رفض إسرائيل للملكوت هو الذي نقله للأمم
لما رفضت إسرائيل الملكوت نهائياً بكى عليها المسيح وهو في موكبه كملك يطلب ملكه، عندما دخل أبوابها راكباً على جحش رمز اتضاعه وتلاميذه والجموع من أمامه وخلفه تصرخ له: «مبارك الآتي باسم الرب! مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب» (مر 11: 10,9). ولكنه رثاها وهو يبكي عليها وكأنه يعاتبها : «كم مرَّة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها و لم تريدوا» (مت 37:23) «وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلاً: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك ولكن الآن قد أُخفي عن عينيك» (لو 19: 42,41). فالمسيح ظلّ يرجو لهم ملكوت الله إلى آخر لحظة، وفي آخر يوم من خدمته أدرك مصير الأمة، فواجه اليهود بمثله عن الكرَّامين الأردياء، الذي اختتمه بسؤال حرج جعلهم هم الذين ينطقون بما ينبغي أن تكون العقوبة: «فأخذوه وأخرجوه ابن صاحب الكرم خارج الكرم وقتلوه. فمتى جاء صاحب الكرم، ماذا يفعل بأولئك الكرَّامين ؟ قالوا له : أولئك الأردياء يُهلكهم هلاكاً رديا، ويُسلّم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها» (مت :21: 39-41). فكان تعقيب المسيح على حكمهم هذا: «لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تصنع أثماره.» (مت 43:21)
العقبات والمصادمات
كانت تدفع المسيح أكثر للخدمة وتكميل الرسالة
لم يكن المسيح متغاضياً أو مستهيناً بحركات المقاومة التي بدت مبكرة، ولا المصادمات المتوالية مع الكتبة والفريسيين، أو أنه قد غاب عنه إدراك مدى الضعف في روح الشعب وقدرة الكتبة والفريسيين ورؤساء الكهنة في السيطرة عليه والاستحواذ على صوته وضميره. ولكن كـــل هـذه العقبات والعثرات والعداوات لم تقلل من سرعة اندفاعه في الكرازة والخدمة ومن مستوى استعلانه لنفسه وللملكوت، ولكنه التجأ أخيراً إلى أسلوب الأمثلة التي أخفى فيها سر ملكوت الله حتى لا يستعلنه إلا للذين أُعطي لهم. لأن رؤيته للمخدومين ارتفعت لتشمل الآتين من بعيد، كل صنوف الأمم مع الأخصاء من التلاميذ والخواص المختارين من رجال ونساء انفتحت عيونهم واستوعبوا التعليم وترحوا الآتي. فلم يؤثر تقهقر الكتبة والفريسيين والرؤساء وكثير من الشعب وحتى التلاميذ على امتداد وعمق الاستعلان لشخصه وللملكوت. فالمنهج ظل بقوته و وعمقه واندفاعه للنهاية، لأنه وضع أصلاً للإنسان الذي يطلب وجه الله فلما استعفت إسرائيل، صار الذي كان لها بالكام للآخرين وأزيد، وخرجت هي من ا الملكوت مأسوفاً عليها!
وبعد أن انجلى كل شيء وأكملت إسرائيل جريمتها، وقام المسيح من بين الأموات، طرح المسيح مشروعه الضخم على أكتاف التلاميذ ليكرزوا به هو نفسه إلى كل العالم: «دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وقـ وتَلْمذُوا . جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به.» (مت 28: 20,19)
ولكن لا ينبغي أن نقلّل من أهمية كرازة المسيح لإسرائيل، لأن إسرائيل لم تعدم أبناء فيها آمنوا وقبلوا المسيا وانفتحت عيونهم وقلوبهم ليفهموا المكتوب في الأسفار ويمسكوا بالمسيح والخلاص والملكوت ويصيروا كما أراد الله تماماً : ” نوراً للعالم”، ويكرزوا لجميع الأمم وإلى أقصى الأرض كمطلب المسيح.
كذلك فإن كرازة المسيح لإسرائيل بكل ظروف هذه الكرازة من عنت ومصادرة من كل فئات المتعلمين والرؤساء، أعطت لنا أعمق التعاليم عمَّا يميز وصايا الملكوت عن وصايا التوراة والناموس ونواحي الضعف في العهد القديم. علماً بأن المسيح كان ينطلق في تعليمه عن الملكوت من العهد القديم كأساس ليبني فوقه متطلبات الملكوت اللائقة به في العهد الجديد. فلولا الأساس، أي كرازة المسيح عن أصول التوراة والناموس ما بلغنا إلى الصورة الكاملة للملكوت في العهد الجديد.
وكان القليلون الذين يسمعون لصوت الابن ويجتذبهم الآب ليتبعوا المسيح، نقطاً مضيئة وعلامات واضحة في خدمة الملكوت كشهادة صلاحية للإنسان الذي يعي الكلام ويؤمن. أما الذين انتحوا ناحية الرفض فكانوا ومازالوا حتى اليوم عبرة للسائرين في طريق الملكوت.