تفسير رسالة تيموثاوس الأولى ٥ للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الخامس
العلاقات الكنسية

بعد أن قدم الرسول لتلميذه وصايا تخص حياته الروحية وعمله الرعوي بكونهما عملاً واحدًا متكاملاً، أوضح له الخطوط العريضة في طريقة التعامل مع الرعية: 

1. توجيه كل فئة ١ – ٢.

لا تزجر شيخًا بل عظه كأب، 

والأحداث كإخوة، 

والعجائز كأمهات، 

والحدثات كأخوات بكل طهارة” [١-٢].

كأن الرسول يعلن للرعاة أنه يجب عليهم أن يكونوا حكماء في معاملتهم مع كل فئة وكل فرد من أفراد الرعية، يعرفون كيف يكسبون الكل رجالاً ونساءً، شيوخًا وأطفالاً الخ. حتى لا ينحرف أحدهم عن حظيرة السيد المسيح. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يختلط الكاهن بالمتزوجين الذين لهم أطفال وخدم، كما يختلط بالأغنياء وأصاحب المراكز العامة وذوي النفوذ… لهذا وجب أن يكون إنسانًا يعرف كيف يعامل الكل (many sides man). لست أقول أن يكون مخادعًا أو متملقًا أو مرائيًا، بل يكون شديد المرونة… يعرف كيف يتلاءم مع كل واحد حتى يربحه، حسبما تقتضي الظروف. فيكون رحيمًا وحازمًا، لأنه يستحيل عليه أن يعامل كل الذين تحت إشرافه بمعاملة واحدة. كالطبيب الذي ليس له أن يستخدم علاجًا واحدًا لكل المرضى الذين يعالجهم، أو ربان السفينة الذي ينبغي عليه ألا يعرف طريقة واحدة فقط لصد الرياح، إذ نتعرض لرياح كثيرة.]

يقدم لنا الرسول عينات عن طريقة تعامل الراعي مع فئات شعبه، يمكن إجمالها في عبارة واحدة، وهي أن الرعاية ليست سلطة بل حب. فالراعي يتعامل مع كبار السن بكونهم آباء وأمهات له: “لا تزجر شيخًا بل عظه كأب… والعجائز كأمهات“. إنه ملتزم بمعالجة أخطائهم لكن دون زجرهم بسلطان، وإنما خلال الحديث الودي كابن يتحدث مع أبيه أو أمه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الزجر في طبيعته أمر خاطيء، خاصة إن وجه إلى الشيخ، أما إن صدر عن شاب لشيخ فيكون الخطأ مضاعفًا ثلاث مرات.]

ولا يقف الحنو عند الشيوخ والعجائز، وإنما يمتد إلى معاملة الراعي للأحداث والحدثات، إذ يقول: “والأحداث كإخوة… والحدثات كأخوات بكل طهارة“. بدون الحب لا يقدر الراعي أن يدخل إلى قلوب الأحداث والحدثات. لكن يجب عليه في معالجته لأخطاء الحدثات أن يلتزم بروح الطهارة حتى لا يتعثر ولا يعثر أحدًا، لئلا فيما هو يصلحهن يفقد طهارته أو يعثر الآخرين حتى وإن كان تصرفه صادرًا عن بساطة قلب. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [التعامل مع الحدثات يسبب دائمًا شكوكًا، ومع هذا لا يقدر الأسقف أن يتجنب التعامل معهن باستمرار، لذا يلزم أن يكون مثل هذا الالتصاق بكل طهارة.]

في اختصار نقول أن الراعي في علاقته بشعب الله يلزمه أن يعرف كيف يتعامل مع كل فئة، بل مع كل شخص بروح الحب المملوءة رقةً وحنوًا، لكن دون مجاملة أو مداهنة على حساب خلاص نفسه أو خلاص أنفسهم، يسلك بروح الحكمة والطهارة حتى لا يتعثر ولا يُعثر أحدًا. 

2. إكرام الأرمل ٣ – ١٦.

في معالجة السيد المسيح لمشكلة الألم في حياة الناس، لم يأتِ لينزع الآلام عنا، لكنه قبلها بإرادته عنا ليحوّل مجراها ومفهومها. بعد أن كانت الآلام ثمرة غضب الله، وبصمة من بصمات عصياننا عليه، صارت في المسيح يسوع علامة حب إلهي فائق، وطاعة حتى الموت موت الصليب. وذبيحة شكر مقدمة من الابن الوحيد. بهذا انفتح طريق الألم لنا بمفهومٍ جديد خلال إعلان حبنا وطاعتنا لشكرنا للآب في ابنه. هكذا أيضًا في حالة الترمل، فإن الكنيسة لم تخرج الأرامل عن حالة ترملهن بتشجيعهن على الزواج لنزع الألم عنهم، وإنما رفعت مفهوم “الترمل”، لتكون ليس بحالة بؤس وحزن، وإنما حالة عمل روحي في الكنيسة. صارت الأرامل تمثل طغمة معينة لها كرامتها وعملها الإيجابي في الكنيسة. فلا تعيش الأرامل كفئة منكوبة تتلمس عطف الجميع وترفقهم، فيسلكن منكسرات القلب، لا بل هن فئة تحتل الصف الثالث بعد رجال الكهنوت والمتبتلين، لهن عملهن العظيم ورسالتهن في الكنيسة. بهذا ترفع روحهن المعنوية وتنتفع الكنيسة عامة بهن وبخدمتهن. هذا ما نلمسه بوضوح في الرسالة التي وجهها القديس يوحنا الذهبي الفم إلى شابة أرملة، كان زوجها أوشك أن ينال وظيفة والي مقاطعة فكتب ليواسيها في مصابها الفادح، بل بالحري ليدفعها للعمل في كرم الرب. وهنا نلاحظ الرسول بولس قد أطال الحديث عن “الأرامل” ربما أكثر من أي فئة أخرى، معطيًا إياهن اهتماما خاصًا، ويظهر مدى اهتمام الكنيسة الأولى خاصة آباء مدرسة اسكندرية بهن في كتاباتها عنهن.

يقول الرسول: “أكرم الأرامل اللواتي هن بالحقيقة أرامل” [3]. كأنه يميز بين من هي بالحقيقة أرملة، ومن هي ليست بالحقيقة أرملة. بمعنى آخر يميز بين من هي أرملة في طغمة الأرامل العاملات في الكنيسة، والأرامل اللواتي تعولهن الكنيسة.

فمن جهة إعالة الكنيسة الأرامل يقول الرسول: “ولكن إن كانت أرملة لها أولاد أو حفدة، فليتعلموا أولاً أن يوقروا أهل بيتهم، ويوفوا والديهم المكافأة، لأن هذا صالح ومقبول لدى الله [٤].

يطالب الرسول المؤمن أبسط القواعد الإنسانية، وهي إن ترملت أمه أو جدته يلتزم المؤمن بإعالتها، إن كانت هي خدمته في طفولته وصبوته دون أن تنتظر الجزاء، فإن أصابها عوز بسبب ترملها وجب عليه الاهتمام بها. هكذا تلتزم العائلات القادرة بسد احتياجات أراملها حتى تتفرغ الكنيسة كهنة وشعبًا لسد احتياجات الأرامل المحتاجات.

في العهد القديم يرفض الله عبادة المؤمنين إن خلت من أعمال المحبة والرحمة، مطالبًا إياهم الاهتمام بالأرملة، إذ يقول: “تعلموا فعل الخير: اطلبوا الحق، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة (إش ١: ١٧). وفي القرن الثاني الميلادي كتب القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية إلى أخيه القديس بوليكربوس أسقف أزمير: [أمام الرب، فلتكن محاميًا عنهن.] وكتب القديس بوليكربوس: [يجب على الكهنة أن يكونوا رحومين مترفقين بالكل، لا يعطون ظهرهم لمن ضلوا، يهتمون بالمرضى، ولا يتجاهلون الأرامل أو اليتامى الفقراء.] ويتحدث القديس يوستين في ذات القرن عن مساعدة الأيتام والأرامل كجزء لا يتجزأ من العبادة الإفخارستية الأسبوعية، حيث يقدم المؤمنون عطاياهم ويقوم رئيس الجماعة المقدسة بتوزيعها. ويقول هرماس أيضًا في ذات القرن أن المؤمن إن يصوم يدفع ثمن غذاء يومه لأرملة أو يتيم أو أي إنسان محتاج. كأن الاهتمام باحتياجات الأرامل تشغل قلب كل مؤمن سواء كان أسقفًا أو كاهنًا أو من الشعب، كجزء لا يتجزأ من سلوكه المسيحي وعبادته الأسبوعية الجماعية وعباده الخاصة الخفية.

هكذا اهتمت الكنيسة باحتياجات الأرامل منذ انطلاقها، وقد وضع الرسول بولس الشروط اللازمة في الأرملة لكي تعولها الكنيسة، إذ يقول: “ولكن التي هي بالحقيقة أرملة ووحيدة فقد ألقت رجاءها على الله وهي تواظب على الطلبات والصلوات ليلاً ونهارًا، وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية” [ ٥- ٦].

لقد اشترط الرسول فيها:

أ. أن تكون بالحقيقة أرملة ووحيدة، أي فقدت رجلها وليس لها أولاد أو حفدة قادرون على إعالتها.

ب. ألقت رجاءها على الله الحي، أي إن كانت قد فقدت كل من يعولها لكنها وضعت رجاءها فيمن هو بالحق قادر أن يعول. إنها تجد راحتها في الله نفسه، الذي لا يتركها وحيدة! مثل هذه تحتضنها الكنيسة لتجد أيضًا في المؤمنين، كهنة وشعبًا، أحباء لها يقدمون لها كل راحة ممكنة، فتقبل محبتهم كما من الله نفسه.

ج. تواظب على الطلبات والصلوات ليلاً ونهارًا. إنها لم تختر الحياة الزمنية كسرّ بهجتها لكنها دائمة الاتصال بعريسها، تسأله طلباتها وتدخل معه في صلوات بلا انقطاع.

د. لا تعيش حياة مترفة مدللة: “وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية”. هذا هو حال النفس التي تفقد عريسها المسيح وتعيش مترملة تسأل التنعم بالزمنيات لتشبع فراغ قلبها. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الإنسان الذي يعيش في لذة ميت وهو حي. إنه يعيش من أجل بطنه، ولا يحيا لبقية أحاسيسه (المقدسة). فهو لا ينظر ما كان ينبغي أن ينظره، ولا يسمع ما كان يجب أن يسمعه، ولا ينطق بما يلزم أن يتكلم به، ولا يتمم أعمال الأحياء… إنه ميت!]

فاوصِ بهذا لكي يكن بلا لوم” [7]. يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الرسولية: [لا يُترك الأمر لاختيارهن. أوصِ، كما يقول، ألا يكن في ترف… فإن هذا أمر غير لائق بهن. ولا يجوز للمترفات أن يشتركن في الأسرار الإلهية… إذن لنوصي الأرامل المترفات ألا يكتتبن في قوائم الأرامل طاعة للرسول، وذلك كالجندي الذي لا يحسب مؤهلاً لوظيفته لأنه يكثر الدخول إلى الحمامات والمسارح.]

يكمل الرسول: “وإن كان أحد لا يعتني بخاصته، ولاسيما أهل بيته، فقد أنكر الإيمان، وهو شر من غير المؤمن [٨]. لقد استغل بولس هذا الموقف الخاص برعاية الأرامل ليعلن التزام المؤمن ليس فقط نحو والدته أو جدته الأرملة، وإنما نحو كل عضو في الكنيسة المقدسة في عوز، خاصة أسرته. سمة المسيحي الحقيقي هو الحب بلا حدود، والاعتناء بالغير، فكم بالحري نحو خاصته وأهل بيته؟ جاء في سفر إشعياء: “لا تتغاضى عن لحمك (٥٨: ٧). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: [الاعتناء الذي يتكلم عنه جامع يخص النفس والجسد، أي الاعتناء بالاثنين معًا.] كما يقول: [من لا يعتني بعائلته يعتدي على شريعة الله وعلى ناموس الطبيعة… ليس الإيمان مجرد اعتراف بعقيدة، وإنما هو تتميم الأعمال اللائقة بالإيمان.]

لاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم أن بعض المؤمنين يهتمون برعاية الآخرين جسديًا أو روحيًا بينما يتجاهلون احتياجات عائلاتهم، هذا إ يكشف عن دافع خدمتهم للغير أنها ليست عن محبة أو لطف قلبي وإنما عن حب الظهور. فلو كانت خدمتهم نابعة من أعماق قلبية محبة لما تجاهلوا بيتهم حيث لا يراهم أحد ليشكرهم ويمدحهم.

يرى القديس أغسطينوس في الأرملة الوحيدة التي ألقت رجاءها على الله وهي تواظب على الطلبات والصلوات ليلاً ونهارًا وتسلك بغير ترف [5-٦] تمثل النفس البشرية المترملة كمن هي بلا رجل يعينها. إذ يقول: [كل نفس تدرك أنها مجردة عن عون إلاَّ الله وحده فهي مترملة… ما الذي يجعلها أرملة؟ إدراكها أنه ليس لها عون من مصدر آخر غير الله وحده. ليس لها زوج، ولا تنتفخ بحمايته لها، لذلك تبدو الأرامل مهجورات لكن معونتهن أعظم. الكنيسة ككل هي أرملة واحدة، سواء كانوا رجالاً أو نساء، متزوجين ومتزوجات، الكنيسة ككل أرملة واحدة مهجورة في هذا العالم! إن شعرت بهذا وعرفت حقيقة ترملها عندئذ يكون العون بين يديها حاضرًا لديها.]

بعد الحديث عن إعالة الأرامل تحدث الرسول عن “فئة الأرامل”، قائلاً: “لتُكتتب أرملة إن لم يكن عمرها أقل من ستين سنة، امرأة رجل واحد، مشهودًا لها في أعمال صالحة إن لم تكن قد ربت الأولاد، أضافت الغرباء، غسلت أرجل القديسين، ساعدت المتضايقين، اتبعت كل عملٍ صالح[9-١٠].

يقول Roger Gryson في كتابه عن “خدمة المرأة في الكنيسة الأولى أكثر من مرة وضع الاسكندرانيون الأرامل في نفس القوائم مع الأساقفة والكهنة والشمامسة، مثال ذلك إكليمنضس السكندري حيث يعلن أن “وصايا بلا حصر كهذه قد كتبت في الكتاب المقدس توجه إلى أشخاص مختارين، البعض للكهنة، والأخرى للأساقفة، كما للشمامسة وللأرامل”. هذا لا يعني أن الأرامل يمثلن جزءً من الكهنوت، لكنهن يمثلن نصيبًا من التنظيم الكنسي، لهن عملهن الخاص، خاصة الصلاة. وقد أفرد كثير من الآباء مقالات خاصة عن “الترمل”.

وقد حدد الرسول الشروط السابقة [٩-١٠] لاكتتاب الأرملة في الكنيسة. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه السمات بقوله: “يا للغرابة! أي دقة يتطلبها في الأرامل، فإنها تكون ذات السمات المطلوبة في الأسقف.] 

وفيما يلي السمات:

أ. ألا يقل عمرها عن الستين عامًا، كأرملة يهتم الرسول بسنها حتى لا يتعثر أحد بتنقلاتها بين بيوت الفقراء والمرضي لخدمتهم، وأيضًا مرافقتهن للأسقف أو الكاهن عند زيارة بعض البيوت لخدمة النساء أو الفتيات، أو عند عماد الفتيات. إنهن سند قوي في خدمة النساء. وفي حديث القديس يوحنا الذهبي الفم لأرملة شابة يعلق على العبارة الرسولية التي بين أيدينا، قائلاً: [عندما نظم (الرسول) موضوع الأساقفة لم يحدد لهن السن، أما هنا فحدد السن، لماذا؟ ليس لأن الترمل أعظم من الكهنوت، إنما لأن للأرامل أعمال خطيرة… فهن محاصرات بأعمال متنوعة، عامة وخاصة. وكما أن المدينة غير الحصينة تكون نهبًا لمن يريد أن يسلبها، هكذا الشابة الأرملة، يترقبها كثيرون حولها، ليس فقط الذين يرغبون في نهب أموالها، وإنما الراغبون في إفساد عفتها أيضًا.]

ب. امرأة رجل واحد، فلا يكون قد سبق لها أكثر من زواج، بهذا تحمل سمة من سمات الأسقف والشماس. وكأن الكنيسة لا تستريح في خدامها أو العاملين فيها أن يكونوا غير أعفاء أو حتى سبق زواجهم أكثر من مرة.

ج. لها شهادة أنها تمارس الأعمال الصالحة، أي مشهود لها أن تكون بلا لوم كما قيل عن الأسقف. يقول القديس أمبروسيوس: [ليس فقط طهارة الجسد وحدها هو هدف الأرملة القوي، وإنما ممارستها للفضيلة على نطاق عظيم وبفيض.] كما يقول: [ليس بلا سبب يجب أن يكن بلا لوم، هؤلاء اللواتي إذ يرتبطن بالأعمال الفاضلة تكون لهن كرامة عظيمة حتى أن الأساقفة يكرمهن. ليس كبر السن وحده يجعل منها أرملة وإنما استحقاقها كأرملة.]

د. ربت أولادها حسنًا، فإذ تتسلم رعاية الفقراء والمرضى، يجب أن تكون قد نجحت فيما كان بين يديها، أي تربية أولادها، فتؤتمن على الغرباء.

ه. إضافة الغرباء: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظ أنه يتحدث عن إضافة الغرباء هنا ليس كمجرد استقبال لطيف لهم، وإنما التقدم إليهم بغيرة ونشاط واستعداد كمن يستقبل المسيح نفسه. يليق بالأرامل أن يحققن ذلك بأنفسهن ولا يعهدن بخدمة الغرباء لخادماتهن. يقول المسيح: “إن كنت وأنا السيد المعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض” (يو ١٣: ١٤)… إن كنتن تستقبلن الغريب كأنه المسيح، فلا تخجلن فإنكن تكن في مجدٍ، وإن كنتن لا تستقبلن هكذا المسيح فلا تقبلوه بالمرة.]

و. غسلت أقدام القديسين: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من هم هؤلاء القديسين؟ القديسون الذين في ضيقة وليس كل القديسين. يوجد قديسون يهتم بهم كثيرون مثل هؤلاء لا تفتقدهم إذ هم في وسع، إنما يجب أن تهتم بمن هم في ضيقة، غير المعروفين، أو يعرفهم قليلون. إنه يقول: “بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم” (مت ٢٥: ٤٠).]

ويرفض العلامة أوريجينوس التفسير الحرفي لغسل أقدام القديسين، قائلاً بأن غسل الأقدام إنما هو عمل العبيد والخدم، لا يعنيه الرسول حرفيًا، إنما يعني تطهير النفس بالكلمات اللائقة. كما يقول: [تستحق هؤلاء الأرامل أن يُكرمن في الكنيسة، هؤلاء اللواتي يغسلن أقدام القديسين خلال التعليم الروحي، لا أقصد بالقديسين الرجال بل النساء، “إذ لا أسمح للمرأة أن تعلم أو يكون لها تسلط على الرجل” (١ تي ٢: ١٢). إنه يريد من النساء أن يعلمن ما هو صالح بمعنى أنهن يلقن الحدثات العفة دون الأحداث… إنهن يدربن الحدثات على العفة ومحبة رجالهن وأولادهن.] 

من هذا النص نكتشف أن الأرامل في القرن الثاني كن بكنيسة الإسكندرية يقمن بعمل تعليمي بين الحدثات دون الشبان، يدربن إياهن على الحياة التقوية والحياة الروحية المملوءة حبًا، والسلوك الأسري المسيحي.

ز. في اختصار يقول الرسول: “اتبعت كل عمل صالح”، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم [إن الأرملة يلزمها أن تتمم كل عمل صالح وإن لم تستطع فلتساهم فيه]، كما يقول: [هكذا يتطلب الرسول التدقيق في الأرامل أكثر مما يتطلبه في العذارى، يتطلب فيهن أن يكن أكثر دقة وأعظم فضيلة.]

أخيرًا يحذر الرسول بولس من اكتتاب الأرامل الحدثات بقوله: “أما الأرامل الحدثات فارفضهن، لأنهن متى بطرن على المسيح يردن أن يتزوجن، ولهن دينونة لأنهن يرفضن الإيمان الأول” [١1-١٢]. يخشى الرسول من العثرة التي تصدر عن الأرامل الحدَثات لئلا يبطرن على المسيح، أي بعد قبولهن حالة الترمل كحالة زواج مع السيد المسيح روحيًا، يعدن فيردن الزواج، فينقضن عهدهن من جهة تكريس كل وقتهن وطاقاتهن لخدمة الله وإرضائه. إنهن لا يسقطن تحت الدينونة بسبب زواجهن بعد الترمل، وإنما لانحراف فكرهن بعد تعهدهن بالتكريس لخدمة الرب. فكان الأفضل لهن أن يتزوجن قبل أن يكتتبن في قوائم الأرامل ليعملن في الكرم ثم يرجعن عن حياتهن المقدسة.

مثل هؤلاء الحدثات، إذ يتركن عريس نفوسهن يدخلن في حالة من البطالة، إذ يقول الرسول: “ومع ذلك أيضًا يتعلمن أن يكن بطالات يطفن في البيوت، ولسن بطالات فقط، بل مهٍذارات أيضًا وفضوليات يتكلمن بما لا يجب. فأريد أن الحدثات يتزوجن ويلدن الأولاد ويدبرن البيوت لا يعطين علة للمقاوم من أجل الشتم. فإن بعضهن قد انحرفن وراء الشيطان” [١٣-١٥]. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله: [البطالة هي معلم كل خطية.] فالله لا يهان بزواج الأرامل وانجابهن أولادًا، إنما يهان ببطالتهن الروحية وفراغهن الداخلي، فلا يرضين الله بسلوكهن. الزواج ليس ممنوعًا، بل هو حصن للأرامل والحدثات حتى لا يترك مجالاً للمقاوم أن يغلبهن.

هكذا يكشف الرسول عن كرامة الأرامل كعرائس للسيد المسيح، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بقوله هذا جعلنا نفهم أن اللواتي فقدن رجالهن هن عرائس المسيح بدلاً من رجالهن… هذا أنت ترين أن كرامة عظيمة تُمنح للأرامل! هذا في العهد الجديد حيث أضاء نور البتولية أيضًا بوضوح. وبالرغم من شدة بهاء هذه الفئة (البتوليين) إلاَّ أنها لا تطغي على أمجاد الأرامل، حيث تضيء للكل محتفظة بقيمتها.]

يختم الرسول حديثه عن الأرامل بتأكيد التزام العائلات بأراملهم: “إن كان لمؤمن أو مؤمنة أرامل فليساعدهن، ولا يثقل على الكنيسة، لكي تساعد هي اللواتي بالحقيقة أرامل” [ ١٦]. نفهم من هذه العبارة بأن الكنيسة تلتزم أن تدبر الأمور المادية وتنظمها، لتعطي من في عوز وليس لهم من يعولهم، بينما تترك أمور المحتاجين ولهم من يعولهم في أيدي القادرين من أولادهم أو أحفادهم الخ. التنظيم لا يتنافى مع الروحانية، وكما يقول القديس أغسطينوس: [كان للرب صندوقًا (يو ١٣: ٢٦-٣١) يحتفظ فيه بتقدمات المؤمنين ليستخدمه في ضرورياته وضروريات من هم في عوز… فلا نفهم وصيته الخاصة بعدم الاهتمام بالغد (مت ٦: ٣٤) بمعنى إلاَّ يكون لقديسيه مالاً، وإنما لا يخدم الله بهدف كهذا.]

3. الاهتمام بالكهنة ١٧ – ١٨.

“وأما الشيوخ المدبرون حسنًا، 

فليحسبوا أهلاً لكرامة مضاعفة،

ولاسيما الذين يتعبون في الكلمة والتعليم، 

لأن الكتاب يقول: لا تكم ثورًا دارسًا، 

والفاعل يستحق أجرته” [ ١٧-١٨].

لا يتحدث الرسول هنا عن الكرامة بمعنى تمجيد الخدام، وإنما التزام الكنيسة بسد احتياجاتهم المادية حتى يتفرغوا للكرازة بالكلمة والتعليم. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول هنا يحث الكهنة لا لنوال الأجرة، وإنما للتفرغ للعمل دون ارتباك من جهة ضروريات الحياة. من يعيش في كسلٍ وترفٍ لا يستحق الكرامة ما لم يصر كالثور الدارس الذي يحمل النير بالرغم من الحر، ووجود الأشواك دون توقف، حتى يُحمل المحصول إلى المخزن.

إن كان الكهنة يدبرون شئون المؤمنين الروحية لأجل خلاصهم فإنهم لا يحرمون من نوالهم نصيبًا مضاعفًا من الأمور الزمنية، لا ليعيشوا في ترفٍ، في حياة أرستقراطية، إنما لكي يستطيعوا خلال الفيض مما لديهم أن يقدموا للمحتاجين. الكاهن كصاحب تدبير لا تخاف عليه من المكافأة المضاعفة، لأنها تعجز عن أن تسحبه نحو الأرضيات، وذلك كما أعطى الله أبانا إبراهيم خيرات متكاثرة، فكان إبراهيم يزداد في سخائه وشكره لله وعفته عن الأمور الزمنية. هذا من جانب الكنيسة والمؤمنين، أما من جانب الكاهن نفسه، فيلزمه أن يخاف على نفسه من النصيب المضاعف، لئلا يبتلعه حب العالم وسط خدمته، وتلهيه محبة الناس وكرمهم عن بذله وعطائه في المسيح يسوع ربنا.

4. أسلوب التوبيخ ١٩ – ٢١.

لا تقبل شكاية على شيخ إلاَّ على شاهدين أو ثلاثة شهود” [19]. هذه الوصية ليست بجديدة، فقد ألزمت الشريعة الموسوية عدم إدانة إنسان بدون شهادة شاهدين أو ثلاثة شهود. وكأن الوصية إنما جاءت لتؤكد الوصية القديمة خاصة بالنسبة للشيوخ، والكلمة اليونانية لـ “شيخ” تعني “الكاهن الشيخ” غير أن القديس يوحنا الذهبي الفم يرى أن الرسول لا يقصد هنا الوظيفة إنما كبر السن. فلا يليق بنا أن نتسرع في تصديق اتهام كبار السن في ارتكاب أية خطية. ولعل هذه الوصية قد ركزت على كبار السن لأنهم متى جرحوا باتهام ما حتى وإن ثبتت براءتهم تبقى نفوسهم مجروحة زمانًا طويلاً بعكس صغار السن.

يكمل الرسول: “الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع، لكي يكون عند الباقين خوف” [20]. لعله كان يتحدث عن الكهنة والشيوخ لذلك أمر بعدم التسرع في الحكم، لكن إن ثبت عليهم شيء وكان له خطورته على إيمان الشعب لذا وجب توبيخهم علنًا حفظًا على سلامة إيمان الكنيسة.

ولما كان لهذا الأمر حساسيته الشديدة وخطورته الفادحة، لهذا يشهد عليه الله الآب والابن الوحيد يسوع المسيح والملائكة القديسين ألا يتصرف في هذه الأمور متأثرًا بدوافع شخصية لتحقيق أهواء في نفسه أو بمحاباة، إذ يقول: “أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين، أن تحفظ هذا بدون غرض، ولا تعمل شيئًا بمحاباة” [21].

إن أخطر ما يمكن أن يحدث في الكنيسة أن تتم محاكمات أو إدانة بدوافع شخصية خفية تحت ستار الحق، الأمر الذي ينزع نعمة الله ويشق الكنيسة ويقسمها. لعل التاريخ قد قدم لنا أمثلة ولو قليلة جدًا – كيف حملت بعض المحاكمات الكنسية دوافع خفية على خلاف ما تظهر في الخارج فقدمت لنا مرارة!

5. عدم التعجل في السيامات ٢٢.

لا تضع يدًا على أحد بالعجلة، 

ولا تشترك في خطايا الآخرين. 

احفظ نفسك طاهرًا [ ٢2].

بعد أن تحدث عن التدقيق الشديد في محاكمة الكهنة، وعدم التسرع فيها، وبحث دوافعها الخفية يحدثنا هنا عن سيامة الكهنة بكل درجاتهم بوضع اليد (أع ٦: ٦) ألا تتم بعجلة حتى لا يشترك معهم في خطاياهم، مقدمًا حسابًا عنهم أمام الله. يليق بنا عدم التسرع في اختيار الكاهن، حتى لا يُسام وعندئذ نلومه على أخطائه.

حديث الرسول بولس موجه للقديس تيموثاوس كأسقف، لكنه مقدم لكل من يساهم في اختيار رجال الكهنوت. يوبخنا القديس چيروم بقوله: [في هذه الأيام كثيرون يبنون كنائس، حوائطها وعمدها من رخام غالٍ، سُقفها متألقة بالذهب، مذابحها محلاة بالجواهر، أما بالنسبة لاختيار خدام المسيح فلا يعطون اهتماما.]

يربط الرسول بين عدم التسرع في وضع اليد وحفظ حياته طاهرًا، وكأنه باشتراكه في اختيار كهنة طاهرين في كل شيء يشترك معهم في طهارتهم، وإلا فإن كل شر أو شبه شر يرتكبونه يدينه هو، فيُحسب في عيني الله كمن هو غير طاهر.

6. وصية خاصة بصحته ٢٣.

لا تكن فيما بعد شراب ماء،

بل استعمل خمرًا قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة” [23].

أظهر الرسول أبوة حانية نحو تلميذه، فألزمه ألا يشرب بعد ماءً، بل يستعمل القليل من الخمر كدواء لمعدته وأمراضه الأخرى. حقًا يظهر الرسول بولس كإنسانٍ متسع القلب، لا يُستعبد للحرفية القاتلة. عندما يجد إنسانًا يتعثر بسبب أكله اللحم المستخدم كذبائح وثنية يحرم نفسه من اللحم، قائلاً: “حسن أن لا تأكل لحمًا ولا تشرب خمرًا ولا شيئًا يصطدم به أخوك أو يعثر أو يضعف” (رو ١٤: ٢١)، وعندما يجد أسقفًا يمتنع عن الخمر نهائيًا بالرغم من حاجته إلى استخدام القليل منه لظروفه الصحية يلزمه بالشرب.

يقول العلامة ترتليان أن تيموثاوس [كان ممتنعًا عن الخمر ليس عن قانون، وإنما بسبب تكريسه.] فالخمر في ذاتها ليست محرمة بقانون لكنها غير لائقة خاصة بالنسبة للمكرسين لخدمة الرب. ويرى القديس إكليمنضس السكندري أن تيموثاوس استخدم الخمر كمقوٍ يناسب جسده المريض الخائر، أما تأكيد استخدام “القليل” منه فخشية أن ينسى المرضى بكثرة الخمر.

يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: لماذا لم يشفه الرسول من أمراض معدته بدلاً من السماح له بشرب القليل من الخمر؟ وجاءت الإجابة: [لكي إذا ما رأينا عظماء وفضلاء مصابين بالضيقات لا نعترض، فإن هذه بالنسبة لهم افتقاد مفيد. إن كان بولس قد أرسل إليه ملاك الشيطان حتى لا يفتخر فوق القياس (٢ كو ١٢: ١١) فبالأكثر يليق أن يصاب تيموثاوس بالضعف. لقد كانت المعجزات التي فعلها كافية أن تسقطه في الكبرياءk لذا ترك للخضوع لعمل الدواء (دون الشفاء المعجزي) حتى يتواضع، وحتى لا يتعثر الغير إذ يتعلمون أن الذين يقومون بأعمال عظيمة هم أناس يشاركونهم طبيعتهم الضعيفة.] هكذا ترك القديس تيموثاوس الذي وهبه الله صنع الآيات والعجائب يئن من المرض ويلتزم بشرب القليل من الخمر علامة ضعفه الشخصي.

7. الخطايا الواضحة والخفية ٢٤ – ٢٥.

خطايا بعض الناس واضحة تتقدم إلى القضاء، 

وأما البعض فتتبعهم. 

كذلك أيضًا الأعمال الصالحة واضحة 

والتي هي خلاف ذلك لا يمكن أن تُخفى [٢٤: ٢٥].


إذ كان يتحدث عن السيامات يعلن الرسول هنا أن بعض الخطايا واضحة وأيضًا الأعمال الصالحة، وبعض الخطايا خفية وأيضًا الأعمال الصالحة. وكأن الرسول يؤكد لتلميذه التزامه بعدم السيامة لمن كانت خطاياه ظاهرة تتقدمه للحكم الكنسي حيث تفحص الكنيسة من يُرشحون للعمل الكهنوتي. لا يقف الأمر عند عدم وجود خطايا ظاهرة، وإنما يلزم أن تزكيهم أعمالهم الصالحة. حقًا يوجد من يظهرون غير ما يبطنون، فأعمالهم الحقيقية مخفية، لذا كثيرًا ما نخطيء في الاختيار. لذا نحتاج في السيامات إلى تدخل الله نفسه فاحص القلوب والكلى. ما أحوجنا إلى الصلاة مع التقديس حتى يختار الله رعاة قلوبهم مثل قلبه!

تفسير رسالة تيموثاوس الأولى 4 رسالة تيموثاوس الأولى 5 تفسير رسالة تيموثاوس الأولى  تفسير العهد الجديد تفسير رسالة تيموثاوس الأولى 6
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير 1 تيموثاوس 5 تفاسير رسالة تيموثاوس الأولى  تفاسير العهد الجديد
 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى