تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 22 للقمص متى المسكين

الأصحاح الثاني والعشرون :

سابعاً: آلام المسيح وقيامته

( أ ) العشاء الأخير (1:22-38)

السر الذي قدسه المسيح ليكون سر الكنيسة
إلى الدهر والأبد، والذي نلنا به سر الدخول
إلى الآب، إذ فيه نأكل المسيح فننال الحياة
ونعرف الطريق وبالدم ندخل الأقداس.

 يفتتح ق. لوقا قصة الآلام بمؤامرة يهوذا مع رؤساء الكهنة كيف يقتلون المسيح. أما من جهة المسيح فاتفق مع تلاميذه أن يأكلوا الفصح معاً، فاجتمع مع ت تلاميذه ليدبروا أمر أكل الفصح معاً. فظهرت المفارقة المذهلة وبرز معنى موت المسيح كفعل إرادي، فهو سيأكل الفصح مع تلاميذه كنوع من تقديس ذاته للحدث! وهو يتقدم إرادياً ليكون الفصح الحقيقي الذي ذبح في مصر لإخراج الشـعب مـن العبودية. وابتدأت المأساة هكذا: قبضوا عليه ـ اتهموه ـ قدموه للموت. وهو لم يمانع لا في القبض عليه بلا سبب ولا دافع عن نفسه أو دافع عنه أحد ـ وسلم . جسده للصلب . كل الإجراءات التي اتخذت ضده باطلة ولكنه لم يعترض. وأخطر ما في القضية أنه لم يدافع عن نفسه إزاء كل الاتهامات التي وجهت ضـده كـخـاطئ وفاعـل شـر ومـضـل للشعب وكاسر للناموس ومحـذف على الله ومحرض للشعب ضد قيصر! لم يدافع عن نفسه أمام المحكمة الدينية في السنهدرين تجاه رؤساء الكهنة والكتبة ورؤساء الشعب. وضرب وكان صامتاً ولم يدافع عن نفسه إزاء القاضي بيلاطس، فكان رد المسيح على سؤال بيلاطس: ماذا تقول إزاء هذه الاتهامات؟، أن بقي صامتاً ولم يقل كلمة واحدة، فثبتت عليه كل الاتهامات ولحكم عليه بالصلب فوافق وسلّم نفسه للجند والصالبين بعد الجلد والضرب .

وبهذا مات المسيح كخاطئ وهذا ما أتى من أجله وتجسّد، ولأنه بريء ولأنه قدوس وابن الله لم يشد عليه الموت أو يمسك فيه، فقام من بين الأموات بجسده الذي مات به وعليه جروحه، ولكن بإمكانية أن يظهر ذاته لمن يريد أن يظهر له ولا يظهر إلا عندما يريد. وهذا هو شأن الجسد الروحاني المتغير. وسنبدأ الآن بالآيات من بدء ترتيب العشاء حتى بدء القبض عليه.

1 – المؤامرة للقبض على المسيح (2,1:22)

(مت 26: 1- 4)
(مر 14: 1و 2)
(يو47:11-53)

1:22 «وقرب عيد الفطير، الذي يقال له الفصح».

ولكنه قرب للتلاميذ بمعنى العشاء والتقديس، غير أنه قرب أيضاً بالنسبة لرؤساء الكهنة بمعنى كل ما يمكن عمله للقبض عليه. ومن هذا المنطلق يبتدئ الإنجيل يأخذ معنيين: : معنى الخلاص ومعنى الدينونة. هنا تعريف الفصح باسم آخر: «عيد الفطير» هو بسبب أن الإنجيل مكتوب للأمم الذين لا يعرفون معنى الفصح  وهي كلمة عبرية تعني: “العبور ، عبور الملاك المهلك من أمام البيوت التي عليها علامة الدم التي لطخت بها عتبة الباب العليا والقائمتان أي بصورة ظاهرة:
+ «فدعا موسى جميع شيوخ إسرائيل وقال لهم: اسحبوا وخذوا لكم غنماً بحسب عشائركم واذبحوا الفصح، وخذوا باقة زوفا واغمسوها في الدم الذي في الطشت ومشوا العتبة العليا والقائمتين بالدم الذي في الطشت. وأنتم لا يخرج أحد منكم من باب بيته حتى الصباح. فإن الرب يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين “يعبر” الرب عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب.» (خر 12: 21-23)

فهذا العيد تذكار دائم لكيف “خلص” الرب شعب إسرائيل من الهلاك والعبودية في مصر. وهذا العيد، عيد الفصح، هو أكبر وأهم الأعياد في إسرائيل، وفي هذا العيد يأتي جميع الإسرائيليين من جميع الأنحاء التي تشتتوا فيها لكي يعيدوا عيد الفصح داخل أورشليم مع الشعب. وهو يأتي في الشهر الأول نيسان في 15 من الشهر عند اكتمال القمر حتى 21 من الشهر. وهذا يوافق تقريباً آخر مارس عندنا.

2:22 «وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه، لأنهم خافوا الشعب».

المرجو أن ينتبه القارئ كيف يبتدئ ق. لوقا رواية الفصح مع رواية قتل المسيح بالتقابل. لأن الفصح هو ذبح حمل العبور، وقتل المسيح أصبح ذبح المسيح على الصليب ليعبر بنا الموت والهلاك وعبودية الشيطان مقابل عبودية إسرائيل تحت سخرة فرعون.

ولكن ما يزيد هذا الاختيار قيمة وعبقرية هو أن هذا الاختيار لهذا التاريخ هو انتهاز رؤساء الكهنة هذا العيد بالذات، لأن هيرودس وبيلاطس يحضران العيد (3:23-12)، وانتهاز فرصة الظلام بعد غروب القمر في الليل الدامس (53:22). وعلى القارئ أن يعيد النظر في هذه الآية فهي تحمل كل الاحتمالات كيف يمسكونه «يطلبون كيف يقتلونه» ومن هذه الجملة نفهم أن موضوع قتله أمر منته عندهم، ولكن كيف؟ ويلاحظ أنه من بدء خدمة المسيح والرؤساء يتحرقون شوقاً للتخلص من المسيح، ولكنهم دائماً كانوا يخافون الشعب الذي تعلّق به، أما بعد تطهيره للهيكل واصطدامه مع رؤساء الكهنة فقد بلغ التآمر على قتله أقصاه. والذي سهل لهم مسألة القبض عليه واحد من التلاميذ الاثني عشر: يهوذا الإسخريوطي، ففرحوا به ووعدوه بمال.

وبعد أن أقام المسيح لعازر من الموت زادت شعبية المسيح للغاية، فطلبوا التعجيل في تتميم خطتهم. وخدمة المسيح الأخيرة داخل الهيكل كانت في حضور شعب الشتات الذي كان يقدر بأكثر من مليون نسمة، هذا أيضاً أربك رؤساء الكهنة لأن خدمة المسيح أصبحت تشكل لهـم نـوعـاً مـن الإحساس بالصغر والضعف إزاء أعماله وأقواله الباهرة.

2 – خيانة يهوذا (3:22-6)

(مت 14:26-16)
(مر 11,10:14)

6-3:22 «فدخل الشيطان في يهوذا الذي يدعى الإسخريوطي، وهو من جملة الإثني عشر. فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم. ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة. فواعدهم. وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم خلوا من جمع».

آخر مرة تقابلنا فيها مع الشيطان كانت في تجربة المسيح لما انهزم وتركه، ولكن نذكر القول إنه تركه « إلى حين» (13:4). هنـا جـاء الحـين عـنـدما استطاع الشيطان أن يأخـذ أكبر تلميذ عنـد المسيح تلميذاً صغيراً عنـده. كان الشيطان قد فقد الأمل أن يصطاد المسيح بواسطة أعوانه الكتبة والفريسيين ورؤساء الكهنة، ولكن وقد سقط واحد من الاثني عشر ابتدأ يلعب بهذه الورقة الثمينة جداً. وقام يهوذا بدوره الأول في المأساة.

«فواعدهم»: 

الكلمة اليونانية هنا أكبر من “فواعـدهـم” فهي تعني أنه وافق تماماً fully consented. وإذ فلت الزمام من يد يهوذا وقد استلمه الشيطان، فهو يعرف أين ومتى وكيف بهذه الآلة الطيعة، أي يهوذا الذي أصبح تلميذ الشيطان، أن يحقق مآربه. فالآن قد سلّم يهوذا قضية قتل المسيح لأيادي الرؤساء.

3 – الإعداد للفصح (13-7:22)

(مت 17:26-19)
(مر 12:14-17)

7:22و8 «وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح. فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً: اذهبا وأعدا لنا الفضح لنأكل».

كان هذا يوم الخميس 13 نيسان، وفي اليوم التالي كان يرفع الخمير من كافة أركان البيت ويخفى. والآن أخذ المسيح المبادرة، فأرسل بطرس ويوحنا، وقد اختار المسيح هذين التلميذين اللذين عرفهما سِرّ المكان فقط، لأن المسيح احتفظ كل هذه الأيام بالسرية الكاملة حتى لا يعطي الشيطان فرصة للإيقاع به قبل “الفصح”. لأن الرب قد دبر بالفعل أن يكون هو الفصح”، «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا» (1كو 7:5)، وهذا واضح في إنجيل ق. يوحنا الذي جعل عشاء الخميس الإعـداد للفصح ليكون يوم الجمعة هو الفصح الحقيقي في 14 نيسان، وهذا صار الطقس المقدس للكنيسة الأولى. والقديس كليمندس الإسكندري يقول:

[إن الرب لم يأكل فصحه الأخير في اليـوم القانوني الذي للفصح بل أكله في اليوم السابق 13 نيسان، وتألم بالصلب في اليوم التالي صائراً هو فصحنا].

فبولس الرسول لم يعتبر العشاء الأخير هو الفصح بل موت المسيح الذي هو الموافق لذبح الفصح. لأن المثل للمثيل (أي المسيح للفصح) لا يتفقان إلا إذا ماثل ذبح المسيح بالتمام ذبح الفصح في اليوم المخصص له رسمياً.

9:22- 13 «فقالا له: أين تريد أن نعد؟ فقال لهما : إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء. إتبعاه إلى البيت حيث يدخل، وقولا لرب البيت: يقول لك المعلم: أين المنزل حيث أكل الفصح مع تلاميذي؟ فذاك يريكما علية كبيرة مفروشة. هناك أعدا. فانطلقا ووجدا كما قال لهما، فأعدا الفصح».

ضبط هذا الكلام موجود في آخر آية: «ووجدا كما قال لهما» لأن المسيح سبق فأعد كل شيء سرا مع صاحب البيت، الذي بحسب رأينا هو ق. مرقس الإنجيلي. وواضح أنه هو الذي وضع أول صورة للفصح الذي عمله المسيح مع تلاميذه، وهو الذي شارك فيه دون أن يذكر اسمه. أما الإنسان حامل جرة الماء فهو أمر مستغرب في أورشليم، لأن الذين يحضرون الماء في الجرة هم النساء. ولكن يوجد طقس اسمه طقس عمل الفطير وفيه يذهب كبير أو صاحب البيت ليستقي من الماء لعمل الفطير حسب التقليد.

عشـاء الفصح (لو 22: 14-18)

16-14:22 «ولما كانت الساعة اتكأ والإثنا عشر رسولاً معه، وقال لهم: شهوة اشتهيت أن اكل هذا الفضح معكم قبل أن أتألم، لأني أقول لكم: إني لا أكل منه بعد حتى يكمل في ملكوت الله».

منظر العلية المفروشة وصاحب البيت مرقس يخدم، والاثنا عشر جلوساً حول المائدة الأرضية والمسيح في الوسط، كانت أول صورة لأول كنيسة على الأرض. وكانت تمثل جسد المسيح حقا، يحييه الحب الذي أحب به المسيح تلاميذه كإخوة في عائلة سمائية هو الأكبر أو الرأس فيها. وأسمع صوتاً خارجاً من قلب المسيح يعبر عن وداع الحب الممزوج بالدم في صورة شهوة اشتهاها المسيح قبل أن يتألم : أن يحتضن تلاميذه ويطلب من الزمن أن يلتقط له صورة تذكارية تعبر عـن أقـدس يوم في حياة ابن الإنسان مع تلاميذه، لتحتفظ بها الكنيسة عوض الفصح القديم. فلأول مرة في حياتنا نسمع أن المسيح يشتهي، ويشتهي أن يأكل، لأن الخبزة التي كسر وأخذ منها وأعطى صارت هي عينها وفي هذه اللحظة الفريدة من يوم الخميس هي نفس الجسد المعلق على الصليب يوم الجمعة. إذ لما كسر أعطى قائلاً هذا هو جسدي. وهكذا أعطى ليوم الخميس رهبة وجلال يوم الجمعة، وللخبزة المكسورة قوة وجلال الصليب والجسد المائت عليه والمطعون! وهتف بالتلاميذ والزمن يسجل: اصنعوا هذا لذكري. لا لتذكار المسيح؛ بل تذكار مسيح الصليب والجسد المكسور والعائلة الواحدة والحب وشهوة العبور !!

وحتى لا تضغط على مشاعرهم كلماته الوداعية بأحاسيسها السرية جداً، فيشعروا بالخسارة المريعة لذهابه، طمأنهم أنه سيشربها معهم جديداً في الملكوت. يشربونها ولها قوة النصرة ومحد القيامة وحضرة الآب وتسبيح يدوم!!

17:22و18 «ثم تناول كأساً وشكر وقال: خذوا هذه واقتسموها بينكم، لأني أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله».

وضع عجيب أنه أعطى للكأس ليس قوة الشركة بعد بل سبق تذوق الملكوت الآتي، والقسمة قسمة حب الأغابي وليس الدم. فقد جعل هذه المائدة صورة الملكوت الآتي في ألفة الحب وشركة الأخوة. لم يأكل ولم يشرب كأنه عهد حتى يأتي الملكوت .

4 ـ تأسيس عشاء الرب – (20,19:22)

(مت 26:26-29)
(مر 22:14-25)

19:22 «وأخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم. إصنعوا هذا لذكري».

هذا جبرؤوت المصلوب، كيف يصلب نفسه بلا خشبة ولا مسمار، وبسكين سر الشكر الأعظم قسم جسده واستودعه خبزة، دفعها لهم خبزة وهي جسده مذبوحاً من أجلهم بفعل أبدي يأخذون منه كيفما شاءوا، خبزاً حيًا ويذكرون ذبحه.
هكذا صنع المسيح من يوم الخميس تذكاراً ليوم الجمعة يدوم فوق الزمن.

فحينما صنع العشاء صنع الفصـح بـآن، حتى حينما نكسر الخبز نستحضر الصليب والجسد والمسامير والحربة. 

20:22 «وكذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم».

بإرادة الفدية ذبح نفسه حيا، وملأ كأسه دماً، وأعطاه لتلاميذه ليشربوا عـهـده الجديد ويذكروه كلما شربوا، ويذكروا عهده ويعيشوا به جدة الحياة. وهكذا بعشاء الخميس صنع فصحاً بدمه استودعه نفسه حيا ليسقيهم بيديه كلما صنعوا.

هكذا ضمن المسيح قبل صعوده أن يستودعنا جسده الخاص ودمه الحي تأكيداً لدوام حضـوره وتحقيقاً لقوله لتلاميذه: «ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر آمين.» (مت 20:28)

وعندما قال: «هذا هو جسدي» و «هذا هو دمي» فهو يقدم نفسه حقيقة سرية منظورة وملموسة في الخبز والخمر ليبقى هو كما هو بعد صعوده بيننا حقيقة منظورة وملموسة بالإيمان في ذات الخبز والخمر الإفخارستي. والكاهن يؤكد هذه الحقيقة عندما يقيم الإفخارستيا كالتدبير مشيراً إلى الخبز والكأس بعد تقديسهما صارخاً: الجسد المقدس والدم الكريم اللذان لمسيحه الضابط الكل الرب إلهنا، والشعب يصرخ ساجداً: نسجد لجسدك المقدس ولدمك الكريم. إنه سجود لحضور حقيقي للمسيح، إنها الوحدة الإلهية بين الكلمة اللوغس وجسده ودمه تماماً تماماً كما كان حاضراً وقت عشاء الخميس بشخصه كابن الله الكلمة المتجسّد وبآن واحد في الإفخارستيا التي على يديه: الجسد المقدس والـدم الكريم، وهكذا أصبحت الإفخارستيا تحقيقاً جوهرياً لحضور المسيح وتحقيقاً بالتالي لقوة وفعل الكلمة اللوغس في الجسد والدم.

ولذلك أصبح للجسد الذي يعطيه الكاهن قوة التقديس الذي للاهوت الكلمة الاتحاد الجوهري والإقنومي الذي تم بين الكلمة والجسد، كذلك الدم الذي في الكأس أصبح له أيضاً قوة إعطاء الحياة، فهو هو الدم المحيي الذي للكلمة ابن الله.

وبفعل القوة المعطاة في الجسد والدم للتقديس والحياة بفاعلية الكلمة اللوغس أصبح لنا القدرة على التغيير والتجدد: «ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى محد كما من الرب الروح» (2كو 18:3). فأكل الجسد وشرب الدم ليسا بعد أكلاً وشرباً ساذجاً بل هما أكل حق وشرب حق، أي أكل حقيقي وشرب حقيقي للوغس الكلمة، لأن الجسد كجسد بمفرده لا يفيد شيئاً كقول المسيح ولكن الروح الله ” أي اللاهوت في الجسد هو الذي يحيي. وهنا تبرز قوة المعنى لسر قول المسيح: «فمن يأكلني فهو يحيا بي» (يو 57:6). هنا يقف الأقنوم والجسد معاً بلا انفصال، كما يستعلن بوضوح الارتفاع عن مستوى المادية من أي نوع: «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة.» (يو 63:6)

بهذا ننتهي بحقيقة لاهوتية غاية في الأهمية وهي أننا حينما نشترك في الجسد والدم نحن نأكل المسيح كقوله وبالتالي نتحـد بـه بالسر الفائق: «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنـا فيـه» (يو 56:6). هكذا أصبحت الإفخارستيا هي الواسطة السرية المقدمة بسخاء الله والمسيح لندخل في شركة مع المسيح واتحاد، وهذا يتحتم أن يدخل في صميم الإيمان المسيحي.

على أن قوة وفاعلية الجسد والدم التي هي أصلاً قوة وفاعلية الكلمة اللوغس المتحد بالجسد والدم للتقديس والحياة تتجه مباشرة وسرا للجسد الجديد الذي للخليقة الجديدة لتهبه قوة وحياة ونماء. ففعل الإفخارستيا كدواء عـدم الموت أو كترياق الخلـود هـو مـن نصيب الخلقة الجديدة للإنسان الجديد فينا يتغذى عليها بالروح سرا ليقوى ويثبت وينمو في الرب، لذلك يخطئ من يقول إن جسد المسيح يغذي أو يعالج أو يشدد جسدنا الترابي، هذا ينافي في الحقيقة أن الفاسد لا يمكن أن يرث أو يتغذى على عدم فساد في الحياة الحاضرة. فالإفخارستيا عمل وتقديس إلهي يخص الإنسان الجديد الروحاني يرفع عنه ثقل الخطايا ويمده بضمير عدم الخطايا للفرح والشكر الدائم، كما يمده بالغذاء الروحي والنـور والحـق والحياة ودوام الثبوت في الرب ويسنده في غربته على الأرض إلى أن يكمل ويمضي إلى موطنه السمائي.

5 – المسيح يسبق ويكشف سر الخائن (21:22-23)

(مت 21:26-25)
(مر 18:14-21)
(يو 21:13-30)

يفتح المسيح ملف يهوذا الخائن لأول مرة، باعتبار أنه عضو فعال في فصح الجمعة، الذي يقام مساء الخميس في مائدة العشاء جوهرياً. يهوذا يحسب قاتلاً على المستوى الروحي، لأنه تلميذ استؤمن على حياة وسر المعلم فكان الدليل والشريك لعملية القبض. وحينما أعلن السيد: «أبقبلة تسلم ابن الإنسان» اعتبر أول من طعن المسيح في القلب وفتح الباب ومهد الطريق للصالبين، فهو شريك رسمي للجريمة. لأن بتسليمه المسيح لرؤساء الكهنة يعتبر موافقاً على كل اتهاماتهم للمسيح، بل كتلميذ مؤتمن على أسرار السيد، ثم يقوم بتسليمه للموت يكون أكبر وأصدق شاهد على استحقاق المسيح للموت، كونه يعرف فرضاً كل شيء عن المعلّم. فهذا الدليل والشاهد يمكن أن تقوم عليه مصداقية القضية كلها بصفته شريك حياة للمتهم أي المسيح. فهو بالنسبة للجنة السنهدرين المنوط بما فحص ملف المتهم دلیل قاطع على صحة الاتهامات كلها الموجهة للمسيح.

أما لماذا لم ينصحه المسيح؟ فالمسيح كانت عظاته كلها تلقى على مسامعه ونال بركة الإرسالية للخدمة، وخدم مع التلاميذ حتى يوم الخميس هذا، ولكن المسيح لم يواجهه لأنه قبل خيانته كإحدى الخطايا التي حملها عن البشرية. فالمسيح لم يحاول أن يبرئ نفسه من أي ذنب وضع عليه، وبالتالي لم يحاول أن يمنع الصالبين والخائنين من خطيتهم لأنها من صميم اختصاصه. ألم يقل عليه الفريسيون: إنه يأكل مع العشارين والزواني”، فما معنى هذا أليس أنه شريكهم، وفي هذا أيضاً لم يدافع إلا مرة واحدة حينما قال إنه طبيبهم الخاص وأنه جاء في إرسالية خاصة من أجلهم. 

ولكن المسيح أعطاه الويل لأنه استهان بالقدوس مسيح الله وازدرى بالروح وداس الدم بل سفكه! بعد أن ذاق الموهبة السمائية: «فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق، لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف، وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين» (عب 10: 26و27). أما المال الذي كان يسرقه من الصندوق فاشترى به أخيراً حبل المشنقة! ولكن الويل الأعظم هو فيما بعد المشنقة!

23-21:22 «ولكن هوذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة. وابن الإنسان ماض كما هو محتوم، ولكن ويل لذلك الإنسان الذي يسلمه. فابتدأوا يتساءلون فيما بينهم: من ترى منهم هو المزمع أن يفعل هذا؟»

هذا الكلام يوضح أن يهوذا لم يكـن ظـاهراً لهم في سلوكه، لقد أخفى كل عيوبه، إلا أنهـم كـانوا يعلمون أنه يأخذ كل ما يلقى في صندوق الإعانات الذي كان مؤتمنا عليه. وربما هذا الداء هو الذي أوصله لفضة رؤساء الكهنة، فكانت بالنسبة له صفقة الهلاك الأبدي: «لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة … فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك.» (1تي 10:6و9).

كانت الخطية المطروحة بينهم غير معقولة، ولكنها كانت معقولة عند يهوذا.

6 – من هو الأكبر (24:22-27)

(مت 24:20-28)
(مر 42:10-45)

غسل أرجـل تلاميذه قبـل تكـميـل سـر العشاء ليجعـل سـر
الاتضاع قبل سر الخلاص. الرب انحنى على أرجل
تلاميذه ليسلمنا طريق الانتصار على الذات، وأعطى
نفسه مثالاً لكي ننحني للأصغر.

24:22 «وكانت بينهم أيضاً مشاجرة من منهم يظن أنه يكون أكبر»

يبدو أن المشاجرة التي حدثت فيما بينهم كانت حول الجلوس على المائدة، لأن ذلك كان بترتيب خاص في كل عائلة يهودية. وكان هذا هو الجاري مع المسيح وتلاميذه: أن رب الأسرة يجلس في منتصف المائدة الأرضية، ثم يجلس عن يمينه أكبر الأولاد بصفته المرشح لأي ظرف أن يحل محل أبيه إذا غاب أو إذا انتقل، أما الأصغر فيجلس عن شمال الأب كناية عن العطف، إذ يكون هو أكثر الذين يعطف عليهم الأب. فلما جاء دور الجلوس على المائدة وقت العشاء حدثت هذه المشاجرة بين أكبر التلاميذ سنا وهو يهوذا الإسخريوطي وبطرس لأنه فرض نفسه أن يكون الأول دائماً، لأنه يبدو أنه كان هو الذي يقدمه المسيح في كل شيء ويعتمد عليه في حل الأمور بنوع من الثقة. لذلك لما جلسوا على العشاء جاء مجلس يهوذا على يمين الرب مباشرة وبعده بطرس، فلما أراد بطرس أن يتكلم مع يوحنا لم يستطع لأن يهوذا بجواره، فأومأ إليه (أي غمز بعينيه) أن يسأل من من التلاميذ سيسلمه:
+ «وكان متكئاً في حضن يسوع واحد من تلاميذه، كان يسوع يحبه (وهو يوحنا) فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه (كل هذا بالإشارات). فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له: يا سيد، من هو؟ أجاب يسوع (سرا): هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي.» (يو 13: 23-26) 

وهكذا يتضح أن المشاجرة كان سببها يهوذا الخائن الذي سلم المسيح وكان يسرق الصندوق، وهكذا يتبرأ بقية التلاميذ، والسيئات كلها تراكمت فوق رأس يهوذا.

25:22و26 «فقال لهم: ملوك الأمم يسودونهم، والمتسلطون عليهم يدعون محسنين. وأما أنتم فلیس هكذا، بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم».

المسيح هنا يضع أساس الرئاسة والأولوية في الجماعة المسيحية أن لا تكون على النظام السياسي الاجتماعي، فالملك هو الذي يسود على الشعب، ولكن بعض شخصيات أخرى تزاحم لكي تأخذ الرئاسة والأولوية عن طريق إعطاء إحسانات للناس فيحبهم الناس ويحترمونهم ويكرمونهم، فهو نوع من استغلال المال لشراء الكرامة. وهؤلاء كانوا يدعون قديماً عندنا باسم “عطوفة الباشا”، أي المحسن الذي يغدق على الفقراء.

ولكن في الحياة المسيحية وبالذات ذات الروح المتجددة أي أصحاب الإنسان الجديد، لا يتقدم الجماعة إلا أكثرهم تواضعاً ومحبة وبذلاً، يأخذونه بالقوة ويجعلونه رئيساً عليهم. هكذا كان يحدث في اختيار البطريرك القبطي في مصر، فكان الأراخنة يبحثون في كل مكان في البلاد حتى يعثرون على شخصية متجددة، فيها روح الله، مشهورة بالتواضع، فيسلسـلونه ويأخذونه بالقوة ويرسمونه بطريركاً عليهم. هذا تطبيق حرفي لوصية المسيح. لذلك كان بطريرك الأقباط مهاباً جداً، فيه روح الله، يخدم ويبذل ويعرف بالروح كيف يدبر كنيسته بإرشاد الله

27:22 «لأن من هو أكبر؟ الذي يتكي أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكي؟ ولكني أنا بينكم كالذي يخدم».

 هنا يتضح للقارئ أن الذي قلناه عن المشاجرة أنها كانت بخصوص الجلوس على المائدة يظهر جداً هذه الآية التي قدمها المسيح ليثبت أن “خادم القوم سيدهم كما يقولون. والمسيح يقصد بالخدمة توزيع الأنصبة وتقديم المأكولات للجالسين، والمسيح فعلاً كان كذلك. وإمعاناً في إظهار روح الخدمة بمفهومها الكامل أي خدام”، هكذا تمـم المسيح غسيل الأرجل مع تلاميذه بسبب شجارهم على الجلوس على المائدة. وواضح هذا في إنجيل ق. يوحنا بالرغم من أن موضوع الشجار غير مذكور، ولكن قدمها المسيح في أحرج ساعات العشاء الأخير: إذ قام عن العشاء وصب ماء في طست وأخذ يغسل أرجلهم واحداً واحداً وبعدها جلس وقال مثله هذا أيضاً:

+ «قام عن العشاء، وخلع ثيابه (كما يفعل العبيد) وأخذ منشفة واتزر بها، ثم صب ماء في مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ … فلما كان قد غسل أرجلهم وأخذ ثيابه واتكأ أيضاً، قال لهم: أتفهمون ما قد صنعت بكم؟ أنتم تدعونني معلماً وسيداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك. فـإن كنـت وأنـا الـسـيد والمعلـم قـد غسلت أرجلكـم فـأنتم يجـب عـلـيـكـم أن يغسـل بعضكم أرجل بعض … الحق الحق أقول لكم: إنه ليس عبد (أنتم) أعظم من سيده (أنا)، ولا رسول (أنتم) أعظم من مرسله (أنا). إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه.» (يو 13: 4-17)

ولكن لكي يعرف القارئ أن سبب المشاجرة هو نفسه يهوذا الإسخريوطي أضاف المسيح بعد غسل الأرجل: «لست أقول عن جميعكم. أنا أعلم الذين اخترتهم» (يو 18:13) يقصد يهوذا!!

ولكن في الحقيقة لو ننظر إلى المسيحية وما أصابها من انقسامات الكنائس إلى عقائد والعقائد إلى شيع، والشيع إلى بدع، كل هذا لأن المسيحية لم تأخذ بـدرس غسيل الأرجل ولا بوصية المسيح أن الأكبر يكون خادماً. ولا يزال الشجار في من هو الأعظم هو السائد على كل الكنائس والسائد في كل كنيسة. وإن لم يتدخل المسيح ليبكت الكنيسة، فإلى هوان.

7 – دور التلاميذ في المستقبل (28:22-30)

(مت 28:19)

30-28:22 «أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر».

أراد المسيح أن يقنع التلاميذ أن نصيبهم السماوي محفوظ لهم، فلا ينظروا إلى الكرامة الأرضية ولا إلى من هو أعظم، لأنه ليس يوجد من هو أعظم منهم عند المسيح وهذا يكفيهم ويرضيهم. فالكلام المريح هنا والوعد بالكرامة فوق ينبغي أن يكون كافياً لهم حتى لا يطلبوا المجد والكرامة على الأرض. والمسيح وضع لهم ما يقنعهم بصحة كلامه أن ما سيعطيهم فوق هو حقا نصيبهم إزاء الآلام والتجارب التي جازوها وسيجوزونها بالأكثر بعد هذا، لكي يطمئنوا أن أجرهم عظيم في السموات .

فالملكوت هنا هو دائرة نفوذهم كرسل المسيح الاثني عشر المذكورين في سفر الرؤيا (رؤ 14:21) أنهم موضوعون كأساس لأورشليم السماوية، «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية» (أف 20:2). والاثنا عشر تلميذاً هـم الصورة الأخروية للأسباط الاثني عشر، حيث يقسـم عب الله إلى ملكيــات تمـلـك الأثـنـي عشـر.

وعلى كل حال ليس عندنا أي سند نستند عليه في الحديث عن الملكوت فوق. أما الملكوت الذي أسّسه المسيح على الأرض فهو الكنيسة التي هي نفسها ستتجلّى فوق كأورشليم السماوية. أما الأكل والشرب على مائدة المسيح فهو المعبّر عنه بوليمة الملكوت التي نسمع عنها سمعاً، أما إدراكها بالوعي المفتوح فغير موجود الآن.

ولكن نخرج من هذا كله بإحساس غامر أنه ينتظر الرسل والقديسين الذين تألموا من أجل المسيح نصيب سماوي لا يخطر على بال. كل ما وصلنا منه حتى الآن هو ومضات من الفرح ولهج الروح بالمجد الآتي.

8 – التنبؤ بإنكار بطرس (31:22-34)

(مت 31:26-35)
(مر 27:14-31)
(يو 36:13-38)

ظن بطرس أنه إلى السجن والموت يتبع الرب،
وأمام جارية خار دونما سجن أو موت. فحينما
تتعظم الذات في نظر صاحبها تجلب لصاحبها
العار، والإنسان المتكبر يسقط مرة والمكابر ثلاثاً.

31:22و32 «وقال الرب : سمعان سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة! ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبت إخوتك».

يبدو أن مناسبة العشاء الأخير كانت كشف حساب لما كان عليه التلاميذ من ضعف. كان أخطر ما ينتظرهم هو أن يحصدهم الشيطان بعد أن استولى على يهوذا. فهذا بطرس الأول بينهم والكبير والمدافع ومن أول من آمنوا ونادوا بالمسيا، كان يبدو أنه سيذهب مذهب يهوذا ومعه الباقون!! اسمع صوت المسيح الواضح للغاية: «سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة» والكلام موجه إلى بطرس المدعي القدرة أنه قادر أن يموت عن المسيح!! يهوذا أخذ بالفضة، وبطرس أخذ بالجرأة الكاذبة والشجاعة التي تنتهي بالهرب والتهرب والجري في الظلام!! فإن كان يهوذا قد سقط وبطرس يتهاوى، فمن منهم يقــف؟ وقـد نـجـح الشيطان أن يسوقهم أمامه سوق الريح. حينما رأوا العسكر ورؤساء الكهنة ورؤساء الشعب في جثسيماني تركوه كلهـم وهربوا، ووقف السيد وحده وهو ليس وحده. كانت ليلة العشاء ذات تفتحات على بؤر الظلام وذات شجون، وقد سلط المسيح النور على الشيطان واقفاً وبيده غربال المروعات ومهزة الأهوال حضرها جيداً ليـوم الظلمة: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة» (53:22). ولكن وقف السيد في قمة العاصفة لينتهر ريح الشيطان ويبكم أمواج الأهوال التي صورها للتلاميذ!! «ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك» وماذا عن باقي التلاميذ؟ «وأنت متى رجعت ثبت إخوتك» كانوا كلهم قد ترنّحوا فوق غربال العدو والسقوط، والهاوية فاتحة فاها لتبتلعهم، لولا السيد الذي انتهر الشيطان فتراجع بغرابيله!

كانت ساعة العشاء بداية أقصى حركة للشيطان كما كانت بداية العهد الجديد. والمسيح بعينيه التلسكوبيتين يرصد حركات الشيطان سواء فيما يخصه أو فيما يخص التلاميذ. فابتدأ ببطرس لأن ساعة إنكاره العلني للمسيح قد حلت، وإن لم يحذره المسيح ويسنده بآن واحد لانتهى. أما تحذيره فظهرت قوته وفائدته لميا صاح الديك صيحاته وأيقظ بطرس من إنكاره فبكى وكانت علامة الشفاء. ويبدو أن بطرس خرج مسرعاً لينقذ الباقين الذين تملكتهم الرعبـة وتحصنوا في بيت ق. مرقس وقفلوا الأبواب بالمتاريس، ووراءها جلسوا يترقبون القبض والمحاكمة، وأخذهم الندم كل مأخذ!!

33:22و34 «فقال له: يارب، إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت. فقال: أقول لك يا بطرس: لا يصيح الديك اليوم قبل أن تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني».

هذه هي الجرأة الكاذبة، والشجاعة التي لا تسندها قـدرة لا توصل صاحبها إلا إلى بداية الطريق ويخور. منظر بطرس وهو يقول هذا ويتشدد منظر إنسان أقسم إلا أن ينازل الشيطان.

فالرب هنا لا يزال واقفاً أمام المحققين من رؤساء الكهنة ورؤساء الشعب، وبطرس في الدور الأسفل أكمل مهمة الإنكار ثلاث مرات وبقسم أنه لا يعرف هذا الرجل (المسيح). هنا بطرس بالكاد استطاع أن يحضر المحاكمـة مـن علـى بعـد وانتهى عزمه وأنكر سيده ثلاثاً. أما الباقون فاختبأوا … وصـال الشيطان وجال. وطوبى لمن يعرف قدر نفسه!

9 – الكيس والسيف (35:22-38)

القديس لوقا وحده

35:22و36 «ثم قال لهم: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية، هل أعـوركـم شيء؟ فقالوا: لا. فقال لهم: لكن الآن، من له كيس فليأخذه ومزود كذلك. ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفاً».

الرب قال الآية الأولى (35) ليستطيع أن يتكلم عن موقف التلاميذ المكشوف: خوف وجزع وندم، مما أثار أطماع الشيطان فيهم. ذكرهم بقوة الإيمان الذي عاشوا به وعملوا الآيات والمعجزات وأخرجوا الشياطين!! ولم يكن معهم لا زاد ولا مزود ولا نحاس في مناطقهم!

والآن وقد تزعزع الإيمان وخارت روح الاتكال على الله، فلابد أن يحملوا المال والزاد والسيف! ولن يجديهم نفعاً. ويبدو أن المسيح تكلّم بما أضمروه في نفوسهم من الاعتماد على الذراع والباع. 

37:22و38 «لأني أقول لكم: إنه ينبغي أن يتم في أيضاً هذا المكتوب: وأحصي مع أثمة. لأنّ ما هو من جهتي له انقضاء. فقالوا: يارب، هوذا هنا سيفان. فقال لهم: يكفي!»

المسيح يتكلم وصورة الآتين للقبض عليه هذا المساء أمامه، وهؤلاء هـم الأثمة بسيوف وعصي، وسوف ينتهي هذا المهرجان من الأثمة وصانعي الإثم. ولكن أنتم ماذا أنتم؟ أثمة أم تلاميذ؟ فقالوا: يا رب هنا سيفان عوض الإيمان” فقال لهم كفي!! كفى قلة إيمان وكفى غباء. صورة حزينة. وكان هذا آخر حديث عشاء الخميس.

(ب) القبض على المسيح ومحاكمته (39:22 – 25:23)

تُعتبر المدة الزمنية التي سيجري فيها الحديث من نهاية العشاء السري إلى الصليب متواصلة والحديث وحدة كاملة. والقديس لوقا يتبع فيها منهج ق. مرقس، ولكن هناك اختلافات هامة في بعض النقاط. وتوجد شواهد توضح أن ق. لوقا قد استخدم أيضاً مصدراً آخر غير إنجيل ق. مرقس.

وواضح أن المسيح كرس نفسه لمواجهة كل ما سيحدث في جبل الزيتون، متمشياً مع القصة التي تكمل ذاتها حتى القبض عليه وذهابه مقيداً إلى بيت رئيس الكهنة، مع تحمله بصبر وهدوء بالغ كل أعمال الاستهزاء التي شفى بما رؤساء الكهنة غليلهم من يسوع الذي صغر نفوسهم وألبسهم الهـوان هذه الثلاث سنوات ونصف (22: 39-46 و22: 47-53 و22: 63-65). وفي الوقت نفسه خذله التلاميذ على طول المدى، إلى أن انتهى خذلانهم بإنكار بطرس للمسيح علناً وثلاث مرات (22: 62-54). بعدها اختفى التلاميذ من مسرح العمليات بكل بساطة! لذلك تركزت الأضواء على المسيح وحده كموضوع الفحص والامتحان أمام السنهدرين (22: 66-71). بعدها قدم أمام بيلاطس (23: 1-5 و23: 13-25)، ثم أمام هيرودس (23: 6-12). وتبلورت الإجراءات إلى اتهام المسيح وإدانته بالرغم مما عاناه التحقيق من عدم وجود إثباتات عليه، وانتهى المحققون بأن المسيح ليس عنده شيء يرد به عليهم.

1 – صلاة جثسيماني (39:22-46)

(مت 36:26-46)
(مر 32:14-42)

صلاة جثسيماني حولت العرق دماً يتقطر.
وهكذا صار جهاد الصلاة فدية.
جزع من مرارة الكأس وبالصلاة صار حلواً.
وجثى ثلاث مرات وفي الثالثة نال قوة!

يتتبع ق. لوقا المسيح من العلية حتى جبل الزيتون مع تلاميذه. ومن دراستنا في إنجيل ق. مرقس وتاريخ نزوح القديس مرقس من القيروان بليبيا إلى أورشليم مع العائلة ذات الثروات التي جمعت على عجل إثر غارة البربر، واستقرارهم في أورشليم، عرفنا أنهم اشتروا البيت الكبير ذا العلّية الكبيرة، ثم حديقة في جبل الزيتون للتعايش منهـا كمزرعة لشجر الزيتون ومعصرة لزيت الزيتون، ومن هنا جاء اسمها جثسيماني أي معصرة الزيت. وكان فيها بيت ريفي كان يلجأ إليه المسيح للصلاة وقضاء طول الليل في الصلاة والعودة في الصباح طول مدة إقامته في أورشليم. لذلك لما وصل المسيح مع تلاميذه دخلوا هـم البيت وقال لهم: «امكثوا أنتم هنا» وأخذ بطرس وابني زبدي وخرج إلى البستان وأبقاهم بجواره على مسافة رمية حجر ووقف هو يصلي، وكانت صلاته طبعاً مسموعة ونقلت في مكانها.

ولكن لاحظ ق. لوقا في سلوك التلاميذ إن كان في الصلاة أو مشاركة المسيح موقفه أن سلوكهم كان معيباً، إذ لم يستطيعوا حتى أن يبقوا ساهرين بل ناموا، لذلك جاز المسيح المعصرة وحده. وكأن أول اختبار قاس عانى فيه المسيح من خذلان تلاميذه، ولكنه كان قد أعد نفسه لما هو أكثر. وهكذا جاز الاختبارات وراء بعضها وكل المحن ببأس شديد وإصرار على المواجهة دون خذلان. ولكن لم يستطع ق. لوقا أن يعطي صورة للمسيح كما يجب في جهاده بسبب الاختصار والحذف. وتسجيل ق. لوقا لظهور ملائكة تقويه لم يذكره ق. يوحنا في إنجيله ولا ق. متى ولا ق . مرقس.

لم يذكر ق. لوقا الجزء الهام في وليمة الفصح وهي التسابيح النهائية التي أعطت لسر العشاء بهجة وجـلالاً (بحسب الطقس اليهودي)، ولكـن ق. لوقا لم يكن يهتم إلا بالأجزاء ذات العنصـر اللاهوتي والتاريخي.

 ومعرفة يهوذا للمكان تأتي من أن المسيح كان دائماً يذهب إلى هناك للصلاة، والمكان يرتفع حوالي 140 قدماً عن أورشليم، لذلك لعلوها كانت مكشوفة ومن الصعب الخلود إلى اختفاء كامل للصلاة والعبادة. وإنجيل ق. لوقا لم يذكر اسم جثسيماني لأنه كان يتحاشى أسماء الأماكن وخاصة إذا كان لها معنى عبري.

ومهما قيـل وكتب عن صلاة جنسيماني فإنها لا تعطي أبدأ تصوير هذه الوقفة للصلاة في هذه اللحظة الحرجة التي يبث فيها المسيح أحاسيسه للآب. إن مرارة تخلية رؤساء الكهنة والعلماء اليهود ثم وقفتهم المتحدة ضده، أفرغت إسرائيل من معناها في قلب المسيح. وكان يتحتم ذلك ليأخذ المسيح اسمها الجديد، فالمسيح هو لنا إسرائيل الجديد!! كذلك وقفة التلاميذ على مستوى الضعف الفظيع سلوكياً وفهماً وشجاعة جعلته يشعر بالوحدة الشديدة أمام أبيه: «وتتركونني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي» (يو 32:16). وحينما جاء ثلاث مرات وجدهم نائمين، ولما كثر صلاته ثلاث مرات حسب إنجيل ق. متى اتضح مقدار المعاناة التي كان يحملها في قلبه ونفسه، وذهابه للتلاميذ لعله يجد إنساناً واحداً يتحدث إليه؛ لأن ثقل البشرية بأخطائها وعيوبهـا كـان قادماً ليحملها، ولم يوجـد إنسان يقف بجواره.

39:22و40 «وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضاً تلاميذه. ولما صار إلى المكان قال لهم: صلوا لكي – لا – تدخلوا في تجربة»

+ «ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نياماً من الحزن. فقال لهم: لماذا أنتم نيام؟ قوموا وصلوا ـ “لئلا” ـ تدخلوا في تجربة » (لو 22: 45و46)

كان المنظر كما رأه المسيح، أن ساعة الظلمة قد جاءت، والشيطان يجول جولته الأخيرة يجر في أذياله التلميذ الذي اصطاده ـ يهوذا ـ وهو قادم لمعركته الفاصلة مع المسيح، وقد سلح نفسه برؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والجنـد أيضاً. ورتّب معهم مسبقاً كـل مـا أمـلاه عليهم مـن . بالمسيح. من أجل هذا جاء المسيح إلى جبل الزيتون مع تلاميذه ليلاقيه وهو في حالة صلاة، وأي خطته للإيقاع صلاة!

يكفي أن يسمع القارئ أن عرقـه كـان يتصبب كقطرات دم، وكانت أحاسيسه ملتهبة. وبالرغم مـن أنـه عـالم بأن الضربة الأساسية موجهة إليه، إلا أنه كان يهمه أن يسلح تلاميذه بالصلاة حتى يستطيعوا أن يواجهوا التجربة، أما هو فكان يعد نفسه للتسليم وشرب الكأس بعد ما فرغ من تقديم مشيئته الكاملة للآب. أما تلاميذه فكان يريد لهم أن لا يفنى إيمانهم وقت التجربة.

عندما وصلوا إلى المكان كانت رؤية المسيح ترصد حركات الشيطان، فلم يكن قد تحرك بعد مع رؤساء الكهنة والشعب والجنود وأعوانه. لذلك نبههم بوضوح: «صلوا لكي لا ـ تدخلوا في تجربة »التي جاءت باليونانية بوضوح، لأن التجربة كانت لا تزال على بعد.

واضح لدينا أن الشيطان استطاع أن يضرب التلاميذ بالنوم حتى لا يستطيعوا أن يصلوا، وهو الأمر الذي أصبح واضحاً كخبرة لكل من أراد الصلاة أو الاستطالة في الصلاة. فالتثاؤب والنعاس يثقل الرأس حتى لا تعود أي قوة للصلاة، فإذا ترك الإنسان الصلاة ينشط في الحال ويأخذ يتكلم ويثرثر ويضحك دون أي حاجة للنوم. هنا النوم هو المخدر الذي يسقيه الشيطان للدماغ لكي يحرمه من اليقظة وبالتالي من الصلاة، كالمسكر الذي يوعز الشيطان به للأشخاص لكي بعد أن يسكروا يسوقهم إلى الخطية بلا خوف ولا جزع ولا أي إحساس من الضمير، وبعدها يستيقظ الإنسان ليرى نفسه قد وقع في الفخ وصار صانع جريمة. 

ولكن بعد أن فرغ هو من الصلاة، رأى الشيطان على الباب مع كل أعوانه، إذ بدأت بالفعل ساعة الظلمة وسلطانها، فلما افتقد تلاميذه تحسّر إذ وجدهم نياماً. فأسرع إليهم أن: “قوموا وصلوا ـ لئلا – تدخلوا في تجربة. هنا التحذير نهائي.

والآن نعود إلى المسيح والتلاميذ، فالمسيح لا يريد من التلاميذ أن يصلوا مجرد صلاة، بل أن يكونوا في “حالة صلاة” فلا يستطيع الشيطان أن يقترب إليهم. فإذا سألني سائل: ولماذا لم يمنع المسيح الشيطان من أن يجرب التلاميذ، أقول: نرجع إلى المسيح وقوله لبطرس: «سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك» (لو 31:22و32). لاحظ هنا قول المسيح أن «الشيطان طلبكم» فهو له أن يجرب ولا يمنعه الله. المسيح هنا لم يعد بطرس أن ينجيه من التجربة، بل يستطيع فقط أن يطلب لكي لا يفنى إيمانه بعد أن يسقط في التجربة. وقد سقط بالفعل في التجربة بعد ساعات قليلة من تحذير الرب، فحصد ثمن نومه وعدم طاعة الوصية. معنی هذا أن المسيح لا يتدخل في منع التجربة لأنها تأتي بقياس دقيق بسماح من الله، ولكـن الـذي عمله المسيح هو أنه أعطانا أن نصلي باسمه فلا ندخل التجربة.

إذن بعد أن أعطانا المسيح السلاح القوي وهو الصلاة باسمه القادرة على هدم حصون الشيطان، لم يعد لنا هم: «ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب» (لو 3:10)، ولكن الذئاب المتوحشة تهون، إنما يقصد الذئاب التي يرسلها الشيطان في ثياب حملان أو ملائكة نور، سيان!!! أو حتى بقبلة!! فالإنسان طالما هو في حالة صلاة يكون قد تسلّح ضد التجربة ليجوزها بنجاح لحساب المسيح!!

والمسيح لما علمنا في صلاة أبانا الذي” أن نصلي إلى الآب لكي لا يدخلنا في تجربة، فالمقصود من ذلك أن يفتح وعينا إزاء التجربة وأعمال الشيطان لنستعين بالصلاة إلى الآب دائماً، وحينئذ لا يدخلنا الآب التجربة إن صلينا، ولكن بدون الصلاة يصبح للشيطان مدخل فينا. 

والقصد من هذه التوعية التي نقدمها للقارئ في هذه الأيام هو أن نرصد حركات الشيطان حولنا في كنيستنا وبيوتنا وأسراتنا، لأن إهمالنا للصلاة أعطى فرصاً كثيرة للشيطان أن يدخل في كل مكان ويفسد كل علاقة، والكل لاه عن نشاط الشيطان المخرب، لأنه يستحيل لإنسان أن يحسب أو يكشف حركات الشيطان وتدخلاته إلا بالصلاة.

من هنا كانت وصية المسيح أن نصلي كل حين”، لا بصلاة محدودة، ولكن أن نكون في حالة “وعي الصلاة”، والقلب متصل بالمسيح. وهذه حالة نعتادها بعد أن نكون قد قبلنا نعمة أن تُمارس الصلاة بالروح(1) ولمدد طويلة، إذ ينفتح القلب والذهن لقبول نعمة الصلاة الدائمة التي بما يستطيع الإنسان في أي وقت أن يحس بلهج الصلاة في قلبه الذي يسعفه بالصلاة المسموعة وقت الخطر: «أما أنا فصلاة» (مز 4:109). هذه حالة لا يقربها الشيطان بل يرتعب منها. ويلزم أن لا يكون مخفياً عنّا أن الشيطان ازدادت أعماله ودخلت كل البيوت والكنائس. وهذه الانقسامات والعداوات والتعديات والخصومات تشهد على ذلك وتوعينا أننا في خطر، لأن أي بيت أو كنيسة فيها إنسان كيهوذا يدخل بواسطته الشيطان ليس كضيف بل كصاحب بیت!!

 ولكن ليس بالضرورة أن يكون على مستوى يهوذا، بل يكفي أن يكون قد تأخى مع الخطية ومات  ضميره وصار مقوداً يعمل تحت إيحاء الشيطان.

والآن أصبح من الضروري لكل راعي كنيسة مسئول عن كنيسته، أن يكرس أوقاتاً ثابتة مخصصة لجحد الشيطان الذي يتدخل في وسط الرعية ليستخدم ضعاف الإيمان في تبني إيحاءات الشيطان للمنازعات والانقسامات والتحزبات والخصومات. هذه الأمور التي أصبحت عادية الآن، وهي من عمل الشيطان .

 فإذا لم نقاوم الشيطان بالصلاة فسيملك علينا ويسيئ إلى أولادنا في الداخل والخارج، والنتيجة هي أن يرعاهم الشيطان لحسابه. إذن، فلابد أن يكون الأب في كل أسرة واعياً وكذلك الأم، بالمواظبة على الصلاة من أجل سلام البيت وسلام الأولاد ومحبتهم لئلا يدخل الشيطان وينقسم البيت على ذاته، وإذا تملك فرد فيه فسيجعل البيت جحيماً. لذلك من نعم ا الله أن يكون واحد في الأسرة فدائياً له قوة الصلاة، سواء في الخفاء أو العلن، من أجل كل فرد في الأسرة حتى لا يكون فيها مدخل للشيطان. بل ويا حبذا لو كان لكل كنيسة إنسان تقي أو جماعة أتقياء يحملون هم الصلاة الدائمة من أجل الراعي نفسه والرعية وكل ظروف الكنيسة، حتى لا يتدخل فيها الشيطان بأعماله من خصام وعداوة تؤدي إلى الانقسامات والفرقة.

وليعلم كل إنسان أن الشيطان ـ كما نراه الآن ـ مسيب يهيج الأمم على بعضها، بل الأمة الواحدة يقسمها على نفسها، ويثير الأحقاد وبالتالي الحروب لخراب العالم! فليس أسهل الآن من أن يمارس أحقاده على الكنيسة نفسها وقد ضعفت، بعد أن أذاقته العذاب بصلواتها في العصور الذهبية السابقة.

وفي النهاية نعود إلى وصية المسيح أن: «صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة» هذه الوصية الإلهية هي السلاح الوحيد ضد أعمال الشيطان المنظورة وغير المنظورة، وهي الحصن المنيع الذي نلجأ إليه في أيام الضيق القادمة.

• إذن، فنصيحة المسيح لكل واحد من أولاده اليوم، أن: صل واهرب لحياتك.
• والذي يقول ليس عندي وقت للصلاة، فهذا قد استطاع الشيطان أن يقنعه بذلك حتى لا يصلي أبداً.

 وإن كنتم في حالة صلاة، فأنتم في أمان من التجربة. 
وإذا وقعتم في تجربة فلا تكفوا عن الصلاة حتى يخزى الشيطان ويستطيع المسيح أن يخلصكم، ولا يضعف إيمانكم. 
ولا تحزنوا إذا أصابتكم أية خسارة، لأن الحزن هو كأس الشيطان الذي يدس فيه قطع الرجاء. فليذهب كل شيء ويبقى الإيمان.
 ولا تناموا في وقت الخطر، بل تيقظوا واسهروا وصلوا لتحسبوا أهلاً للنجاة (لو 36:21). وهذه الأيام تحمل لنا بوادر الخطر. 
والذي يعتاد الصلاة يحس بقرب عمل الشيطان ويستعد له. فصلوا وكونوا مستعدين، فالرب قریب!

صلوا، صلوا، صلوا. ومن لم يتعلم الصلاة بعد، فليبدأ أن يصلي.

41:22و42 «وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى قائلا: يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك».

هنا التفريغ الذاتي لتصير إرادة الآب هي إرادته وليس غير! هذا بحد ذاته صلب الذات قبل صلب الجسد!! ولولا أنه نجح بالفعل في إلغاء إرادته إلغاء كاملاً، ما استطاع أن يكمل إرادة الآب تماماً كما أرادها الآب أن تكون. هنا تفريغ الإرادة قرين إخلاء الذات، الأولى لتبلغ إرادة الآب أقصاها، والثانية ليبلغ إلى مستوى الإنسان حتى يستطيع أن يقبل العذاب والموت بكامل إحساس الإنسان وبآن واحد بحسب كامل إرادة الآب. وكانت مرارة الكأس ليس في الموت قطعاً، ولكن في حمل خطايا الإنسان، وأشدها ألماً أن يقف الابن حاملاً خطية التجديف على الآب. إنها لعنة اللعنة وكيف يطيقها وهي تمس أباه، فلولا أنه أحس أن هذه مشيئة الآب ما استطاع أن يحملها!

لذلك دخل المسيح على الصليب بقوة دفع الآب وبكامل خضوع الابن ليشرب كأس المـوت كإنسان. لذلك فإن صلاة جثسيماني تحسب من ضمن الأسرار المخفية للصليب، والتي رفعت موت المسيح إلى مستوى الذبيحة بكل قوتها الإلهية المستمدة من إرادة الآب، وكل آلامها وتعاذيبهـا الـتي تلقاها كإنسان.

وهكذا انطبق الفصح في العشاء على فصح جثسيماني، ليرسم حدود ذبيحة الصليب بدقة لتبلغ مواصفاتها كفدية لدى الآب ـ بحسب إرادته تماماً ـ لحساب الإنسان الجديد، الذي يطلبه الآب والذي يطلب الآب.

43:22 «وظهر له ملاك من السماء يقويه».

وبالرغم من أن التحليل والفحص لبعض العلماء يرفض هذه الآية ولكن الآباء إبيفانيوس وإيرينيئوس ويوســـــــتين قبلوهـا مع العلمـاء الـكـبار كـلـوسـترمان وبـــــرون وزاهــن ولاجـــــــرانـج وشــلاتر

ه ولا تناموا في وقت الخطر، بل تيقظوا واسهروا وصلوا لتحسبوا أهلاً للنجاة (لو 36:21). وهذه الأيام تحمل لنا بوادر الخطر. ه والذي يعتاد الصلاة يحس بقرب عمل الشيطان ويستعد له. فصلوا وكونوا مستعدين، فالرب

قریب!

صلوا، صلوا، صلوا. ومن لم يتعلم الصلاة بعد، فليبدأ أن يصلي.

41:22و42 «وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجنا على ركبتيه وصلى قائلا: يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك».

هنا التفريغ الذاتي لتصير إرادة الآب هي إرادته وليس غير! هذا بحد ذاته صلب الذات قبل صلب الجسد!! ولولا أنه نجح بالفعل في إلغاء إرادته إلغاء كاملاً، ما استطاع أن يكمل إرادة الآب تماماً كما أرادها الآب أن تكون. هنا تفريغ الإرادة قرين إخلاء الذات، الأولى لتبلغ إرادة الآب أقصاها، والثانية ليبلغ إلى مستوى الإنسان حتى يستطيع أن يقبل العذاب والموت بكامل إحساس الإنسان وبآن واحد بحسب كامل إرادة الآب. وكانت مرارة الكأس ليس في الموت قطعاً، ولكن في حمل خطايا الإنسان، وأشدها ألماً أن يقف الابن حاملاً خطية التجديف على الآب. إنها لعنة اللعنة وكيف يطيقها وهي تمس أباه، فلولا أنه أحس أن هذه مشيئة الآب ما استطاع أن يحملها!

لذلك دخل المسيح على الصليب بقوة دفع الآب وبكامل خضوع الابن ليشرب كأس المـوت كإنسان. لذلك فإن صلاة جثسيماني تحسب من ضمن الأسرار المخفية للصليب، والتي رفعت موت المسيح إلى مستوى الذبيحة بكل قوتها الإلهية المستمدة من إرادة الآب، وكل آلامها وتعاذيبهـا الـتي تلقاها كإنسان.

وهكذا انطبق الفصح في العشاء على فصح جثسيماني، ليرسم حدود ذبيحة الصليب بدقة لتبلغ مواصفاتها كفدية لدى الآب ـ بحسب إرادته تماماً ـ لحساب الإنسان الجديد، الذي يطلبه الآب والذي يطلب الآب.

43:22 «وظهر له ملاك من السماء يقويه».

وبالرغم من أن التحليل والفحص لبعض العلماء يرفض هذه الآية ولكن الآباء إبيفانيوس وإيرينيئوس ويوسـتين قبلوهـ العلمـاء الـكـبار كـلـوسترمان وبـرون وزاهــن ولاجرانـج وشـلاتر وجروندمان وديبليوس. وكلهم قبلوها باعتبار أنها تقليد قديم وتحمل معناها في داخلها. 

فإن كانت الأرض قد تخلت عن وجودها في لحظات الجهاد الشديد، فعلى الأقل ترسل السماء مندوبها: «في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم» (إش 9:63). وكأن الملاك يوحي حتى لنا أن الصلاة استجيبت. وإن كان الملاك قد دخل مع الثلاثة فتية أتون النار ليحفظهم من لهيبها، فهذا أتون أعظم !

44:22 «وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقة كقطرات دم نازلة على الأرض».

+ «انظروا إن كان حزن مثل حزني!!» (مرا 12:1)

كانت تنازعـه نفسـه كـيـف تـقبـل عـار الإنسان وهي أنقـى مـن السـماء، كيف تُحسب مع الزناة ولصوص الأرض والقتلة وسافكي الدماء وعابدي الأوثان، كيف تقبل التحديف وإهانة اسم العلي وهي نـور مـن نـور الآب، كيف تقبل أنجاس الإنسان وهي قدس الآب، كيف حاكم كمضلة وهي الحق والحقيقة؟ وأخيراً كيف تموت وهي روح الله، وكيف تحتمل هجران الله واختفاء وجه الأب وهي وحيدته؟
نازعته نفسه نزاع الموت مرات ومرات وهو يسلمها لإرادة الآب حتى خضعت!!
وأكمل المسيح ذبيحته الصامتة ولم يسمع أحد ونال بها هتاف الملائكة ورضى الآب.
أما قطرات عرقه التي كانت نازلة كقطرات دم فهي بحسب بعض المجتهدين تعبر عن آلام الفداء.
كانت هذه ساعة المحنة للمسيح، ولكنها كانت محنة يسندها حالة شركة مع الله الآب: «وتتركونني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي» (يو 32:16), كان كأساً مراً للغاية مذاباً فيه كل محن البشرية، ولكه كان مقدما له بيد الآب، كيف لا يشربه, وكانت صورة الكاس ومحتواه ماثلة أمام ذهنه منذ أن جاءته أم ابن زبدي تطلب الملك لولديها عن تمينه وعن يساره فقال لها: «لستما تعلمان ما
تطلبان أتستطيعان أن تشربا الكاس التي أشربها أنا» (مر 38:10)، ومرة أخرى عندما قطع بطرس اذن ملخس عبد رئيس الكهنة بالسيف فقال له المسيح «اجعل سيفك في الغمد. الكاس التي أعطاني الآب ألا أشربها !» ( 11:18)

46,45:22 «ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نياماً من الحزن, فقال لهم: لماذا أنتم نيام قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة».

لما انتهى من نفسه استراحت روحه فيه إذ بلغ الدرجة الأخيرة في الإعداد والاستعداد للصليب، وجاء إلى تلاميذه يطلب إنساناً يصلي في الوقت الذي حمل على ظهره كل أوساخ الإنسان وفساده، فما وجد، مع أن التجربة على قيد خطوات، وما انتصحوا!! 

ويلاحظ أن ق. بطرس دفع ثمن نومه وعدم الانتصاح بوصية المسيح أن يقوم ويصلي، بأن وقع في أشنع تجربة يمكن أن يقع فيها إنسان، وهي إنكار المسيح ثلاث مرات وبحلفان ولعن!

2 – القبض على يسوع (47:22-53)

(مت 47:26-56)
(مر 43:14-50)
(يو 3:18-11)

قيدوا سيدي والقيد ليدي 
وأهانوه والإهانة بسببي

ما أن أكمل المسيح نداءه للتلاميذ أن يصلوا لئلا يدخلوا التجربة، وإذ بموكب الشامتين والحاقدين من رؤساء الكهنة والكتبة ورؤساء الشعب، مع الجند والقواد بسيوف وعصي، يكسرون باب الحديقة يتقدمهم يهوذا ليدلهم على المكان وعلى المسيح. وإذ نعود لباقي الأناجيل لنستوفي هذا المنظر المأساوي نسمع أن في أيديهم مشاعل تضيء لهم الطريق، ومصابيح في أيديهم لتضيء موكب الظلمة لحاملي المشاعل.

 ويهوذا قد أعطاهم علامة أن الذي يقبله هو هو، أمسكوه. وتقدم إلى السيد بقحة ووقاحة وأراد أن يقبله، فيبدو أنه منعه معاتباً إياه عتاب لا المعلم بل الديان الرهيب يسجل عليه عاره: أبقبلة تسلم ابن الإنسان يا يهوذا! وهكذا نجس المحبة، وأهان الألوهة، وازدرى بمسيح الرب، وكتب لنفسه عريضة الحكم الذي يقف به أمام ديان العدل. واستدار السيد بكبرياء الألوهة يخاطب الجمع: هل على لص خرجتم بسيوف وعصي، كنت كـل يـوم معكم في المجمع أعلم. فلماذا لم تمسكوني بهدوء عوض هذا الموكب بأجمعه؟ ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة. من تطلبون؟ فقالوا لـه يسوع الناصري. فرد عليهم أنا هو، فرجعوا إلى الوراء مزدحمين، فسقط من سقط، وديس من ديس، فبادرهم ثانية من تطلبون؟ فقالوا له يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هـو فـإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون. أما سمعان المقدام صاحب السيف فاستله وضرب ضربة عشواء قطعت أُذن ملخس عبد رئيس الكهنة، فانتهره يسوع قائلاً رد السيف إلى غمده، من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ، فمد يسوع يده ولمس أذنه فشفيت. وقال لهم الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها!! ثم إن الجند والقائد وخدام رؤساء الكهنة قبضوا على يسوع وأوثقوه، وهو الذي مدّ يده ليسهل لهم القيد، أن كلمة الله لا تقيد (2تي 9:2). أما التلاميذ فهربوا كلهم، وإذا بشـاب آت من جهة مبنى الحديقة، وهو مرقس صاحب البستان وكان ملفوفاً بملاءة ـ إذ كان لتوه مستيقظاً من النوم. فلمّا أمسكوه ترك الملاءة في أيديهم وهرب عارياً، ولكنه بحسب تقديرنا عاد ولبس ثيابه ورجع إليهم يتتبعهم، لأن ق. مرقس هو الذي نقل جميع هذه الرواية كما رآها كشاهد عيان، ورافق المسيح دون أن يذكر ذلك. رافقه عند حنان لأنه كانت له حيثية عند رؤساء الكهنة إذ كان من أثرياء اليهود، ولأنه كان يتقن اليهودية واليونانية واللاتينية، فكان شاهد عيان منفتحاً، كتب رواية القبض والآلام وكل الإنجيليين أخذوا عنه .

47:22و48 «وبينما هو يتكلم إذا جمع، والذي يدعى يهوذا ـ أحد الإثني عشر – يتقدمهم، فدنا من يسوع ليقبله. فقال له يسوع: يا يهوذا، أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟»

لم يهتم ق. لوقا بمنظر وحال الجمع المعادي الذي وصفته الأناجيل الأخرى، لأن تركيز ق. لوقا كان على يهوذا. وبقوله: «أحد الاثني عشر» يصف الخيانة على أعلى مستواها. وبقوله: «الذي يدعى »أعطى الكلام صورة منشور سياسي، وربما للتصغير من شخصيته. والقديس لوقا لا يذكر أنه قبله، كما جاءت في إنجيل ق. مرقس، ولكن اقترب منه ليقبله. كان جرحاً لمشاعر المسيح يفوق الحدث، فالذين أتوا ليقبضوا على المسيح كانوا يؤدون واجبهم، أما هذا فقد جاء ليحرق أوراق تلمذته ويشجب محبة المسيح الحقيقية، ويؤكد خيانة إسرائيل في شخصه؛ بل ويدوس على كل علائق الود والحنان التي قدمها المسيح له ولكل التلاميذ معه. يهوذا صـورة للبشرية حينما تخون إلهها وتعبد الشيطان وتتمادى في حودها حتى إلى الاستهزاء بقيم الشرف النبيلة!!

المسيح واجه الجوقة المأجورة بسيوفها وعصيها بغير دهشة، فالأمر كله موضوع في الاعتبار. فالساعة ساعتهم وسلطان الظلمة كما قالها بعد ذلك، ولكن لم يكن معقولاً ولا مستساغاً أن يقود الجماعة تلميذه!! وعوض أن يحمل سيفاً كالباقين استخدم | القبلة. فكان وقعها على المسيح أشد إيلاماً من ضربة سيف. ولكن كل هذا ليس عجيباً، ولكن العجيب أن يدخل الشيطان قلب تلميذ ليشكله إلى ذئب في ثياب حمل. والذئب لا يلام إذا عض، ولكن أن يقبل فهذه هي قمة المأساة.

49:22_51 «فلما رأى الذين حوله ما يكون، قالوا: يارب، أنضرب بالسيف؟ وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى. فأجاب يسوع وقال: دعوا إلى هذا! ولمس أذنه وأبراها».

وقبل أن يتقدم الجند للقبض عليه تسرع واحد من الذين كانوا حول يسوع وضرب بالسيف، ولكن كانت الذراع التي ضربت قد أصابها الاختلال فجاءت الضربة في أذن عبد رئيس الكهنة. وهنا تدخل المسيح في الحال ولمس أذنه فشفيت، وكان هذا دليل على عدم رضى المسيح بحمل السيف أصلاً. وفي إنجيل ق. متى قال الرب: من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ (مت 52:26)، فالمسيح لا يجيز حمله ولا عمله. فالذي قال: «أحبوا أعداءكم» لماذا يحمل السيف بعد! فالمحبة وحدها هي سلاح من آمن بالمسيح.

52:22و53 «ثم قال يسوع لرؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه : كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي! إذ كنت معكـم كـل يـوم في الهيكل لم تمدوا علي الأيادي. ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة».

 وضع شاذ وغريب جداً على رؤساء الكهنة، يخرجون في الظلام مع جند وقواد ليقبضوا على معلم كان معهم لسنين يعلم داخل الهيكل وكانوا أحياناً ضمن السامعين، ماذا دهاهم حتى يأتوا بسيوف وعصي ليمسكوا إنساناً أعزل يعلم بالمحبة وينادي بالسلام؟ صورة كصورة شاول الملك وهو يتعقب داود غريمه في الصحراء، فناداه داود: على ما خرجت يا سيدي الملك؟ منظر حزين لقوم لعب بهم الشيطان ففقدوا رزانتهم وآتوا أعمال الخشة، خرجوا في الظلام ليستتروا أو يتلصصوا وما دروا أن الظلام في قلوبهم وهـم يتعقبون النور. وكأنهم كانوا في هذه الساعة على ميعاد مع شيطان الظلمة، فسلّحهم بسلاحه ودفعهم أمامه. والمسيح واقف يتعجب. أليس هذا هو الشيطان الذي دحرته على جبل التجربة، كيف تخفى في ثياب الكهنة وجاء متسلحاً بسدنة الهيكل وجنوده؟! وكأنما لميا غادره الشيطان آنئذ غادره إلى حين، وهذا هو الحين!! فعلى مدى خدمة المسيح الطويلة منذ أن نـزل مـن فـوق جبل التجربة، لم يتجاسر الشيطان أن يواجهه، حتى هذه اللحظة بعد أن رتّب الأعوان وسلّح جيشه واقتنص تلميذاً يتخفى وراءه، ظهر فجأة وهو على ثقة بأنه سيد الموقف: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة»

3 – إنكار بطرس للمسيح (54:22-62)

(مت 58،69,57:26-75)
(مر 54.66,53:14 -72)
(يو 12:18 -25 ، 18-27)

أفرز نفسه عن الذين هربوا باعتباره أولهم،
وأمام جارية أقسم قسماً أني لست منهم.

54:22 «فأخذوه وساقوه وأدخلوه إلى بيت رئيس الكهنة. وأما بطرس فتبعه من بعيد»

لما أتاه الشيطان مكشوفاً بمفرده دحره المسيح على الجبل، ولكن لما لبس الشيطان ثياب الكهنة تملك على المسيح الموقف وقيده بيديه وساقه أمامه كأنه يسبق الحوادث ويظهر سلطانه. غير عالم أن المسيح هو الذي تخلى عن سلطانه هذه المرة “إلى حين”! وأدخله الشيطان حيث مأوى رئيس الكهنة حيث عقد النية على استصدار أحكام ممهورة بخاتم الهيكل مع أنها مختومة بيد الشيطان أن يهان المسيح ويعذب وینگل به تنكيلاً، لأنه علم بالمحبة والسلام وشفى مرضاهم وأقام موتاهم وأخرج الشياطين من أبدانهم. ظنوا أنهم ملكوا عليه الموقف ومنوا أنفسهم بقتله لإسكات لسانه وشل يديه، وما دروا أن بموته سهلوا له الوصول إلى قلب شعبه وهؤنوا عليه بلوغ الفداء وتكميل الخلاص الذي كان هو منتهى أمله. خططوا لهلاكه وارتد تخطيطهم عليهم بالهلاك. أماتوه فعلاً وأما هو فقام من الأموات. وبدا بطرس من بعيد مستعداً لإنكاره حينما يصيح الديك.

62-55:22 «ولما أضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا معاً، جلس بطرس بينهم. فرأته جارية جالساً عند النار فتفرست فيه وقالت: وهذا كان معه. فأنكره قائلا: لست أعرفه يا امرأة! وبعد قليل راه آخر وقال: وأنت منهم! فقال بطرس: يا إنسان، لست أنا! ولما مضى نحو ساعة واحدة أكد آخر قائلا: بالحق إن هذا أيضاً كان معه، لأنه جليلي أيضاً. فقال بطرس: يا إنسان، لست أعرف ما تقول. وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك. فالتفت الرب ونظر إلى بطرس، فتذكر بطرس كلام الرب، كيف قال له: إنك قبل أن يصبح الديك تنكرني ثلاث مرات. فخرج بطرس إلى خارج وبكى بكاء مرا».

لما تم القبض أخذوه داخل بيت رئيس الكهنة حنان أثناء الليل حيث تم إنكار بطرس، لأن ق. لوقا جعل بدء المحاكمة بالنهار، وهكذا حصلنا على وضع جديد تحققت فيه أقوال المسيح عن لزوم الصلاة لكي لا يدخل التلاميذ التجربة. ولكن أهمل التلاميذ النصيحة. وهكذا دخل بطرس دائرة الشيطان وتفوقت عليه قوات الظلمة فجحد كل أقواله السابقة أنه حتى إلى السجن وإلى الموت لا يترك معلّمه. تركه ثلاث مرات (ويزيد). ولكن أقوال ق. لوقا اختلفت عن أقوال ق. مرقس في المضمون وأنواع الأفراد الذين تصدروا لبطرس وأسباب كل مرة. وهنا في إنجيل ق. لوقا لم يذكر أنه أقسم ولعن، ولكن يؤكد العالم ديترش أن تحقيق ق. لوقا أكثر قرباً من الشرعية القضائية. ولكن الذي يلاحظ جداً أن ما قاله المسيح تم حرفياً وبالمواقيت، حيث ظهر بطرس والمسيح معاً في مشهد واحد.

وهذه القصة فريدة من نوعها في تقديمها كدرس وعظـة لكل إنسان أن لا يكابر بإمكانياته، فإمكانيات الإنسان يستطيع أن يلعب بها الشيطان، ولكن الصلاة كما حدد المسيح هنا في هذا المساء مرتين أنها تؤمن الإنسان من الدخول في التجربة، فالصلاة التجاء إلى الله وإلى قوة المسيح القاهرة لشيطان الظلمة. فالصلاة كطوق النجاة يتشبث بها الإنسان لينجو من سلطان الظلمة، وكالرداء الواقي من الرصاص الذي يلبسونه هذه الأيام. ولكن لابد أن ترافقنا الصلاة دائماً حتى لا يجد العدو فرصة ليضرب.

والنموذج أمامنا ناطق لأن بطرس كان واثقاً من نفسه أن يغلب فغلب: فلا يدعي الإنسان لنفسه ما هو فوق مقداره. ولأن بطرس كانت مكابرته ذات تأكيد حتى إلى السجن وحتى إلى الموت، جاء إنكاره مؤكداً مضاعفاً، حتى يكون لنا درساً أكيداً مؤكداً.

ولكي يؤكد المسيح لبطرس صدق كلامه وتحذيره له نظر إليه من بعيد وهو موثق اليدين، فتذكر بطرس، لذلك لولا هذه النظرة لتمادى في إنكاره إلى النهاية. ولكن كانت نظرة المسيح وكأنها حبل النجاة ألقاه عليه من بعيد فتشبث به وخرج مسرعاً من مكان الخطر، وقدم بكاءه كذبيحة إثم، وقدمها مرة لأنه خان لثلاث مرات. وهكذا عاد بطرس يتشبث بضعفه ويمسك بالمسيح.

4 – الاستهزاء بالمسيح (63:22-65)

(مت 67:26-68)
(مر14: 65)

استهزأوا به ولو علموا بمن استهزأوا وجلدوا! من جاء بالحب
يطلب ودهم ويسفك من أجلهم دمه. أخلى من المجد ذاته حتى
لا يرعبهم! فيعملوا عملهم بلا خوف وهو يعمل عمله في هدوء.

 بدأ الشيطان بعد كسرة التلميذ الأول ينهي على فريسته العظمى، فهيج عليه الرجال الذين قبضوا عليه لكي يظهروا أمانتهم لرئيس الكهنة، وربما مقابل عدة دنانير ذهبية. فبدأوا بجلد المسيح، والاستهزاء به بينما كانوا يجلدونه، لأنه يستحيل أن يتجرأ رجل بأن يصنع مثل هذه الأعمال إلا بالثمن من جهة رئيس الكهنة. أما رئيس الشياطين فكان عليه أن يحمسهم في تأدية الواجب الملقى عليهم. ولقد تناهى فكـرهـم في اختراع أنواع التعذيب والمهانة التي يصعب تصورها بالنسبة لقائد خلاصنا، ولكن جيوش الظلام كانت قد أحدقت تلك الأيام. ولكنه احتملها صابراً للغاية والنهاية من أجلنا، حتى يوفي كيل خطايانا واستحقاقها من قبل العدو:
+«ضرب من أجل ذنب شعبي.» (إش 8:53)
+ «محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن!
أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً! وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا
والرب وضع عليه إثم جميعنا.
ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه
كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه.» (إش 53: 3-7)

65-63:22 «والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه، وعطوة وكانوا يضربون وجهه ويسألونة قائلين: تنباً! من هو الذي ضربك؟ وأشياء أخر كثيرة كانوا يقولون عليه مجدفين».

+ «يضربون قاضي إسرائيل بقضيب على خده …ويقف ويرعى
بقدرة الرب بعظمة اسم الرب إلهه ويثبتون، لأنه الآن يتعظم
إلى أقاصي الأرض، ويكون هذا سلاماً.» (مي 5,4,1:5)

لا يمكن أن نتصور أن يهـان ابـن الله كمـا يـهـان اللصوص والمجرمون وقطاع الطرق إلا إذا تصورنا أجيال البشرية وكل ما كان فيها مستحقاً هذا العقاب. فهو يقبل عقاباً هو واقع علينا في كل ما مضى وفي كل ما هو آت. لأنه من حيث هو: فهو الذي تمجده السموات، وإن كان قد نزل أرضنا فما تلوث بما يلوثها ولا إلى هئة واحدة، قدوس بلا عيب ولا شر. نزلت على ظهره ضربات السياط فزال حق كل الضربات التي على ظهورنا. فالآلام التي تلقاها كفيلة أن تغطي آلام البشرية كلها. لأنه إن كـان استحقاق ضربنا جاءنا من وراثة آدم، فهذا هو أبونا الحبيب الذي ورثنا استحقاق السموات بعد أن رفع عن كاهلنا كل ما نستحقه من ضرب وإهانة.

كان عليه الألم شديداً وحزنه أشد، ولكن كان ذلك ليهبنا النصيب السماوي الذي هرب منه كل حزن وتنهد. فلم تكن الضربات جزافاً، ولا كيل الآلام بلا معيار، بل قاس هذا وذاك بمقياس استحقاقنا ووفى الجميع!! فلو اجتمعت أحزان الناس كلها وأنين البشرية جمعاء ما زادت مقدار حزنه وأنينه، فهذا عدل الله قبله على نفسه أن يكمله تكميلاً!! ومن يستطيع أن يصور ويقيس فواجع الدنيا بفاجعة ضرب ابن الله بالسياط؟ فالعدل فاق حده ودخل في زيادات من الرحمة توزع مجاناً على مستحقي الموت!! فسخاء الابن في العطاء لم يأت من فراغ بل تحمل تكاليفه ويزيد!

صعقت الملائكة وهي ترى الابن الوحيد الذي هلت له يوم ميلاده تنتهي به رحلة الأرض هكذا إلى هذا الكمد!

5 – وقفة المسيح أمام السنهدرين (66:22-71)

(مت 59:26-66)
(مر 55:14-64)
(يو19:18-24)

آه لو علموا أنهم سيقفون وقفته يوم الدين،
ليعطوا جواباً عما فعلوه ويفعلون!

ولما كان النهار اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب وأصعدوا المسيح إلى مجمعهم، وبدأوا يسألونه إن كان هو المسيح ابن الله، فقال لهم أنتم تقولون، لأن هذا كان رد المسيح أن لا يجيب على سـؤال إلا بسـؤال. فـإن كـان سـؤالهم صـادقاً يقـول أنتم تقولـون. وحاولوا أن يأخـذوا منـه شيئاً يمسكونه عليه، لا لأنهم يطلبون المعرفة أو يسألونه عن الحق. ولما ضاق بعجزهم أحالهم إلى نبوة دانيال ليوقظ عقولهم المطموسة. فقال: منذ الآن ترون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله، الأمر الذي رآه الشهيد استفانوس رؤيا العين وهم يرجمونه فزادوه رجماً حتى مات .

ولكـن كـان القصـد مـن اجتماع السنهدرين هو تحضير المسيح للوقوف أمام بيلاطس وفي يدهم عريضة الاتهام مسنودة بشهود، أما ق. لوقا فـلـم يـذكر الشهود. وبهذا نرى أن رواية ق. يوحنـا أوفى الروايات بما تم، لأنه كان شاهد عيان، يليه ق. مرقس ويؤخذ بشهادته وروايته على أنها الأصل الذي أخذ منه الجميع، لأنه حضر كل الاجتماعات وبالأخص أمام بيلاطس. فرواية ق. مرقس حسبت أنها التقليد الأول للكنيسة، ولكن أبحاث ق. لوقا قصد منها تقديم رواية مضبوطة تاريخياً ومختصرة ليقرأها الأمي.

ويقول العلماء: إن ق. لوقا أبرز لقب المسيح ابن الإنسان كلقب أُخروي وحقق لقب “ابن الله ، وهو في تقديمه رواية المسيح هنا لم يخرج عما قدمه ق. مرقس مع اختزال ما رآه مناسباً لهدفه كإنجيل مقدم للأمم.

66:22 «ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب: رؤساء الكهنة والكتبة، وأصعدوة إلى مجمعهم».

واضح أن محاكمة المسيح الليلية لا يبرزها ق. لوقا ويكتفي باجتماع السنهدرين بالنهار، وهو ما يوافق نظام السنهدرين. وفي الأناجيل الأخرى نجد أن المحاكمة الأولى كانت في دار حنّان، ولكن المحكمة الرسمية للسنهدرين كانت في دار قيافا وهي في الدور العلوي، حيث انعقد السنهدرين بكامل هيئته، ولكن نلاحظ غياب الفريسيين. ويلاحظ أن ق. لوقا اعتبر مشيخة الشعب تجمع شيوخ الشعب الكهنة مع والكتبة. ويعلّق النبي في رؤياه: «إنهم يجتمعون اجتماعاً ليس من عندي.» (إش 15:54)

وهكذا اجتمع كل الرافضين للمسيح معاً ليوحدوا كلمتهم واتهاماتهم للمسيح أمام بيلاطس.

من الروايات الأخرى في الأناجيل نعلم أن السنهدرين انعقد في دار قيافا (مت 57:26)، علماً بأن قيافا كان قد اجتمع مع المسيح اجتماعاً خاصاً قبل أن يظهر أمام السنهدرين.

واجتماع السنهدرين في الصباح حسبوه اجتماعاً رسمياً، ولكن من وجهة نظر القانون اليهودي لا يحسب هذا الاجتماع أنه قانوني، حتى المكان الذي اجتمعوا فيه بكامل هيئة السنهدرين لم يكن قانونياً. لأنـه كـان يوجد ثلاثة أماكن للمحاكمة القانونية في أورشليم، قاعـة تسع 120 عضواً ويقال أنهـم 240، ويحكـم فيهـا ثلاثة قضـاة، وقاعـة محكمـة أخـرى مكونـة مـن 23 عضـواً للتحكيم، أما المحكمة العليا الأخيرة فينبغي أن تكون السنهدرين المكون من 71 عضواً، ومكان انعقاد السنهدرين رسمياً داخل الهيكل في إحدى أروقته. وهناك استثناء بإمكانية انعقاد محكمة جزئية فرعية في أي مكان، ولكن مثل هذا يكون غير شرعي لمحاكمة قضية مثل قضية المسيح. لذلك لميا اجتمع السنهدرين في دار قيافا لم يخرج بقرار رسمي وإنمـا داروا في أضيق ما يحتمله قانون المحاكمة، على أنهـم كـانوا يدبرون ويفحصون على أساس قتله بكل طاقة تفكيرهم. ذلك على أساس أنهم وجدوا له تهمة التجديف وعلى أساسها أقاموا دعوى القتل. ولكنهم كانوا يعلمون أن هذه التهمة “التجديف على الله” لا تجدي نفعاً في غرف بيلاطس كقاض روماني.

لذلك نجد أن ق. لوقا يبرز تهمتين ذات قيمة عالية جداً بالنسبة لحقيقة المسيح وبالنسبة لحقيقة إيماننا المسيحي وضعهما المجلس في فم رئيسه كسؤالين:

السؤال الأول: «هل أنت المسيح؟ قل لنا؟»

السؤال الثاني: «إذن: هل أنت ابن الله؟»

وهذا السؤال الثاني قد استخرجوه من إجابة المسيح على السؤال الأول.

هذان هما السؤالان المعتبران على أقصى درجة من الأهمية والخطورة، ذلك في وقتهما وأيضاً لنا الآن: 1 – هل هو المسيح؟ 2 – هـل هـو ابن الله؟ وهما موجهان لنا ولكل من يريد أن يؤمن أو أمن بالمسيح لكي بالإجابة عليهما يتقرر صحة إيمانه بالمسيح وصحة مسيحيته!

وبالتالي والأولى كانا محك الإدانة بالموت عند المحكمة، وبالتالي عند اليهود، وبالتالي عند العالم!! أما بالنسبة للسؤال الأول الذي ألحوا على الإجابة القاطعة عليه «قل لنا» طبعاً لأن على هذا السؤال كان ينعقد كل آمال إسرائيل بكل أنبيائه بل ومستقبله. ولكنهم سمعوا وتأكدوا أن تلاميذه كانوا يؤمنون بأنه المسيا وجدنا المسيا” (أندراوس) (يو 41:1)، والمعمدان صرح بالصوت العالي: «لست أنا المسيح »(يو 20:1)، «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» (يو 34:1). لذلك طبعاً لم يؤمنوا بيوحنا المعمدان ولا اعتمدوا منه. ولذلك كان إلحاحهم على كلمة منه لأن خوفهم واضطرابهم رفع من عقولهم أي تمييز شخصي فأرادوا أن يجبروه على أن يقول من هو، علماً بأن المسيح كان يدرك أنه حتى ولو قال لهم فلن يؤمنوا، لذلك لم يقل لهم صراحة بل أعطى المضمون الحقيقي عن شخصه في مستواه كديان لهم: «منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله» (لو 69:22)، الإجابة التي استخلصوا منها: «أفأنت ابن الله؟» ولما قال بشبه الإيجاب: «أنتم تقولون إني أنا هو» قالوا: «ما حاجتنا بعد إلى شهادة لأننا نحن سمعنا من فمه» !

ولكن السؤال كيف استخرجوا من قوله: «يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله» أنه ابن الله؟ فالذي هداهم من إجابته إلى استخراج ما يفيـد أنـه ابـنا هو درايتهم بالمزمور (110) الذي يقول في مطلعه: «قال الرب (يهوه) لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك» (مز 1:110). وأما من هو هذا “ربي” فمعروف من سؤال المسيح السابق لهم عن كيف أن المسيا هو ابن داود، مع أن داود يدعوه “ربي”، وطبعاً لم يجيبوه لئلا يتورطوا كون المسيا هو نفسه الذي قال له يهوه: اجلس عن يميني، فهو ابنه. لذلك ابتدروه مباشرة لما قال لهم مجيباً عن سؤالهم هل أنت المسيا؟ فقال لهم: «منذ الآن يكون ابن الإنسان (هو نفسه) جالساً عن يمين قوة الله» فسألوه: «أفأنت ابن الله» وهنا الفاء ترجمة لحرف oan وهي تترجم بالإنجليزية: then يعني: “بمقتضى ذلك” أو “إذا بمعنى الاستفهام الاستنكاري، والذي كان رده على هذا السؤال بقوله: «أنتم تقولون إني أنا هو Omej légete وصراحة يعني أنا، ولكن جعلهم مسئولين عن نطقها بقوله: “من فمكـم !! وللأسف عوض أن يزيدوا استفسارهم قطعوا الشك بالرفض واحتفظوا بموقف أنه محدف، باعتباره يقول نعم . مدلس أو غشاش. إذن، هو شاهد ضد نفسه فما حاجتنا إلى شهود!!

ولكن الذي يهمنا جداً من هذا الحوار الساخن الذي بلغ حافة السماء بالنسبة لنا، وحافة الهاوية بالنسبة لرؤساء الكهنة والسنهدرين، أن المسيح أعلن صراحة وبوضوح أنه المسيا وابن الإنسان وابن الله !!

بناء على قسم بالمطالبة بالجواب من جهة رئيس كهنة ذلك الزمان. ولكن، وبالمناسبة، هذا هو نفس النطق السمائي عند الآب من فم بطرس لما سأله المسيح: «وأنتم من تقولون إني أنا!» فرد: «أنت هو المسيح ابن الحي!» (مت 16: 15و16) وها بطرس في الدهليز أسفل ينكر ما سمعه من عند الله وما قاله! وينكره ثلاث مرات!

ويتحفنا ق. يوحنا بما يشدد هذا القول ويرد روحنا فينا حينما أنهى إنجيله بهذا النص السمائي:
+ «وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكـم إذا آمنتم حياة باسمه.» (يو 31:20)

67:22و68 «قائلين: إن كنت أنت المسيح فقل لنا. فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني»

يعتبر هذا السؤال المعجل من السنهدرين أنه أساس القبض فيما يخص أفكار الشعب في مقابل أفكار رؤساء الكهنة والكتبة، لأن الشعب كان يميل جداً للوصول إلى هذا القرار أنه هو مسيا الآتي. هكذا هللوا له عند دخوله أورشليم يوم الأحد، ولكن هذا اللقب كـان يرعب قلوب رؤساء الكهنة والكتبة لأنهم لم يكونوا على استعداد حقيقي داخلي لقبوله، فانعكس هذا النقص على فكرهم وصار هذا اللقب يمثل لهم موتاً أكثر من حياة، فمالوا مع تيار الرفض أكثر فأكثر حتى بلغوا ليس الرفض فقط بل والعداء والنقمة. لذلك وضعوا هذا السؤال في قمة التحقيق لينتهوا منه أولا، ثم ينزلون إلى مبررات القبض والاتهام الأخرى التي توفر لهم عريضة اتهام يقبلها الفكر القضائي الروماني: كمقاومة قيصر وغيره من الاتهامات الباطلة. والإنسان يتعجب من عقلية هذا السنهدرين بكل أفراده. هل تنبأ الأنبياء منذ موسى حتى ملاخي أنه عند مجيء المسيا يعمل له تحقيق باستجوابه ليتعرفوا عليه؟ وهكذا يتضح أمام القارئ لماذا لم يفصح لهم المسيح عن شخصيته، لأن عقلهم على غير استعداد لمعرفته لأن أعمالهم طمست عيونهم وآذانهم، ولما جاءهم المسيا حقا لم يعرفوه بل رفضـوه واستطاعوا أن يقنعوا ذواتهم بضرورة قتله. هذا المسلسل الفكري نشأ من الظلمة الروحية التي كانوا يعيشونها بأخلاقهم وسلوكهم التي انعكست على قلوبهم وأفكارهم.

يحكي لنا أحد اليهود في هذه الأيام وهو أمريكي من الذين قبلوا الإيمان بالمسيح واعتمد، أنه حينما كان يقرأ الإنجيل لأول مرة فرح بكلام المسيح وأعماله ومعجزاته، وكاد يذهل عقله: أهذا هو ‘‘يسوع’ الذي صوره له اليهود من عائلته ومن حاخاماتهم؟ فلما وصل إلى محاكمته وضربه وصلبه ظل يبكي بصوت عال وتملك عليه البكاء بشدة: كيف عملوا هذا بالمسيا؟ 

ابتدأ مسلسل جحدهم للمسيح وصلبه أول ما ابتدأ بعدم تصديق المعمدان ورفضهم التوبة والعماد، ثم رفضهم لشهادته عن المسيح، ثم رفضهم لشهادة المسيح عن المعمدان وعن نفسه، ثم مقاومة تعليمه ثم مقاومته ومحاولة رجمه ثم محاكمته وصلبه. وبالفحص نجد أن السبب الأساسي لرفضهم المسيح هو عدم توبتهم واعترافهم بخطاياهم على يد المعمدان!! إنه كبرياء العظمة والتمسك بأمجاد وظائفهم. وهكذا فات عليهم القطار ولم يركبوا، فوجدوا أنفسهم في آخر صفوف البشرية وأقل من جميع الأمم!

صديقي القارئ، اسرع وتب، اعترف واركب القطار قبل أن يفوتك.

71-69:22 «منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو. فقالوا: ما حاجتنا بعد إلى شهادة؟ لأننا نحن سمعنا من فمه».

لم يقبلوه كمسيًا، ورفضوه وقتلوه فتكشف أنه ابن الإنسان الذي بقتله ارتفع وذهب وجلس عن يمين الله وتعين ابن الله: لميا رفضوه الآن فصار منذ الآن هو ابن الإنسان (دا 13:7). لقد ضاع عليهم فرصة التعرف عليه “كمسيا”، فلما حكموا برفضه كشف لهم أنه هو “ابن الإنسان” بالصورة الأكثر تعريفاً بالمسيا كما يقدم بها نفسه هنا في هذه الآية، فلما أمعنوا في رفضه وقتلوه تكشف أنه “ابن ا الله” بعد أن ضاعت عليهم فرصتان، ليتعرفوا عليه بعد كديان!

ويلاحظ أن أعضاء السنهدرين هم الذين استخرجوا من أنفسهم حقيقة أنه ابن الله لما قال: إنه هو ابن الإنسان!! فلما سألوه ليتحققوا من هذه الحقيقة، أكدها لهم المسيح: «إني أنا هو» فتوقفوا عند هذه النقطة حيث استخلصوا منه شهادة من فمه أنه «ابن الله» وهذا عندهم يكون قمة التجديف على الله. فما عادوا يطلبون شهادة بعد اعترافه العلني بالتجديف .

وهنا يتحقق لنا ما قاله الوحي عن هذا الشعب: «أعطاهم الله هذا الشعب: «أعطاهم الله روح شبات وعيوناً حتى لا يبصروا وآذاناً حتى لا يسمعوا … وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفـهـمـوا بـقـلـوبهـم ويرجعوا فأشفيهم» (رو 8:11)، (مت 15:13). فهنا تحقق هذا القول أي ما تحقيق. فالمسيا أمامهم بلحمه وعظمه ولم يروه، وهو الذي شهد عن نفسه أنه ابن الإنسان فما سمعوه، ثم شهد لهم أنه ابن ا فقالوا قد جذف!! وقد صدق فيهم قول موسى نبيهم العظيم حينما قال: «جيل أعوج ملتو. ألرب تكافئون بهذا (الرفض) يا شعباً غبياً غير حكيم!» (تث 32: 5و6).

تفسير إنجيل لوقا – 21 إنجيل لوقا – 22 تفسير إنجيل لوقا تفسير العهد الجديد تفسير إنجيل لوقا – 23
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل لوقا – 22 تفاسير إنجيل لوقا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى