عظات حول التطويبات للقديس غريغوريوس النيصي
التطويبة الثالثة
طوبى للباكين
1- ما وصلنا بعد إلى قمة الجبل، فنحن ما زلنا في تأملنا عند سفوحه، وإن عبرنا حتّى الآن بعض الممرات وبلغنا إلى الفقر المغبوط ، ووصلنا إلى الوداعة فارتفعنا أيضا.
من هذه التلال، يقودنا كلمة الله إلى أعلى ويرينا، مباشرة، وسط التطويبات، ارتفاعا ثالثا نستطيع البلوغ إليه، حين نزيل كل عائق ونحرك سلاسل الخطيئة، بحسب كلام الرسول (عب 12: 1) لنصل بسهولة وشجاعة إلى القمة، ونقترب من نور الحق.
أولئك الباكون
يقول الرب”: «طوبى للباكين لأنهم يُعزون». فالذي تشرَّب روح العالم يستطيع أن يضحك ويهزأ بالكلمة الإلهي، فيقول : إن دعا مطوبين أولئك الذين تثقلهم الشقاوات، فالويل للذين ليسوا تعساء ! » ويضحك أيضا أكثر حين يحدد مختلف فئات الشقاوات. محن الأرامل ومحن اليتامى، خسارة الثروة، الغرق، الأسر في الحرب ، حكم المحكمة القاسي، المنفى والحجز والطلاق، ونتائج الأمراض مثل العمى أو بتر الأعضاء أو عاهات الجسد. وإذا محنة أخرى ضربت الناس في حياتهم الجسمية أو الروحية، يعددها المتكلم كلها ليبرهن على بلادة الكلام الإنجيلي الذي يقول : «ما أسعد الذين يبكون ! »
لا نسمح أن ننغش عبر الذين ينظرون إلى حقائق الله بعقل فظ وجبان. لنبحث بحسب إمكاننا لكي نكتشف الغنى الذي يختبئ في هذا الكلام لنقيس المسافة التي تفصل بين الاعتبارات البشرية والأرضية وتلك التي هي رفيعة وسامية.
نبكي خطايانا
2- بدرجة أولى نستطيع أن نعتبر أولئك الذين يبكون ضلالاتهم وخطاياهم ، سعداء ، بحسب تعليم القديس بولس الذي يؤكد أن لا وجود لنوع واحد من الحزن، بل لنوعين : حزن بحسب العالم وحزن بحسب الله. الأول ينتج الموت والثاني يحمل الخلاص (2کو 7: 10).
فكيف لا ندعو استعداد قلب مثل هذا مطوبا، حين يرى الشر ويبكي حياة خاطئة. ففي عضو منخور على أثر حادث، يكون الشلل علامة جسد في طريق الموت. فإن توصل فن الطبيب أن يعيد الإحساس إلى هذا العضو، يفرح المريض والطبيب معا، ولو كان الإحساس إحساس وجع لأنّنا في وسعنا أن نستشف الشفاء.
كتب الرسول إلى الكورنثيين: إن بعضا منهم أضحوا بلا إحساس وتمرغوا في حياة خاطئة. فهؤلاء يتصرفون، بالنسبة إلى الفضيلة، مثل جثث لا حياة فيها، وما عادوا يعون ما يعملون.
– فإن أصابتهم كلمة خلاصية مثل دواء يشفي ويحرق – أفكر في تهديدات الدينونة – ينقلب قلبهم بالخوف الذي ينتظرهم : الرعدة من جهنّم، النار التي لا تنطفئ، الدود القارض، صرير الأسنان ، ،، البكاء الذي لا نهاية له، الظلمة البرانية – كل هذه العلاجات المحرقة والمرّة مجمد في أهواء الرذيلة وجعلته حياته الماضية، تستطيع أن تجعله سعيدا حين تدخل في أعادت الحياة لمن هو المستعملة، إن هي يعي النفس سبب الألم.
وعاقب بولس ذاك الذي، في انحرافه، نجس فراش أبيه. ما دام يظهر نفسه غير معني بما يتعلق بذنبه. وحين يبدأ علاج القصاص عمله ، يأتي ليعزيه لأنّ وجعه أعاد إليه الطوبى ، لئلاً «يغرق في حزن مفرط» (2کو 2: 7)، كما قال الرسول. مثل هذا المثل الذي يجعلنا في التطويبة ، ، لا يبدو بلا فائدة ليعد الإنسان لحياة فاضلة لأن الخطيئة تفيض في حياة البشر. والدواء هو دموع التوبة.
العزاء الآتي
3 ولكن يبدو لي أن كلمة الله يريد أن يعطينا علما أعمق أيضا، حين كلمنا عن هذا الحزن الذي يدوم. فلو أراد أن لا يتكلم إلا على الندامة على الخطايا، لكان قال : طوبى للذين بكوا (في الماضي) لا «الذين يبكون» (الآن وفيما بعد). وكأننا نقول : ما أسعد الذين كانوا مرضى لا الذين هم مرضى. فمواصلة العلاج تبرهن أن المرض يدوم.
ولسبب آخر يبدو لي مهما أن لا نحصر التطويبة في الذين يبكون خطاياهم. نحن نعرف أناسًا كثيرين يعيشون حياة لا لوم فيها، ويؤدي الله ذاته شهادة تامة على سلوكهم الصالح. من يتهم يوحنا بالبخل؟ وإيليا بعبادة الأوثان؟ هل يورد التاريخ عنهما أية خطيئة أو حتّى جهالة صغيرة؟ إذا ماذا؟
هل يريد الكلمة الإلهي أن يستبعدهما من الغبطة لأنهما ما بدأا يكونان مريضين، وبالتالي لم يكن لهما أن يلجأا إلى العلاج، أي الوجع والندامة؟ أما يكون من العبث أن نبعدهما من التطويبة لأنهما لم يخطأا ولا شفيا ذنوبهما في التوبة؟ عندئذ، أما يكون من الأفضل أن نخطأ من أن نكون بلا لوم، إذا كانت نعمة المعزي (الإلهي) لا تُمنح إلا إلى الذين يبكون ذنوبهم؟
«طوبى للذين يبكون لأنهم يعزون». لنتبع – حسب كلام حبقوق النبي – آثار ذاك الذي يجعلنا «نمشي على الأعالي» (حب 3: 19)، ولنبحث عن المعنى الخفي لهذه الأقوال فندرك إلى أي حزن هي موعودة تعزية الروح القدس.
سبب الدموع
نبدأ فنرى ما هو الغم وما هو سبب الدموع. من الواضح للجميع ، أن الغم هو حزن النفس، الذي يسببه حرمان من خير هو ثمين. فلا وجود للغم لدى الذين حياتهم ليست إلا فرحًا.
ها إنسان ينعم بالثروة. كل شيء ينجح له : يعيش في تناسق مع زوجته، وأولاده لا يحملون إليه سوى الرضى. يحميه إخوته الذين يشاركونه. هو معتبر في المجتمعات، مكرم لدى العظماء، مرعب للأعداء، في متناول أصدقائه. يشع بالرفاه، ويسبح بالملذات دون أي هم. صحته قوية جدا. وهو يملك كل ما يمكن لإنسان أن يرغب فيه على الأرض. مثل هذا الإنسان يلتذ بكل ما يملك.
ولكن إن تبدل الحظ وحرمه حادث أو انفصال عن أفضل أصدقائه، إن تحمل أضرارا هامة، وإن خسَّره المرض تكوينه القوي، فالحرمان مما كان يصنع فرحه يحرك العاطفة المعاكسة، التي ندعوها الحزن. إذا، التحديد الذي قدمناه هو صحيح : الغم هو الحزن لأنّنا خسرنا خيرا كان عزيزا علينا.
إذا فهمنا ما هو الغم البشري، فما هو معروف يقدر أن يضيء على ما هو لا معروف – مما يتيح لنا أن نعلم أي حزن يدعى مطوبا ويستحق أن يعزى. فإذا كانت، على الأرض، خسارة الخيرات تحرك الغم وإذا ما كان إنسان يبغي سعادة مجهولة، ينبغي علينا أن نعرف ما هو الخير وما الذي يكونه في الحقيقة، ونبدأ في استكشاف الطبيعة البشرية. عندئذ يمكننا أن نكتشف أي حزن يدعى مطوبا.
بين أعميين اثنين، واحد ولد بهذه الإعاقة، والآخر رأى النور ولكنّه خسر النظر في حادث مؤسف. فالحظ لم يجعلهما يتألمان بالشكل عينه. فالذي عرف ما ينقصه يتألم لأنه یری نفسه محروماً من النظر. والآخر الذي لم يعرف يوما مثل هذا الخير حتى اليوم، يحيا حياته دون أن يغتم. فبما أنه عاش دوما في الظلمة، لا يتخيل أنه حرم من خير ما.
الأول يتوق باندفاع ويجمع الوسائل ليستعيد خير النور لينال ما يعرف نفسه قد حُرم منه بشكل قاس. والثاني يحيا في الليل حتّى الشيخوخة، وبما أنه لم يعرف النور يعتبر أن حاله هي خير.
ونقول الشيء عينه عن الذي فهم ما هي الخيرات الحقيقية، وفي الوقت عينه فهم شقاءه : هو يعتبر نفسه تعيشا ويكون في الحزن لأنه خسر الآن هذا الخير.
فالكلمة الإلهي لا يدعو الدموع مغبوطة، لكن معرفة الخير ووداعة ذاك الذي يعرف نفسه وقد حرم مما يبحث عنه.
ماذا نطلب، من نطلب؟
4 لنبحث إذا عن هذا النور الذي لا تستضيء به مغارة حياتنا الحاضرة. فقد تتوق رغبتنا إلى ما لا يتحقق وإلى ما لا يدرك. فأي مصدر تفكير نمتلك لنستكشف طبيعة ما نبحث عنه؟ أي لفظ، أي لغة تقدم لنا تصورا يلائم النور الذي هو فوقنا؟ كيف نسمي ما لا نستطيع أن نراه؟ وكيف نعبر عما لا مادة فيه؟ كيف نجعل الناس يرون ما يهرب من النظر؟ وكيف نحيط ذاك الذي لا قياسات له أو قوام جسدي؟
ما هو بدون شكل، ما يفلت من الزمان والمدى، ما لا نهاية له والذي يفيض دوما فوق حدود كل تمثل نتمثله، والذي عمله هو الحياة وجوهر كل ما نضم في اسم الخير، الذي فيه نشاهد نحن كل ما يرفعنا، كل ما هو كبير: الألوهة، الملكوت، القدرة، الأبدية، اللافساد، الفرح، البهجة، وكل ما نستطيع أن نفكر أنه كبير ونتكلم عنه.
فكيف وبأي اعتبار نجعل تحت عيوننا هذا الخير الذي يرانا ولا يرى ، الذي يعطي الكيان لكل شيء ولكنّه موجود دائما بذاته دون أية حاجة بأن يصير؟
5- فإذا أردنا أن لا تتعب نفوسنا عبئًا فنكرس كلامنا إلى ما لا يدرك، لا نحاول أن نستكشف مدة أطول طبيعة الخيرات السامية ، لأنه يصعب علينا أن نفهمها. فنكون ربحنا على الأقل أنه إن كان يستحيل علينا أن ندرك ما نبحث عنه، فنمتلك على الأقل فكرة عن عظمة ما نبحث عنه. فبقدر ما نعي أن الخير، بطبيعته، يفلت من بحثنا ، بقدر ذلك نحزن، لأن الخير الذي نحن محرومون منه هو كبير جدا بطبيعته ، فتُفلت منًا معرفته ذاتها.
الخير الذي خسرنا
هذا الخير الذي يتجاوز ذهننا، سبق وامتلكناه، وكان كبيرا جدا فينا، بحيث إن البشرية التي هي نسخة عن النموذج الإلهي، تبدو وكأنها نالت تشويها. فما نفترضه على ذلك الآن، كان موجودا أيضا لدى الإنسان ، مع اللافساد والغبطة : سيادة واستقلالية، غياب الألم والجهد، حياة حميمة مع الألوهة، وفرح النظر لدى فكر فطن يدرك كل شيء بلا حجاب .
كل هذا عُرض علينا في ألفاظ قليلة في خبر الخلق حيث قيل : خلق الإنسان على شبه الله، وعاش في الفردوس، وذاق فيه وتلذذ بثماره. وثمرة الأشجار كانت : الحياة، المعرفة، وكل أنواع الخير.
فإن كنَّا امتلكنا كل هذا، فكيف لا نبكي على شقائنا، حين نقابل بهذه الغبطة شقاء حياتنا الحاضرة؟ سقطنا من أعلى أعلى إلى أسفل أسفل. وصورة ما كان سماويا صار أرضا، الرب غدا عبدا، وما كان خلق للخلود حكم عليه بالموت، ومن عرف لذات الفردوس حكم عليه بأن يكون في منطقة سيئة ومعادية، فاتخذ حياة عطيبة ومملوءة بالمحن. ومن كان سائدا ومستقلاً، ثقلت عليه الشرور الكثيرة بحيث يصعب عليه أن يحصي كل هؤلاء الطغاة.
كل هوى من أهوائنا يأمر علينا، حين يسود كمتسلط على الذين جعلهم في العبودية. فيشبه طاغيا احتل في هجمة واحدة قلعة نفسنا ، حينئذ تسيء إلينا بواسطة عبيده الذين يسودهم فيستعمل أفكارنا بقساوة بحسب ما يشاء. هكذا، الغضب، الخوف، الجبانة، الاعتداد، الوجع والشهوة، البغض، المنازعات، القساوة، الحسد، التملق، الانتقام، التكاسل، وكل الأهواء التي فينا تتصارع بعضها مع البعض الآخر : كلها أسياد وطغاة تخضع النفس وتعاملها كسجينة . فمن يذكر محن الجسد التي هي جزء من وضعنا، والأمراض الكثيرة التي لم تعرفها البشرية في البدء، يذرف أيضا دموعا أكثر حين يقابل بين السعادة والألم، بين الشرور والخيور.
6- والتعليم الخفي لذلك الذي يعلن الحزن سعادة، يريد أن يشجع النفس لتبحث عن الخير الحقيقي ولا تترك حالها تضل بأوهام الحياة الحاضرة. فالذي نظره دقيق إلى الوضع، لا يسعه أن يعيش بلا دموع. مثل هذا يسر بملذات هذه الحياة، لا يعرف ما هو الحزن فيشبه الحيوانات غير العاقلة فأي شيء أكثر تعاسة من أن تحرم من العقل؟ – فهؤلاء لا يحسّون إحساسا بالشقاء: تجري حياتهم مع مسراتها. الجواد لا يضبط، والثور عدواني. والخنزير ينتصب شعره ، والكلاب الصغيرة تلعب. والعجول تقفز، ولكل حيوان طريقته بالتعبير عن فرحه. فلو كان لها عقل لما أمضت حياتها البليدة والتعيسة في الفرح.
ونقول الشيء عينه عن الناس الذين لا يعرفون الخيرات التي حرمنا منها. فيقضون حياتهم في الملذات. والرضى عن نفوسهم يمنعهم أن يرجوا الأفضل. فمن لا يبحث لا يجد هذا الذي يكتشفه فقط من يبحث عنه. لهذا يدعو الكلمة الإلهي الحزن مطوبا، لا لأنه كذلك في ذاته، ولكن بما يفجر فينا. والسياق يبين لنا أن الحزن يتفتح في غبطة، في العزاء الذي نحصل عليه.
قال : «طوبى للذين يبكون». ولا يتوقف يسوع هنا، بل يواصل : «لأنهم يعزون».
فموسى الكبير – أو بشكل أدق، الكلمة (الإلهي) – سبق له وعرف الأمر بروح النبوءة، في فرائض الفصح السرية. فأمرهم بأن يأخذوا خبرا بلا فطير للعيد، وأن يتبلوا الطعام بالأعشاب المرة (خر 12: 8). يستنتج من هذه الصور أنّنا لا نستطيع أن نشارك في العيد السري إن لم نمزج الأعشاب المرة في هذه الحياة الحاضرة، بحياة بسيطة وبدون خمير (الخطيئة).
وداود الكبير، في ذروة مجده وملكه، تبللت حياته بالأعشاب المرة. فتأوه وبكى خلال حياة امتدت وامتدت، فرغب بأمور أفضل. قال : «ويل لي لأن منفاي يمتد» (مز 120: 5). وفي موضع آخر شاهد بعينين مندهشتين، جمال المنازل المقدسة وأحس أن الرغبة تعييه ، فقال : «الموضع الأخير في بيت الرب ولا الأول في بيوت الأرض» (مز 84: 11).
إذا أراد أحد أن يدرك بدقة طبيعة الغم الذي يحمل التطويبة ، ليتأمل مثل لعازر والغني حيث التعليم واضح. قال إبراهيم للغني : «اذکر أنك نلت خيراتك خلال حياتك، كما نال لعازر بلاياه. فهولايجد هنا التعزية وأنت الألم» (لو 16: 25). وهذا عدل : فغياب التفكير أو بالأحرى حساب رديء أبعد الغني من تدبير اللطف الإلهي من أجل البشر.
فالله أعطانا أن نتذوق الخير المنقى من كل شر، ومنعنا أن نمزجه مع الشر. لهذا، لأننا أشبعنا بشراهة من العكس، أي من العصيان لكلام الله، نختبر اختبارا مضاعفا، اختبار الغم واختبار الفرح.
هناك عالمان وكل منهما يقدم شكلين من الحياة. وهناك أيضا فرحان : فرح هذا العالم وفرح العالم الآتي حيث تتجذر آمالنا. مطوب هو ذاك الذي يراهن على الخيرات الحقيقية الموضوعة في الأبدية حين يقبل حزن الحياة الحاضرة والعابرة ويعرف أن يحرم نفسه من أفراح الوجود وملذاته، بانتظار الخيرات السامية.
فتقوم التطويبة بأن ننال، أبعد من الزمن، سعادة تدوم. وبانتظار ذلك ينبغي أن نقبل بالألم. وليس من الصعب أن نعرف لماذا دعا هذا النص المتألمين سعداء. ونحن نستقي التعزية في مشاركة مع المعزي (الإلهي). فالتعزية هي عطية الروح القدس التي توهب لنا بنعمة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد إلى أبدية الأبديات. آمين.