تفسير إنجيل لوقا أصحاح 10 للأنبا غريغوريوس
الفصل العاشر
10: 1- 16 إرسالية السبعين رسولاً:
وبعد ذلك عين الرب سبعين رسولاً آخرين، من الذين آمنوا به إيماناً صادقاً وعميقاً, وكما شاءت حكمته أن يعين تلاميذه الاثني عشر بعدد أسباط بني إسرائيل الاثني عشر (العدد 26)، شاءت حكمته كذلك أن يكون أولئك الرسل الذين عينهم بعد ذلك سبعين، بعدد السبعين شيخاً الذين أمر الله موسى النبي بتعيينهم ليعاونوه في إدارة شلون بني إسرائيل (عد11: 16 و17). وذلك لأن أشخاص العهد القديم لم يكونوا إلا رموزاً لأشخاص العهد الجديد.
وإذ كان مخلصنا مزمعاً الذهاب إلى عدد من مدن فلسطين ومواضعها لينادى فيها بتعاليمه، أرسل قبله أولئك السبعين إلى كل تلك المدن والمواضع ليـهـيـكـوا أذهان أهلهـا لمـجـيـنـه إليـهـم، ولتعاليمه التي سينادي بها بينهم. وقد أرسلهم إثنين إثنين ليعاون كل منهما الآخر إذا احتاج إلى معاونة، وليدفع عنه الأذي إذا هدده أي أذى، وليعود ليشهد بما حدث له إذا دهمه أي حادث منعه من العودة .
وقد زود مخلصنا أولئك الرسل بتعاليمه ووصاياه وإرشاداته، كي ينجحوا في أداء رسالتهم. ويؤدوها على أكمل وجه يليق برسل المسيح وخدامه الذين ينبغي أن يكونوا كاملين، وليضربوا بأنفسهم المثل للذين أرسلهم إليهم على الإيمان به والعمل بما ينادون به بينهم من التعاليم التي تعاليمه. فقال لهم إن الحصاد كثير وأما العمال فقليلون، فاضرعوا إلى رب الحصاد أن يرسل عمالا لحصاده، . أي أن المحتاجين للخلاص والراغبين فيه من الناس كثيرون. وأما الخدام المؤمنون الصادقون الصالحون لخدمتهم والقادرون على أن يقودوهم في السبيل إلى هذا الخلاص الذي جاء به مخلصنا فما زالوا قليلين. فليداوم الرسل على الصلاة وهم ذاهبون لأداء خدمتهم التعليمية التي كلفهم بها، ضارعين إلى الله رب الناس جميعاً أن يجعلهم قادرين على جذب عدد كبير من المؤمنين الصادقين الصالحين مثلهم لأن يكونوا خداماً لكلمته، ولأن يقودوا إلى الخلاص أولئك المحتاجين للخلاص والراغبين فيه. ثم قال لهم ،اذهبوا. ها أناذا أرسلكم كحملان بين ذئاب . إذ كان يعلم – له المجد – أن أولئك الرسل الذين يشـبـهـون الحـمـلان في وداعتهم وتواضعهم ومسالمتهم، والذين دريهم هو على أن يكونوا كذلك، وأوصاهم بأن يظلوا كذلك، ليكونوا جديرين بأن يكونوا رسلا له ومتكلمين باسمه ومنادين بكلمته، سيجدون أنفسهم أينما ذهبوا، بين أناس يشـبـهـون الذئاب في شـراسـتـهم وشكاسـتـهم وغدرهم ومكرهم وشرهم ووحشيتهم، وأن هؤلاء لن يفنأوا حين يرونهم يعوون عليهم كما تعوى الذئاب على فرائسها، وينقضون عليهم وينهشونهم بأنيابهم كما تنقض الذئاب على فرائسها وتنهشها بأنيابها ويعملون على الفتك بهم وافتراسهم كما تفنك الذئاب بفرائسها وتفترسها. فليتوقع الرسل ذلك، وليوطنوا أنفسهم على إحتماله، وليتذرعوا بالحكمة فيما يقولون ويفعلون على مقتضى تعاليمه ووصاياه وإرشاداته، لينجوا من كل شر، ولينجحوا في أداء رسالتهم التي أرسلهم لأدائها.
وإذ كانت رحلتهم في هذه المرة قصيرة الأمد لا تستغرق إلا زمناً وجيزا، أوصاهم قائلاً ،لا تحملوا كيساً ولا حقيبة زاد ولا حذاءه ، لأنهم لن يحتاجوا إلى مال يضعونه في أكياسهم، ولا إلى زاد به د يملأون به حقائبهم، ولا إلى حذاء جديد غير الحذاء الذي في أقدامهم، وإذ كان ينبغي أن يسرعوا ما أمكنهم ذلك في إنجاز رسالتهم، أوصاهم بألا يعوقهم عائق في الطريق مهما كان عن الإنطلاق رأساً إلى حيث أرسلهم، فقال لهم ولا تسلموا في الطريق على أحده، لا لأنه أرادهم أن يمتنعوا عن القيام بهذا الواجب الإجتماعي الكريم، وإنما لأنهم لو ظلوا في الطريق يسلمون على كل من يصادقونه، فيستغرقون في ذلك وقتاً طويلاً يشغلهم عن غايتهم ويؤخرهم عن بلوغها في أسرع وقت، ولا سيما أن من عادة اليهود والشرقيين عموماً أن يطيلوا وقوفهم للتسليم بعضهم على بعض، ويقضوا في تبادل عبارات التحية والمجاملة وقتاً طويلاً. فإن كان هذا الواجب الإجتماعي – مهما بلغ من نبله ـ يعوق الرسل عن أداء واجبهم السماوي في خدمة معلمهم الإلهي، فليتجنبوه ، لأن الواجب نحو الله مقدم على الواجب نحو الناس.
وقد أرشدهم إلى السلوك الذي ينبغي أن يسلكوه في كل مكان يذهبون إليـه، قائلاً لهم أى بيت دخلتموه فقولوا أولا: السلام على هذا البيت. فإن كان هناك ابن السلام فسلامكم يحل عليه، وإلا يرتد إليكم. وأقيموا في ذلك البيت آكلين وشاربين مما لديهم، لأن العامل مستحق أجرته .لا تنتقلوا من بيت إلى بيت. وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم، فكلوا مما يقدم إليكم، وأشغوا الذين فيها من المرضى، وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوت الله». فبينما أوصاهم بألا يسلموا على أحد في الطريق لئلا يتأخروا عن أداء رسالتهم التي أرسلهم من أجلها، عاد فأوصاهم بأن يسلموا على أهل أي بيت يدخلونه، لأنهم بذلك يكونون قد بدأوا البدء اللائق في أداء رسالتهم ذاتها. إذ أن إلقاء السلام كما أنه واجب أدبي، هو واجب ديني، لأنه دعوة إلى السلام الذي هو غاية العهد الجديد. كما أنهم بهذا السلام الذي يلقونه على أهل البيت يمكنهم أن يتبينوا ما إذا كان أهل ذلك البيت مستعدين لقبولهم وقبول رسالتهم، وعندئذ يكونوا أهلا للسلام الذي ألقوه عليهم وطلبوه لهم. ومن ثم فليقيموا بينهم، وليبلغوهم رسالتهم. فإذا لم يقبل أهل البيت سلامهم، تبينوا من ذلك أنهم لن يقبلوهم أو يقبلوا رسالتهم. وعندئذ فلينصرفوا عنهم، مستبقين سلامهم لأنفسهم، مادام أهل البيت قد رفضوا ذلك السلام الذي ألقوه عليهم وطلبـود لهم . فإذا أقاموا في البيت الذي قبلهم أهله فليأكلوا وليشربوا مما لديهم، سواء أكان قليلاً أو كثيراً، وسواء أكان رديئاً أو جيداً، قانعين به، غير متطلعين إلى غيره من ألوان الطعام والشراب التي اعتاد الناس تقديمها للضيوف الأغراب، وفي نفس الوقت لا ينبغي أن يخجلوا من تناول ما لدى أهل البيت مما يأكلون ويشربون كـأنـهم متسولون يتسولونه، أو متطفلون يتناولون ما ليس لهم، لأنهم يقدمون لأهل البيت طعاماً روحياً يفوق في قيمته بغير قياس ذلك الطعام المادي الذي يقدمه أهل البيت إليهم، فهم يخدمون كلمة الله، وهم يستحقون نظير هذه الخدمة أجراً عظيماً لا أقل من أن يكون لقمة خبز يأكلونها، أو جرعة ماء يشربونها. وليمكثوا في ذلك البيت الذي قبلهم أهله، فلا يروحوا ينتقلون من بيت إلى بيت، لئلا يثير تنقلهم شبهات الناس في المدينة ولا سيما أصحاب السلطة فيلصقون بهم إتهامات هم أبرياء منها، كما أن مكوثهم في بيت واحد من بيوت المدينة ييسر للراغبين في الاستماع إليهم معرفة ذلك البيت الذي يلازمونه، فيصبح ذلك البيت بمثابة كنيسة للمؤمنين وللراغبين في الإيمان، ومن ثم يكون هذا عاملاً من عوامل نجاح الرسل في التبشير بكلمة الله . وليكن ذلك هو المسلك الذي يملكه الرسل في كل مدينة يدخلونها ويقبلونهم فيها: فليأكلوا مما يقدم إليهم. وليصنعوا معجزات الشفاء باسم معلمهم ليمهدوا الطريق لمجيله هو إلى تلك المدينة، وليقولوا لأهلها ، قد اقترب منكم ملكوت الله،، لان اليهود كانوا ينتظرون مجىء ذلك الملكوت منذ زمان بعيد، وكانوا يعلمون ـ طوال زمـان إنتظارهم – أن الذي سيجيء بذلك الملكوت هو المسيح ابن الله، فيكون ذلك القول من الرسل خير تمهيد لأذهان أهل المدينة للإيمان بمعلمهم، وبأنه هو المسيح الذي ينتظرونه ليخلصهم ويفتح لهم أبواب ملكوت الله الذي يتطلعون إليه .
ثم قال مخلصنا لمرسله “واية مدينة دخلتموها، ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى ساحاتها وقولوا: حتى الغبار العالق بأرجلنا من مدينتكم ننفضه عليكم. ولكن اعلموا أن ملكوت الله قد اقترب منكم. وإنني لأقول لكم إنه ستكون لسدوم في ذلك اليوم حالة أكثر إحتمالاً مما لتلك المدينة”. أي أن أية مدينة يدخلونها ويرفضهم أهلها، فليخرجوا إلى ساحاتها ليكونوا ظاهرين لكل الساكنين فيها بحيث يسمعونهم جميعاً، وليتبرأوا من تلك المدينة على رؤوس الأشهاد، نافضين على أهلها حتى الغبار العالق بأرجلهم منها، بعد أن أعلنوا لهم أن ملكوت الله قد اقترب منهم، فرفضوا هذه الحقيقة، فهم أبرياء مما سيلحق بهم من جراء ذلك الرفض. وسوف يكون ما سيلحق بهم من جراء ذلك الرفض رهيباً في يوم القيامة، بل سوف يكون أشد هولا مما سيلحق في ذلك اليوم بأهل سدوم الذين أنذرهم لوط فرفضوا إنذاره ، لأن أهل سدوم قد رفضوا إنذار إنسان، وأما أهل تلك المدينة الذين لم يقبلوا كلمة مخلصنا التي أرسلها لهم مع رسله، فقد رفضوا إنذار ابن الله، الذي هو الله ذاته. ولقد عمل الآباء الرسل دائماً بوصية معلمهم وسيدهم، ومن ذلك أنه جاء في سفر أعمال الرسل عن الرسولين القديسين بولس وبرنابا أنهما كرزاً بالكلمة في أنطاكية بيسيدية فرفض اليهود كرازتهما. وأثاروا إضطهاداً على بولس وبرنابا وطردوهما من تخومهم، فنفضا غبار أرجلهما عليهم وأتوا إلى إيقونية، (أع 13: 14 و50 و51) . وكذلك فعل القديس بولس في كورنثوس حيث كرز أيضاً لليهود.. ولما كانوا يقاومون كلمة الله ويجدفون، نفض بولس ثيابه وقال لهم: دمكم على رؤوسكم. أنا برىء، من الآن أذهب إلى الأمم (أي الوثنيين)، (أع 18: 6).
ثم أنزل مخلصنا نقمته وغضبه على المدن التي صنع فيها معظم آياته، ونادى فيها بأعظم تعاليمه ومع ذلك لم تؤمن بأنه هو المسيح ابن الله الذي تنبأ بمجـيـلـه الأنبياء، إذ نادى قائلاً الويل لك يا كورازين . الويل لك يا بيت صيدا. لأنه لو جرت في صور وصيدون المعجزات التي جرت فيكما لتابتا من قديم جالستين في المسوح والرماد. ولكنه ستكون لصور وصيدون في يوم الدينونة حالة أكثر إحتمالاً مما لكماء . أي أن المعجزات التي صنعها في كورازين وبيت صيدا ولم يؤمن أهلها اليهود به. لو أنه صنعها في صور وصيدون وهما مدينتان وثنيتان لا يعلم أهلهما شيئا مما يعلمه اليهود من أهل كورازين وبيت صيدا عن المسيح وعما تنبأ الأنبياء بشأنه لتاب أهل صور وصيدون عن كل ما ارتكبوا من شرور، ولكانت توبتهم صادقة عميقة حتى إنهم ليلبسون المسوح الخشنة ويهيلون على رؤوسهم الرماد تعبيراً عن ندمهم العظيم، ولذلك سيكون العقاب الذي سينالونه في يوم الدينونة أخف وطأة من العقاب الذي سيناله أهل كورازين وأهل صيداء لأن الذين لم يهدهم أحد إلى حقائق الإيمان، لهم عذرهم إذا لم يؤمنوا. وأما الذين يعلمون هذه الحقائق ولا يؤمنون فلا عذر لهم ولا مبرر لتخفيف عقوبتهم. بيد أن قوله ـ له المجد – إنه سيكون لصور وصيدون في يوم الدينونة حالة أكثر إحتمالاً مما لكورازين وبيت صيدا، يفيد تفاوت العذاب في يوم الدينونة، وهذا يوافق العدل الإلهي، لأنه يجازي كل واحد على حسب أعماله، (رو 2: 6)، (رو 14: 12) ، (رو 22: 12).
وإذ كان مخلصنا قد أقام معظم زمان خدمته في كفر ناحوم، وقد صنع فيها من المعجزات السماوية عدداً يفوق كل ما صنعه في المدن الأخرى. وألقى على مسامع أهلها من العظات والتعاليم الإلهية ما لم ينله أهل مدينة من المدن الأخرى، كانت نقمته عليهم ـ إذ لم يؤمنوا به – أشد، وكان غضبه عليهم أقوى من نقمته وغضبه على سواهم من أهل سائر المدن، ومن ثم نادي قائلاً ، وأنت يا كفر ناحوم أنحـسـبين أنك سترتفعين إلى السماء ؟ إنك سيهبط بك إلى الجحيم، . فلا يظنن أهل تلك المدينة أن كبرياءهم وزهوهم وافتخارهم بأنفسهم سيرتفع بهم إلى عنان السماء، وإنما سيؤدى كل ذلك بهم إلى العكس تماماً، إذ سيكون الحكم عليهم في يوم الدينونة هو الهبوط إلى أسفل سافلين، حيث الجحيم المقيم، عقاباً لهم على أن وسائط النعمة قد توفرت لهم وحلت بينهم فرفضوها، وأن كلمـات الخـلاص طالما أذيعت على مـسـامـعـهـم فلم يسمعوها، وأن رب النعمة والخلاص بذاته قد أقام في وسطهم، فأنكروه وتنكروا له وأبوا إلا أن يظلوا فيما هم غارقون فيه من ظلم وظلام، ويتمسكوا بما هم موغلون فيه من إثم وشر، فلا نعمة ولا خلاص لهم. وإنما نصيبهم هو النقمة ومصيرهم هو الهلاك .
ثـم قـال ـ له المجـد – لرسله من سمع منكم، فقد سمع مني، ومن ازدراكم. فـقـد ازدرانی. ومن ازدراني فقد ازدري الذي أرسلني، . ويدل ذلك على أنه أعطاهم تفويضاً كاملاً لأن يكونوا ممثلين شخصيين له في كل موضع يذهبون إليه، وقد فوض لهم أن يتكلموا باسمه. ومن ثم ينبغي على الناس أن يعاملوهم كما يعاملونه هو شخصيا: فمن سمع منهم وآمن بالكلام الذي أرسلهم ليقولوه، فإنما يكون بذلك قد سمع منه هو وآمن به هو. وأما من ازدراهم محتقراً إياهم، بهم، رافضا الاستماع إليهم، فإنما يفعل ذلك كله بابن الله الذي أرسلهم، وما دام يفعل ذلك بأبن الله، فإنما يفعل ذلك بالآب السماوي الذي أرسله، أي بالله ذاته. ومن ثم فهو يستحق الدينونة من الله، ومن ابن الله الذي هو الله في نفس الوقت، والذي له سلطان الدينونة في اليوم الأخير، وهنا سلطان الكنيسة، ومكانة رجـال الكهنوت فـيـهـا مـن حـيـث هم وكلاء الله، (مت 24: 45)، (تي 1: 7)، ووكلاء سرائر الله، (1كو 4: 1).
10: 17- 24 عودة السبعين بعد نجاحهم في مهمتهم :
وبعد أن أدى المرسل السبعون مهمتهم التي أرسلهم من أجلها معلمهم، رجعوا بفرح عظيم، لأنهم نجحوا في إنجاز تلك المهمة، وجاءوا إليه قائلين في ابتهاج «يارب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك،، لأنه كان قد أعطاهم حين أرسلهم سلطان شفاء الأمراض، وطرد الشياطين، ومن ثم كان إبتهاجهم ناجماً عن أنهم بإيمانهم وتفانيهم في خدمة رسالة معلمهم قد امتد هذا السلطان الممنوح لهم إلى مدى أبعد كثيراً، لأنهم استطاعوا أن يتغلبوا لا على الأمراض فحسب، وإنما كذلك على أعدى أعداء مخلصنا وأعدى أعـداء البشر جميعاً وأكثرهم شراً وشراسة وسطوة وجبروتاً وهو الشيطان، حتى استطاعوا باسم معلمهم أن يأمروه فيخرج من ضحاياه الذين احتل أجسادهم أو سيطر سيطرة كاملة عليهم. وقد أيدهم مخلصنا فيما ذكروه له قائلا لهم «إني رأيت الشيطان ساقطاً من السماء كالبرق،، أي أنهم بإيمانهم، وبإيمان الذين بشروهم في إرساليتهم قد أسقطوا الشيطان عن عرشه الذي يتربع عليه فارضا سلطانه ـ كأنه سلطان سماوي ـ على البشر جميعا، والذي لا يقوم إلا على مقاومة الإيمان بالله الآب، وبابنه الذي أرسله ليسقط الشيطان عن عرشه، ويجرده من سلطانه ويخلص البشر من ريقته. وقد قرر مخلصنا أن هذا قد حدث بالفعل، إذ رأى هو نفسه بقدرته الإلهية ذلك الشيطان يسقط من القمة الشاهقة التي وضع فيها نفسه سقوطاً سريعاً خاطفاً، كما يسقط البرق اللامع من السماء، ثم لا يلبث أن ينطفئ محترقا في الجحيم، وربما أشار مخلصنا بهذا أيضاً إلى سقوط الشيطان الأول، عندما تكبر، ونشبت حرب بينه وبين رئيس الملائكة ميخائيل، هوى بعدها الشيطان إلى الأرض ومـعـه مـلائكته التي انضمت إلى صفه وحاربت معه، كما يتضح ذلك في سفر الرؤيا (رو 12: 7- 9). وفي هذا بيان عن الوجود السابق للسيد المسيح بلاهوته قبل التجمد، كما أن فيه الدليل على ضعف الشيطان أمام قوة الله، وأن السيد المسيح بعد أن طرده من السماء جاء إلى الأرض ليطرده من كل من يؤمن به ريا وفاديا وينضم إلى مملكته التي تتعارض مع مملكة الشيطان، ومن ثم فلا عجب من خضوع الشياطين للرسل باسم السيد المسيح، إذ سبق للشيطان أن خضع مقهوراً لسلطان السيد المسيح عندما طرده ميخائيل رئيس ملائكته من السماء ، ولا حياة ولا قوة للشيطان إلا بالشر والكفر اللذين بتهما في بني الإنسان. فإذا تخلصوا بالإيمان من شرهم وكفرهم لم تعد له حياة ولا قوة، وإنما يكون مصيره الاحتراق والهلاك، وإذ كان الذين يحسنون الانتفاع بالنعمة التي يمنحها الله إياهم، يزيد الله من نعمته لهم، فقد قال مخلصنا بعد ذلك لرسله وها أنا ذا أعطيتكم السلطان لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يصيبكم شيء بضرر، أي أنه أعطاهم السلطان ليسحقوا الشياطين وكل أجناد الشر الذين ترمز إليهم الحيات والعقارب السامة القاتلة، وليقهروا ما لإبليس عدو البشر من كل قوة يتذرع بها لمحاربتهم والغتك بهم، حتى لا يقـوى شـيء بعـد ذلك ـ مـادامـوا مـتـمسكين بالإيمـان ـ أن يلحق بهم أي شر أو ضرر. على أن الرسل قـد داســوا بالفـعـل الحـيـات والـعـقـارب ذاتـهـا كـمـا جـاء فـي سـفـر أعمال الرسل (أع 28: 3 – 6)، قارن (مرقس ١٨:١٦)، وإن كـان قـد تصدى لهم من بين البشر مـن كـانوا بإساءتهم إليهم بمثابة الحـيـات والعـقـارب ومـا في حكمـهـا مـن وحـوش الأرض (1کو 15: 32)، وإذ كان الرسل يبدون أشد الفرح بذلك السلطان الذي تمكنوا به من إخضاع الأرواح النجسة وهزيمتها باسم معلمهم، أوضح لهم ـ له المجد – أنهم لا ينبغي أن يكون هذا هو مصدر فرحهم الحقيقي، لأن الفرح الحقيقي الذي ينبغي أن يفرحوا به هو أن تكون أسماؤهم قد كتبت في السماء. فإن هذا هو الأمر الذي ينبغي أن يفرحـوا بـه حـقا. ولذلك فإنه أحرى بهم أن يلتفتوا إلى خلاصهم الأبدي، فهو أولى بعنايتهم وأدعى لإهتمامهم أكثر من سلطان لم يعطه إياهم إلا لينشروا به الدعوة إلى ملكوت السماوات، ويحطمـوا قـوة العدو في الأرض، ويخلصوا الناس من عبوديته ليدخلوا في بنوة ملكوت مخلصهم. وكان هذا من فادينا تنبيها وتحذيرا لتلاميذه حتى لا يفقدوا خلاصهم، فإن للنجاح الذي أحرزوه تكاليف كبيرة تقتضيهم سهرا وتعباً في مواصلة الحرب ضد الشيطان وكل جنوده ، وإلا فقدوا إمتيازاتهم وخلاصهم، كما فقد يهوذا الاسخريوطي إمتيازاته وخلاصه، مع أنه كان واحداً من رسل المسيح الذين خضعت لهم الشياطين باسم المسيح .
وفي تلك الساعة تهال مخلصنا بالروح، وقد فرح فرحاً عظيماً نبع من روحه ذاتها وفاض منها، لنجاح كلمة الإنجيل التي هي جوهر رسالته والتي جاء من أجلها إلى العالم، ومن ثم توجه بالشكر إلى أبيه السماوي قائلاً «أشكرك أيها الآب رب السماء والأرض ، لأنك أخفيت هذا عن الحكماء والأذكياء وكشفته للأطفال . نعم أشكرك أيها الآب لأنه هكذا حسن لديك.. فعلى الرغم من أن مخلصنا .. كما علمنا ذلك منه ـ واحد مع أبيه السماوي، كان حين يصلى يرفع صلاته إلى ذلك الآب الذي هو من ذات جوهره، وهذا من أسرار اللاهوت يطو على مدارك البشر. بيد أن مخلصنا أراد بصلاته . فضلا عن تأكيد صلته الدائمة بأبيه ـ أن يعلمنا نحن البشر أن ترفع صلاتنا دائماً إلى الله أبينا كلنا، شاكرين إياه على كل حال وفي كل حال، ومن أجل كل حال، في السراء والضراء، وفي السعة والضيق، وفي الفرح والحزن، لأن كل شيء لا يتم إلا بمشيلته وبرضاء منه وبحكمة يهدف من ورائها إليه، وتهدف دائما إلى خير البشر وصلاحهم، إذ أنه هو ذاته خير مطلق، وصلاح مطلق. فلا يمكن أن يصدر عنه إلا الخير والصلاح، وقد وصفه مخلصنا في صلاته بأنه «رب السماء والأرض، ليبين أن سلطانه يشمل الكون كله، ومشيئته سارية على الكائنات كلها في كل مكان وزمان، وعلى كل المستويات من أعلاها إلى أدناها وجوداً، ومن أسماها إلى أحطها طبيعة . وقد توجه إليه هنا بالشكر لأنه بحكمته واستحسانه قد شاء أن يخفى تلك الأسرار السماوية التي تتضمنها شريعة العهد الجديد عمن يعتبرهم الناس حكماء وأذكياء، بما حصلوا عليه من حكمة دنيوية وذكاء بشرى، وكشف تلك الأسرار للتلاميذ والرسل الذين يشبهون الأطفال في بساطتهم وتواضع مركزهم الإجتماعي، والذين لم ينالوا قسطاً كبيراً من التعليم في المعاهد الدينية العليا لدى اليهود أو المدارس الفلسفية الشهيرة لدى العالم كله في ذلك العصر، يجعلهم أهلا لأن يكونوا في نظر الناس حكماء وعلماء، لأن التلاميذ والرسل لو كانوا من رؤساء الكهنة أو الفريسيين أو الكتـبة أو غيرهم من العلماء المتضلعين في الشريعة اليهودية، أو كانوا من مشاهير فلاسفة اليونان أو الرومان، لعزى الناس تعاليمهم التي ينطقون بها إلى ما حصلوا عليه من علم بالشريعة أو تعمق في الفلسفة، ولم يعتبروا تلك التعاليم السماوية من عند الله ذاته، وقد لقنها لأولئك التلاميذ والرسل البسطاء تلقيناً، وألهمهم بها إلهاماً، جاعلاً إياهم مجرد واسطة لنقل تلك التعاليم من الله إلى الناس.
ويجدر بنا هنا أن نذكر أن “التهلل بالروح”، الذي نسبه الإنجيل بهذه المناسبة إلى الرب يسوع هو من أفعال الروح الإنسانية في المسيح، لأن لمخلصنا إنسانية كاملة متحدة بلاهوته. والإنسانية فيها الروح كما أن فيها الجسد. وللروح الإنسانية إنفعالاتها بالفرح والحزن ، وهذا هو الدليل على أن الله الكلمة اتخذ له جسداً ذا روح إنسانية ناطقة عاقلة، ويتضمن ذلك كذلك الرد على ما زعمه أبوليناريوس الهرطوقي الذي أنكر وجود الروح الإنسانية في السيد المسيح، وقال إن اللاهوت حل محل الروح الإنسانية، وكما ذكر الإنجيل في هذا الموضع عن الرب يسوع أنه تهال بالروح، ، ذكر عنه في مواضع أخرى أنه «انزعج بالروح واضطرب، (يو 11: 38). وقال “وانزعج يسوع أيضاً في نفسه” (يو 11: 38) . وقال الرب يسوع ذاته «الآن نفسي قد اضطربت، (يو 12: 27)، وقال عنه الإنجيل ولمـا قـال يـسـوع هذا اضطرب بالروح. (يو 13: 21). وفي بستان جنسيماني في ليلة آلامه ابدأ يحزن ويكتئب» (مت 26: 38) وقال «إن نفـسـى حـزينـة حـتـى المـوت، (مت 26: 38)، (مر 14: 34) ؛ انظر أيضاً (لو 12: 50).
ثم التفت معلمنا إلى تلاميذه قائلاً كل شيء قد سلم لي من أبي، ولا أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يكشف له، . وهنا يؤيد – له المجد . تلك الحـقـيـقـة اللاهوتية الفائقة التي تتضمن أن الله الآب، لأنه واحـد مع الابن، سلّم إليه كل سلطانه، ومن ثم فإن سلطان الابن هو نفسه سلطان الله الآب. وأما كان الابن واحداً مع الأب في جوهر الألوهية الواحد، كان من الطبيعي ألا يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن. ولا يمكن لأحد . من البشر أن يعرف طبيعة الآب أو يعرف طبيعة الابن لأن طبيعة الآب والابن حقيقة إلهية لا يمكن أن يحيط بها إلا العلم الإلهي وحده ، ولا يمكن أن يحيط بها العقل البشرى مهما بلغ من العبقرية والذكاء. فالعقل البشري يعرف عن الله، ولكنه لا يمكن أن يعرف الله في حقيقته وجوهره . لذلك لا يعرف أحد من البشر من هو الآب إلا الابن، ولا من هو الابن إلا الآب . والمعرفة المقصودة هنا هي المعرفة الكاملة اليقينية المباشرة من غير واسطة. وبعبارة أخرى ليس أحد من الناس يمكنه أن يعرف من هو الآب في حقيقته وجوهره وطبيعته وذاته . لكن الابن وحده هو الذي يستطيع أن يعرف الآب في حقيقته وجوهره وطبيعته وذاته لسبب واضح وبسيط. ذلك لأن الابن، أي الله الكلمة، هو من جوهر الآب وطبيعته وهو كائن معه في ذاته، لأنه في الآب والآب فـيـه (يو 14: 10). ومن ثم لا يستطيع أحـد من الناس قط أن يعرف الابن في جوهره وطبيعته وذاته إلا الآب السماوي وحده . وحتى التلاميذ والرسل كانوا يرون الابن في الجسد ولكنهم لم يعرفوه المعرفة اليقينية الكاملة، كما يعرفه الآب، إنهم عرفوه في الظاهر من حيث هو إنسان، ولكنهم لم يعرفوه معرفة تامة في ذاته وجوهره . وهذا هو ما أعلنه القديس يوحنا المعمدان إذ قال لـلـيـهـود عن السيد المسيح إنه في وسطكم قائم من لا تعرفونه، (يو 1: 26). بيد أن الابن مخلصنا شاءت إرادته ـ من أجل خير البشرية .. أن يكشف لبعض من إختارهم من البشر، ومن بينهم وعلى رأسهم تلاميذه ورسله، هذه الحقيقة الإلهية ليؤمنوا بها كما ذكرها لهم، ويستوعبوها، لا بعقولهم البشرية القاصرة. وإنما بملكاتهم الروحية التي هي أقرب عناصر الكائنات البشرية قرباً في طبيعتها من طبيعة الله، ومن ثم فهي قادرة على أن تدركها، ولا سيما إذا استعانت في ذلك بالإيمان بفادينا الحبيب ابن الله وبقدرته الإلهية وعلمه الإلهي . وما من شك في أن هذا إمتياز عظيم أسبغه مخلصنا على تلاميذه ورسله، ونعمة فائقة خصهم بها، فوق امتيازهم والنعمة التي نالوها إذ أبصروا بعيونهم ابن الله الذي طالما اشتهي أن يراه كل أنبياء وملوك العهد القديم، وسمعوا بآذانهم تعاليمه التي طالما اشتهى أولئك الأنبياء والملوك أن يسمعوها . فلم يكونوا يرون من خلال النبوءات إلا قبساً من نوره يأتيهم أبعاد سحيقة كما يرى الإنسان وهو على الأرض نور نجم شاسع البعد في أقصى أرجاء السماء. ولم يكونوا يسمعون من خلال تلك النبوءات إلا أصداء شديدة الخفوت من صوته الإلهي وتعاليمه السماوية تأتيهم كإشارات غامضة ورموز مبهمة. وأما التلاميذ والرسل فقد سعدوا برؤيته هو ذاته بأعينهم، وسعدوا بسماع صوته هو ذاته بآذانهم، ومن ثم قال لهم «طوبى للأعين التي تبصر ما تبصرون، لأنني أقول لكم إن أنبياء وملوكاً كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون فلم يروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون فلم يسمعوا.
10: 25- 37 ماذا يعمل الإنسان ليرث الحياة الأبدية ؟
وإذا واحد من الناموسيين وهم علماء الناموس أي الشريعة اليهودية قام ليحرج مخلصنا، لأنّ الناموسيين والكتبة والفريسيين وكل فقهاء الذين اليهودي كانوا يناصبون مخلصنا العداء، غيرة منه وحسدا له وحقدا عليه، لأنه كان يندد بشرورهم، ويهدد ما كان لهم من مكانة عظيمة في المجتمع اليهودي، إذ استأثر بحب الشعب له والتفافهم حوله وإجلالهم إياه . ومن ثم كانوا لا يفتأون يحاربونه، ويراقبونه ليمسكوا عليه تهمة يتهمونه بها ليهلكوه . وكانوا لا يفتأون لذلك ينصبون له الفخاخ ، مستخدمين في ذلك ما يعرفونه من خفايا شريعهتم وخباياها، متظاهرين بأنهم يسألونه في مسائل تلك الشريعة ومعضلاتها ليستفيدوا من إجابته ويستنيروا برأيه وحكمته، في حين أنهم كانوا في الحقيقة يتصيدون من إجابته ما يعتبرونه مخالفة للشريعة تستوجب الحكم عليه بالموت. ومن ثم سأله ذلك الناموسي قائلا ، يا معلم ماذا أعمل لكي أرث الحياة الأبدية ؟، . بيد أن مخلصنا كان يعلم ما ينطوي عليه هذا السؤال من مكر وما يهدف إليه من غدر ومن إيقاع به في حبائل الشريعة اليهودية كما كان فقهاء اليهود يفهمونها ويفسرونها. فكانت إجابته مأخوذة ، من شريعتهم ذاتها، إذ سأل ذلك الناموسي قائلاً «ما المكتوب في الشريعة؟ ماذا تقرأ فيها؟». فأجاب الناموسي قائلاً ، تحب الرب إلهك من كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك، وتحب قريبك حبك لنفسك. فقال له مخلصنا بالصواب أجبت، افعل هذا فتحياء. وقد أفحمه مخلصنا بتلك الإجابة التي لم يكن ليستطيع أن يجد فيها أي تهمة يوجهها إليه، بيد أن الرجل أراد – لكي يخفى هزيمته ـ أن يتظاهر بمزيد من علمه، كما أراد أن ينتقل بمخلصنا إلى معضلة أخرى يدعى أنه يريد منه إجابة عنها، عسى أن يعثر في تلك الإجابة على تهمة يتهمه بها، فسأله قائلاً «ومن هو قريبي؟، وعندئذ ضرب له مخلصنا مثلاً يدفعه به لأن يصل إلى الإجابة عن سؤاله بنفسه، قائلا له رجل كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، فـوقع بين لصوص فجردوه من ثيابه وأصابوه بجراح ثم مضوا، تاركين إياه بين الحياة والموت . وقد اتفق أن كاهنا نزل في ذلك الطريق فـأبـصـره ، ولكنه تجاوزه ومضى. وكذلك لاوى بلغ المكان فأبصره، ولكنه تجاوزه ومضى، ثم مر به سامری مسافر، فلما رأه أشفق عليه وتقدم نحـوه وضمد جراحه وصب عليها زينا وخمراً، وحمله على دابته وجاء به إلى فندق واعتنى به. ثم في الغد وقد أزمع الرحيل، أخرج دينارين ودفعهما إلى صاحب الفندق قائلا له: اعتن به، ومهما أنفقت زيادة على ذلك فإنني عند عودتي أدفعه لك. فأي هؤلاء الثلاثة فيما تظن صار قريباً لذلك الذي وقع بين اللصوص ؟.. فقال «الذي أسدى إليه الرحمة، . فقال له . مخلصنا اذهب أنت أيضاً وافعل هكذاء . وبذلك جعل سيدنا ذلك الناموسي عالم الشريعة الخبيث الماكر الغادر يعترف بذات فمه أن السامري إذ أسدى الرحمة للرجل الجريح، أفضل من كهنة اليهود، وأفضل من اللاويين المختصين بخدمة هيكلهم، مع أن اليهود، ولا سيما علماؤهم الدينيون والمتزمتون منهم، كانوا يحتقرون السامريين – الذين هم طائفة من اليهود أنفسهم – ويتجنبون التعامل معهم أو مخالطتهم، معتبرين إياهم دنسين خارجين على الشريعة ملعونين من الله. كما جعل سيدنا ذلك الناموسي يعترف بذات فمه كذلك أن قريب اليهودي لا يلزم أن يكون من ذات جنس اليهود وحدهم كما كان اليهود يعتقدون، معتبرين غيرهم من الأجناس أنجاساً كافرين، ويعدونهم في حكم الكلاب، وإنما قريب اليهود هو كل من يصدى الرحمة إليه، مهما كان جنسه أو كانت جنسيته أو عقيدته. ولو كان مخلصنا قد قال هذا لذلك الناموسي مباشرة بغير هذا المثل الذي أدى به لأن يعترف بذلك بنفسه، لإتهمه الناموسي بالزندقة والتجديف ومخالفة الشريعة . ولجعل من ذلك تهمة يلصقها به ويشهرها في وجهه ليؤلب اليهود ضده ويتيح لرؤساء اليهود الفرصة للحكم عليه بالموت الذي كانوا يريدونه له. وهكذا أجاب مخلصنا عن سؤال الناموسي الإجابة التي تتفق مع تعاليمه السامية، وفي الوقت نفسه تجنب الفخ الذي نصبه له ليوقعه فيه.
10: 38 -42 اختارت مريم النصيب الصالح :
وفيما كان فادينا سائراً مع تلاميذه وهو في طريقه إلى أورشليم، دخل قرية كانت تسمى ابيت عنياء ، فرحبت به هناك امرأه اسمها مرثا في بيتها. وكانت لها أخت اسمها مريم، جلست عند قدمی فادينا تستمع إلى كلامه، في تقديس وإجلال ورغبة صادقة عميقة في أن تنهل من تعاليمه السمانية السامية، وقد استغرقها ذلك وشغلها عن كل شيء سواه ، في حين كانت مرتا أختها منهمكة جدا في الخدمة لتعد مائدة الطعام بما يليق بضيفها الجليل المقام، ومن ثم تقدمت إليه ووقفت قائلة «يارب أما يعنيك أن أختى تركتني أخدم وحدى؟ قل لها أن تساعدني، . فأجاب فادينا وقال لها «مرثا مرثا. إنك تهتمين مضطربة بأمور كثيرة، في حين أن الحاجة هي إلى قليل، أو إلى واحد. وقد اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها، وقد كانت مرثا تعتقد أن تعبها وانشغالها في إعداد ألوان كثيرة من الطعام والشراب لمخلصنا واجب ينبغي أن تشاركها فيه أختها، فأوضح لها مخلصنا أنها لا ينبغي أن تهتم بكثير من الأمور الدنيوية التي تتعلق بالطعام والشراب وغيرهما من إهتمامات هذه الدنيا الفانية، بحيث يشغلها ذلك عن الاهتمام بالأمـور السماوية التي تتعلق بالخلاص الأبدي، وإنما ينبغي أن تكون الاهتمامات الدنيوية للإنسان قليلة جدا بحيث لا تتعدى الأمور الضرورية واللازمة لحياته على الأرض. بل ينبغي إذا أمكن أن يتخلى الإنسان عن هذه الاهتمامات الدنيوية كلها، تاركاً كل أموره لتدبير الله وحده وعنايته ورعايته، وأن يكون اهتمامه الأوحد منحصراً في الاستماع إلى التعاليم الإلهية والعمل بها، لأن هذا هو السبيل الذي لا سبيل غيره إلى الخلاص من ربقة هذا العالم وشروره وخطاياه وأثامه، والانطلاق بأجنحة الإيمان إلى الأعالي، لاستحقاق نعمة ونعيم ملكوت السماء. وهذا هو ما فعلته مريم، إذ تركت كل أمر من الأمور الدنيوية التي كانت تشغل بال أختها مرثا، وحصرت كل همها واهتمامها في التطلع إلى معلمها الإلهي وهي جالسة عند قدمية، والاستماع إلى تعاليمه التي هي وحدها طريق الخلاص، وطريق الحياة الأبدية في السماء. فاختارت بذلك النصيب الصالح الذي ستدعم به إلى الأبد، والذي لا يمكن إنتزاعـه منها. على العكس مـمـن يحصرون كل همهم وإهتمامهم في الأرضيات، التي مهما كانت مزاياها وإمتيازاتها ومكاسبها، فائها مؤقتة ولسوف يأتي عليهم يوم تنتزع فيه منهم، فيخسرون بذلك حياتهم على الأرض كما يخسرونها في السماء على السواء .
وإن الكثيرين من الرهبان والراهبات يرون في مسلك مريم التي تركت كل شيء وجلست عند قدمي مخلصنا الصالح تستمع إلى كلامه، تصرفاً رائداً للسيرة الرهبانية الكاملة، حيث يحصر الراهب كل نشاطه الفكري والنفسي والعصبي والجسمي في خدمة الهدف الواحد، وهو الاتحاد بالله، والدخول معه في شركة روحانية نامة للحصول على النصيب الصالح بالرؤيا الطوباوية السعيدة .