العريس
νυμφίος
+ «وكان تلاميذ يوحنا والفريسيين يصومون، فجاءوا وقالوا له: لماذا يصوم تلاميذ يوحنا والفريسيين، وأما تلاميذك فلا يصومون؟ فقال لهم يسوع: هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا والعريس معهم. ما دام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن ستأتي أيام حين يُرْفَعُ العريس عنهم، فحينئذ يصومون في تلك الأيام» (مر 2: 18- 20).
أن يدخل هذا اللقب ضمن ألقاب المسيح اللاهوتية، فهذا أمر غريب يدهش له العقل، خاصة أنه هو الذي اختاره لنفسه. وقد تكررت الكلمة في الثلاثة الأناجيل وليس مصادفة أن تبدر من المسيح هذه المعلومة التي تُحسب أنها خاصة جداً وذات معان كبيرة، ولكنه كررها في مَثَلٍ من أحب الأمثال إليه وللكنيسة، وهو مَثَل العشر العذارى خمس منهن حكيمات وخمس جاهلات؛ وأخذ على الجاهلات أنهن أهملن في واجبات الاستعداد لمقابلة العريس وكان عقابهن مريراً، إذ حُرمن من الدخول معه، والمثل صريح: إنه يتحدث عن الدخول إلى ملكوته والاستعداد لمجيئه الثاني.
هذا ما التقطناه من فم الرب عن وصفه لنفسه أنه عريس، حيث العروس وإن كانت مخفية ضمناً في كلامه فهي الكنيسة، كما كشفها القديس بولس في رسالة أفسس على مستواها الزيجي الحقيقي: «من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً. هذا السرُّ عظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة» (أف 5: 31 ، 32).
ولكن ثبت بولس الرسول هذا الوضع بمعناه العالي جداً، باعتبار أن المسيح اتحد بالكنيسة فعلاً وسراً وصار معها جسداً واحداً فيه، فصارت الكنيسة تمثل واقع جسده على الأرض، على أساس حب حقيقي يجمعهما باتحاد: «أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يُقدسها مطهراً إيَّاها بغسل الماء بالكلمة لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غَضْنَ أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدسة (فيه) وبلا عيب (مثله)» (أف 5: 25-27).
وهذا الوصف والتعبير اللاهوتي لواقع الكنيسة بالنسبة للمسيح باعتبارها جسده، لا يدخل فيها التصوير الرمزي ولا المجازي، بل إن الرسول بولس يتكلم عن اقتناع لاهوتي عملي، أننا كمؤمنين وككنيسة الله والمسيح نُحسب أعضاء حقيقيين في جسده السري هذا بصورة واقعية فيقول: «فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يَقُوتُهُ ويُربِّيه كما الرب أيضاً للكنيسة، لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه» (أف 5: 29 ، 30). هنا يترك القديس بولس الواقع اللاهوتي الفكري ليدخل الواقع الإفخارستي الحسي، فنحن إذا أكلنا جسده صرنا بالضرورة الحتمية أعضاءً في هذا الجسد. ولكن لكي يتمادى القديس بولس في وصف العلاقة الكيانية التي صارت بيننا وبين المسيح لم يكتف بالجسد والدم الذي تعاطيناه في الإفخارستيا، فأضاف العظام قاصداً بذلك أن يكشف عن ما تم في الاتحاد الأول بينه وبين الإنسان إذ لم يشترك معنا في اللحم والدم وحسب بل وفي العظام أيضاً، فأصبحت شركتنا معه بالتالي على هذا المستوى بعد أن قدَّس الجسد وأعطاه كما ليصير هو هو جسدنا بلحمه وعظامه.
وبهذا ينكشف لنا أصل الزيجة التي تمت باتحاده أولاً بجسدنا في العذراء الذي أخذ منها عروسه، الذي هو الجسد، فولد متحداً بها بلاهوته، أي ولدت الكنيسة متحدة بالمسيح يوم ولد المسيح وبالتالي ولد كل فرد منا في بيت لحم فصارت مسقط رأس البشرية المفتداة.
وقد دشنه رسمياً للكنيسة على الصليب لما مسحه مسحة الفداء بدم الله الذي انسكب عليه فتقدَّست الكنيسة إلى الأبد لحساب الله، باعتبارها جسده الذي أخذه منا وقدَّسه وفداه ومنحه لنا بكامل مخصصاته الإلهية كجسد ابن الله؛ إذ وهبه لها بعد أن أكمل به ارتفاعه إلى أعلى السموات ليضم مخصصاته الأزلية لحسابها:
+ «مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين ( الكنيسة) حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة ، وكل اسم يُسمى، ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإيَّاه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي . جسده: ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف 1: 18-23)
وعلى القارئ أن يُلاحظ اشتراك الآب في منح الكنيسة كل هذه القدرات الخاصة جداً بالابن: «وإيَّاه جعل (الآب) رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده».
أي أن الآب هو الذي صمم ونفذ هذا الاتحاد السري الفائق الوصف بين ابنه وجسد البشرية، ليرفع البشرية فيه وبواسطته إلى مستوى الجلوس عن يمينه ليتمم الوحي المقدس: «قامت الملكة عن يمين الملك».
فكانت هذه المحاولة أنجح المحاولات وآخرها التي قام بها الله على مستوى العهد القديم كله ليُقرِّب إليه شعبه قرب التودد، كرجل يحاول أن يُقرب إليه حبيبته عبثاً وهي غير عابئة بحبه بل وغير أمينة لمحبته:
+ «لكن هأنذا أتملقها وأذهب بها إلى البرية وألاطفها… وهي تغني هناك كأيام صباها وكيوم صعودها من أرض مصر. ويكون في ذلك اليوم، يقول الرب، أنك تدعينني رَجُلي… وأخطُبُكِ لنفسي إلى الأبد، وأخطُبُك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم. أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب» (هو 2: 14- 16، 19، 20).
ويعود إشعياء يتغنّى بحب الله لشعبه وعلى مستوى الخطبة أيضاً والزواج:
+ «فإنك تنسينَ خِزْي صباك، وعار ترمُّلِك لا تذكرينه بعد. لأن بعلك هو صانعكِ، ربُّ الجنود اسمه، ووليك قدوس إسرائيل إله كل الأرض يُدعى لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب، وكزوجة الصبا إذا رُذِلَت قال إلهك لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك بفيضان الغضب حجبتُ وجهي عنكِ لحظة وبإحسان أبدي أرحمكِ، قال وليكِ الرب» (إش 54: 4-8).
وهنا يذكر الرب عار ترمل إسرائيل لأنه بالفعل كتب كتاب طلاقها: «هكذا قال الرب أين كتاب طلاق أُمكم التي طلقتها… هوذا من أجل آثامكم قد بُعتُم ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم » (إش 50: 1). ويوضحها إرميا أكثر :هكذا: «فرأيت أنه لأجل كل الأسباب، إذ زنت العاصية إسرائيل فطلقتُها وأعطيتها كتاب طلاقها…» (إر 3: 8) وطبعاً كان الزنا في عرف الله هو عبادة الأصنام، إذ اعتبر خيانة لبعلها وهو الله.
ولكن مما يدهشنا حقاً أن مع لغة الزيجة التي يتحدث بها الأنبياء عن الله في حبه لشعبه، يأتي معها أيضاً شعور الغيرة التي كان يغير بها الله على عروسه أي شعبه الذي اختاره لنفسه حينما كانت إسرائيل تذهب وراء آلهة غريبة. وقد لقنها لهم موسى كطبيعة في الله: «لأن الرب اسمه غيور، إله غيور هو. احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض (كنعان) فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم، فتُدعى وتأكل من ذبيحتهم» (خر 34: 14، 15).
وبذلك حسبت إسرائيل، حينما أُغويت لعبادة آلهة الأمم والأصنام، أنها خانت عهد زيجتها مع إلهها إلى الدرجة التي سمعنا فيها أنه طلقها بمعنى أنه حجب وجهه عنها ولم يعد يدافع عنها تجاه أعدائها.
هكذا تُقيم العلاقة التي ارتبط بها الله مع شعبه الذي اختاره في العهد القديم. لذلك فعندما أعطى المسيح لقب ”العريس“ لنفسه كان ذلك استعلاناً لموقف يهوه مع شعبه في القديم، ولكن الله نجح أخيراً بواسطة تجسُّد ابنه أن يصنع زيجة حقيقية مع شعبه الذي أحبه باتحاد سري تم بين الله ،والإنسان حمله الابن في كيانه حينما اتحد ملء اللاهوت بالجسد فولد ابن الله موثقاً في ذاته اتحاد اللاهوت بالناسوت بعقد لا يفصمه الزمان فدخلت البشرية في حيازة الله إلى الأبد، ككنيسة مقتناة فداها الابن على الصليب وغسلها بالدم، فصارت مقدسة وبلا لوم في ابنه، وتم ما رآه إشعياء في الرؤيا: «وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك» (إش 62: 5)
كان في التقاليد اليهودية، كما يحكي إدرشيم المؤرخ اليهودي المتنصر، أنه إذا خطب عريس عروساً له فكل من العريس والعروس يكون له مَنْ يمثله، وخاصة العروس الذي يصير هو ضامناً لبكوريتها. ويظهر أن القديس بولس كان يعلم بهذا التقليد، لذلك، وبكل جرأة الرسول المعين والمختار من الرب يقدم نفسه باعتباره إشبين الكنيسة التي في كورنثوس، فيقول بدالة إلهية:
+ «فإني أغار عليكم غيرة الله ( العريس)، لأني خطبتكم لرجل (المسيح) واحدٍ لأقدم عذراء عفيفة للمسيح» (2کو 11: 2).
ووراء الكلام مأساة كانت جارية في كورنثوس، فهي مدينة الخلاعة والفجور مليئة بالأوثان والعبادات الغريبة. إذا، فنحن أمام عذراء مخطوبة للمسيح، والشيطان يجول ويصول حولها بعبادات شيطانية، أو بحسب لغة العهد القديم بعروض للزنا وخيانة الله. لذلك نسمع بولس الرسول يستطرد القول:
+ «ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية (الشيطان) حواء بمكرها، هكذا تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح» (2کو 11: 3).
إذاً، فتجربة العهد القديم قائمة، وذلك بإغراء الكنيسة التي اقتناها الله بدمه لكي تذهب وراء الشيطان ويقف بولس الرسول حارساً لكنيسة كورنثوس التي خطبها هو بكرازته لحساب المسيح حتى لا يفسدها الشيطان بغواياته وتبقى على أمانة عهدها وإيمانها مع المسيح. ومن هذا الحوار مع الكورنثيين نشعر بأن القديس بولس مشبع بصورة المسيح كـ “عريس حقيقي، وأن الكنيسة يتحتّم أن تبقى على مستوى أمانة العبادة، على مستوى العذراء المخطوبة التي يخدش شرفها أي انحراف في طهارتها. هكذا ينبغي لكل أسقف وكاهن أن يكون لسان حاله بالنسبة للكنيسة سواء في صلاته أو عظاته أو افتقاده: «أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح».
والعجيب أن تبقى هذه الصور الفريدة للمسيح كعريس والكنيسة كعروس التي امتدت معنا من بداية العهد القديم منذ خروج شعب إسرائيل من مصر عبر جميع الأنبياء، ثم ترتفع هذه الصور إلى حقائقها اللاهوتية لنسمعها من فم المسيح نفسه. ثم يزيدها وضوحاً وجلاءً بولس الرسول المفتوح العينين الذي اعتبر نفسه أنه كمل بآلامه ما نقص من آلام المسيح، كعريس، في جسده أي الكنيسة. وكان يشعر وهو يكرز أنه إنما كان يخطب نفوساً لتدخل في زيجة حقيقية مع المسيح رجالاً ونساءً، فهو القائل: «مَنْ التصق بالرب فهو روح واحد (1كو 6: 17)، أي زيجة على مستوى أصغر كنيسة فردية. ولكن لا تقف صورة الزيجة بين المسيح والكنيسة على مستوى الأرض فقط، بل ترتفع بالرؤيا إلى أوضاع السماء:
+ «هللويا، فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء. لنفرح ونتهلل ونُعْطِهِ المجد، لأن عُرس الخروف قد جاء وامرأته هيأت نفسها، وأعطيت أن تلبس بزاً نقياً بهيّاً، لأن البز هو تبررات القديسين» (رؤ 19: 6-8).
أما معنى أن عُرس الخروف قد جاء وأن امرأته التي . الكنيسة قد لبست تبررات قديسيها، فهذا واضح أنه افتتاح الفصح الأبدي لتحقيق أعمال الفصح الأول، جديداً في ملكوت الله. كما أشار إليه المسيح ليلة العشاء الأخير: «لأني أقول لكم إني لا أكل منه بعد حتى يُكمل في ملكوت الله» (لو 22: 16).
وأخيراً، يعلن سفر الرؤيا عن ماهية العروس امرأة الخروف، أي الكنيسة، في صورتها النهائية أنها أورشليم الجديدة، كنيسة كل العصور والأجيال، متجلية بأعمال قديسيها ومواهبهم، ونعمة الله تزين أتقياءها وشهداءها بأكاليل المجد:
+ «هلُمَّ فأُريك العروس امرأة الخروف. وذهب بي بالروح إلى جبل عظیم عال وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله لها مجد الله…» (رؤ 21: 9-11).
وفي الحقيقة نحن نستريح للغاية من تعبير المسيح أنه عريس الكنيسة، لأنه ارتفع بعلاقتنا به من وضع العبادة المفروضة إلى الحب الذي يبلغ حد العبادة. فالعلاقة بالمسيح كعريس حياتنا أخذت صورة العشق لا من ناحيتنا فقط بل من ناحيته هو أيضاً. فبمجرد أن ينتبه قلبك أيها القارئ العزيز، أنك محبوب عند الآب والمسيح، يلتهب قلبك بأكثر من الحب لو تزكيه بالصلاة والمناجاة يصر عشقاً، حيث يصعب على القلب أن ينشغل بغير المسيح. اسمع ما يقوله عاشق قديم: «مَنْ لي في السماء، ومعك لا أريد شيئاً في الأرض» (مز 73: 25) . أليس هذا صوت عاشق؟ بل اسمع صوت نبي محبوب يصف حالة عشقه جهاراً نهاراً: «إلى اسمك وإلى ذِكركَ شهوة النفس. بنفسي اشتهيتُكَ في الليل، أيضاً بروحي في داخلي إليك أبتكر» (إش 26: 8، 9). هذا هو عاشق الليل والنهار، وقد استولى اسم الله وذكره على كل ما عداه أليست هذه صوراً حية لحالة زيجة حقيقية صادقة بالروح؟ أو حينما يقول يوحنا البشير بل المسيح: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16)، ألا يكشف المسيح هنا السر المستتر لحالة عشق برح بقلب الآب حتى هان عليه ذبح ابنه؟
لذلك كان ردُّ الابن على حب الآب الذي بلغ هذا البذل حتى إلى ذبح ابنه، أن قال: «إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يُبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً» (لو 14: 26). هذا هو المساوي لعشق الآب من نحو الكنيسة الذي هون عليه أن يذبح ابنه من أجل خلاصها. فليس كثيراً على الله الذي ذبح ابنه من أجله، أن يذبح هو نفسه من أجل الله. وهذا لا يتطلب الذبح، بل الحب، بل العشق، فالعشق لا يَرُدُّ عليه إلا عشق بمعنى الحب من كل القلب. بولس الرسول ردَّ على عشق الآب ردّاً مناسباً للغاية حينما قال:
+ «ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل الأشياء (ومن ضمنها الأب والأم وكل الأسرة وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأوجد فيه» (في 3: 7-9).
وحتى ولو خسر الإنسان كل شيء، فلن يستطيع أن يُجاري حب الآب الذي ذبح ابنه من أجل ربحنا أو حب الابن الذي ذبح نفسه على الصليب ليربحنا الله أبيه. لذلك قلنا، وليس مغالاة، إن محبة الآب ومحبة الابن فاقت معنى الحب هي العشق، بل هي مصدر العشق ومنبعه.
أما مصدر هذا الحب الشديد والفائق فهو في طبيعة الآب والابن، لأن الآب يحب الابن حباً كلياً مطلقاً بحيث لا يوجد للآب حب خارج الابن والابن كذلك وبالمثل يحب الآب حباً بحيث لا يوجد خارج الآب حب للابن. فهو حب مطلق متبادل الجاذبية. لذلك قيل أن الآب في الابن والابن في الآب، فصار الآب والابن واحداً مطلقاً. فلما تجسد الابن دخل جسد البشرية الذي التحم به الابن في دائرة حب الآب وبالتالي الكنيسة، فأصبحت الكنيسة مركز تجاذب حب الآب والابن وتبلور هذا الحب بالأكثر لما صار المسيح رأس الكنيسة والكنيسة جسده؛ فصارت الكنيسة مشخصة بالمسيح أمام الآب فانتقل إليها كل حب الآب وكأنها الابن ذاته.
لذلك لا نندهش حينما نسمع أن الآب اختزن في الكنيسة كل مخصصات الابن وميراثه حينما رفع المسيح فوق أعلى السموات ليُسلّم الكنيسة بالتالي كل مكاسبه، اسمع:
+ «وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمى، ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضاً. وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإيَّاه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف 1: 19-23).
انظر أيها القارئ العزيز، كيف آلت كل هذه الإمكانيات الهائلة للكنيسة لما صار المسيح رأساً للكنيسة بتدبير الآب؟ وما هو معنى أن يكون المسيح رأساً للكنيسة التي هي جسده؟ أليس هذا هو التعبير الوحيد لعلاقة عريس بعروس؟ وقد أوضح ذلك بولس الرسول بكل تفسير كما سبق وقلنا وبسبب هذا التمايز العالي جداً الذي صار للكنيسة فوق السمائيين جميعاً، أن تعينت الكنيسة بالتالي لتبشر وتعلن عن المسيح الذي لها لدى كل السمائيين هكذا
+ «لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا» (أف 3: 10، 11).
وبهذا نالت الكنيسة ميراث الابن في السماويات، ودعينا بالتالي أبناء الله، لا مجرد تسمية بل بعمل الروح القدس الذي ثبت لنا حق البنويَّة بشهادة وإعلان، كما قال القديس بولس:
+ «أخذتم روح التبنّي الذي به نصرخ يا أبا، الآب. الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح» (رو 8: 15-17).
ولكن الذي يدهشنا حقاً هو أنه كما ورثت الكنيسة الابن ورث الابن الكنيسة كنتيجة مباشرة للزيجة وتبادل مكاسب الطرفين، اسمع في ذلك: «مستنيرة عيون أذهانكم، لتعلموا ما هو رجاء دعوته؟ وما هو غِنَى مجد ميراثه في القديسين» (أف 1: 18)؟ وبذلك دخل القديسون ضمن مجد المسيح كشهود مختارین فوق العادة سيُرافقونه علناً في سحابة المجد:
+ «ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش والحيوانات والشيوخ وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف قائلين بصوت عظيم مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة» (رؤ 5: 11، 12)؛
+ «متى جاء ليتمجد في قديسيه ويُتَعَجَّب منه في جميع المؤمنين» (2تس 1: 10)،
+ «لكي يُثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة أمام الله أبينا في مجيء ربنا يسوع المسيح مع جميع قدیسیه» (1تس 3: 13).
والآن وقد تشبعنا بحالة حب نادر وفوق العادة وعلى أقدس مستوى ملموس، شمل الآب والابن والكنيسة وكل الخليقة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها على الأرض وفي السماء وفي المجيء الثاني؛ نستطيع أن نقول إن عالمنا كما يُحققه الإنجيل، هو قصة حب بدت من السماء من عند الآب عنيفة دموية بلغت أقصى قمة المأساة. لتدخل في أعمال بطولة حب شهيد وتنتهي هادئة هدوء الفجر المنير بفرح عريس وعروس.