الأرض تتهيأ لاستقبال الابن متجسداً

ثلاث فئات أساسية على الأرض قامت كل منها بدورها دون أن تدري في الإعداد للكلمة المتجسد الآتي إلى العالم:

أولاً : اليهود في العالم

نحاول الآن وضع خريطة روحية – إن صح هذا التعبير – للعالم بكل فئاته ذات الصلة بمجيء المسيح وذلك قبل مجيئه، واضعين نصب أعيننا العوامل الإيجابية والتطلعات الناجحة عند كل الطوائف ذاكرين ما يمكن أن نعتبره أنه كان إعداداً إيجابياً لتقبل البشارة بالإنجيل وميلاد المسيحية في العالم.

فإذا ابتدأنا باليهود فأمامنا المعيار الروحي الذي عبر به المسيح نفسه عن وضع الأمة اليهودية في العالم كمتقبلة لمجيء المسيح بقوله للسامرية: «الخلاص هو من اليهود» (يو 4: 22)، حيث كانت تمثل المرأة السامرية أمامه العالم الوثني المتعطش الله وانتظار المسيَّا، كقول السامرية بالرغم من حالها الذي كان صورة صادقة مفضوحة لحال الوثنية كلها ،آنئذ كما يتضح في هذا الحوار:
المسيح : «أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أمَّا نحن (اليهود) فنسجد لما نعلم لأن الخلاص هو من
اليهود.
ولكن تأتي ساعة وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له الله ،روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.

السامرية : أنا أعلم أن مسيَّا الذي يُقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء. المسيح :  «أنا الذي أكلمك هو!» (يو 4: 22-26)

كانت اليهودية في وسط ظلام العالم الوثني كالعُليقة المشتعلة بالنار، تضي ولا تحترق تضيء بمعرفتها ليهوه العظيم (الله)، ولكن لا تحترق بالرغم من الجو الفاسد الوثني الذي يحيط بها. فكان ناموسها المقدَّس محل رهبة واحترام في العالم كله والذي كان يمهد لاستقبال المسيحية التي كانت قد قاربت أن تعطي صرختها الأولى بميلاد المسيح.

بدأت اليهودية بإبراهيم الذي صار رمزاً للإيمان في كل العالم، وبنفر قليل تغرب إسرائيل في مصر حيث تثقف هذا الشعب بثقافة أعظم دولة في العالم ،آنئذ، فتوفّرت له عناصر تكوين أمة، أخذت صورتها في داخل مصر كأمة مهاجرة استقت من علوم المصريين وثقافتهم وآدابهم وأسرارهم في تنظيم حياة الأفراد والشعب والحكومة ثم تدرب فيها أقوى شخصية ظهرت في التاريخ: موسى العملاق الذي تربى في بيت فرعون نفسه ونَقَل من الملوكية المصرية ما نَقَل من أسرار عملت كلها بعد ذلك لحساب يهوه الله. ولما جاء زمن خروجها (إسرائيل) كانت قد أخذت صورتها الكاملة كأمة متماسكة ولدت يوم هجرتها، لتعولها في البرية يد الله أربعين سنة وتزيح عنها ما لصق بها مــــن نجاسات الوثنية و أرجاس المصريين”. وبجيل جديد ولد لها في هذا المعزل الأخلاقي، دخلت اليهودية كنعان لترث أمماً كثيرة وتقوم على أنقاض شعوب بلعتها وأذابتها في جسمها.

 بلغت اليهودية أوج عظمتها أيام داود الملك المختار من الله والموهوب «مرنم إسرائيل الحلو» (2صم 23: 1)، واضع أناشيد الأمة لتصبح أعظم تراث حضاري ديني في العالم، يكفي لبناء روح أمة بل وكل الأمم، وهو لا يزال نبع المسيحية العتيق الذي لم يَأْسَن ماؤه، كل من استقاه ارتوى بروح الله، وكأنه ينبع من مرتفعات الله السرية لينحدر منها جديداً كل يوم.

وبهذا، وبغير هذا فاليهودية كانت مدرسة العالم صاحبة ثقافة وضعها لها الله على يد أنبيائه، لتظل مصباح العالم ليهتدي به الإنسان المتغرب على الأرض – فكانت وهي لا تدري تحمل للعالم سهماً من نور يتغلغل أعماقها وأجيالها، ينتقل من جيل إلى جيل . حاملاً بركات إبراهيم وعهد الله معه كوعد إلهي: أن بنسله تتبارك كل أمم الأرض . – فكان اليهود يعيشون وكأنهم يعيشون من أجل العالم، محتفظين بهذا السهم المضيء في أيامهم المشرقة كما في سنيهم الحزينة تحت السبي والتأديـ ليستودعوه بالنهاية في حضن الأمم.

أمَّا حُرَّاس هذا الوعد الإلهي فكانوا نخبة من أعظم ما أنجبت الأرض من رجال: موسى المشرع الأول في العالم والقائد العظيم الذي قاد أُمَّة من مليونين ويزيد في صحراء جرداء وبرية بلا ماء ولا غذاء لأربعين سنة، في رحلة احتسبت أقوى منجزات الإنسان في الترحال على وجه الأرض – ومن بعد موسى جاء داود النبي الملهم الذي ارتفع بمستوى مملكته حتى صارت المملكة الروحية الأولى في العالم التي يقودها الله، وكأن الله فيها يجلس على عرشه غير المنظور فتخلدت «مملكة أبينا داود لتصبح الصورة المصغرة لملكوت الله الذي باتت تحلم به الشعوب ومن نسل داود تعين النسل الموعود بحسب الجسد أن يجلس على كرسيه إلى الأبد. وينتقل ثقل النور من داود إلى إشعياء عظيم الأنبياء الذي نسق نبواته لتَصْلُحَ أن تكون تاريخاً حيا نبويًّا قبل التاريخ، تؤرّخ بالروح للمسيا الموعود، النسل المقدَّس، وتخصص في أن يصف أيامه – أيام المسيا – منذ أن حبل به في البطن وذكر اسمه بفم الله وذكرت أيامه المشرقة ورئاسته للسلام الذي بلا نهاية مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد» (إش 9: 7,6). ووصفه كيف تعظم وارتفع بحكمته وعلمه وروحه ثم دخل ليل أحزانه التي ختمها بالموت على الصليب. وهكذا حسب إشعياء أنه النبي .الإنجيلي. كما أنجبت إسرائيل إيليا، وإن كـــان الأسبق على إشعياء، ولكنه اضطلع بروحه أخيراً في المعمدان ليكون السابق الصابغ للمسيا. وقد حضر من وراء حجب الزمان السحيق ومعه موسى – يوم تجلّي المسيح على جبل تابور – إيليا عن الأنبياء، وموسى عن الناموس؛ يُسَلِّمان معاً ليد المسيَّا كل الميراث والتراث والمواعيد: التوراة والناموس بيد موسى، والأنبياء جميعاً بيد إيليا، لأن مسيَّا الذي جاء ليكمل، يكمل ما عمله موسى وما تنبأ به الأنبياء! وهكذا حفظت الوديعة بأفضل وأبرع حُرَّاس الموعد، إلى أن حطّ سهم النور فوق قدوس إسرائيل.

ولكن السنين أنهكت هذه الأمة خاصة بسبب طولها وامتدادها، وقسوة الأيام التي مرت بها بــين الشعوب التي آلت إلى ضعف لها وأمراض استعصت على جميع ا الأنبياء، فشرورهم كانت مريعة ومرعبة: جافوا يهوه إلههم وأعطوه الظهر والقفا دون الوجه «طول النهار بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم» (رو ،21:10 انظر أيضاً إش 65: 2) وتباعد قلب الأمة عن الله، فتباعد عنها الله حتى أصبحت أُمة بلا إله !! بالرغم من كل المظاهر الادعائية المتلبسة بالتقوى والتدين الكاذب.

ومن محاسن كأمة حتى أعمال داود التي يذكرها له التاريخ حتى اليوم أنه جعل أورشليم مدينة ذات صبغة ملكية إلهية: «مدينة الملك العظيم» وهيكلها بيت الله يحج إليها يهود العالم من جميع أ أقطاره وأرجائه، يأتونها كفريضة دهرية ليقدموا خضوعهم ليهوه إلههم الخاص ملك الملوك ورب الأرباب. يتملأون من بركاتها وقداستها وترابها وحجارتها وعمرها الخالد المديد، زاداً يتزودون به كل سنة وإلى مدى العمر. وكان اليهودي لا يتراءى أمام الله ،فارغاً، فكانت أورشليم عاصمة الغنى والمجد لكــــل العالم. وبالرغم من هذا الامتداد الذي أجراه الملوك الأوائل والاتساعات بين الشعوب، حافظ اليهود على عزلتهم الشديدة وبأضيق حدود يحتملها شعب وتطبقها ،أمة، سواء في لغتهم الخاصة أو اتصالاتهم الضيقة وعاداتهم الغريبة؛ فكان هذا من الأسباب التي أبقت على كيان اليهود . اليوم، بالرغم من تشرذمهم في كل أقطار العالم والسبي الذي عانته الأمة بكاملها لسبعين سنة، إذ كان ناموسهم بمثابة السياج الذي استحال على كل قوى العالم أن تخترقه. فحينما كان الوثني يحمل آلهته معه بين أمتعته في ترحاله كان اليهودي يسعى إلى يهوه في أورشليم من أقاصي الدنيا. وهذا ضَمِنَ احتفاظ اليهود بتمركزهم في مدينة وطنهم ليقارب بين ألفتهم ووحدتهم معاً مهما تعددت لغاتهم وأوطانهم التي سكنوا فيها. هذا صار واضحاً، لأن بابل التي سبتهم سبياً مريراً وحرمتهم من ديارهم، ما ما برحت أن انحطت عظمتها للتراب ودفنت مدنيتها مع كنوزها وهياكلها، فلم يعد لها وجود إلا بالذكرى على صفحات التاريخ. بينما نجد اليهود يجددون كيانهم إثر كل كارثة ويعيشون تاريخهم ومجدهم وعبادتهم حتى وإن جار عليهم الزمان.

وهكذا حفظت إسرائيل في جسمها وكيانها تاريخها وكل وعودها وبقيت رغم آلاف السنين التي عبرت عليها شاهدة على معاملات الله حافظة للمواعيد، وإن لم تنتفع بها. ولكن تدهور إسرائيل لم يؤهلها لحكم ذاتها وسط الأمم التي أحاطتها والتي ارتفع قرنها عليها. فشاء الله أن تدخل إسرائيل تحت عبودية وانضباط الامبراطورية الرومانية. فغزاها بومبي سنة 63 ق.م وهي السنة التي ولد فيها أغسطس قيصر، وعيَّن لهم بومبي ملكاً أدومياً هو “هيرودس”، وأولاده من بعده، كما دخل بعد ذلك حكم الولاة الرومانيين مما زاد سخط اليهود، لأن بدخولهم تحت الامبراطورية الرومانية دخلوا تحت قبضة الوثنية عدوهم الألد. فباتوا يثنون، وأهاج ذلك فيهم شعور الانتظار والترقب للمسيَّا رجائهم الأخير.

ثانياً: العالم الوثني يتهيأ

حينما نتكلم عن الوثنية لا ينبغي أن ننسى أنها بشرية أجدادنا، كنا مهما كنَّا، مصريين أو هنوداً أو إنجليزاً أو فرنسيين أو أمريكاناً أو أسيويين، أيضاً كانت تحت عناية الله، وإن لم يتوفر لهـا مساعدة علوية لتهذيب أخلاقها أو لإنارة الطريق أمامها للتقدم الروحي. ولكنها أبدت في مُحْمَلها محاولات جبارة للتعرف على الله إنما بوسائلها البدائية. فآلهة المصريين وآلهة اليونان وغيرهم كلهـا كانت محاولات للتقرب من الإله الواحد وبالرغم من حرمانها من كل ما تمتع بـه اليهـود مـــن تدخلات الله سواء بالأنبياء أو الملهمين، وبالرغم من أنها بلغت هي أيضاً الحد الأقصى في جهالاتها، لكنها سعت حثيثاً للتعرف على الحقيقة، حتى أوتي لهم في النهاية أن يتعرفوا على المسيا في الوقـــــت الذي لم يتعرف عليه اليهود فكرازة بولس الرسول بالمسيحية في كل مدن آسيا واليونان وروما أدَّت إلى تقدم الإنجيل بين الأمم بأسرع مما تقدم به الإنجيل في إسرائيل ذاتها.

وهكذا استطاعت الوثنية أن تلاحق إسرائيل في تعرفها على الله الواحد والإيمان والحق عن طريق المسيح، وتختزل ألفين من السنين عاشتها إسرائيل قبلها مدللة تحت عناية الله الخاصة جداً وإرشاد أنبيائها وتهذيب الناموس. وأوضح وصف توصف به محاولات الوثنية في تقربها وعبادتها لآلهتها مــا وصفها به بولس الرسول: «أنتم تعبدون إلها مجهولاً (أع 17: 23) وهذا ما قاله المسيح للسامرية: «أنتم تسجدون لما لستم تعلمون (يو 4: 22). والملاحظ في مستوى التعليم وسرعة الاستجابة أن السامرية أبدت استعداداً أسرع وأقوى وأصدق في تقبلها للمسيا والحق الإلهي والعبادة الصحيحة من نيقوديموس عضو السنهدرين والمعلم كان واحداً وهو المسيح!!

والمحاولات الجادة والصارخة إلى حد تقطيع أجسادهم بالسكاكين، التي كانت تقدمها الوثنية في عبادتها لله، توضح إلى أي مدى من الجدية والإخلاص والتضحية بلغت الأمم في سبيل التقرب إلى الله ولكن بوسائل خاطئة. كما كانت تُعبر أيضاً عن الإحساس بالبعد عن الله. وكانوا يجيزون أولادهم في النار وأحياناً يذبحونهم إمعاناً في التقرب الصادق، ولكن عن جهالة فالإنسان هو الإنسان نـازع دائماً نحو خالقه طالب الحق، ولكن يعوزه الطريق. والأوضاع التي واجهها المسيح في تقابلــه مــــع الوثنيين في إسرائيل توضح مدى توقيرهم لله والحق إذا ما أحسوا به. فسلوك قائد المائة وهو روماني وثني تجاه المسيح جعل المسيح يشهد لصدق إيمانه الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا» (مت 8: 5-10). وقصة المرأة الكنعانية وهي وثنية، التي صارت أمثولـــة بيننا، تبكت إيماننا وتخجل تواضعنا، كيف كان ردها على المسيح وهو يقول لها: «ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُعطى للكلاب» فترد عليه «نعم يا سيد والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها مما جعله يشهد أيضاً لإيمانها: يا امرأة عظيم إيمانك! ليكن لـــك كمـــا تریدین فشفيت ابنتها من تلك الساعة.» (مت 28:15)

ويعوزني ضيق المساحة أن أحكي للقارئ عن الشخصية المهيبة للمدعو ملكي صادق والملقب كاهن الله العلي، النموذج الأعلى للكهنوت الذي جاء المسيح على مستواه وهو أصلا ظهــر كصديق لإبراهيم ومشير له الذي عَضَدَ إبراهيم بخبز وخمر بمفهومهما السري جداً وباركه، وتقبل هو من إبراهيم العشور كنائب عن الله. هذا يخشى القلم أن يصفه “بالوثنية” المحسوب رأساً روحياً بحد ذاته، الذي كان موجوداً قبل إبراهيم، وهو لا يمت لا لإبراهيم ولا للعبرانيين بصلة.

كذلك يثرون حمو موسى كاهن مديان الذي عَضَدَ موسى وأعطاه ابنته، وكان له كما كان ملكي صادق لإبراهيم. أشخاص أمميون متفوقون عن نظرائهم من اليهود في الإيمان والإخلاص الله. وراعوث الموآبية التي تشرفت أن يأتي المسيح من نسلها، وأرملة صرفة صيدا التي عالت إيليا النبي وهو مطارد، وحيرام ملك صور الصديق الحميم لداود الذي لولاه ما بني سليمان هيكلا الله. وملكة سبأ التي جاءت من أقصى الجنوب لترى سليمان وتسمع حكمته ونعمان السرياني ضابط أرام الذي تخطى حدود العداوة لإسرائيل وجاء من بلاده البعيدة يطلب صلاة نبي في إسرائيل.

بل ويكفي العالم الوثني أن يُنجب شخصية كأيوب الصديق الذي صار مثلاً في فم الله للإيمان والصبر والشكر والحكمة. وهوذا بلعام بن بعور النبي الذي كان يرى رؤى القدير وهـو مطروح مفتوح العينين، الذي التزم بأوامر الله ولم يخرج عمَّا أعطاه أن يتكلم به حرفاً واحداً، بالرغم مــــن الوعد والوعيد.

كل هؤلاء أشخاص تألقوا في سماء الوثنية في العهد القديم تفتخر بهم البشرية التي أنجبتهم وهـــي بلا إله ولا أنبياء !! وعندنا أيضاً أشخاص إذا ارتفعنا إلى مستوى مواهب الحكمة والمعرفة والعقل المتقن في وسط الوثنية لا نعدم منهم جبابرة ذوي قامات وهامات شامخة ينحني تحت ضياء فلسفتها وبلاغتها وحكمتها هامات أعظم العلماء في حاضرنا لم يكن يعوزهم إلاخ ختم الروح القدس والتعرف على سر الحق فقط. وهم على مستوى أعاظم أنبياء إسرائيل: سقراط وأفلاطون وأرسطو وبندار وسوفوكليس وشيشرون وفرجيل وسينكا وبلوتارخ، هؤلاء محسوبون كمنح ممتـــازة فـوق العادة للعالم الوثني من قبل الله ! يهذبون عالمهم أدبيا وفكريا وخ وخلقيًّا حتى لا يتعوق أو يتأخر عالمهم عن حركة التدبير العام للعالم كله ليصلحوا لاستقبال النور الإلهي. وهؤلاء الحكماء جميعاً هم شهود “الكلمة” ، نبع الحكمة العقلية في عصر الظلام، كشعاع من نور ألقاه “الكلمة” في عقولهم ليضيء من بعد بالحكمة والبلاغة والفلسفة والفن والجمال والمعرفة والأدب والشعر، بصور نادرة المثال تحكي عن قمة المواهب المنسكبة عليهم مجاناً والتي ملأت كل روما وبلاد اليونان، ولم يكن يعوزهــــا إلا سر الروح، وكأنما كانوا يمهدون لأقدام بولس الرسول ليرسي فوقها سر المسيح. ولما دخلتهم المسيحية أخصبوها واستناروا وأناروا. وهكذا جاءت المسيحية لترث أمجاد العالم الوثني ليدخل ضمن نسيجها الروحي. وهكذا اقتسمت المسيحية العالم لنفسها : اليهود بميراثهم الزاخر بكنوز الحكمــة الإلهية، واليونان بلغتهم المتقنة وفنونهم وآدابهم، والرومان بقانونهم وأنظمتهم السياسية وحكومتهم المتقنة ضبطاً وإدارة.

ويوم كتب بيلاطس البنطي عنوان المسيح المصلوب فوق رأسه بالثلاث لغات: اليهودية واليونانية واللاتينية، كان ذلك إيذاناً برفع العداوة بينهم ودخولهم في شركة المصلوب، لقيادة العالم الجديد باتجاهاته الجديدة.

ثالثاً: اليونان والامبراطورية الرومانية

ما ساهمت به اليونان وروما في التمهيد لمجيء المسيح والكرازة بالإنجيل

دور اليونان:

كان العالم يذخر بنتاج الفكر البشري في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تعتز بالتوراة والثقافة التي أسسها موسى في كل مناحي الحياة. فكان الجزء الأقدم من العالم، وهو الجزء المدني، ينمو في حدوده التي رسمها لنفسه، والثاني ينمو في حدوده التي رسمها له الله على يد موسى و وكأنهما كانا على ميعاد ليتقابلا معاً لتغتني البشرية من هذه الذخائر المدنية والإلهية بآن واحد، لكي تنمو البشرية بما وهبها الله على كل المستويات الروحية والمادية والثقافية لخير الإنسان. 

وكأنما كانت اليونان والرومان تعدان القالب البشري الطبيعي المتقن فكراً وفنا ولغةً لكي تصب فيه اليهودية أثمن ثمراتها التي بلغتها في المسيحية. وهكذا إذا تعمقنا الواقع النهائي لنشاط الإنسان وما وهبه الله في النهاية، نجد أن هاتين الدولتين قد ساهمتا بوضع الأساس البشري الطبيعي للإنسان الحديث، ثم أكملته اليهودية بمذخراتها فوق الطبيعية أو الروحية بالمعنى الأفضل. فهذا هو إنسان المستقبل الذي كلما تعمق أصوله الطبيعية يجد منابع أساساته التي بني عليها على أرقى مـا تكــــون الأساسات أدباً وفنا ولغةً لا تكفيه عشرات السنين لكي يطلع على مناهجها الثمينة.

وهكذا جاء المسيح في وقت متأخر جداً من تاريخ العالم ، فهو لم يشأ أن يؤسس ملكوته علــــى أرض خربة وإنسان بدائي، بل سبق وأعدَّ منذ زمن بعيد ما يَعُدُّ وجه الأرض أمامه. فكان هؤلاء الفلاسفة والأدباء والعلماء المتضلّعون في كل مواهب الحكمة والعلم والأدب يعملون بنشاط متعدد الاتجاهات، هذه المئات من السنين الأخيرة ليهيئوا الأساس البشري المتقن لكي يُوقع عليه المسيح لمساته لتبدأ رحلة الإنسان الجديد صوب الأبدية.

 ولقد حبا الله الجنس اليوناني من المواهب ما يُذهل العقل، فبالرغم من نقص تعدادهم البشري، إلا أن مقدار ما قدموه للعالم من علوم وفنون وآداب راقية للغاية ولغة فريدة في عمقها ما ملأ وجه الأرض وغطّى حاجة البشر إلى ما شاء الله. وإن أول وأعظم ما يُذكر لهـــم مـــن المعروف هو قدرة أدبائهم وشعرائهم في التخلص من الغيبيات القديمة التي كانت تلوث الـشـرق لتشكل ظلمة فكرية قادرة أن تسد منافذ النور لتقطع خط الرجعة على أي انتقـــال أو نهضة روحية صادقة. إذ كان يحكم فكر الشرق قوى الظلام التي تعبث بمصائر الناس، ومعها تصوير قوى الطبيعة الغامضة كأعداء تتربَّص بالإنسان. وبتدرُّج نَشِط استطاع الفكر الصافي المضيء أن يتخلص هذه الخرافات كما رأينا في أفلاطون الذي يسير جنباً إلى جنب مع التأملات المسيحية وهي في أوج قمتها على يد قديسيها الأماجد. ولا شك، وهذه حقيقة ثابتة، أن أفلاطون وغيره قدَّم للمسيحية بعض ما يمكن أن يكون أدواتها الممتازة للارتفاع بالروح دون خوف من السقوط أو الانحراف وفي مجال الحق والضمير، قطعوا قبل المسيحية أشواطاً لا يستهان بها حتى بلغوا إلى ما بلغوا إليه، مما يمكن اعتباره ضميراً سوياً إنما بحسب الطبيعة، يستطيع أن يحكم على الأعمال حكماً لا يخرج عن الأصول والحقوق كما يراها عظماؤهم الذين وضعوا أُسس التعامل وقوانين الحياة الاجتماعية.

وهكذا استلمت المسيحية دراسة منهجية متقنة عن كل مناحي الضمير الطبيعي، ما يفيده وما يضره، لتصب فيها أو عليها أعمال المسيح تجاه الضمير من غسل وتطهير وتقديس بالنور، ليرتقي ضمير الإنسان فوق مضار كل الإحساس الثقيل بالخطية، على أساس يقين عمل الخلاص الفريد المقدَّم مجاناً لكل إنسان وتلافي الوقوع في اليأس إثر أعمال الخطايا التي تترسب بطبيعتها في الضمير لتفسده.
فإذا خرجنا من محيط هذه الإحساسات التي لا يكفي لسردها وبحثها أمام القارئ مجلَّدات برمتها،
لنأتي إلى اللغة اليونانية، فاللغة اليونانية للذي يعرفها ويجيدها تُحسب معجزة الدهر. فهي تعبر عـــــن مضمون الفكر تعبيراً من شأنه أن يزيد نفسه عمقاً وعلواً إلى ما لا نهاية، إذ لها قدرة علـــى تــــصـوير الحدث تصويراً مذهلاً يفيد: متى وقع، وكيف وقع، وهل هو إلى زمن محدد في الماضي أو أنه مــــاض يمتد إلى أعماق المستقبل. فندرك من الفعل صوراً للفكر يصوّر بها الحقيقة لنراها جديرة بالفهم، بـل وترقى إلى شبه القانون تخضع الإنسان تحت الالتزام. فالفعل بتصرُّفه يشرح مضمون الحادثة ومدى أهميتها ولزومها وسلطانها.

وتعوزني المعرفة في أن أفيض وأزيد في القواعد التي تحكم لغة اليونان لتجعل منها ملحمة أدبيــــة وأعماقاً مرسومة كأساس ثابت. فما عليك إلا أن تفكر ثم تنطق أو تكتب لتخرج الكتابة أو الكلام له قدرة جمع شتات الفكر مرتبط أوله بآخره، وغايته مقروءة فيه دون عناء. وهكذا ساهمت اليونان بتقديم اللغة للإنجيل التي جعلت منه في لغتها أعظم المناهج الأدبية طراً. فأضفت اللغة علـــى المعـــاني جمالاً جمال سماوي أو هو بهاء الله وشعاع من مجده يُبهر الفكر والقلب والروح معاً. وهكذا أعدَّ الله لكلمته وعاءها الذهني الذي يحفظ لها قوتها ورزانتها وبماءها، يصورها أبلغ تصوير ويعطيها بريقها وكأنها خارجة من فم الله

وهذا الاتفاق المذهل بين إتقان الروح في إلهام الفكر في الإنجيل واتقان اللغة عند اليونان، وكأنهما عمل من أعمال الله المرسومة بحسب مشيئته العظمى قبل الدهور؛ يجعلنا نجزم ونقول إن الروح الذي جمع هذا صنع ذاك، ليتقابلا معا في الإعداد لملكوته، وكأنها ذبائح الإنسان ينشدها نشيداً لمسرة قلب الله.

 مستوى هذه الموهبة التي انسكبت على هذا الشعب الموهوب في نحت اللغــة بأصولها وفروعها وحركاتها وآدابها، وهبهم الله هبة النحت على الحجر لإخراج صور ومناظر تحكـــي كمـــا تحكي اللغة عما في قلب الإنسان وفكره. فأصول النحت عند اليونان جعلت الحجر يتكلم ويحكي ويصور الحقيقة بغير لغة اللسان. إنها ترقى إلى إحساس الروح ! هذه الموهبة أخذتها الكنيسة الغربيـــة وصنعت بها ما صنعت لتعبر عن قضايا الروح فأبدعت، وإن كان طقسنا القبطي يتمنع في قبـول النحت والتمثال في العبادة، وما ذلك إلا لأننا أوتينا من الوعي الروحي والانطلاق بالرؤى إلى مـــا فوق كل لغة وكل نحت وكل تمثال. ولكن ليس الجميع من أوتوا هذا الوعي الذي يفوق الواقع. 

ولكن العجيب حقا، هو ما سنراه في أمر الرومان، كيف يبعث الله مَنْ ينشر هذه اللغة عن إلزام في جميع أنحاء العالم لتكون هي لغة العالم التي تربط البلاد والقارات بنظام واحد، فكانت لغة المسيحية التي انتشر بها الإنجيل دون عناء أينما وقعت أقدام المبشرين بالخيرات.

والأعجب من أمر الرومان هو ما قام به اليهود أيضاً في هذا المضمار، إذ لما انتشرت اللغة اليونانية وغطت الأقطار وكل الأنحاء، رأى اليهود ضرورة أن يترجموا التوراة إلى اللغة اليونانية لحاجة اليهود في الشتات في جميع أنحاء العالم الذين فقدوا لسانهم العبري وحتى الأرامي، وباتوا جميعاً لا يتكلمون ولا يفهمون إلا اليونانية، فخرجت من تحت أيدي سبعين عالماً يهودياً من الربيين المتضلعين في اللغة اليونانية المستوطنين في الإسكندرية، النسخة السبعينية للتوراة تتلألأ بالمعاني المتقنة كما صاغها هؤلاء العلماء اليهود الربيون الذين كانوا على أعلى مستوى من الإدراك الروحي والأدبي واللغوي للتوراة العبرية في أصولها الأُولى. وهكذا أيضاً حُفظت كلمة الله في القديم في وعائها الذهب حتى تلقفتها المسيحية التي اعتمدت على الإلهام والنبوة كأساس راسخ لاستعلان حقيقة المسيا.

فانظر، أيها القارئ السعيد، كيف وضع اليونان اللغة، ثم كيف نشرها الرومان بسلطة واقتدار، ثم أخذها اليهود لينشروا بما توراتهم وتراثهم … وأخيراً تم تسليم هذا كله إلى يد الرسل لخدمة وانتشار الإنجيل. فمن لا يلحظ هنا يد الله التي كانت تعمل في صبر وهدوء على مدى طويل في العالم لتعــــد نفسها إعداداً متقناً يفوق العقل والحصر لمجيء المسيح واستعلان الله. هذا مما جعل شيشرون خطيب روما الشهير يقول:
[إن اليونانية تُقرأ في جميع الأُمم، أما الرومانية فمحدودة بحدود بلادها.]

ثم نأتي إلى أخطر منجزات الفكر اليوناني تأثيراً على المسيحية، وهو ما وضعه كُلِّ من أفلاطون وأرسطو من اصطلاحات لاهوتية لاستيعاب الفكر البشري للصفات والأعمال الإلهية أو الحق كما استطاعوا أن يستشفوه من وراء تصوُّر الآلهة. فقد صارت هذه الاصطلاحات القاعدة اللغوية والفكرية التي تشرح حركة الفكر في الاقتراب إلى الحقائق العليـا، فاعتبرت قواعد للاهوت الطبيعي. هذه استطاعت المسيحية أن تصب فيها الحقائق المسيحية والتعابير اللاهوتية الدقيقة جداً مثل: الأقنوم، الوجه الجوهر الطبيعة الذات، التساوي، التشابه، المطلق الزمني، وكلي الوجود وواجب الوجود، والمحدود ،والخيال وعالم الإلهيات، والحقيقة، وشبه الحقيقة، والتزييف، والكذب. ولم تجد المسيحية أي معاناة في استخدام هذه الاصطلاحات مع تعديل في مفهومها لتصيغ بما حقائق اللاهوت المسيحي. وبهذا يكون الفكر المسيحي اللاهوتي قد اغتنى بنتاج الفكر الفلسفي الهلليني – وامتدت المعاني بكل حذر ودقة للتفريق بين الحقائق الإلهية بصورة عميقة وغنية ومفرحة للقلب الواعي. فمَنْ ذا يتصور أننا نبلغ إلى تصوير اللاهوت المسيحي بهذه التعبيرات المسيحية الواضحة المضيئة للعقل والروح بدون هذه الاصطلاحات، والتي من يسمعها يعتقد أنها من ضمن الملهمات للروح المسيحية، مع أنها خرجت من قلوب وأفكار أشخاص عاشوا قبل المسيح بأجيال. 

ثم هذا “المنطق” في الأسلوب اليوناني الذي كان مادة الخطابة والحوار واستعراض مناهج الفلاسفة من فوق منابر أثينا، يسمعها الشعب ويفهمها ويخرج يناقش بما بعضه ويتحاور بها حتى تتغلغل طبيعة فكرهم. هذا نفسه دخل كسلاح للدفاع عن وحدانية الله ولاهوت المسيح الابن الوحيد، لما دخــــل أسلوب البشارة والوعظ بالإنجيل وصار وكأنه لغة الإنجيل بعد أن تعمَّد في أفواه الرسل والقديسين الذين أغنوا المنبر: كيوحنا ذهبي الفم والآباء الكبادوكيين. والذي يلزم أن نعيه، هو أن تأملات أفلاطون أصبح لها وجود في صياغة الفكر المسيحي ومدوّناته، وكذلك تأملات بلوتارخ كما يصفها شاف. وقد لاحظ العلماء أن بعض أفكار بولس الرسول لها ما يشبهها في أفكار سنيكا الفيلسوف الروماني وهو المعاصر لبولس الرسول.

وكثير من آباء الكنيسة الذين انتفعوا من الدراسات اليونانية خاصة في الأجيال الأُولى صرَّحوا أن الفلسفة اليونانية محسوبة عملياً أنها كالقنطرة للعبور إلى الإيمان المسيحي الجزل، كمعلم مدرسي يقود في طريق معبد، ومنهم الشهيد يوستين و كليمندس الإسكندري وأوريجانوس وأغسطينوس. أما الكنيسة اليونانية ذاتها فما من شك أن أساسها الأول قام على اللغة والمعرفة والفلسفة اليونانيـــة الصرف التي أخذت طابعها الروحي المسيحي على أيدي الرسل.

ولكن على واقعنا الحي المعاصر نستطيع القول أن الطابع المسيحي الحر البسيط أخذ استقلاله في كنائس الشرق دون أن ينبني في كثير أو قليل على الفلسفة اليونانية. أما اللغة اليونانية فبسبب ضعف الدارسين لها توقفت في كنيسة الشرق توقفاً حزيناً مؤلماً عن الامتداد في ميراث الآباء من جهة الشرح والتفسير للإنجيل والرسائل، والخسارة في ذلك لا تقدر. فنحن بسبب جهلنـا باللغــة اليونانية انفصلنا انفصالاً حزيناً مؤلماً عن فكر الآباء وعمقهم الروحي.

ولكن يشاء الله أن عظمة اليونان وفخر لغتها وآدابها وفلسفتها وثقافتها المتعددة الأوجه تخبـــو وتنطفئ بظهور المسيحية، لترث الكنيسة ما هو قيم وصالح فيها وتتجنَّب نواحي الانحراف والفــــســاد منها وهي كثيرة. مما يجعلنا نفكر أن قيام النهضات الأولى المبكرة جداً في اليونان، سواء في اللغـــة أو الفلسفة والآداب والمواهب الأخرى، إنما قامت لتُعدَّ الطريق لتحمل بناء المسيحية الضخم، وعندما كملت الرسالة انتهى دور العالم الوثني بعد أن ورث المسيحية أمجد . منجزاته .

دور الرومان:

بقدر ما رأينا اليونان بلد المواهب الفكرية والحكمة والأدب والفن والفلسفة واللغة المبدعة، بقدر ما نجد الرومان بلد العمل والإصلاح والقانون والسياسة. ففكرة قيام حكومة عالمية وقانون مدني موحد يحكم الشعوب ملأت وجدان الرومان وتغلغلت فيهم حتى الجذور. ففكرة الامبراطورية الرومانية طغت على كل طموحات أباطرتها، فتصورتها ورسمتها من الفرات حتى الأطلنطي، ومـــن صحراء ليبيا إلى شواطئ الراين، لتضم كل خصب الدول المحيطة في آسيا وإفريقيا وأوروبا. وقد كان. فكما تخيلت ورسمت في أحلامها نفذت على الواقع، وبقدر ما جرى القلم على الخرائط والورق انطلقت الجيوش تفتح وتضع الحدود وتقيم الحصون وترصف الطرق وتضع علامات الفراسخ أي الأميال (Milestones) التي تملأ آثارها المتاحف وأصبح المثل حقيقة: “كل الطرق تؤدي إلى روما”، لأن كتابة الأميال عليها تبدأ من روما فتعرف وأنت سائر كم من الأميال تسير لتبلغ إلى روما. وأحصى الرومان تعداد الواقعين تحت سلطانها، فكان الرقم ما يقرب من مائة مليون نسمة(8)، وكان هذا وقتئذ يُعتبر ثلث العالم كله. ويقول العالم المؤرخ شارل مريفيل في كتابه عن تاريخ روما بخصوص التعداد الكلّي لمن هم تحت الامبراطورية الرومانية أيام أغسطس قيصر، وذلك في بـدء المسيحية، أنه كان يبلغ 85 مليوناً، منهم 40 مليوناً في أوروبا، 28 مليوناً في آسيا، 17 مليوناً في إفريقيا، ولم يعط عدداً لفلسطين، ومن امتدادها الجغرافي تظهر قيمتها التاريخية والسياسية.

وإن كان الله قد منح اليونان مواهب الفكر ليسودوا على العالم باللغة والآداب، فللرومان وهب أصلب الأخلاق وكأنما وُلِدَت أباطرتها لتحكم العالم وإن كان اليونان في عجرفتـهـم ينظرون إلى غيرهم كبرابرة – أي همج – ذلك بالنظرة الأدبية الفلسفية، فالرومان كانوا ينظرون إلى كل مَنْ ليس رومانياً أنه عدو إلى أن يخضع ويصير مواطناً تحت القانون الروماني. وكــــان فخر الرومان وعظمتهم في الحروب والانتصارات وكما غلب الرومان العالم بالسيف، حكموه بالقانون.

وكان مفروضاً على كل إنسان أن يخضع لروما وينحني أمام مجدها ويخدم سلامها بالمال وبـــالفن وبالجمال، ولكن حاولت روما أن تقلد اليونان في حبها للفلسفة والآداب والخطابة والتاريخ والشعر!

وقد استطاع أغسطس قيصر أن يحوِّل روما من مدينة الأكشاك المصنوعة بالطوب الأحمر، إلى قصور من الرخام. واستورد كل شيء من اليونان وزيَّن المدينة بأقواس النصر والأعمدة السامقة، وجلب لها من كل أرجاء الدنيا كل ما بلغ علمه من تحف وفنون – وفي هذه الغمرة المحمومة من الإعمار، انطلق هيرودس وهو ربيبهم في بناء الهيكل في أورشليم وجلب له أعمدة الرخام وكل ما وصلت إليه يداه.

واستتب الأمن في كل البلاد وحفظ لكل مواطن حقوقه بالقانون وارتقى مستوى المجتمع في كل مكان مع حقوق الحياة والحرية والكلام، ودخل كل متعد تحت العقاب مهما كان مركزه، وبدأت تطل المدنية على العالم الروماني في كل الأنحاء، وعمَّ السلام والطمأنينة؛ فانفتحت الطرق، وامتدت المواصلات للسفر والتجارة في كل أنحاء الامبراطورية، وذلك تحت راية القياصرة. وكان لأي إنسان أن يسافر إلى آخر الدنيا آمناً ومعه تجارته: الذهب والماس والأحجار الكريمة، تُرسل من الشرق إلى روما دون خوف، وتحف وتماثيل وأعمال النقش من اليونان إلى روما.

وصار العالم وكأنه مدينة واحدة تحت حكم حكيم مُهاب وأدق وصف ممكن أن نصف به روما مع طرقها وتجارها وغناها وعزّها ومجدها يُمكن أن يُقرأ بمنتهى الدقة والوضــــوح في رؤيـــا يوحنـــا اللاهوتي عندما وصف سقوطها:
+ “وسيبكي وينوح عليها ملوك الأرض … ويبكي تُجَّار الأرض وينوحــــون عليها، لأن بضائعهم لا يشتريها أحدٌ في ما بعد، بضائع من الذهب والفضة والحجر الكريم واللؤلؤ والبز والأرجوان والحرير والقرمز، وكل عود ثيني، وكل إناء من العاج، وكل إناء من أثمن الخشب والنحاس والحديد والمرمر، وقرفة وبخوراً وطيباً ولباناً وخمراً وزيتاً وسميذاً وحِنْطَةً وبهائم وغنماً وخيلاً، ومركبات وأجساداً، ونفوس الناس.” (رؤ 18: 9-13)

هذه صورة لمدى اتساع التجارة والعظمة والسلام والأمان والعدل والقوة والسياسة المنضبطة بالقانون التي كانت تضفيه روما على كل العالم – ذلك كله حينما ولد المسيح!!

فقد انفتحت أبواب العالم كله في وجه الآتي من السماء وكأن العالم صار بيتاً واحداً، ارتفعت منه الحواجز وانفتحت غُرَفُه على بعضها البعض شمالاً ويميناً وشرقاً وغرباً وعليها أقواس النصر، تُحيي الآتي وتسلمه مفاتيح الدار. 

الرومان واليهود:

كان من أقوى المثل العليا عند القياصرة العظام – والتي سبقهم فيها الإسكندر الأكبر – احترام أديان العالم. فكل قطر افتتحوه ضمُّوا آلهته إلى آلهتهم. وللعجب أنهم أعطوها أسماء آلهتهم أيضاً وقدموا لها العبادة والقرابين حسب عادة الأمم. وهكذا اختفت الفوارق الدينية: آلهة مكدونيــــة ومصر وسوريا وفارس!

وفي النهاية عملوا لها في روما مكان عبادة واحد يتجمع فيه كل الآلهة لكل الأمم التي افتتحوهــا وسموا المعبد بانثيون Pantheon أي معبد كل الآلهة. وهو من أجمل معابد روما على تل الكابيتول (التل الذي يجتمع فيه أعضاء مجلس الشيوخ والنواب) حيث اعتبر الكابيتول والبانثيون عليــــه بمثابــــة عاصمة العالم الوثني أو الأُمم!!

وكان أول من تعاهد معهم اليهود وكانوا مشتتين منذ سبي بابل في جميع أقطار العالم، وكان لا يوجد مكان في العالم ليس فيه يهودي كما قال يوسيفوس المؤرخ وكذلك استرابو المؤرخ الروماني. وتظهر هذه الحقيقة في سفر الأعمال عندما ذكر حضور يوم الخمسين وكان في أُورشليم جماعات يهودية من كل أقطار العالم. وقد اعتبر الرومان أن الديانة اليهودية ديانة قانونية، وسهلوا لليهود المعيشة في أنحاء الامبراطورية وبالرغم من عداوة اليهود المتأصلة من نحو الأمم إلا أنهم انجذبوا إليهم بحاسة التجارة وموهبة جمع الأموال، فاستطاعوا أن يصيروا أغنى جاليات العالم في كل مكان حلوا فيه.

بومبي ويهود التيبر (63 ق.م):

وقد استحضر بومبي من أورشليم أسرى يهود إلى روما ووطّنهم على ضفة التيبر اليمني. وهو  بذلك يكون قد وضع أساس الكنيسة المسيحية الرومانية في المكان الذي عيَّنتـه نعمـة االله دون أن يدري ولا درى اليهود.

يوليوس قيصر واليهود:

اشتهر يوليوس قيصر في زمانه بأنه حامي حِمى اليهود وقد أحبَّوه حبَّا جنونياً حتى أنه لمَّـا مات وقفوا أمام جثمانه ليالي عديدة يبكون عليه حتى أُحرق جسده. . فقد منحهم حريـة العبادة وأعطاهم هوية أصحاب الديانة الرسمية . ولمَّا جاء طيباريوس قيصر جدَّد هـذه المنحـة واستمروا في هذا الامتياز. ولكن حدثت أزمة ثقة بينهم وبين طيباريوس قيصر، وجاء بعـده كلوديوس وطردهم من روما. وكان من نتائج هذه المودة التي لم تدم أن تأسست في روما معرفة بالإله الواحد ومعها دخل الرجاء المرتقب بالمسيَّا. وهكذا وُضعت بذرة الإيمان المسيحي في تربة روما على شاطئ التيبر الأيمن برجاء نموها في الميعاد.

 وقد سبق أن عرفنا أن التوراة كانت قد تُرجمت إلى اليونانية قبل المسيح بـ 200 سنة، وكانت تُقرأ علناً وتُسمع في المجامع في كل مكان. وكان في كل مجمع مكان مخصص لمن يحضر من الوثنيين ليسمع التوراة. وكثيرون كانوا يواظبون على السماع والتعرف على الإله الواحـــــد يهوه ” العظيم. وهكذا كان كل مجمع بمثابة إرسالية ثابتة تخدم مجيء المسيح بهدوء وبلا ازعاج، وتُمهد للرسل مكاناً رسمياً للكرازة والإقامة. وقد أعدَّت الآذان لسماع صوت الإنجيل على توقيعات النبوات.

ومن هؤلاء الدخلاء كانت الأفواج الأولى من مؤمني المسيحية سيدات ورجال: ليديا بائعــة الأرجوان في فيلبي وتيموثاوس في لسترة. ومن الأمور المدهشة أن يهود الشتات تقبلوا الإيمان المسيحي بانفتاح ووعي وسرعة أكثر من يهود فلسطين. وكانت اللغة اليونانية العامل الأساسي لمساعدتهم على تقبل المعرفة على أصولها الدقيقة واستيعاب الروح أسرع وأقوى. كذلك جراء الانفتاح والحرية التي كان ينعم بها المواطنون اليهود في الامبراطورية الرومانية بطولهـا وعرضها تهيأت فرص أكثر للإيمان دون أن يتعرض المسيحي للنقد أو المقارنة أو الملاحقة إلا من اليهود المتعصبين أنفسهم. 

كذلك نجد أن اليهود الذين خرجوا من مجامع الشتات وقد تنصروا ليكرزوا بالإنجيل مثــــل القــــديـس بولس والقديس برنابا، كانوا هم القنطرة الممتازة التي عبر فوقها الوثنيون بأمان وتقبلوا الإيمان بفــــرح عظيم. وكانت حركة الكارزين في كل أقطار الامبراطورية تحت حماية القانون الروماني، وفي طرق معبدة آمنة محروسة بجنود الرومان محدَّدة بعلامات الأميال “الستاديوم ” (Stadium). وكانت الكرازة بلغة واحدة وهي اليونانية التي يتكلم بها كل الأقطار.

وهكذا بات العالم كله مهيَّاً للبشارة بالإنجيل وسماع صوت الله.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى