تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 13 للقمص متى المسكين

الأصحاح الثالث عشر:

6 – الحاجة إلى التوبة (1:13-9)

القديس لوقا وحده

حضر قوم ليخبروا الرب عن كارثة حدثت لجماعة من الجليل، إذ داهمهـم بيلاطس وهم يقدمون ذبائحهم فذبحهم وخلط دماءهم بدماء ذبائحهم ـ واعتقدوا أن ذلك كان بسبب خطايـا أولئك الجليليين. وأتت جماعة أخرى تخبره عن ثمانية عشر سقط عليهم البرج في سلوام فماتوا. وكان تعليق المسيح على هؤلاء وهؤلاء أنهم ليسوا من أجل أنهم أكثر خطية من باقي الجليليين أو أهل سلوام، ولكن الحقيقة إنه “إن لم تتوبوا أنتم فكذلك تملكون جميعاً”. ويبدو أن المسيح كان يتكلم عن كل إسرائيل وما خبأه لهم الله، إذا لم يتوبوا الآن وينتهزوا الفرصة قبل أن يأتي يوم الغضب. وقال المثل بخصوص شجرة التين التي لم تثمر وجاء زمان قطعها فتوسل لها الكرام لسنة أخرى أيضاً.

1:13 «وكان حاضراً في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم».

الكلام استمرار لما فات ومبني عليه، وهو يهدف إلى انتهاز فرصة للتصالح قبل أن يسلم المتنازع إلى القاضي فالحاكم فالحبس فالغرامة الشديدة. وهنا جماعة الجليليين الذين كانوا يقدمون ذبائحهم فداهمهم بيلاطس وأهلكهم، والفارق أن هنا لا توجد فرصة للتوبة، لأن زمان التوبة قد ولى، وهم يغرمون عمّا سبق، ثم يعلق المسيح على ذلك.

2:13 «فأجاب يسوع وقال لهم: أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين لأنهم كابدوا مثل هذا؟»

هنا الآية تُعطي بحد ذاتها نظرية روحية من حيث العقاب والدينونة في حدوث الحوادث والكوارث ومـن يموت فيها. إنه ليس بسبب خطايـا أكثر اقترفوهـا حـدث مـا حـدث، ولكنـه إنـذار مبكر لنوع غضب الله على الجميع إن لم يتوبوا.

3:13 «گلا أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون».

يلاحظ هنا أولا أننا في الطريق صاعدون إلى أورشليم، وأن رائحة الصليب تهب علينـا مـن وراء الكلمات، فكلها للقتل وكلها للدينونة وذكر الخطايا والتوبة. فالمسيح هنا متأثر بشدة العقاب الآتي على اليهود جميعاً وأورشليم خصوصاً والهيكل تحديداً؛ على هذا يصيغ الكلام والحوار. ومعنى كلامه أنه إن لم تثب إسرائيل جميعهـا فـالهلاك يترقبهم. فيمـا عـدا هـذا الحدث المريع الآتي على اليهود والعابدين في الهيكل، يكون موت هؤلاء وهؤلاء لا يتخطى القضاء والقدر، ولو أن المسيحية لا تؤمن بالقضاء والقدر، بل أن الله وتدبيره إنما يتدخل في كل حادث وحادثة مهما كان نوعها. فالله وليس القدر يدبر الكون كله. فلكل حادث سببه ولكل حادثة هدفها.

4:13و5 «أو أولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم، أتظنون أن هؤلاء كانوا مذنبين أكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم؟ كلا أقول لكم! بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون»

الرب هنا هو الذي يثبت ما قاله سابقاً بحادث آخر يحكيه، وهو عن الثمانية عشر الذين سقط عليهم برج سلوام، وهو داخل مدينة أورشليم نفسها، وكيف ماتوا. فالهلاك القادم لن يتأخر عن أربعين سنة أو أقل حيث تحصد أورشليم كلها بمنجـل مـلاك الموت، والهيكل يحرق وذبائحه فيه مع الذين يقدمونها، لأن ذنب إسرائيل قد فاق الحد. وقد سبق ووصف المسيح هذه الكوارث وصفاً يشيب له الولدان ويجزع منها الإنسان أشد الجزع. فغضب الله على هذا الجيل كان شديداً لأنهم فسدوا وأهانوا العلي وقتلوا الابن الوحيد وهو حامل ذنوبهم!! والمسيح هنا يركز على ضرورة التوبة كضرورة الحياة لأن الموت يترصدهم جميعاً. فهذان المثلان إنما يدخلان في التنبؤ بما هو آت، وإلى المزيد.

6:13 «وقال هذا المثل: كانت لواحد شجرة تين مغروسة في كرمه، فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد».

هنا يبدأ المسيح يصيغ المثل ليأتي محبوكاً على إسرائيل وخطيتهم. والكلام مرتّب على أساس ما هو في إنجيل ق. مرقس (13:11) (شجرة التين التي زارها جائعاً إلى ثمرهـا فـلـم يجـد فلعنهـا). فهذا الواحد كان ينتظر منها ثمراً يكافئ ما صنعه بها من معروف فلم يجد.

7:13 «فقال للكرام: هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمراً في هذه التينة ولم أجد. اقطعها. لماذا تبطل الأرض أيضاً؟»

قال هذا المسيح وهو في ختام السنة الثالثة من خدمته. ووضح في النهاية أنهم لم يستجيبوا لدعوة الملكوت، حسب المثل الذي قدمه عن اعتذارهم لتلبية الدعوة إلى الوليمة التي بعدها قطع السيد الداعي أنهم لن يذوقوا عشاءه (لو 24:14).

8:13و9 «فأجاب وقال له: يا سيد، اتركها هذه السنة أيضاً، حتى أنقب حولها وأضع زبلاً. فإن صنعت ثمراً، وإلا ففيما بعد تقطعها».

وكأنما لم يكن الكرام هذا إلا المسيح، والسنة أيضاً ، الباقية من حياته على الأرض، ولكنه قال هذا وهو عالم أن ساعتها قد جاءت حتى ولو سقاها بدمه، فقد استنفذت كل صبر الله: «إن صخرهم باعهم والرب سلمهم … إن يوم هلاكهم قريب والمهيآت لهم مسرعة.» (تث 32: 30و35)

وهكذا حينما يفرغ صبر الله تظل النعمة تترجى: «اتركها هذه السنة أيضاً» وصبر الله لا يفرغ أبداً، ولكن هو الإنسان الذي يستغل صبر الله حتى إلى نقطة الصفر. بمعنى أنه لا يعود قادراً أن يستجيب لصبر الله! وهنا تنبري غيرة الله على المحبة الضائعة لتفك ربطها:

+ «والآن يا سكان أورشليم ورجال يهوذا احكموا بيني وبين كرمي : ماذا يصنع أيضاً لكرمي وأنا لم أصنعه له؟ لماذا إذ انتظرت أن يصنع عنباً صنع عنباً رديئاً؟ فالآن أعرفكم ماذا أصنع بكرمي: أنزع سياجه فيصير للرعي، أهـدم جدرانه فيصير للدوس، وأجعله خراباً لايقضب ولا ينقب فيطلع شوك وحدك وأوصي الغيم أن لا يمطر عليه مطراً. إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل وغرس لذته رجال يهوذا. فانتظر حقا فإذا سفك دم وعدلاً فإذا صراخ.» (إش 5: 3-7)

هذا هو حب الله ونعمته بلاكيل، ولكن إذا استغلها الإنسان ولم يعط ثمراً تُنزع منه فيصبح بلا معونة ولا قوة ونصيبه يعطى لآخر. ويظل الله هو الحب والنعمة ولكن عند من يردها أثماراً وتقوى. 

7 – شفاء المرأة المنحنية (10:13-17)

القديس لوقا وحده

هنا يبدو الكلام مقطوعاً عن سابقه، كما سيقابلنا في نهاية هذا القسم أيضاً انقطاع مفاجئ (13: 22.21)، وكأنما الكلام المنتهي في (21:13) يعتبر ختاماً للقسم الذي بدأه في (1:12).

وهنا قصة شفاء المرأة المنحنية يقدمها ق. لوقا من وجهتي نظر : حيث يظهر أولاً رياء القادة اليهود كما حدث في (37:11-54)؛ عندما دعاه الفريسي للعشاء ولم يغسل الرب يده، وثانياً فإن هذه القصة في نفس الوقت توضح قوة الخلاص الذي يباشره الله في استخلاص الإنسان من براثن العـدو وتحطيم سلطانه. وهكذا تعطي هذه القصة علامة كان يجب على اليهود أن لا يغفلوها، ولكـن قـد انعمت عيونهم وشدت آذانهم وأغلظت قلوبهم. وفي هذه القصة بالذات يكشف الرب قوة الملكوت وسلطانه، مع أنها قصة عادية وبسيطة ولكن سلطان الله فيها قاهر! الذي ينبئ أن هناك تقدماً هائلاً، كما يكشفه المثلان اللذان سيعطيهما ق. لوقا هنا. وهكذا يختم ق. لوقا هذا القسم بإعلان مدى قوة المسيح في تكميل قصة الخلاص.

ومع أنها قصة بسيطة لامرأة مريضة تبدو مستحيلة الشفاء لمرضها المزمن الذي استبد بها، ولكنها كشفت عن صدام سافر بين رئيس المجمع العاتي والمسيح الطبيب الشافي.

10:13و11 «وكان يعلم في أحد المجامع في السبت، وإذا امرأة كان بها روح ضعف ثماني عشرة سنة، وكانت منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة».

 هنا ننبه القارئ العزيز أنها المرة الأخيرة في إنجيل ق. لوقا التي يذكر فيها أن الرب علم في المجمع، حيث المرة الأولى كانت في (16:4). وهنا يذكر الإنجيل أن المرأة «كان بها روح ضعف» بمعنى روح شرير مهنته أن يضعف قوة الإنسان ويحني ظهره إمعاناً في إضعافه. هنا المرض نحسبه عجزاً طبيعياً ولكن هو من صنع العدو، فالمرأة فريسة الشيطان ظلماً. ولكن الشفاء الذي أجراه المسيح بسلطانه ليس كحالة إخراج روح شرير ولكن شفاء بالسلطان الذي له، مما يجعلنا نحسب أن عمل الشيطان هنا ليس استحواذاً على الإنسان ولكن مجرد مسن obsession”. والشيطان قدير أن يعطي الضربة شكلاً طبياً رسميـاً، فهـذا المـس يحسـب مرضـاً طبيـاً عاديـاً، وهـو التصـاق في فقرات الظهـر  spondylitis ankylopoietica ، ولكن استطاع الطب أن يتعرف على حالات مثل هذه ليست مرضية عضوياً بل كحالة هستريا = skoliasis hysteriea ، وهي الأقرب إلى هذه الحالة من عمل العدو. ولكن لطول زمن المرض قد أثر في جسمها مما جعله أصبح مرضاً عضوياً، مما جعل المرأة غير قادرة على استقامة نفسها ـ وبالأخص الرقبة والرأس – بصورة كاملة.

12:13و13 «فلما رآها يسوع دعاها وقال لها: يا امرأة، إنك محلولة من ضعفك. ووضع عليها يديه، ففي الحال استقامت ومجدت الله».

إنها مبادرة سريعة من المسيح عندما لمحها دعاها مظهراً التحدي لنظام المجمع والسبت والشيطان معاً. فجاءت المرأة التي كانت واقفة بعيدة عنه وفي الحال وضع يديه الاثنتين عليها وأمر بشفائها. هنا وضع اليدين نسمعه لثاني مرة (لو 40:4)، وكان ملازماً لنطقه بالشفاء حيث تم الشفاء في نفس اللحظة.

كذلك نسمع لثاني مرة (لو 25:5) تمجيد الله يتم بواسطة المريض. ويبدو أن هذا كان بوحي وجودها في المجمع وكل الناس ناظرين.

14:13 «فأجاب رئيس المجمع، وهو مغتاظ لأن يسوع أبرأ في السبت، وقال للجمع: هي ستة أيام ينبغي فيها العمل، ففي هذه ائتوا واستشفوا، وليس في يوم السبت».

يلاحظ أن رئيس المجمع بقوله «ائتوا واستشفوا» يعترف بأنه قد حدث شفاء فعلاً. كما يلاحظ أنه احترس أن يهاجم المسيح ولكنه احتمى في الناموس، وكأنما يدعو الناموس أو موسى لكي يزجر المسيح عوضاً عنه! ولكنه لم يستطع أن يقف مكتوف اليدين أمام تحدي المسيح. وقول رئيس المجمع هو من التوراة (خر 9:20؛ تث 13:5).

ونجد مبادرة رئيس المجمع وهو مغتاظ جاءت سريعة وكأنما هي لدغة عقرب، لأن كل ما يملكه كرئيس مجمع هو حفظ السبت والخدمة الدينية فيه، وها هو المسيح يكسره علناً.

15:13 «فأجابه الرب وقال: يا مرائي، ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو حمارة من المذود ويمضي به ويسقيه؟»

يلاحظ القارئ أن ق. لوقا هنا أعطى للمسيح صفته المناسبة لسلطانه: «الرب» أما الصفة المناسبة لرئيس المجمع كما خرجت من فم المسيح: فهي «يا مرائي» فهنا في الحقيقة تحقيق تاريخي.

فالرب هنا هو يهوه وهو رب الناموس والسبت أيضاً. واستطاع الرب من الناموس ذاته أن يأتي بمثل يعطي للعمل الذي عمله صفته الرسمية الصحيحة، لذلك لم يعترض رئيس المجمع لأن المسيح كشف له رياءه بالفعل. ولكن إلى هذا الحد اعتبر اليهود أن الحمار يمكن أن يرحمه صاحبه ويسقيه في السبت ولكن أن تشفى امرأة مريضة من ثماني عشرة سنة فلا!! هذا هو الاستبداد باسم الدين.

16:13 «وهذه، وهي ابنة إبراهيم، قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت؟»

هنا يراجع المسيح رئيس المجمع: إن كان حلالاً فك رباط الحمار، ألا يجوز فك رباط الشيطان من هذه المرأة الذي ظل معقوداً في ظهرها هذه الثماني عشرة سنة؟ وهنا ينسب المرأة لإبراهيم، لأن إبراهيم كان بلا ناموس ولا سبت، على أن المسيح هنا لم يشف امرأة من مرضها فقط بل تحدى الشيطان وكسر سلطانه في يوم السبت. وكان يود أن يشفي الأمة اليهودية كلها التي أحنى ظهرها الشيطان ألفي سنة، ولكن هو أراد وهم لم يريدوا (34:13).

17:13 «وإذ قال هذا أخجل جميع الذين كانوا يعاندونه، وفرح كل الجمع بجميع الأعمال المجيدة الكائنة منه».

هكذا تنتهي هذه القصة المثيرة التي استظهر فيها المسيح على الشيطان وعلى رياء رئيس المجمع معاً، وأعطى الصحة والاستقامة مرة أخرى لهذه المرأة السعيدة بإظهار سلطان عمل الله فيها. ويلاحظ القارئ أن ق. لوقا اختار هذه القصة في هذا الموضع الذي قارب فيه من الانتهاء من سرد أعمال المسيح.

8 – حبة الخردل والخميرة الصغيرة (18:13-21)

(مت 31:13-33)
(مر 30:4-32)

يمتاز المثلان اللذان اختارهما ق. لوقا هنا ونحن صاعدون إلى أورشليم بأنهما يوضحان كيف يبدأ الملكوت من عمل صغير جداً كحبة الخردل، وكيف يتقوى ويشتد ويتضخم كعمل الخميرة في العجين. وفي المثلين النسبة بين البداية والنهاية كبيرة. ويمكن أن نعتبر وجهة النظر هذه بالنسبة للملكوت مترابطة مع خدمة المسيح السالفة، لأن بدايتها صغيرة ثم نموها وتأثيرها ونهايتها كبيرة. لذلك يعتبر هذان المثلان تعليقاً وتفسيراً لما حدث في كرازة المسيح من جهة الملكوت. كذلك انهزام الشيطان كان علامة لاستمرار وتقدم سلطان الله (20:11). وإن كان حدث شفاء المرأة المنحنية على سبيل المثال حدثاً صغيراً في حد ذاته، ولكن سلطان المسيح فيه وفي غيره يفوق الوصف بالرغم من المقاومات التي لاقاها. كذلك نفـهـم مـن مثـل حبة الخردل ومثل الخميرة الصغيرة في العجين أنه حينما يسوقهما المسيح لنا فهما يكشفان ضمناً ما هو الملكوت وما هو عمل المسيح في اعتباره الشخصي وإحساسه. وهذا يهمنا للغاية لأنه يعكس الغرض من خدمته وأعماله كلها، فإن بدت في أعيننا صغيرة جداً، إلا أنها انتهت بقوة وجبروت لتمتد من فوق رؤوسنا نحو النهاية الأخيرة والعظمى المخفية في قلب المسيح والتي رسمها الآب لتكمل بكل دقة. والملكوت في نظر المسيح لا يأتي فجأة ولا يبدأ بقوة كبيرة بل ينتهي بذلك، هذا نقرأه بوضوح في مثل حبة الخردل وفي فعل الخميرة الصغيرة. 

19,18:13 «فقال: ماذا يشبه ملكوت الله، وبماذا أشبهه؟ يشبه حبة خردل أخذها إنسان وألقاها في بستانه، فنمت وصارت شجرة كبيرة، وتآوت طيور السماء في أغصانها».

يسرد القديس لوقا هذا المثل متتبعاً ما جاء في (مر 30:4) ومستمراً في الحديث السالف. لأن الآية بدأت بالحرف (ف) «فقال» أي مترتّباً على ما مضى. وعلى الأرجح فإن المسيح لا يزال في المجمع معقباً على ما فات. أما تكراره كلمة «بماذا أُشبهه؟» فهي تعكس نيته في إعطاء مثلين وليس مثلاً واحداً، أي أن هذه المقدمة بالرغم من قصرها فهي بمهارة تضم المثلين. وإن كانت حبة الخردلnigra   Sinapis صغيرة فهي إذا نمت جيـداً تصـير شـجرة يصـل طولهـا إلى مترين تقريبـاً، والعصافير الصغيرة تتأوى فيها، وإن كانت حبة الخردل ليست بالصغر ولا الشجرة النامية منها ليست بالكبر المطلوب، فيوجد مثلاً بذرة شجرة التوت فهي في منتهى الصغر وشجرتها في منتهى الضخامة. ولكن قصد المسيح من المثل عامة: بذرة تبدأ صغيرة وتنتهي إلى شجرة كبيرة هو سرعة نموها نوعاً، فقد تأخذ ثلاثة أو أربعة شهور فقط. فهو يريد أن يصور كيـف بـدأ الملكوت صغيراً وكيف ينمو سريعاً، حيث الطيور تمثل الأمم.

21:20:13 «وقال أيضاً: بماذا أشبه ملكوت الله؟ يشبه خميرة أخذتها امرأة وخباتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع».

كلمة أيضاً هنا تزيد من إصرار المسيح على دقة وصف بداية الملكوت. فالخميرة عملها في العجين غير منظور ولكنها قطعة صغيرة توضع في ثلاثة أكيال دقيق؛ وهذا يساوي بمقاييسنا 4,25 جالون تقريباً أو حوالي 13 لتراً. وهي كمية من العجين تكفي لأكل 160 شخصاً بالقياس والتجربة. وهي في الأحوال العادية تأخذ الليل كله ليصبح الخبيز مختمراً. (هذا بحسب زماننا القديم، ولكن الآن ربما ساعة) ففي الصباح بحد العجين قد نما جداً وملأ الأجران أو الطشوت. وعمل الخميرة يعتبر ذا قـوة ونفاذ شديد في تخمير العجين. وهذا هو المطلوب من المثل بالنسبة للملكوت: قوة واستمرار التأثير.

وبهذين المثلين يلفت المسيح نظرنا لتقييم العمل الذي عمله بالقصص والتعليم وأعمال الشفاء، فهي وإن ظهرت في نهاية المطاف أنها كلها أعمال قليلة وصغيرة، ولكن بهذا المنهج أكمل المسيح كل ما يخص التعليم عن ملكوت الله. ولكن هذا نفسه نأخذه لأنفسنا لنعلم منه أن عمل الملكوت معنا وفينا يسير على هذا المنوال: بأقوال بسيطة في الإنجيل وبأعمال قليلة بحسب الوصايا، ينمو فينا الملكوت أو ننمو نحن فيه ليملك علينا الحياة كلها وإنما بصورة خفية غير منظورة، كعمل الخميرة في العجين ونمو الشجرة من البذرة.

(هـ) الطريق إلى الملكوت (22:13- 35:14)

أيضاً يبتدئ هذا القسم كاستمرار لما مضى، حيث غاية التوبة والحاجة إليها والقطع بها قطعاً حاسماً ضرورة تضم الآيات (22:13-30) إلى (1:13-9). وذلك أولاً لأن (23:13-30) يسأل عن دخول الملكوت، ثانياً لأن (1:13-9) يحكي عن ضرورة التوبة: «وإلا جميعكم تملكون» وهو التهديد بالحرمان من الملكوت لمن لم يتوبوا. لذلك فالقسم الذي يبدأ من (22:13) إلى (35:14) هو للذين تابوا أو للتائبين. علماً بأن تحديد الأقسام التي نقترحها في تقسيم الأصحاح ليست بالضرورة واضحة، لذلك لا ينتظر القارئ أنه بالاستطاعة ربط المواضيع التي جمعها ق. لوقا من مصادر مختلفة.

1 – الدخول إلى الملكوت(22:13-30)

 ( مت 23,22,14,13:7 ، 12,11:8)

يبتدئ هذا القسم بتذكيرنا أننا لا نزال سائرين في الطريق نحو أورشليم، نحوز القرى والمدن والمسيح يعلم صاعداً إلى حيث سيتألم. وفي سياق الكلام يوضح أولاً: الخطورة التي تواجه رسالة المسيح، وثانياً: الرفض الذي يقابله المسيح باستمرار وموته في أورشليم. ويبتدئ الحديث بسؤال يسأل عـن دخـول الملكوت، فيبتدئ المسيح يصف أهمية انتهاز الفرص للدخول للملكوت في طريقه الضيق قبل أن يقفل الباب. وهنا يطرأ على الفكر أمران: الأول إن مدى فرصة الدخول محدود بالدينونة القادمة. والثاني إن دخول الملكوت لا يتم بمجرد السمع لكلام المسيح والسير معه ولكن بمقدار التوبة وجديتها. أما يوم القضاء للدينونة فهو سيذهل كل توقعاتنا حيث سيقلبها قلباً، لأن موازين تقديراتنا بالنسبة للعدل والرحمة خاطئة للغاية. على أنه يلزم أن نعرف أن وصف ق. لوقا للباب الضيق (24) غير ما وصف ق. متى (13:7 إلخ)، وذلك لالتجائهما إلى مصادر مختلفة. كذلك هناك اختلاف في التقليد هنا وهناك لاختلاف الزمان والمكان. ولكن على أي حال، فإن ق. لوقا قد احتفظ بالأصل الذي كان أمامه.

22:13 «واجتاز في مدن وقرى يعلم ويسافر نحو أورشليم».

هـذا كـلام يربط به القديس لوقا الآتي بالذي مر علينا (51:9)، منبهاً أننا صاعدون الآن إلى أورشليم والمسيرة للتعليم عبر القرى والمدن.

23:13و24 «فقال له واحد: يا سيد، أقليل هم الذين يخلصون؟ فقال لهم: اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق، فإني أقول لكم: إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون».

هنا مفهوم السؤال هو الخلاص بالنهاية، ويتضمن الدخول إلى الملكوت والحصول على الحياة الأبدية أي الحصول على السعادة الأبدية. والسائل يسأل: هل هم قليلون؟ وهذا السؤال سؤال الساعة لكل إنسان يسعى في الطريق. وقد وضعه ق. لوقا هنا ليفتح به الكلام عن الملكوت. ورد المسيح بأن يجتهدوا للدخول من الباب الضيق ليس ردا مباشراً، ولكنه أساس حتمي على كل من يريد أن يخلص ويدخل الملكوت أو الحياة الأبدية أن لا يختار الأكثر راحة واتساعاً، وأن لا يؤجل البت في الأمور بسبب ضيق الباب، لئلا يفوت عليه الأوان ويحاول الدخول فيستحيل عليه بسبب تغير الظروف وفقدان القابلية على احتمال المشقات والدخول في مناقص العمر الرذيل، أي الكبر. علماً بأن الذين عزموا على الدخول يتحتم أن تكون لهـم مـن الآن أخلاق بني الملكوت، لأنه لا يركى للدخول إلا الذي أخلاقه مطابقة لوصايا الإنجيل مهما كلفه من تنازل وحرمان وبذل وتقشف واحتقار الذات والتشبث بالمتكأ الأخير، وأن يكون آخر الكل في كل شيء وعلى مدى الطريق الضيق الطويل. فالكنز الذي سيحصل عليه يساوي مشقاته ألف ألف مرة. على أن يضع الإنسان الجاد في طلبه للملكوت أن المسيح نفسه هو الطريق وهو الباب، فالالتصاق بالرب يسوع بكل القلب والنية هو الضمان الوحيد، لأنه هو الذي افتتح الملكوت بموته على الصليب وهو الذي يعبر بنا ضيقات الطريق. وكثير من الذين يستطيعون أن يدخلوا الآن لن يستطيعوا بعد ذلك مهما حاولوا، إذ يكونون قد فقدوا قوة الاندفاع من الاستعداد لإنكار الذات. فالملكوت يكتسب بالنية في القلب أولاً، ومتى استقر العزم على ذلك استطاع الإنسان أن يعبر الأهوال والمصاعب بقلب أسد، إذ يرى المعونة الإلهية حاضرة في كل ضيقة لأن المسيح أمين على دعوته  للنهاية.

25:13 «من بعد ما يكون رب البيت قد قام وأغلق الباب، وابتدأتم تقفون خارجاً وتقرعون الباب قائلين: يارب يارب، افتح لنا، يجيب ويقول لكم: لا أعرفكم من أين أنتم!»

هنا الكلام ينصب على الذين أهملوا الدعوة في وقتها وفضلوا العالم على المسيح، ويسألون الدخول فيستحيل عليهم لأنهم يكونون قد أخذوا شكل العالم وصاروا غرباء على الطريق الكرب والباب الضيق. لذلك من كان أمامه الفرصة مواتية ويتركها تتركه، سوف يطلبها بدموع فلا يحصل عليها، لأن الدعوة تأتي ومعها القوة والبركة والعزيمة، فإن استصغرها أو أهملها الإنسان يطلبها فلا يجدها. على أن خدمة الملكوت لكل قامة ولكل عمل ولكل مكان ولكل زمان، وهي تأتي ومعها اختصاصها وتوجيهاتها ورجاؤها وآمالها الحلوة، ليستقبلها القلب المهيأ لها بثقة وإيمان وعزيمة وفرح لا يجعل الإنسان ينام أو يستريح حتى يتمم مقاصدها مهما كلفه الطريق. أما غلق الباب فهو للذين توانوا وأهملوا الصوت واستصعبوا الدعوة ثم عادوا يطلبون، فيجدون الباب قد أغلق، بمعنى أنهم فقدوا مواصفات بني الملكوت من الحرارة والغيرة الملتهبة، فلم يعد قرعهم على الباب وتوسلهم يدخل قلب المسيح الذي دعاهم فرفضوا. وقوله: «لا أعرفكم» لأنهم تنكروا لحبيه، أما قوله: «من أين أنتم؟» لأنهم تغربوا عن بلده. والدعوة لا تأتي مرتين.

26:13و27 «حينئذ تبتدئون تقولون: أكلنا قدامك وشربنا، وعلمت في شوارعنا. فيقول: أقول لكم لا أعرفكم من أين أنتم! تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم».

هؤلاء هم الذين ساروا في مواكب الدين والخدمة، وتعرفوا على الكنيسة ورجالها، وخدموا خلسة بين الذين يخدمون، ولكن استغلوا الأسماء والوظائف والكنيسة ليعيشوا في دواخلهم للعالم ومتعه وأمتعته وماله.

30-28:13 «هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، متى رأيتم إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله، وأنتم مطروخون خارجاً. ويأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب، ويتكئون في ملكوت الله. وهوذا آخرون يكونون أولين، وأولون يكونون آخرين».

في الحقيقة إن المسيح يقصد أن حالهم هناك سيكون كمن يتألم ويتوجع هنا بجسده، هكذا لأن هناك ليست أجساد ولا أحاسيس جسدية. وإنما الندم هناك هو حالة أسوأ من هذا لأنه دائم وقائم على الحرمان من محبة ورحمة الله كأب. فالنفس ستكون متغربة عن إلهها تماماً، تحت الرفض. وواضح من قوله إن الأولين يكونون آخرين أن الذين يتبوأون مراكز الصدارة هنا يكونون آخرين هناك والعكس بالنسبة للآخرين هنا، وهي تنطبق في أيام المسيح على اليهود والأمم كيف سيقبل الأمم ويطرد اليهود. 

2 – تهديد هيرودس الملك (31:13-33)

القديس لوقا وحده

 لا يزال المسيح على الطريق الصاعد نحو أورشليم وقد بدأ يواجه علامات النهاية، ومنها أن هيرودس على ما يبدو سمع عن أعماله وابتدأ يخاف على مركزه، وانتهز الفريسيون هذه الفرصة وأخبروا المسيح أنه يريد أن يقتله، ولكن رد المسيح عليهم: إن تهديد هيرودس لا يزيد عن تهديد ثعلب، وإنه سيستمر في خدمته التي أرسل من أجلها، وإنها لا تكمل إلا في أورشليم حسب التدبير. فإن كان سيقتل فليذهب بنفسه إلى أورشليم.

وبورود الكـلام عـن أورشليم أسرع ق. لوقا وأعطى النداء الحزين على أورشليم : أنـه كـم مـرة أراد المسيح أن يجمع أولادها فلم يريدوا، لأن هذا القول بحسب إنجيل ق. متى قاله عشية التسليم مؤكداً أنه بعد أن يكمل الآن سوف يجيء مجيئه الثاني ويقولون مبارك الآتي باسم الرب، الأمر الذي أخذه إنجيل ق. لوقا على أنه يتكلم عن دخوله يوم الأحد أورشليم واستقباله بمبارك الآتي باسم الرب.

31:13 «في ذلك اليوم تقدم بعض الفريسيين قائلين له: اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك».

كان المسيح وقتئذ في أرض هيرودس، ربما في بيرية. ويظهر فعلاً أن هيرودس أراد أن يتخلص من المسيح خوفاً من اضطراب كورته، وربما أظهر التهديد فقط الذي نقله الفريسيون. ويبدو أن المسيح صدقهم لذلك رد عليهم بما يفهم أن المسيح له رسالة لابد أن يكملها وسوف يكملها في أورشليم. ومعروف أن هيرودس سبق وسأل عن المسيح من هو وظنه أنه المعمدان قد قام من الأموات (لو 9: 7 -9  و مر 6: 16).

وطبعاً لا ننتظر من المسيح ردا إلا هذا الرد، فالقصة صادقة بالرغم من تشكيك العلماء. وموقف الفريسيين لا لوم فيه لأن منهم كثيرين كانوا أصدقاء للمسيح.

32:13 «فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج شياطين، وأشفي اليوم وغداً، وفي اليوم الثالث أكمل».

لم يقصد المسيح أبداً أن تصل هذه الرسالة إلى هيرودس، لكن رده كان للفريسيين أنفسهم الذين سواء قالوا هذه الرسالة عن صدق أو عن تخويف فهي رسالة وقحة ماكرة مكر الثعلب، وقد أعطاهم المسيح الدرس في الرد. والمعروف في التقليد اليهودي أن الثعلب هو رمز المكر الخسيس. وهناك قـول متوارث عندهم:
[كن سباقاً بالتحية لكل إنسان وكن ذيلاً للأسود (أي شجاعاً ولكن غير مفترس) ولكن لا تكن رأساً لثعلب].

على أن موقف هيرودس من المسيح مشابه لموقف شاول Saul من داود. والمسيح يقصد ذلك بإعطاء كلمـة ثعلب لأنها تنطق saul. طبعـاً يـروح فين بالنسبة لأسـد يـهـوذا (تك 9:49)، (رؤ 5:5). وهكذا وبهذا يكون المسيح قد اعترف بمسيانيته عفواً. أما مضمون رسالة المسيح فهو سيستمر في عمله بإخراج الشياطين وعمل الشفاء اليوم وغداً. والقصد الواضح منها أنه بعد أن يخرج الشياطين ويشفي الشعب يكون الصليب! وبقوله: «وفي اليوم الثالث أكمل» تتضح صورة الصليب جداً، وبقوله: «أكمل» بصيغة المبني للمجهول يجعل الصليب من عمل الآب. 

33:13 «بل ينبغي أن أسير اليوم وغداً وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم».

بل

 تُفيد في عمل مقارنة أشد. وهي تجيء هنا لتشدد من قوة أكمل التي جاءت في الآية السالفة وتعني أنه لأني سأكمل يقيناً فلابد أن أسير اليوم وغداً. ويبدو أنها المسافة المتبقية على أورشليم أو تعبيراً عن المدة الباقية أنها قصيرة لكي يكمل في أورشليم كبقية الأنبياء. وكلمة يكمل بالمبني للمجهول مهمة للغاية إذ تبعد عن الأذهان أنه سيهلك هناك بل سيكمل رسالته التي أخذها من الآب.

3 – المسيح ينعي أورشليم (35,34:13)

(مت 37:23-39)

34:13و35 «يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خراباً! والحق أقول لكم: إنكم لا تروني حتى يأتي وقت تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب».

هنا يقدم المسيح أعمدة الإنجيل الأربعة:

1 – المحبة الإلهية.
2 – خطية الإنسان.
3 – الدينونة الحتمية الزمنية.
4 – المجيء المسياني الثاني.

 

– فحينما كرر المسيح القول: «يا أورشليم يا أورشليم» وأردف مباشرة بتصوير الدجاجة وهي تجمع أفراخها تحت جناحيها، يكون المسيح قد كشف عن مكامن أعماق الحب الإلهي بالنسبة لشعبه.
– وحينما ناداها بخطيتها وبسفك دم الأنبياء ورجم المرسلين يكون قد كشف عن خطية الشعب . 
– وحينما سجل عليها عدد المرات التي طلب فيها أن يجمع أولادها فرفضت سجل عليها دينونتها
العاجلة.
– وحينما أفصح عن ذهابه وغيابه ثم عودته المباركة باسم الرب يكون قد أعطى الوعد بالمجيء الثاني.

حينما كرر المسيح اسم أورشليم ذكرنا في الحال بـ «مرثا مرثا» و «شاول شاول» ويهوه في القديم « إبراهيم إبراهيم» بهذه النغمة الحبية التي تعبر عن القرب والانتماء لله، وبآن واحد تحمل هنا رئة حزن أسيف على فرصة انقضت كانت تتيح لأورشليم أعظم الفرص للمجد لتكون أم الدنيا وبابا أبدياً للملكوت. ولكن لم تكن المرة الأولى بل الأخيرة لأن يهوه في القديم أحبها وتودد إليها ولكنها كانت دائماً أبدأ تخون الأمانة والمودة، وكان تعبير المسيح لها بقاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين سيرة ممتدة حملتها أورشليم على مدى التاريخ، وقد اختصت دون كافة المدائن بالنصيب الأوفر في سفك دماء الأنبياء حتى قالها المسيح: «لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارج أورشليم» (لو 33:12)، هذه شهادة دموية وضعها المسيح على جبين التاريخ لأورشليم.

 والمسيح بقوله: «كم مرة أردت أن أجمع أولادك» فهو إنما يتكلم أيضاً بفم يهوه: «بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد» (إش 2:65؛ راجع: رو 21:1). والمسيح في هذا القول يحكي عن خبرته هو، لأن قوله: «كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها» يعني تماماً أنه كان جادا في حمايتها من أعدائها ومن الرومان أيضاً، بأن يبث فيها روح السلام والوداعة والمحبة لتصبح هي مسئولة عن سلامة روما والعالم كله، فهي إن كانت وقعت فريسة الأسد الروماني الذي عراها من محدها وخربها وتركها خاوية تنعي تاريخ مجدها، فلأنها قدمت لروما أسوأ صورة لأمة تعاهدت مع الشيطان للقتل والمقاومة بشراسة. فبعد أن قتلت رئيس السلام ماذا يتبقى لها إلا الحديد والنار. رفضت السلام بيد الله فشربت كأس النقمة حتى النهاية. ثلاث سنوات وأكثر وهو يتودد لها ليسقيها كأس المصالحة مع الله ويرفع رأسها وسط الشعوب لتصبح مدينة السلام بالحق كاسمها، ولكنها عوض أن تقبل من يده خلاصاً سفكت دمه على الأرض ظلماً وهواناً. 

«ولم تريدوا»:

 تاريخ الرفض الله قديم يحكي عنه إرميا النبي بالحزن (628-588 ق.م) في أيام الملوك يوشيا ويهوآحاز ويهوياقيم وصدقيا حتى السبي. يقول:
+ «فمن اليـوم الـذي خرج فيه آباؤكم من أرض مصر إلى هذا اليوم أرسلت إليكـم كـل عبيدي الأنبياء مبكراً كل يوم ومرسلاً فلم يسمعوا لي ولم يميلوا أُذنهم بل صلبوا رقابهم، أساءوا أكثر من آبائهم. فتكلّمهم (الله لإرميا) بكـل هـذه الكلمات ولا يسمعون لك وتدعوهم ولا يجيبونك. فتقول لهم هذه هي الأمة التي لم تسمع لصوت الرب إلهها ولم تقبل تأديباً، باد الحق وقطع عن أفواههم. جزي شعرك واطرحيه وارفعي على الهضاب مرثاة لأن الرب قد رفض ورذل جيل رجزه (غضبه).» (إر 7: 25-29) 

 «هوذا بيتكم يترك لكم خراباً»:

«هوذا»:  أي: انظروا behold. هنـا إسرائيل كـأمـة المقصودة بالهيكل، وأورشليم بيتكم” الذي وجد الله فيه مسكنه قديماً، قد تركه، فانتزع وجوده وسلامه وكيانه . كان الهيكل هو قلب إسرائيل النابض الذي كان يسكنه الله ويرتاح فيه مع شعبه الذي أحبه. رفضوه فرفضهم. وبعد أن كان يعج بالحياة والآباء والأنبياء والقديسين تيرك خالياً بلا حياة فغشباه الموت والخراب: «أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل. ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك» (أع 3: 14و15). الصورة التي يقدمها القديس لوقا لنهاية إسرائيل قائمة للغاية وليس لها فرصة ولا بقية كما حاول القديس بولس مراراً أن يؤكده: «أما البقية فتخلص» ولكن القديس لوقا لا يعمل حساباً لبقية أو إعادة نظر. إلا أنه ربما يكون في الآتي رجاء.

«الحق أقول لكم: إنكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب»:

يبني كثير من الشراح الذين يأملون رجعة لإسرائيل – مثل بولس الرسول ـ أملهم على هذه الآية التي يقابلها في زكريا النبي: «وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلي الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له ويكونون في مرارة عليه كمن هو في مرارة على بكره.» (زك 10:12)

وتحسب هذه النبوة على أنها توبة إسرائيل حينما يأتي الرب في مجيئه الثاني ويتعرفون عليه.

وفي عرفنا أن جميع نبؤات العهد القديم تتفق في أن لإسرائيل آخر الأيام صحوة ورجعة وتوبة تكون خيراً على العالم كله. يضعها إشعياء النبي بأن أمة تولد في يوم واحد!! وذلك في آخر أصحاح له:
+ «من سمع مثل هذا، من رأى مثل هذا، هل تتمخض بلاد في يوم واحد، أو تولد أمة دفعة واحدة، فقد مخضت صهيون بل ولدت بنيها. هل أنا أمخض ولا أولد يقول الرب؟ أو أنا المولد أغلق الرّحم قال إلهك؟ افرحوا مع أورشليم وابتهجوا معها يا جميع محبيها، افرحوا معها فرحاً یا جميع النائحين عليها، لكي ترضعوا وتشبعوا من ثدي تعزياتها، لكي تعصروا وتتلذذوا من درة مجدها.» (إش 66: 8 -11)

+ ومعها بالضرورة هذه الآية التي تختم على عهد الأحزان :
+ «لأني هأنذا خالق سموات جديدة وأرضـاً جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال، بل افرحـوا وابتهجوا إلى الأبد فيما أنا خالق لأني هأنذا خالق أُورشليم بهجة وشعبها فرحاً. فأبتهج بأورشليم وأفرح بشعبي ولا يسمع فيها صوت بكاء ولا صوت صراخ.» (إش 65: 17 -19)

ومنذ أن صلب المسيح، والباب – باب الملكوت ـ مفتوح لكل يهودي أن يعود إلى المسيح ويؤمن وينـال حـق البنين ويشترك في جسم الكنيسة التي هي الشعب الآخر الذي استؤمن على ملكوت السموات.

ولعل إشعياء أيضاً ذكر هؤلاء العائدين هكذا:
+ «ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب يقول الرب. أما أنا فهذا 
عهدي معهم قال الرب: روحي قال الرب: روحي الذي عليك وكلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك ولا من فم نسلك ولا من فم نسل نسلك قال الرب من الآن وإلى الأبد.» (إش 59: 20و21)

ولعل اليهود المتنصرين الذين تجمعوا في كنيسة في صهيون تُحسب إشارة ذكية لهذا الوعد، ومنهم من صاروا قديسين ورائين

فإن كان المسيح قد استعار قول المزمور 26:118: «مبارك الآتي باسم الرب» فإنه يوحي بالرجاء الذي في المسيح لإسرائيل، لأنه مزمور لإسرائيل:

«احمدوا الرب لأنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته،
ليقل إسرائيل إن إلى الأبد رحمته
لا أموت بل أحيا وأحدث بأعمال الرب،
تأديباً أدبني الرب وإلى الموت لم يسلمني،
الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية،
من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا،
مبارك الآتي باسم الرب!
احمدوا الرب لأنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته!!»
(مز 118:
29,26,23,22,18,17,2,1)

ولكن كثيرون يقولون إن هذه السنوات جميعاً تخص أيام مجيء المسيح، وأنها تفيد الذين تنصروا من اليهود وصاروا إسرائيل الجديد.

تفسير إنجيل لوقا – 12 إنجيل لوقا – 13 تفسير إنجيل لوقا تفسير العهد الجديد تفسير إنجيل لوقا – 14
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل لوقا – 13 تفاسير إنجيل لوقا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى