الذي يليق جداً أن يبتدئ به المسيح تعليمه، إلا أن مجمع الناصرة الذي قرأ فيه هذا الفصل لم يستطع أن يوفق بين جلال وهيبة المسيا وهو يفتتح رسالته الخلاصية بنبوة إشعياء النبي: «روح الرب علي لأنه مسحني …» وبين كونه معروفاً في وسطهم كنجار القرية ابن يوسف. فلم يستطيعوا أن يؤمنوا به، خاصة وأنه كان قد فعل سابقاً (وهذا لم يذكره ق. لوقا) آيات كثيرة في كفرناحوم قبل أن يأتي إلى الناصرة التي لم يعمل فيها أعمالاً معجزية بسبب عدم إيمانهم به.

وهنا نواجه أمراً جديداً في تقليد ق. لوقا، إذ بالرغم من أن حادثة دخول المسيح مجمع الناصرة والأثر المدهش الذي تملك على عقول أهل الناصرة من الحكمة والعلم اللذين كان يعلم بهما، فإن هذا الفصل أبرزه ق. مرقس في الأصحاح (1:6-6) وأبرزه ق. متى في (53:13-58) بعد خدمة مديدة في كل الجليل، إلا أننا نجد هنا أن ق. لوقا يضعه في مستهل خدمته عامة، متأثراً بقراءة المسيح لفصل إشعياء النبي: «روح الرب علي لأنه مسحني …» كان يتبع وطبعاً واضح أن ق. لوقا اختار هذا الفصل بالذات لقوة وضعه كفاتحة لبروجرام أو برنامج خدمة المسيح. نفهم من هذا أن تقليد ق. لوقا خطة الاختيار لإبراز عمل المسيح في تناسق الموضوع أكثر منه بالنسبة لتسلسل الحادثة.

16:4 «وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى، ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ».

هنا يفتتح ق. لوقا خدمة المسيح في الناصرة، وهذا مشابة لما جاء في إنجيل ق. مرقس (1:6 إلخ)، ولكن دون أن يلحظ العلماء أنه قد اعتمد على الألفاظ. أما رنة المدخل لهذه الآية فهي ترمي لبعيد، وكأنها امتداد عال لإرساليته: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله» (يو 11:1) التي لمحها ق. يوحنا. فهو يكاد أن يكون هنا ما زال مساقاً بالروح، ونسمع ذلك في الآية القادمة (18)، «روح الرب علي … أرسلني …» وهنا في الآية (43:4) لا يزال لذلك صدئ «لأني لهذا قد أرسلت وكأن المسيح أرسله الآب إلى العالم، وجاء إلى الناصرة أيضاً هنا على وجه الخصوص، إلى المدينة التي تربى فيها ليعلن من مجمعها عن إرساليته العظمى بمقتضى خطاب العرش الذي سبق إشعياء منذ سبعمائة عام وكتبه بإملاء الروح القدس، ليقرأه في هذا اليوم المشهود لتحقيق افتتاح العهد الجديد والإعلان عن مفردات عصر المسيا، عصر ملكوت الله لتجديد خلقة الإنسان.

«إلى الناصرة»: εἰς Ναζαρά

هنا قول ق. لوقا «حيث كان قد تربى» يوضح تقليداً غير موجود في إنجيل ق. مرقس ولكنه موجود في إنجيل ق. متى: «ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم، انصرف إلى الجليل. وترك الناصرة وأتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم» (مت 4: 12و13). وهذا يوضح لنا في قصة ق . لوقا هنا أن المسيح عاش وخدم في كفرناحوم قبل أن يدخل الناصرة التي كان قد تربى فيها أولاً، لذلك كانت هناك غيرة شديدة بين أهل الناصرة التي لم يخدم فيها ولا عمل فيها آيات. وسيتضح لنا أن ذلك كان بسبب عدم إيمانهم به، حتى إخوته أيضاً. والمسيح نفسه يعلق على ما أضمره أهل الناصرة في قلوبهم ويكشفه علناً وكأنه يتكلم بلسانهم: «كم سمعنا أنه جرى في كفرناحوم فافعل ذلك هنا أيضاً في وطنك.» (لو 23:4)

«حيث كان قد تربى»:

نقرأ عنها في إنجيل ق. لوقا أيضاً في بكور أيام حياته :

«ولمها أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب رجعوا إلى الجليل (من بيت لحم) إلى مدينتهم الناصرة وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه.» (لو 2: 39 و40)

«ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ»:

يفهم من هذا ومن الآية السابقة (15:4): «وكان يعلم في مجامعهم ممجداً من الجميع» أن المسيح كان قد اعتاد أن يذهب إلى المجمع في أية مدينة يوجد فيها، وكان له الأولوية دائماً أن يقوم ويقرأ ويعلم، وكان تعليمه ممجداً من الجميع. هذه الصورة المشرقة لمستوى تواجد الرب في المجامع تعطي فكرة أن المسيح كان خطيب المجامع بلا نزاع، وكأنه لم يدخل مجمعاً إلا وكان هو القارئ والمعلم بل وصانع المعجزات. يؤكد هذا قول ق. لوقا: «وكان يعلم في مجامعهم ممجداً من الجميع» وأيضاً في ختام قراءته لإشعياء – حتى في مجمع الناصرة – يسجل ق. لوقا عنهم قائلاً: «وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه …» (لو 22:4) 

ويلاحظ أن القراءة كانت تحتم على القارئ أن يقف على مسطح أعلى من الأرض ليسمعه الجميع. أما التعليم فكان يمارسه المسيح وهو جالس بنوع خاص وممتاز: «كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني …» (مت 55:26)، «أنا كلمت العالم علانية، أنا علمت كل حين في المجامع وفي الهيكـل حيث يجتمع اليهود دائماً، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء.« (يو 20:18)

ومن أبحاث العلماء يقولون إن الفصل الذي أورده ق. لوقا عن تعليم المسيح في المجمع يحسب أقدم إشارة عن خدمة المجمع (السيناجوج). والإشارة التي تشبهها جاءت في سفر الأعمال – وأيضاً للقديس لوقا ـ ولكن يظهر فيها أن ق. بولس وعظ وهو واقف: «وأتوا إلى أنطاكية بيسيدية ودخلوا المجمع يوم السبت وجلسوا، وبعد قراءة الناموس والأنبياء أرسل إليهم رؤساء المجمع قائلين أيها الرجال الإخوة إن كانت عندكم كلمة وعظ للشعب فقولوا، فقام بولس وأشار بيده وقال …» (أع 13: 14-16)

ويرسم العالم مارشال طريقة العبادة والخدمة والقراءة والوعظ: عند بدء دخول المجمع والتئام العابدين يصير اعتراف عام بالإيمان اليهودي كمـا هـو في الشما (تث 4:6-9، 13:11-21). بعدها تبدأ صلوات التفلاه tephillah وشيموني عشره shemoneh esreh (أي البركات الثماني عشرة). وهنا يأتي مركز العبادة وهي قراءة الأسفار، فيقرأ فصل من الأسفار الخمسة بمقتضى نظام القراءات المحددة، وذلك بواسطة أعضاء متتابعين من الجماعة بالدور مع الترجمة باللغة الأرامية. ثم تأتي قراءة من الأنبياء وذلك أيضاً بناء على نظام قراءات محدد، ولكن ربما كان هناك في القرن الأول المسيحي نوع من الحرية في اختيار النبوات. وبعد قراءة النبوات تقام صلاة وبعدها تأتي العظة، فإذا كان من الموجودين شخصية مرموقة يطلب منها الوعظ كما ذكرنا في (أع 13: 14-16). وبعد العظة تأتي صلاة القداس Qaddish” وكان يعيّن الأشخاص الذين سيقومون بالقراءة قبل بدء الخدمة.

17:4 «فدفع إليه سفر إشعياء النّبي. ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه».

«فدفع إليه»: καὶ ἐπεδόθη

وهي تعني هنا: ودفع إليه بالإضافة، حيث المعنى أنه أعطي أولاً التوراة وبعدها دفع إليه أيضاً الأنبياء. والأرجح أنه لم يقرأ الأنبياء فقط، لأنه يقول بعد ذلك فطوى السفر  والمعنى هنا أنه كان هو الدرج scroll. والمفهوم جيداً من مجرى الآية أن المسيح فتح الدرج الذي فيه سفر إشعياء دون سابق إعداد، لا من الخادم الذي عليه ترتيب القراءة، ولا من المسيح. ولكن طبعاً كان ذلك من تدبير الروح القدس، كما يقول العالم ولهوزن. وهذا يوضح أن المسيح نفسه لما فتح السفر انتبه إذ «وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه»، الذي قرأه دون سابق إعداد من الخادم، بل هو بإعداد سابق منذ الأزل قبل أن يوجد كتاب أو يولد إشعياء!!

18:4 «روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية».

 من الوهلة الأولى لمنطوق إشعياء في هذه الآية نرى إنها رسالة طبيب سماوي. نسمع هذه النغمة من المسيح نفسه وهو يعلق على ما دار في قلوب أهل الناصرة المغتاظين، لأنه صنع هذا كله في كفرناحوم أما في مدينتهم الناصرة فلم يفعل شيئاً، فقال عن لسانهم وكأنه يردد صدى إشعياء: «على كل حال تقولون لي هذا المثل: أيها الطبيب اشف نفسك. كم سمعنا أنه جرى في كفرناحوم، فافعل ذلك هنا أيضاً في وطنك» (لو 23:4)، إنها لفتة بديعة من المسيح. وعلى كل حال فالقديس لوقا وهو طبيب، كانت عيناه دائماً على الأشفية وقوة الشفاء التي كانت واضحة جداً في عمل المسيح. فنحن نسمع عنها في الأصحاح الخامس مركزة هكذا: «وفي أحد الأيام كان يعلم، وكان فريسيون ومعلمون للناموس جالسين وهم قد أتوا من كل قرية من الجليل واليهودية وأورشليم. وكانت قوة الرب لشفائهم!» (لو 17:5)

ولكن يلاحظ العلماء أن المقطع: «وأرسل المنسحقين في الحرية» غير موجودة في الأصحاح (61) من سفر إشعياء الذي فتح عليه السفر ولكنه موجود في (إش 6:58) «… فك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل نير» وتقرأ على السبعينية لكي تأتي مطابقة لما جاء في إنجيل ق. لوقا.

وقد اختلفت آراء العلماء في هذه الإضافة إذ يقول البعض أنها من وضع مسيحي متأخر، وآخرون مثل العالم ك. بروت يقول إن هذه الإضافة هي بسبب جمع النصين في قراءة واحدة في الليتورجية اليهودية، بينما العالم ب. ريكه يقول بكل جرأة أن المسيح نفسه أضافها بسلطان نبوته الخاصة.

وفي توضيح ملابسات هذه النبوة تاريخياً، نجد أن إشعياء النبي نفسه أخذ إلهاماً من الله ومسح بالروح لكي يعلن للشعب المنسحق البائس في ذل أسره تحريرهم القادم من الأسر، واصفاً لهم مستقبلاً قد تعين لهم فيه أن تستعيد أمتهم عظمة ملوكية الله لهم.

ولكن بقراءة المسيح لهذه النبوة عينها وقف المسيح باعتباره أنه هو مسيا العهد وقد تم فيه وعد النبوة القديم، بمعنى أنه تعين هو ليكون رأس مملكة الله لشعبه، ليجري حكمه كطبيب يشفي ويحرر ويعصب القلوب المكسورة. والوصف الذي يبدأ به إشعياء أن روح الرب عليه وأن الله مسحه هو وصف تنصيب الأنبياء والكهنة الذي تم هنا بواسطة الروح القدس نفسه. والمناسبة شديدة المطابقة غاية الشدة بعد أن حال الروح القدس على المسيح في الأردن وصوت الآب من السماء نصب الابن للرسالة. 

19:4 «وأكرز بسنة الرب المقبولة».

المعنى هنا أنها سنة قبول لدى الرب، السنة التي عينها الله لتكون سنة قبول ونعمة لإظهار خلاص الله، وهنا بالتحديد إشارة إلى سنة اليوبيل المعروف أنها سنة تحرير كل العبيد المدعوين أولاداً ليهـوه (لا 25)، والتي كانت أصلاً رمزاً لسنة الخلاص، هذه التي جاء المسيح يبشر بها، وكانت تحل كل خمسين سنة حيث تترك فيها الحقول لتستريح من الخدمة، ويعود العاملون إلى بيوتهم وتحرر الديون ويفرج عن العبيد. والمناسبة هنا بديعة، فالمسيح عائد إلى الناصرة وطنه: «وتقدسون السنة الخمسين وتنادون بالعتق في الأرض لجميع سكانها. تكون لكم يوبيلاً وترجعون كل إلى ملكه وتعودون كل إلى عشيرته» (لا 10:25). وقد بحث العلماء في سنة اليوبيل أيام المسيح فكانت سنة 26-27م. فإذا علمنا أن العلماء تأكدوا من أن ميلاد المسيح كان سنة 4 قبل الميلاد، اتضح أن السنة التي وقف فيها المسيح في مجمع الناصرة ليعلن عن السنة المقبولة كان عمره 30 سنة، وكانت بدء خدمته بإعلان ملكوت الله أو بالحري عودة الله إلى تملك شعبه في شخص المسيح الرب .

ويلاحظ أن . بعض المفسرين مثل كليمندس الإسكندري وأوريجانوس وغيرهم أخطأوا إذ اعتبروا أن هذه السنة المقبولة هي سنة خدمة المسيح، وبذا اعتقدوا أنها كانت سنة واحدة في الخدمة. ولكن من واقع إنجيل ق. يوحنا يتضح أن المسيح خدم ثلاث سنوات ونصفاً.

20:4 «ثم طوى السفر وسلّمه إلى الخادم وجلس. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه».

واضح من كلمة «طوى السفر» أنه درج ملفوف، وسلمه للخادم المدعو (حازان). وجلوس المسيح هنا يفيد أنه جلس في مكان ما ينبغي أن يكون فيه الواعظ: «كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل …» (مت 55:26)، وكانت هذه الحركة مملوءة وقاراً رفعت انتباه كل المجمع خاصة بالنسبة لفصل إشعياء النبوي والمسياني الذي قرأه المسيح بصوت واثق، كمن يتكلم ويشير إلى نفسه بوضوح.

حقا إن هذا الذي نقرأه الآن في هذا الفصل هو ذو وقع هائل على نفوسنا، فبشيء من الشفافية الروحية نرى ونسمع ابن الله الذي أتى وتحشد يقف أمامنا ليتلو نبؤة هي مرکز جميع النبوات ، معلناً بها بداية ملك الله مرة أخرى، لا على إسرائيل بل على شعبه الكبير في المسكونة كلها، لبداية سنة يوبيل العالم كله، سنة تحرر الإنسان، كل إنسان، من كل عبودية كانت. عبودية الإنسان للإنسان، وعبودية الإنسان للشيطان والخطية والعالم والموت ليتحرر الإنسان من رباط الأرض كلها والعالم ليتأهل لمواطنة السماء والله. كان هذا هو يوم المسيح، يوم الإنسان الجديد، يوم الحرية الحقيقية: «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 36:8)، يوم التجديد العالمي، يوم الرينسانس الإلهي الذي فيه دخلت البشرية في ملك الله .

وما أسعده يوماً في تاريخ الإنسان! لا تزال عيون العالم شاخصة إليه وهو جالس على عرشه الإلهي!

21:4 «فابتداً يقول لهم: إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم».

«فابتدأ يقول»: ἤρξατο

اصطلاح أرامي، مثل وفتح فمه ليقول، مشيراً إلى مضمون ما قاله المسيح، وتفيد الانتقال من القراءة إلى الوعظ، وبعدها تبدأ العظة باختصار جاذب للأنظار والقلوب. وقد اختطف المسيح انتباه كـل الحاضرين بصورة طاغية حينما قال: «اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» فقد . جمع الزمان السالف كله بناموسه وأنبيائه وخدمات هيكله ومجامعه ومعلميه ووعاظه، الذي كان كله يدور حول مجيء المسيا وظهور خلاص الله علانية ويراه كل بشر!!

«اليوم»: 

 كان الضغط الذي باشره المسيح في النطق بهذه الكلمة «اليوم» كفيلاً بأن يشعر كل السامعين والقارئين في الأرض كلها أنه هنا انتهى زمان النبؤات؛ بل وانتهى زمان الإنسان وبدأ يوم الله الأبدي زمان الحياة. وقد دخل يوم المسيح هذا في زمن الخلود، سنة الرب المقبولة التي بدأت ولن تنتهي أبداً. لقد تحول «اليوم» إلى الحاضر الذي لن تغرب له شمس أبداً، هو هو يوم الإسخاتولوجيا الذي فيه أيضاً سيظهر ابن الإنسان في مجده.

 

«قد تم»: πεπλήρωται

هنا كلمة: «قد تم» لا تفيد تكميل شيء زماني، بل استعلان كمال خطة الله الأزلية لتكشف ما وراء هذا الحاضر العريض الذي نعيشه. فحركة الزمان قد ترجمت إلى عمل الله الذي هو فوق الزمان . فالحاضر الإلهي يمتد في هدوء لا يلحظه وعي الإنسان ليدخل في التكميل النهائي لتدبير الله. كان هذا بمثابة خطاب العرش الذي بدأ به المسيح خدمته في حواري وأزقة الجليل.

22:4 «وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه، ويقولون: أليس هذا ابن يوسف؟»

نحن هنا أمام قوم متقلبين أخذتهم المفاجأة بكلمات المسيح المملوءة سلطاناً وقوة ونعمة، مما أثار فيهم التعجب والنطق ضد مشيئتهم بالشهادة لقوة النعمة التي كان يتكلم بها المسيح. ولكن كانت الخلفية التي ملأت عقولهم أنهم يعرفون المسيح أنه ابن يوسف نجار القرية، بالإضافة إلى أنهم سمعوا عن خدمته الإعجازية في كفرناحوم والتي لم يمارس مثلها في الناصرة مع أنها وطنه. لذلك امتزج إحساسهم بنوع من الاستهانة بقيمة المستوى الروحي النبوي العالي الذي شد انتباههم. ولكن هذا هو المسيح صخرة عثرة!! نجار نعم، ابن نجار نعم، إنسان لا منظر له نعم، رجل أوجاع نعم، مضروب ومذلول نعم، له شكل العبد نعم، ولكن حينما يتكلّم: «لم يتكلم قط إنسان مثل هذا الإنسان» (يو 46:7)؛ وحينما يعمل فليس إنسان يستطيع أن يعمل عمله قط: يأمر الشياطين فتطيعه، ينتهر الهواء والبحر أن إخرس إبكم فينصاع إلى الهدوء التام، يشفي كل مرض وكل سقم في الشعب بكلمة، يقيم الموتى من القبور، وهـو هـو النجار ابن يوسف. صلب ومات وقبر نعم، ولكنه قام من بين الأموات في اليـوم الثالث.

فإن أردت أن تؤمن به فعندك البراهين والأسباب .
وإن أردت أن ترفضه فعندك البراهين والأسباب.

لذلك كان جزاء الإيمان عظيماً!!

23:4 «فقال لهم: على كل حال تقولون لي هذا المثل: أيها الطبيب اشف نفسك. كم سمعنا أنه جرى في كفرناحوم، فافعل ذلك هنا أيضاً في وطنك».

لقد أثبت المسيح بمبادرته هذه التي كشف بما ما يدور في قلوبهم الحاقدة أنه حقا طبيب النفس والروح والجسد، وقد وضع إصبعه على علة غيرتهم المرة بسبب الأعمال التي عملها في كفرناحوم دون أن يجري عملاً في الناصرة مدينتهم وهي وطنه بالدرجة الأولى.

والعجيب حقا أن المسيح يعلق هنا على ما استطاع أهل الناصرة أن يلتقطوه من النبوة التي أخذها من إشعياء ليطبقها على نفسه، وهي تدور حول عمله الجديد بالنسبة لشفاء منكسري القلوب وإعطاء البصر للعميان وتحرير المأسورين والمنسحقين، وكلها تقريباً أعمال طبيب ذي حيثية واتساع في قدراته على ا الشفاء. ولكنهم بخبث علموا أنها أجريت بالفعل في كفرناحوم، فلاموه ملامة لاذعة إذ اعتبروه هـو نفسه مريضاً بسبب مرض وعوز مدينته الناصرة، فكان الأولى أن يشفي نفسه أي أهل مدينته قبل أن يشفي الغرباء. ولكن هذا لم يكن غائباً عن المسيح أبدأ، بل سيظهر من كلامه بعد ذلك أنه حاول أن يجري معجزات وآيات في الناصرة ولكن لعدم إيمانهم لم يستطع أن يجري المعجزات لأنها تحتاج إلى إيمان القوم (مر 5:6و6). فالمسيح يشفي من له إيمان بالشفاء، ودموع المرضى والمتألمين هي أدوات المسيح كطبيب. فالمسيح قادر أن يشفي مـن هـو قـادر أن يؤمن، وعلى مستوى قدرة الإيمان تكـون قـدرة الشفاء.

24:4 «وقال: الحق أقول لكم إنه ليس نبي مقبولاً في وطنه».

«الحق»:  Ἀμὴν

كلمة محبوبة عند . المسيح كررها ق. لوقا في إنجيله 6 مرات. وقد استخدم أيضاً غيرها مثل حقا أقول. ويقول العالم يواكيم إرميا أن استخدام هذه الكلمة “أمين” هوا لكي يبرز الكاتب نطقاً ذا سلطان متميز عن باقي الكلام، ليؤكد ويصدق على ما سبق قوله، وهذه إحدى خصائص كلام المسيح الأصيلة.

والمسيح قال هذا غير مشير إلى أهل بيته، مع أنهـم هـم أيضاً لم يكونوا يؤمنون به، وذلك تتميماً للمقولة وهي صحيحة إلى حد كبير. لأن اعتياد رؤيا الإنسان وأهل بيته يفرغ مضمون المهابة من الشخصية، وكلما قلت معرفة الناس بظروف الإنسان وعاداته كلما تضخمت مواهبه، ولو أن هذا يحسب في الشرق أكثر منه في الغرب.

ويلاحظ القارئ أن المسيح هنا ينسب النبوة إلى نفسه تجاوزاً باعتبار أنها أعلى درجة عند البشر يستطيع أهل الناصرة أن يقيموها. ويا لعظم الحزن أن لا يقبل ابن الله عند الذين نزل عليهم ضيفاً.

25:4 «وبالحق أقول لكم إن أرامل كثيرة كن في إسرائيل في أيام إيليا حين أغلقت السماء مدة ثلاث سنين وستة أشهر، لما كان جوع عظيم في الأرض كلها».

إن ما حدث للناصرة لكون المسيح أهملها وخصص الأخبار السارة وأعمال نعمته للبلاد الأخرى حولها، أوجد المسيح في موقف يقابله في التاريخ القديم : كون إيليا وأليشع صنعا معروفاً وخيراً لأهـل الأمم خارج إسرائيل دون المحتاجين من أهلها. هكذا إذ رفض أهل الوطن المسيح، تركهم وعرض إنجيله على الأمم، كما فعلت الكنيسة وق. بولس أيضاً فيما بعد.

ولكن في أيام النبيين إيليا وأليشع قديماً لم يعرف أن الله انتقل بثقله من إسرائيل للأمم. ولكن كانت إسرائيل تحت عقاب الله إذ عبد الشعب الصنم “البعل”، لذلك كانت لفتة تأديبية أن يتحنن الله على أرملة أممية لم تكن تحت العقاب .

ولكن الأمر بالنسبة للناصرة كان مختلفاً إذ رفضوا خدمة الرب فعلاً، فكان من الحق والعدل أن يذهب إلى البلاد الأخرى المحيطة. فقول الرب يوضح موقفهم «ليس نبي مقبولاً في وطنه» هذا ما فعلوه بالمسيح. والمثل الذي أعطاه المسيح عن كيف أغلقت السماء ثلاث سنين وستة أشهر جزاء توقيف إيمان إسرائيل بالله وجنوحها إلى عبادة البعل، يعطي صورة واضحة لمنهج معاملة الله مع شعبه وأولاده، فرفيع النعمة والمراحم الأبوية وسيلة لإظهار غضب الله. والمسيح يطبقها على أهل الناصرة إذ رفضوا الإيمان بالمسيح فتوقفت عنهم أعمال الشفاء والرحمة والمعجزات جميعاً. 

والعجيب أن المسيح نفسه لم يكن سبباً أبدأ في هذا التأديب، بل قيل إنه لم يقدر أن يعمل هناك معجزات لعدم إيمانهم (مر 6: 5 و6)، فعدم إيمانهم هو الذي حرمهم من نعمة الله وليس المسيح. أما المدة نفسها «ثلاث سنين وستة أشهر» فهي في تقليد التوراة وحتى في سفر الرؤيا المكني عنها باثنين وأربعين شهراً (2:11، 6:12، 5:13) فهي دائماً تعبر عن زمان اضطهاد وبؤس. وتعطى أيضاً كأحجية زمان وزمانين ونصف زمان (دا 25:7، 7:12؛ رؤ14:12)، وهي فترات محنة وضيق وغضب. وواضح أن الطبيعة تتضافر من جهتها لتعلن غضب الله، ولكن ما من مرة يذكر فيها هذا إلا وبالبحث نجد أن الإنسان هو المتسبب في بؤسه وشقائه. وها أمامنا أهـل الناصرة مثل حزين على وقوعهم في هذا الضيق الذي جلبوه على أنفسهم، لا بعدم إيمانهم بالمسيح فحسب بل ومحاولتهم إلقائه من على الجبل ليقتلوه.

26:4 «ولم يرسل إيليا إلى واحدة منها، إلا إلى امرأة أرملة، إلى صرفة صيداء».

وهكذا أوخذت أرامل إسرائيل الكثيرات ـ زمن إيليا تحت حكم أخاب الذي جعل الشعب يعبد الأصنام – بذنب إسرائيل الذي ترك إلهه وجرى وراء آلهة الزنا والفجور، أغاظوا الرب بفجورهم فأغاظهم الرب بنقمته: جوع وعطش حتى الموت!! ومع أن المسيح لا يرضى قط عن قسوة الزمان الذي فات وجاء معه النعمة والسلام وفي يمينه شبع وسرور، ولكن ما العمل لقوم رفضوا النعمة والسلام؟ اعترفوا علناً وجهاراً: «وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه» وبعدها: « قاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل» (لو 29:4). «إنهم أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم» (كما قال عنهم موسى النبي) (تث28:32)

27:4 «وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان أليشع النبي، ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان السرياني».

يذكر هنا أليشع النبي للمرة الوحيدة في العهد الجديد. والقصة موجودة بدقة في (2مل 5). والقصة هنا حزينة لأن أليشع كان يمر على البيوت يفتقدها، وكان مرض البرص منتشراً في إسرائيل والمرضى يئنون ويبكون، ولكن لم تعط لأليشع قوة أن يشفي برصاً إلا لإنسان سرياني غريب جاء ليطلب معونة يهوه إله إسرائيل فوجد المعونة جاهزة، مع أن نعمان كان عدواً شديد المراس تجاه إسرائيل.

هذه كلها عينات جاءت مبكرة جداً في أجندة مراحم الله لتحكي عما سيكون في أواخر الأيام، حينما تنسكب نعمة الله بلاكيل على كافة الأمم والكل يهتف باسم الله .

28:4 «فامتلاً غضباً جميع الذين في المجمع حين سمعوا هذا».

لقد التقط الشعب قصد المسيح بسهولة إذ رفع من قدر أرملة صرفة صيدا الأممية المكروهة، ثم رفع من شأن السريان ونعمان عدو إسرائيل اللدود ولم يساوهم بشعب الله المختار أبناء إبراهيم والعهد والموعد، بل ركبهم على ظهورهم ورفع من وجههم أمام الله، وأحط من شأن بلده ووطنه وأهله في التراب، ومن يطيق؟ قاموا قومة رجل واحد وعقدوا النية إما على رجمه حيًا أو قتله بإلقائه من فوق تل بجوار المدينة حتى ولو كان ذلك يوم سبت! «إنهم أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم. » (موسى) (تث 28:32).

29:4 «فقاموا وأخرجوه خارج المدينة، وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل».

هرج ومرج، واختلط الحابل بالنابل، وأحاط رجال أقوياء بالمسيح الرب وقيدوه ودفعوه خارج المجمع وساقوه سوقاً حتى حافة الجبل وقد عقدوا النية على طرحه من فوق مكان عال لعلهم يتخلصون من الذي جاء حاملاً خلاصهم ويطفئوا النور الذي جاء ليضيء عليهم بضياء نور الله ويرفع عنهم ظلام الموت وظلمة الدهور. كان يسير معهم متعجباً من سلطان الظلمة على عقولهم، وإذ رأى عبثاً أن يقول لهم من هو وما هو سلطانه تركهم حتى النهاية.

30:4 «أما هو فجاز في وسطهم ومضى».

مهما أحاطت جحافل الظلمة بالنور فلا تقربه، النور يضيء في الظلمة والظلمة لا تدركه، ومهما تشامخ الباطل وتعالى فوق الحق فبمجرد أن يلمسه يخر صريعاً وإذا هو لا يوجد. الرب لم يحتج ولم يوبخ، لم يعاتب ولم يعنف، تركهم يعملون عملهم أما هو فنظروا ولم يروه. «لم تأت ساعتي بعد» ! (يو 4:2، 6:7و30، 20:8)

3 ـ أعمال المسيح في كفر ناحوم (31:4-44)

(39-21:1)

يبدأ ق. لوقا قسماً جديداً من الرواية، اعتمد فيه على ما جاء في إنجيل ق. مرقس (21:1-39)، بعد أن وفي ما جاء في إنجيل ق. مرقس (1:1-15)، مع الرجوع إلى بعض المصادر الأخرى المكملة.

ويبدأ هنا من الآية (31) يحكي عن تعليم المسيح في المجامع، وأثر هذا التعليم في نفوس السامعين. ثم يسرد قصة الإنسان الذي كان به روح شيطان نجس في المجمع، وبعدها شفاء حماة سمعان بطرس، وكان قصد ق. لوقا أن يعطي صورة كاملة ليوم بأكمله من خدمة المسيح ينتهي بغروب الشمس حيث يكمل عمل الأشفية في الشعب الذي كان يتزاحم. وبعدها خرج إلى الخلاء في الصباح الباكر استعداداً لعمل أكثر (42-44).

ويلاحظ أنه لم يرتبط بكفرناحوم بأكثر مما خدم في الناصرة وليس حسب ادعاء أهل الناصرة.

( أ ) التعليم في مجمع كفرناحوم (32,31:4)

كانت تعاليم المسيح في مجمع كفرناحوم تتسم بالسلطان، وعلى نفس المستوى جاءت الآيات لتنطق معاً بقوة المسيح غير العادية التي اشترك ق . مرقس مع ق. لوقا في إبرازها بقصد توضيح رسالة المسيح.

31:4 «وانحدر إلى كفرناحوم، مدينة من الجليل، وكان يعلمهم في السبوت».

كانت الناصرة على تل عال، لذلك كان واضحاً أنه انحدر في ذهابه إلى كفرناحوم لأن الناصرة ترتفع عن سطح البحر بمقدار 1200 قدم، علماً بأن سطح بحيرة الجليل بدوره ينخفض عن مستوى سطح البحر بمقدار 686 قدماً.

وهنا يدعو ق. لوقا كفرناحوم أنها مدينة في الجليل، وقد جاء ذكر الجليل في الآية (14:4) التي كان قد ابتدأ فيها الحديث عن ذلك، ولكنه توقف ليكمل ما أراد أن يسبق به حديثه عن كفرناحوم بقصة قراءة سفر إشعياء في مجمع الناصرة: «ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل وخرج خبر عنه في الكورة المحيطة. وكان يعلم في مجامعهم ممجداً من الجميع.» (14:4و15)

والغريب أن ق. لوقا عاد لثالث مرة لينهي الأصحاح الرابع في الآية (44) بقوله: «فكان يكرز في مجامع الجليل» علماً بأن ق. لوقا لم يستطع أن يعبر عن أسباب اهتمامه بالكرازة في الجليل ومجامع الجليل رغم ذكرها ثلاث مرات في الأصحاح الرابع. فإذا رجعنا إلى إنجيل ق. متى وضح السبب الهام جداً، إذ أنه بحسب كشف ق. متى كان تتميماً لنبوة عظيمة وهامة لإشعياء النبي مؤداها: «ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل وترك الناصرة وأتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم، لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب الجالس في الظلمة أبصـر نوراً عظيماً والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور.» (مت 4: 12 -16)

32:4 «فبهتوا من تعليمه، لأن كلامه كان بسلطان».

يلاحظ أن تأثر الشعب من كلامه وتعليمه هو نفس التأثر والاندهاش من أعماله وآياته، وقد وصفت هذه وتلك “بالسلطان” (راجع الآية 36). وواضح أن القصد الخفي الذي أراد أن يكشفه ق. لوقا هو أن المسيح كان يمارس تعليمه وإجراء آياته كإله. فالكلام صادر بسلطان شخصي والعمل بالأمر، لا دعاء ولا توسل ولا صلاة. فالعنصر الإلهي سائد إن في تعليمه أو في إجراء آياته .

فهنا في هذه الآية يسجل ق. لوقا «فبهتوا من تعليمه» وهناك في (36:4) يسجل: «فوقعت دهشة على الجميع وكانوا يخاطبون بعضهم بعضاً ما هذه الكلمة”. لأنه بسلطان وقوة يأمر الأرواح النجسة فتخرج»

والقارئ يذكر كيف ذهب المسيح إلى الجليل في البدء: «ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل »(لو 14:4). إذن، فواضح أن القوة التي يشير إليها ق. لوقا والسلطان معاً هما قوة وسلطان الروح القدس اللذان يمارس بهما المسيح أعماله لا كعطية أو استعارة بل كمخصصاته.

(ب) إخراج الشياطين (33:4-37)

(مر21:1-28)

كان المقدر في نظر الباحثين من العلماء والمتابعين لحركة التعليم والمعجزات للمسيح، أن المسيح يبدأ بالفعل في مصادرة الشيطان وإخراجه عنوة وبسلطان من سكناه في الذين استحوذ عليهم، بعد أن صارعه على جبل التجربة وربطه بحسب تصوير المسيح للشيطان كما أورده ق. لوقا في (20:11 22): «ولكن إن كنت بأصبع الله أخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله. حينما يحفظ القوي داره متسلحاً (بالخطية، فالخطية : السلاح الذي يغلب به الشيطان الإنسان)، تكون أمواله في أمان (يكون أسراه وأخصاؤه ملكه). ولكن متى جاء من هو أقوى منه (المسيح) فإنه يغلبه (على جبل التجربة) وينزع سلاحه (يبيد الخطية التي حارب بها الإنسان وغلب) الكامل (كافة خطاياه بألوانها وأشكالها) الذي اتكل عليه (وكأن الخطايا في نظره باقية) ويوزع غنائمه (يحرر أسراه)» واضح أن المسيح ربط الشيطان في التجربة على الجبل ونزل يكرز ويبشر، وأول آياته كانت إخراج الشياطين عنوة وتحرير هي فرائسه .

لأنه لا ينبغي اذهبي وهكذا يسير خط الخلاص على مستوى التعليم مع خط الخلاص على مستوى الآيات والمعجزات ، أن يغيب عن ذهن القارئ الدارس أن التعليم على الخلاص محوره الأساسي غفران الخطايا؛ وإخراج الشياطين وشفاء الأمراض محوره الأساسي غفران الخطايا، فهو الخلاص على مستوى عملي ومنظور. لذلك ستجد في تعليم ق. لوقا أن كلمة “الشفاء” وكلمة الخلاص” واحدة. فالآية: « بسلام إيمانك قد شفاك» (لو 48:8)، هي الآية «إيمانك خلصك» (لو 50:7)، لأن حقيقة “الخلاص” وحقيقة “الشفاء” واحدة وهي مغفرة الخطايا. وهذه الحقيقة اللاهوتية عند ق. لوقا في غاية الأهمية. وقد أوردها على لسان المسيح كحقيقة إلهية ثابتة هكذا: «أيما أيسر: أن يقال مغفورة لك خطاياك أم أن يقال ثم وامش؟ (بمعنى أن الاثنين واحد أو هما متساويان) ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا (الخلاص)، قال للمفلوج: لك أقول ثم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك.» (لو 5: 23و24)

33:4 «وكان في المجمع رجل به روح شیطان نجس، فصرخ بصوت عظيم».

«روح شیطان نجس»: πνεῦμα δαιμονίου ἀκαθάρτου

هنا ق. لوقا يكتب لليونانيين فكان لزاماً عليه أن يوضح أن هذا الروح شيطان وأنه نجس ليفرقه من الروح القدس. وواضح أن الصراخ العظيم هو من صنع هذا الروح النجس. وقد سبق أن شرحنا في إنجيل ق. مرقس أن الشيطان أو الروح النجس أو الروح الشرير إما أن يستولي على الإنسان استيلاء تاماً وهذا يسمى في الباراسيكولوجي استحواذاً، حيث يتقمص الشيطان روح الشخص ويتصرف فيه كيفما شاء، وإما مجرد مسن فقط وهنا إما يصيبه بمرض أو شذوذ فيبدو المرض عضالاً غير قابل للشفاء بأي وسيلة طبية، ولكن بمجرد أن يصلى عليه يتركه المس فيصبح صحيحاً معافى. وتظهر بشدة هذه الحالة في إصابة العمي، فقد يصبح الإنسان وهو بكامل عينيه أعمى لا يرى شيئاً على الإطلاق، وبالكشف عليه يظهر أنه سليم مائة بالمائة، ويظل أعمى إلى أن يتركه المس فيرى مباشرة وفجأة صحيحاً كالأول، وهكذا الخرس والصمم والشلل وفقدان القوة الجنسية وأمراض أخرى كثيرة من صنع مس الشيطان، وهذه كلها أصبح الطب في الخارج، في أقسام الباراسيكولوجي، مسئولاً عنها ولها علاجها الروحي بواسطة وسيط وتجرى في جامعات أوروبا وأمريكا وخاصة البرازيل. يصبح

34:4 «قائلاً: آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري! أتيت لتهلكنا! أنا أعرفك من أنت: قدوس الله».

«آه»: ea

حرف يفيد إما الاندهاش أو عدم الرضى وهو موجود في اليونانية، وفي الأرامية “واي” وبالعربي : “آه”، وهي محاولة من الشيطان أن يدافع عن نفسه.

«ما لنا ولك»: .τί ἡμῖν καὶ σο

الترجمة العربية صحيحة، وتعني كيف اجتمعت معنا، كيف أتيت إلينا.

«أتيت لتهلكنا»:

هنا لا يقصد مجرد مجيئه إلى المجمع في هذا اليوم، بل مجيئه من السماء، فالشيطان يتكلم عن كل بني جنسه، والهلاك هنا كلمة صحيحة . وهي فقدان الوجود.

«أنت قدوس الله»:

هنا الاعتراف بحقيقة المسيح المكشوفة للشيطان ينطقها صاغراً محبراً للاعتراف بسلطانه الإلهي الفائق ولإعلان المناقضة الصارخة بين قداسة المسيح ونجاسة الشيطان عن إذلال. ولكن إيمان الشيطان لا يحسب له بل ضده لأنه لا يستطيع أن يتغير أو يتوب لأنه ملاك ساقط تحت العقاب والدينونة الأبدية.

35:4 «فانتهره يسوع قائلاً: اخرس واخرج منه. فصرعه الشيطان في الوسط وخرج منه ولم يضره شيئاً».

كان صراخ الشيطان وكلامه محاولة للمراوغة، فأوقفه المسيح في الحال بأمر قاطع أن يخرس أي لا ينطق البتة، ثم أمره بالخروج مباشرة وكان مع الأمر سلطان إلهي بالإجبار على التنفيذ الفوري دون أي مراوغة.

«فصرعه»: 

الترجمة العربية هنا غير دقيقة، فهي تأتي في اليونانية بمعنى: أوقعه على الأرض فقط، ولكن في إنجيل ق. مرقس تأتي صرعه ” بمعنى: “أصابه بانقباضات شديدة”. وفي الحقيقة أن خروج الـروح النجس من إنسان عاش معه مدة طويلة أمر صعب جداً، إذ يصبح الروح متملكاً على كل جسده، فخروجه كخروج الروح، يحتاج أن يتخلص من قبضته الشديدة على جميع أجزاء وعضلات ومخ فريسته . لذلك يعاني الشخص صدمة عصبية عنيفة جداً حتى يعود الإنسان كما كان بدون هذا الاخطبوط الذي عصر جسده. فإذا لم يكن الشخص الذي يقوم بإخراج الشيطان على مستوى القوة الروحية الكافية، ويأمره أمراً بأن يخرج دون أن يضره في شيء، فإن الشيطان قد يصيبه في جزء من جسمه إصابة مرضية أثناء خروجه. وهنا واضح أن الشيطان خرج مجبراً مقهوراً دون أن يضر الإنسان في شيء شهادة لسلطان المسيح الفائق.

36:4 «فوقعت دهشة على الجميع، وكانوا يخاطبون بعضهم بعضاً قائلين: ما هذه الكلمة! لأنه بسلطان وقوة يأمر الأرواح النجسة فتخرج».

انتهت المعجزة بالنتيجة المرجوة وهي أن يشعر الشعب أن المسيح له سلطان حقيقي على الشيطان . وهنا تأثير المعجزة أصاب الشعب بدهشة وخوف معاً.

وقول الآية: «ما هذه الكلمة» يقصد بها هذا الأمر الصادر بسلطان وقوة معاً، أمر وتنفيذ في الحال شأن أعمال الله. فالتنفيذ الفوري الصاغر أعطى للأمر (الكلمة) هيبة إلهية.

القديس لوقـا هـنـا يبرز شخصية المسيح قادراً مقتدراً على الخلاص بكلمـة آمرة، يتساوى في الخلاص إن كان مرض أو شيطان يحتل خليقة الله. فنرجو من القارئ أن ينتبه إلى منهج ق. لوقا، فهو يقدم المسيح في أي وضع كان متكلّماً أو عاملاً كمخلص جاء ليخلص ما قد هلك. فليس بالصليب والموت والقيامة يأخذ المسيح وضعه كالمخلص كنهاية، بل في الحقيقة كان كل تعليم وكل كلمة قالها المسيح، وكل آية صنعها تحمل خلاص الصليب والموت والقيامة. فحينما قال للمفلوج: «مغفورة لك خطاياك» (مت 2:9، مر 5:2)، كانت قوة الصليب والموت والقيامة حاضرة. وحينما قال للشيطان : «اخرس واخرج» (35:4)، كان من واقع الظفر بكل رئاسات الشر وسلاطين الظلمة على الصليب .

37:4 «وخرج صيت عنه إلى كل موضع في الكورة المحيطة».

«صيت»: 

وتعني باليونانية: سماع أي كلام مسموع بتبادل، ومعنى الآية أن لشدة علو شأن الآية وقوتها وسلطانها جاء أثرها في اتساع انتشار الخبر وتأثيره. وسيظهر مباشرة الأثر المترتب على الانتشار السريع في كل الكورة المحيطة في نفس اليوم، مما حدا بجميع القرى بالإسراع في إحضار جميع المرضى بكل الأمراض وتدفقوا على مدينة كفرناحوم وأحاطوا بالبيت النازل فيه، بيت بطرس الرسول. ولكن يسجل ق. لوقا عن ق . مرقس أن ذلك حدث بعد غروب الشمس”. طبعاً لم يفهم الشراح الذين استغربوا هذا الوقت بالذات، ولم ينتبهوا إلى أن اليوم كان سبتاً وممنوع السير فيه، فلما غربت الشمس أصبح محللاً لهـم السير وحمل المرضى، فبمجرد أن غربت الشمس امتلأت الشوارع المحيطة بالبيت .

( ج ) شفاء حماة سمعان (39,38:4)

(مت 14:8-15) ، (مر29:1-31)

هذه ثاني معجزة يقدمها ق. لوقا، وواضح أنه أخذها كما هي من إنجيل ق. مرقس (مر 29:1 31)، ولكن بحرية واختيار الكلمات من عنده. فهي أتت في إنجيل ق. مرقس ذات طابع شخصي في الرواية، باعتبار أن الذي يقصها كان شاهد عيان ومن نفس البيت، فأخذت القصة في إنجيل ق. مرقس حيوية الحركة وكأنها بالصوت والصورة، فلم ثرو كقصة ولكن كحدث منظور .

ولكن ق. لوقا أراد أن يعطي الأولوية فيها للجزء الإعجازي، وحذف المفردات الجانبية وكأنها ليست ذات أهمية مع أنها كانت عند ق. مرقس ذات بريق حيوي.

والذي يدرس منهج ق. لوقا يستطيع أن يشعر باهتمام ق. لوقا في تسجيل هذه القصة مباشرة بعد إخراج الشيطان، فهو إنما يجمع معاً إخراج الشيطان مع . حالة شفاء مرض مفاجئ شديد الأثر ولامرأة. ففي المجمع رجل مصاب، وهنا امرأة مصابة، والشفاء حالاً وبكلمة. فالفكر اللاهوتي حاضر والخلاص مكشوف وسريع من سطوة شيطان وسطوة مرض. والملاحظ أن منهج ق. لوقا هو عرض مختصر دونالتدخل في إضافات، لأن لب الموضوع لاهوتي محض!! لاهوت الخلاص. تعليماً وآيات.

ولكي يثق القارئ في هذا الحصر المنهجي اللاهوتي، يلاحظ الربط بين آية إخراج الشيطان وآية إخراج الحمى بكلمة «وانتهـر» فهو انتهر الشيطان وانتهر الحمى. هذا هو سلطان الخلاص الذي دخل به عالم الإنسان المطحون تحت الشيطان وأمراض الجسد.

ثم إن هناك أيضاً ملاحظة هامة إذ أن ق. لوقا يقدم لنا شفاء حماة سمعان بطرس، قبل أن يمارس المسيح دعوة بطرس للتلمذة!

38:4 «ولما قام من المجمع دخل بيت سمعان. وكانت حماة سمعان قد أخذتها حمى شديدة. فسألوه من أجلها».

منطق الآية واضح أن المسيح مع تلاميذه الأخصاء بعد أن خرجوا من المجمع يوم السبت بعد إخراج الشيطان، ذهبوا إلى بيت سمعان ليأكلوا أكلة السبت الرئيسية لأنهم يذهبون إلى المجمع صائمين. ويلاحظ أن ق. لوقا يسقط أسماء التلاميذ الأخصَّاء وكأنها معلومة فرعية، وبالأكثر لأنه لم يكـن قـد تحدث عن اختيار التلاميذ الذي استوفاه في (1:5-11).

«قد أخذتها حمى»: συνεχομένη πυρετῷ

اصطلاح مناسب للإصابة بالحمى، وهو اصطلاح طبي يناسب مهنة ق. لوقا، وقد كرره في إنجيله ست مرات وفي الأعمال ثلاث مرات. ولم يرد إطلاقاً في إنجيل ق. مرقس، ومرة واحدة فقط في إنجيل ق. متى (24:4). كما يلاحظ أنه يؤكد شدة الحمى ، حمى شديدة، محاولا أن يصـف خطورة الوضع، وغالباً كانت المريضة تئن وتضج. وأيضاً لكي يظهر أهمية المعجزة لإخراج الحمى بكلمة. والعجيب أن ق. لوقا يتدخل هنا ليصف الحمى بنوع خاص معتمداً على رواية ق. مرقس، مع أن ق . مرقس لم يزد قولاً عن «محمومة»

«فسألوه من أجلها» من واقع الحال، متأثرين بقوة عمل المعجزة السابقة.

39:4 «فوقف فوقها وانتهر الحمى فتركتها! وفي الحال قامت وصارت تخدمهم».

واضح أن حماة بطرس كانت منطرحة على فراش موضوع على الأرض، لهذا كان اقتراب المسيح منها يعتبر أنه وقف أعلى منها. وحينئذ انتهر الحمى كما انتهر الشيطان بسلطانه القاهر للعدو وأعماله الخفية والظاهرة، كما انتهر الريح والبحر أيضاً. ويبدو أن ق. لوقا بهذا يظهر أنه كان يعتقد أن الأمراض أيضاً هي من جراء أعمال العدو بصورة ما. وقد أبرز هذه الحقيقة في حديثه عن المرأة المنحنية: «وهذه وهي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة أما كان ينبغي أن تُحل من هذا الرباط في يوم السبت.» (لو 16:13) 

ويلاحظ أن أمر الرب نفذ في الحال والتو تنفيذاً قوياً كاملاً حتى وكأنها لم تكن مصابة قط، حتى أنها قامت وخدمتهم كأصول الضيافة، وخدمتها كانت للجميع. ويلاحظ أن كلمة الخدمة التي اختارها ق . لوقا هي الكلمة التقليدية للخدمة في المسيحية الخاصة بالسيدات، علماً بأن النسوة كن ممنوعات من خدمة الرجال على المائدة قانونياً وعرفاً.

( د ) شفاء المرضى بعد غروب الشمس (41,40:4)

(مت 16:8-17) (مر32:1-34)

بعد حادثتي الشفاء المنفردتين، في المجمع وفي بيت سمعان، يدخل ق. لوقا في شفاء الجموع المزدحمة حول بيت سمعان الذين اجتمعوا من الكور المحيطة، وظهروا بعد غروب الشمس أي في بدء اليوم الجديد (الأحد) الذي يبدأ من بعد غروب السبت. وقد تركزت غالبيتها في الذين استحوذ عليهم الشيطان والأرواح الشريرة الذين اعترفوا بصراخ بالمسيح أنه ابن الله، الأمر الذي ضايق المسيح فكـان يسكتهم عنوة. والروايـة مأخوذة بجملتهـا مـن إنجيل ق. مرقس (32:1-34) بتغييرات طفيفـة وحـذف الحواشـي كـعـادة ق. لوقـا. ولكـن يمتـاز ق. لوقا في هـذه من الأنواع . الأشفية للمرضى بذكر وضع اليد عليهم، التي ظهرت في إنجيل ق. مرقس في (31:1) بمسك اليد وليس وضع اليد.

40:4 «وعند غروب الشمس، جميع الذين كان عندهم سقماء بأمراض مختلفة قدموهم إليه، فوضع يديه على كل واحد منهم وشفاهم».

القديس لوقا أممي وليس يهودياً، أما ق. مرقس فهو يهودي قح. كان ق. مرقس يعرف معنى غروب الشمس إذ تفصح عن ذهاب السبت وبدء يوم جديد، لذلك قالها واضحة: «ولما صار المساء إذ غربت الشمس» (مر 32:1)، أما ق. لوقا فاكتفى بالقول: «عند غروب الشمس»

«عند غروب الشمس»: 

لكي يتوافق ذلك مع قانون السبت، كان لا بد من التأكد من غروب الشمس تماماً. ويسمى “المساء”، ، فمن المساء إلى المساء يوم واحد 24 ساعة تماماً.

«سقماء بأمراض»:

الاصطلاح الطبي للشقـم بالمرض، كما نقول بالبلدي: “عيان بالسرطان” أو “عيان بالشلل، فالكلمة الأولى تفيد الوقوع في الشقم والثانية نوع المرض.

لم يذكر القديس لوقا من قصة إنجيل ق. مرقس الازدحام على باب بيت بطرس، تلك التي أعطت صورة واضحة ليوم ازدحم بالشفاء.

«فوضع يديه على كل واحد» :

وصف طبي بديع، هنا يسرب المسيح قوة من عنده لكل مريض ضعيف ليشفى ويتعافى معاً، مثل: « قوة قد خرجت مني» (لو 46:8) التي سرقتها المرأة نازفة الدم. هنا وضع اليد للشفاء أخذته الكنيسة كوضع تقليدي لتوصيل قوة المسيح للشفاء بالروح القدس. وقد كرر هذا الوضع القديس لوقا في (13:13؛ 13:5)، وقـد جـاء أيضـاً في إنجيـل ق. مرقس (23:5و41؛ 5:6؛ 32:7؛ 23:8و25). علماً بأن الشفاء بوضع اليد كان غير معروف في اليهودية.

41:4 «وكانت شياطين أيضـا تخـرج مـن كثيرين وهي تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله ! فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون، لأنهم عرفوه أنه المسيح».

وضع غريب نوعاً ما في الأصل اليوناني إذ بدأ الجملة بكلمة «تخرج» قصداً منه لإبراز قوة الفعل الذي مارسه المسيح عليهم. ولكـن مـن الملاحظ جداً أن ق. لوقا حاول أن يجعل العملين مترافقين: شفاء المرضى وإخراج الشياطين، باعتبار أن أصلهما واحد. وصياح الشياطين هنا بقصد التشويش ولكن باعتراف عن حقيقة المسيح «أنت المسيح ابن الله» وقصد الشيطان كشف رسالة المسيح للضرر وليس للفائدة، فأخرسه المسيح. أما القصد الإلهي المتحكم في صراخ هؤلاء الشياطين فهو منعها من الإقلال أو التحقير من شخص المسيح، حتى لا تُعطي أعـداء المسيح فرصة للتقليل من شأنه وشأن خدمته كما كانوا يحاولون، بل هنا تعطي الحكم القاطع في من هو المسيح كابن الله حتى يقطع خط الرجعة على الأعداء ويجعل عدم إيمانهم بالمسيح ابن الله أنهم أقل من الشياطين بصيرة ومعرفة وإيماناً.

وقول ق. لوقا أن الشياطين تصرخ وتقول «أنت “المسيح ابن الله» لم يقصد به الاعتراف الكامل بالمسيا، ولكن كون يسوع أعظم من صورته البشرية المنظورة قادراً أن يخرج الشياطين بقوته الذاتية فهو مخلص سمائي وليس مخلصاً سياسياً.

كذلك فإن «المسيح ابن الله» حينما ثقال وسط اليهود فهي ذات طابع مسياني فائق، وقصد الشيطان هو كشف رسالة المسيح التي حرص المسيح أن يجعلها على المستوى السري حتى تكمل إلى النهاية. ولكن بالرغم من محاولات المسيح لإخفاء حقيقة مسيانيته علنياً إلا أن الذي حدث دائماً هو محاولات الإعلان عنها بغير إرادته.

( هـ ) ترك المسيح لكفرناحوم (42:4-44)

(مر 39-35:1)

كان يوماً حافلاً بالأعمال الخلاصية الرائعة بالنسبة للبشرية الحزينة المكبلة بسلاسل وربط فوق استطاعتها أن تحركها ولو إلى لحظة، الشياطين الذين استبدوا بضعفاء الشعب وأهانوا بشريتهم وأذلوا فخر الإنسان ومحمد الله فيه، الأمراض التي أنهكـت قـواهـم وأضاعت منهم معنى الحياة. وهنا يلقي القديس لوقا منظراً إبداعياً لمعنى عمل الخلاص الشامل واستعادة الحرية والراحة وفرحة الإنسان بحياته وإلهه مرة أخرى. لقد أثبت المسيح أن الله محب البشر حقتًا، وأنه خلق الإنسان ليسعد بالله وبأعماله.

لقـد حـاول سكان كفرناحوم بعـد هـذه الظاهرة الخلاصية المنقطعة النظير أن يمسكوا المسيح ويحتفظوا به في بلدتهم. ولكن هنا يبرز المسيح معنى الخلاص العام ورسالة المسيح الشمولية، فهو لكل أرض اليهود وليس لكفرناحوم، جاء لينشر عمل ملكوت الله ومعرفة الخلاص وتذوقه بالفعل على أساس الحياة اليومية.

ولو أن ق. لوقا ينقل عن ق. مرقس نفس الفصل (35:1-39)، ولكن يبدو أن ق. لوقا عـاد أيضاً بالإضافة إلى ذلك إلى مصادر تقليدية أخرى أكمل منها الصورة كلها.

ويلاحظ أن ق. لوقا استبدل تعقب التلاميذ للمسيح في خلوته ـ كما جاء في إنجيل ق. مرقس – بتعقب الشعب. وبالنهاية أوضح ق. لوقا الخط اللاهوتي الصحيح من فم المسيح: «ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله لأني لهذا قد أرسلت، فكان يكرز في مجامع الجليل.» (44:4)

42:4 «ولما صار النهار خرج وذهب إلى موضع خلاء، وكان الجموع يفتشون عليه. فجاءوا إليه وأمسكوه لئلا يذهب عنهم».

 في الفجر قام المسيح والناس نيام وخرج دون أن يدروا إلى مكان منفرد، ولسبب ما أمسك القديس لوقا عن تكميل التقليد عند القديس مرقس أنه كان يصلي، ولكن فيما بعد في (16:5) يورد هذا الخبر: «وأما هو فكان يعتزل في البراري ويصلي» ولكن يبدو أن العامل الذي استرعى انتباه القديس لوقا هو منهج المسيح التعليمي أن رسالة المسيح ينبغي أن تشمل جميع البلاد، فلم يرد أن يضع بجوارها حقائق أخرى، لأنه لم يكـن بعـد قـد شـرح لتلاميذه شيئاً عن رسالته؛ خاصة وأن الشعب أراد أن يستخدم الضغط على المسيح حتى يبقوه في بلدتهم. ولكن رسالة الخلاص للجميع!

43:4 «فقال لهم: إنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله، لأني لهذا قد أُرسلت».

ولو أن المسيح هو المتكلم وقد أشار إلى عملية انتشار الملكوت بكلمة «ينبغي لي» ولكنها أتت في المفهوم الإلهي أنه يتحتّم، وهو ما تقابله أيضاً كلمة ينبغي must = ” لكي يشعر الشعب أن المسألة أخطر من مشيئتهم وأكثر من مسرتهم في القرب منه. فإرادة الله التي يتحتم أن تسود وتنفذ هي أن البشارة بالملكوت تعم البلاد إلى أوسع مستوى.

«أبشر»: 

في إنجيل ق . مرقس جاءت يكرز (مر 38:1)، ولعل كلمـة يبشـر تـوافـق التعليم بالإنجيل أكثر من الكرازة بالملكوت، فالكرازة تسبق التعليم، ولقد كرر القديس لوقا هذا الاتجاه كثيراً: «وعلى أثر ذلك كان يسير في مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر. »(لو 1:8)

واضح أن ق. لوقا يركز أن ملكوت الله هو دائرة نشاط وعمل وتعليم المسيح لتمكين الخلاص لكل إنسان، وهو المجال الإلهي الجديد الذي يخلقه المسيح خلقاً في عالم الإنسان. لذلك فهي عملية إلهية غاية في الأهمية أعطاها الله الأهمية القصوى وحملها المسيح بأقصى جهد واهتمام، وعليها انتظار الخليقة منذ الأزل!! وهي ستظل سائرة بقوة دفعها السري من قبل الله والمسيح إلى أن تكمل بحسب قصـد ومشيئة الله حيث يختم على هذا الزمان. فطالما يوجد وقت ويوم وساعة فلابد أن يكرز ويبشر بملكوت الله. وقد صورها ق. مرقس أولاً وأخذها عنه ق. لوقا: «لهذا قد أرسلت» فملكوت الله هو رسالة المسيح التي لن تنتهي إلا بانتهاء الزمان !

44:4 «فكان يكرز في مجامع الجليل».

واضح أن مركز خدمة الكرازة والبشارة كان في المجامع حيث يجتمع اليهود ويعلم المسيح علناً: « أجابه يسوع (رئيس الكهنة) أنا كلمت العالم علانية. أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائماً وفي الخفاء لم أتكلم بشيء.» (يو 20:18)

لاحظ أن المسيح لم يكن قد انحدر إلى اليهودية بعد.

زر الذهاب إلى الأعلى