الصليب … لماذا؟
ربما يتساءل البعض: لقد اقتنعنا بضرورة تجسد الرب، ثم موته نيابة عنا… تجسد : ليعطينا شركة طبيعته الإلهية ويجدد صورته فينا، ومات : ليرفع عنا حكم الموت الذي أصابنا بسبب السقوط.
ولكن … لماذا يتم موت الرب بالصليب بالذات؟ أليس هناك أساليب أخرى للموت أكثر لياقة من ذلك؟
أولا: لماذا الصليب بالذات
إن الصليب كان ضرورة حتمية لعدة أسباب:
منذ سقوط أبوانا الأولان، حلت اللعنة على الأرض، كقول الرب لأدم: “لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً: لا تأكل منها ملعونة الأرض بسبك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك” (تك 17:3 ). وبدأت الأرض فعلاً تنبت الشوك والحسك، وبدأ آدم يفلحها وبعرق وجهه یأکل خبزاً”…
هذه اللعنة كان لابد من رفعها عن آدم… وليس فقط حكم الموت. ومن المعروف تاريخياً أن الصليب بالذات كان الطريقة الوحيدة التي تحمل اللعنة في طياتها, لأنه “ملعون كل من علق على خشبة (أنظر تث 23:21 ). لذلك ارتأى الرب أن يُصلب عوضاً عنا، ليغسل الأرض من لعنتها، وليحمل عنا لعنتنا… “لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة، لأنه مكتوب ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به (غل 10:3 ). لذلك فالمسيح “افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعون كل من علق على خشبة” (غل 13:3 ). “المعلق ملعون من الله” (تث 23:21 ).
لذلك صلب السيد المسيح على الصليب لكي:
أ- يحمل حكم الموت عنا:
ذلك لأن حكم الموت الذي كان علينا، لم يكن مجرد موت الجسد، بل كان يشمل:
- موتاً جسدياً… إذ دخل الفساد إلينا، وإلى الطبيعة والحيوانات وغيرها…
- موتاً روحياً… إذ إنفصلنا عن الله … ولم تعد هناك شركة روحية بيننا وبينه.
- موتا أدبياً… إذ نزلنا عن مجد شركة الله في جنة عدن، وطردنا إلى أرض الشقاء والمهانة، وها قد هان الإنسان على الطبيعة الثائرة، والحيوانات المفترسة والميكروبات والفيروسات القاتلة… الإنسان الذي يحمل في أحشائه صورة الله، غير المنظور
- موتاً أبدياً… بالهلاك الأبدي في جهنم…
لذلك فالصليب كان أسلوباً مناسباً يبرز لنا ذلك الموت الرباعي الرهيب الذي كان ينتظرنا… وعلى الصليب مات الرب بالجسد، وحمل خطايانا في جسده على الخشبة، فصار خطية لأجلنا، مرذولاً ومرفوضاً من العدالة الإلهية، لا بسبب في ذاته، إذ كان بلا خطية، ولكن كنائب عنا، حمل خطايانا بدلا منا. كما إستهزأ به اليهود والصالبون بصورة مؤسفة، حيث حمل عنا هزأ موتنا الأدبي. ولكن الرب كان مستحيلاً على الموت، لأن لاهوته المتحد بناسوته، وبره الأبدي والأزلى واللانهائي، كانا أقوى من الموت. وهكذا قهر الموت لأجلنا، وفتح لنا الفردوس لندخل ونستريح فيه، إلى ملكوت خالد ودائم إلى الأبد.
ب – يسفك دمه لأجلنا:
“بدون سفك دم لا تحصل مغفرة!” (عب 22:9 ). والصليب يحمل ضمن إجراءاته سفك الدم من مواضع كثيرة، من جبهة الرب الذي علاها إكليل الشوك، ومن جسده الممزق بجلدات السياط، ومن جنبه المطعون بالحربة، وأطرافه المثقوبة بالمسامير.
ويرى القديس أثناسيوس الرسولي أن الرب إختار الصليب للأسباب التالية :
- ليكون الموت علنية، على رؤوس الأشهاد، تأكيدا للقيامة التي ستأتي فيما بعد…
- ليحفظ الجسد سليماً غير مقسم…
- ليموت باسطاً ذراعيه، جامعاً الأمم واليهود في شخصه المحب.
- ليرتفع عن الأرض، ويجذبنا إليه.
- ليطهر الجو من الأرواح الشريرة، وينصرنا عليها.
- ليتمم النبوات التي أكدت ضرورة الصليب، مثل :
+ “مجروح لأجل معاصينا” (أش 5:53).
+ “وتكون حياتك معلقة قدامك” (تث 66:28 ).
+ “لنهلك الشجرة بثمرها…” (إر 19:11 ).
+ “ثقبوا يدى ورجلى…” (مز 16:22 )
لهذه الأسباب كلها، إرتفع الرب على الصليب، ليغسلنا من آثامنا، ويدخل بنا إلى الفردوس، بل إلى الملكوت… هذا ما فعله الرب من أجلي، فماذا تراني فعلت من أجله؟!
ثانيا: تعالى اتبعني حاملاً الصليب
مات المسيح من أجلنا لأنه يحبنا، “نحن نحتبة لأنه هو أحبنا أولا” (1يو 19:4 ) فإذا كان برهان حبه هو الموت من أجلنا بالصليب “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 16:3 )، “بهذا أظهرت محبة الله فينا: أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به. في هذا هى المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا” (1 يو 9:24 ،10). “ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو13:15)
و برهان حبنا نحن أيضا له أن نحمل الصليب معه.. فهو :
1- صليب التوبة :
لاشك أن للخطية لذة.. وان كانت وقتية وزائفة.. لكنها على كل الأحوال لذة.. والتوبة الحقيقية هي قطع هذه اللذة.. هذا القطع قد يوحي بالحرمان.. أو الضبط.. ولكننا من أجل المسيح مدعوون أن نميت هذه اللذات والشهوات.. وإن أدى الأمر إلى الألم.. فالمسيح يستحق منا الإخلاص.. ومن أجله.. ومن أجل إنجيله ووصيته، تهون كل الآلامات.. .
“ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل 24:5 )، “عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد (الخطية)، كي لا نعود نستعبد أيضا للخطية” (رو 6:6).
فكل إنسان يجاهد ضد الخطية، ويقمع جسده ويستعبده ويضبطه من أجل المسيح، ومن أجل الوصية، وإكراما لجسد المسيح الذي نتحد به… إنما يحمل صليباً مقبولاً محبوباً من الله وكريم. “فإذ قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد، تسلحوا أنتم أيضا بهذه النية. فإن من تألم في الجسد كف عن الخطية” (ابط 1:4)
2- صليب الجهاد اليومي :
لا تقف الحياة الروحية عند الحد السلبي، بالامتناع عن الخطية فقط، بل نتخطاها إلى العمل الإيجابي… في إقتناء الفضيلة، وفي محبة وخدمة الآخرين فإنه “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع 35:20 ).
“لأني جعت فأطعمتمونی. عطشت فسقيتموني. كنت غريباً فآويتمونی. عرياناً فكسوتمونی. مريضاً فزرتمونی. محبوساً فأتيتم إلى بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر بي فعلتم (مت 35:25 -40).
3- صليب الاحتمال :
لاشك في أن الحياة على الأرض تحمل لنا ضيقات ومفاجئات وأمراض وأحزان… كثيرون يتذمرون، ويتفاعلون مع هذه المتاعب بصورة سلبية.. أما أبناء الله، فيتحملون بشکر… وكلهم ثقه أن الله يخرج من كل ضيقة بركة، ومن كل خبرة درساً مفيداً… وأنه يهذب النفس بهذه الوسائل التي يطهر بها أوجاعنا و آلامنا. ” الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعوا أنفسهم كما لخالق أمين في عمل الخير” (1بط 19:4)
وحتى وأن كانت هذه الضيقات بسبب حسد إبليس، فمعلمنا بطرس يحفزنا على الاحتمال: “قاوموه راسخين في الإيمان، عالمين أن نفس هذه الآلآم تجري على إخوتكم الذين في العالم (1 بط 9:5).
4- صليب النسك :
الذي حمله الآباء القديسون: “وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم. تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض” (عب 38:11 ).. “من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح” كما نصلي في (قسمة الصوم الكبير)..
لقد أحب الآباء المسيح من كل القلب، فصار العالم رخيصاً في نظرهم، وصار الجهاد میسوراً عندهم.. وكان الود ودهم أن يرفعوا حياتهم كلها بالاستشهاد.. ولكن الفرصة لم تتاح لهم… لذلك خرجوا خلفه في الجبال ..
هؤلاء الذين يقول عنهم السيد المسيح: “قد ذكرت لك غيرة صباك محبة خطبتك ذهابك ورائي في البرية في أرض غير مزروعة (أر 2:2).
حقا كانوا خارجين خلف المسيح في ضنك العيش، وجفاف الحياة… إذ كان السيد نفسه “يعتزل في البراري ويصلي” (لو16:5 ).
5- صليب الاستشهاد :
اعتادت الكنيسة أن تحتفل بتذكار الشهداء مع بداية العام القبطى (عيد النيروز) ولعلها في هذا تنبه أذهاننا أن رأس تاريخنا، وبداية حياتنا أن نحب و المسيح حتى الموت.. وتستمر الاحتفالات بعيد النيروز (بالطقس الفرايحى) حتى عيد الصليب المجيد (توت 17-19)، وكأن الكنيسة تربط ما بين الشهادة والصليب.
* فالمسيح مات لأجلنا لأنه أحبنا، ونحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً، وبرهان حبنا له أن نقدم حياتنا رخيصة من أجله، كما قدم هو دمه الثمين مسفوك على الصليب لأجلنا.
* ولم يكن الموت فقط هو الحب، بل الألم أيضا… فالمسيح لم يقبل الصليب فقط بل قبل الآلام، والعار، واللطم، والتجديف، والبصق، والمحاكمة كمذنب… بالإضافة إلى الآلام المروعة التي للصليب.. وآباؤنا الشهداء لم يموتوا فقط من أجل المسيح بل احتملوا كل صنوف العذاب والألم، والإهانة، والتجريد ومصادرة الأموال والممتلكات، والحرمان من الوظائف، والطرد والمطاردة.
و إن الاستشهاد هو برهان صدق الصليب… فلم يكن الآباء ليتمسكوا بالإيمان حتی العذاب والألم والموت، إن لم يكونوا واتقين ومتأكدين جداً من الإيمان الذي متمسكون به… ما كان الصليب بالنسبة لهم قصة, أو وهم, أو فلسفة فكرية، ولكنه كان حياتهم وقوتهم..
* وكانت المعمودية المقدسة هي أول موت يجوزه المسيحى “مدفونين معه في المعمودية” (كو 12:2 ) لذلك هان عليهم أي موت أخر… لأنهم أدركوا أن الحياة التي يعيشونها ليست لهم بل للذي مات لأجلهم وقام” (2كو 15:5 ) “لى الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (في 31:1 ).
* والإفخارستيا التي نتغذى بها كل يوم هی سر نصرتنا على الموت… بل هي سر ضياع هيبة الموت بالنسبة للمسيحي.. فنحن نستهين بسطوة الموت لأننا نأخذ ينبوع الحياة في هذا السر المقدس.. من يأكل جسدي ويشرب دمي، فله حياة أبدية، وأنا أقيم في اليوم الأخير” (يو6: 36).
وليتورجية الكنيسة بكل بهائها السمائي هي أعظم محفز للشهادة, لأننا بها كل يوم نصعد إلى السماء لنعاين مجدها ونتذوق لذتها، فتتعلق قلوبنا بها.. حتى يصير الموت بالنسبة لنا شهوة واشتياق “لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدا” (في 33:1 ).
و لقد ربط الصليب بين السماء والأرض، فصار الطريق مفتوحا ومكشوفاً، وربط بين الشعوب وقلب المسيح، فصار الموت والألم هينا.. لا يمكن أن يفصلنا عن محبة المسيح.. فلهذا صار الصليب سر الاستشهاد.
ثالثا: بركات فعل الصليب في حياتنا؟
الفداء والدم المسفوك عنا، والصليب المجيد.. هذه كلها لها في حياتنا بركات كثيرة نذكر منها :
أ- بركة الغفران :
– “بدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عب 22:9 ).
– “الذي فيه لنا الفداء، بدمه غفران الخطايا” (أف 7:1، كو 4:1 )
وهذه البركة تخص الماضي، حينما سامحنا الله عن كل خطايانا، وذلك بالتوبة.
ب- بركة التطهير :
– “ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية” (ايو 7:1).
– “فكم بالحر يكون دم المسيح، الذي بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحى” (عب 14:9 ).
وهذه البركة تخص الحاضر، حينما يطهرنا الرب من آثار الخطيئة الكامنة فينا، وذلك من خلال وسائط النعمة: الصلاة، قراءة الكلمة، الاعتراف والتناول، مسحة المرضى، الكتب والإجتماعات الروحية، الأصوام، والتسبيح…
ج- بركة التقديس :
– “يسوع أيضا، لكى يقدس الشعب بدم نفسه، تألم خارج الباب” (عب 12:13 ).
– ” فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة” (عب10:10)
– “لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين (عب 14:10).
وهذه البركة تخص المستقبل، إذ يتقدس الإنسان بدم المسيح، أن يتخصص ويدشن ويصير ملكا للرب، كما يحدث في المعمودية (التجديد بالروح القدس) والميرون( سكنى الروح القدس.. والسران يتمان من خلال قوة الصليب، إذ فی المعمودية نولد میلاداً ثانياً، حينما نموت مع المسيح، ثم نقوم معه، وفي الميرون نرشم 36 رشمة من أجل تقديس الفكر، والحواس، والقلب، والإرادة، والأعمال، والخطوات.
د- بركة التثبيت :
– من يأكل جسدى ويشرب دمي، يثبت فى وأنا فيه” (يو 56:6 ).
وهذه البركة تخص الجهاد الروحى، لأن مفاعيل دم المسيح لا تأتينا دون مشاركة بالجهاد، فنحن نؤمن بالجهاد والنعمة، وبالإيمان والأعمال … وهاهو دم المسيح يثبتنا في المسيح، فنستطيع بالمسيح الساكن فينا أن نجاهد، فتنتصر وننمو…
ه- بركة الخلود :
– من يأكل جسدي ويشرب دمي، قله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يو 54:6). وهذه البركة تخص الدهر الآتي… إذ نستطيع من خلال فداء المسيح، ودمه القانی، وروحه القدوس، وأمانة التجارب والجهاد، أن نصل إلى أورشليم حديث: الأبدية، والخلود السعيد.
فهي إذن بركات هامة لحياتنا :
1- أن ننال غفران خطايانا…
2- وتطهير قلوبنا…
3- وتقديس كياننا للرب…
4- والثبات الكامل فيه…
5- والخلود الدائم معه…
فطوبى لمن:
آمن بالمصلوب، وتمسك بالصليب،
واغتسل في الدم القاني كل يوم،
واتحد بالرب في الافخارستيا
من المسابقة الدراسية – إعداد خدام – مهرجان الكرازة 2012