ما أجمل خدَّيكِ بسموط وعنقَكِ بقلائد
«ما أجمل خدَّيكِ بسموط وعنقَكِ بقلائد» (10:1)
السموط هي المجوهرات التي تُزيّن ،الخدين، والقلائد هي العقود التي تُزيّن العنق. ولأول وهلة يبدو المعنى في هذه الآية غير متّصل بالآية السابقة التي تقول: «لقد شبَّهتُكِ يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون» (1: 9) فالفرس لا تلبس سموطًا ولا قلائد ولكن هناك علاقة روحية بين الآيتين.
فالآية السابقة تتكلم عن القوة التي فينا وقلنا إن هذه القوة هي قوة حُبنا للمسيح الذي به نسبي قلبه ونجعله يستجيب لكل ما نطلب. والآية الحاضرة تقول: «ما أجمل خدَّيكِ بسموطٍ وعنقَكِ بقلائد»، أي إنك تسبين قلبي بزينتك وتستولين عليه بالحب وهذا هو سرُّ قوَّتكِ. سر قوة العروس أنها تسبي قلب العريس فيستجيب لها في كل ما تطلب.
«ما أجمل خديك بسموط»
الخد هو موضع القبلات. فيكون المعنى خدك المزين يسبي قلبي، يجتذب قبلاتي. أول آية في نشيد الأنشاد كانت: «ليُقَبِّلني بقبلات من فمه». والآية الحاضرة تقول: «ما أجمل خديكِ بسموطٍ» أي ما أجمل اشتياقك إلى قبلاتي، وتزيين خديك لكي تجتذبي قبلاتي ما أجمل اشتياقات العروس إلى قبلات الحبيب.
هنا يليق أن نذكر بعض الآيات عن الاشتياق الروحي، لأن الاشتياق إلى المسيح يُعطينا دالة كبيرة عنده وهو سر النجاح في الصلاة.
جرّب وأنت ذاهب إلى الكنيسة أن تقول:
+ «فرحتُ بالقائلين لي إلى بيت الرب نذهب» (مز 122: 1).
+ «مساكنك محبوبة أيها الرب إله القوات تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب» (مز 83 في الأجبية).
+ «يا الله إلهي إليك أُبكّر لأن نفسي عطشت إليك» (مز 62 في الأجبية).
+ «كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله» (مز 42: 1).
وبستان الرهبان يورد تعليقًا للأنبا بيمن على هذا المزمور الأخير:
[إن الإيل في البرية تبتلع أفاع كثيرةً، وعندما يحرقها سم الأفاعي في داخلها تصرخ مسرعةً إلى جداول المياه… وهذا هو الذي يحدث تماما مع الرهبان، فهم في البرية يُصابون بنار سُمِّ الشياطين وحسدهم فيتطلعون إلى يومي السبت والأحد لكي يذهبوا إلى ينبوع المياه الحقيقي الذي هو جسد الرب ودمه لكي يتنقوا من مرارة الشرير ].
وإشعياء النبي له آية في غاية الجمال والمعنى السرّي في موضوع الاشتياق :
+«إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس بنفسي اشتهيتك في الليل أيضا بروحي في داخلي إليك أبتكر» (إش 26: 8-9).
وقد بلغ الاشتياق عند إشعياء أنه بِحَدْسِ روحي عجيب، طلب التجسد قبل أن يكون:
+ «ليتك تشق السموات وتنزل!» (إش 64: 1).
وأخيرا نقول: بقدر ما تشتاق إلى حب المسيح بقدر ما يُظهر لك المسيح حبه، أي بلغة النشيد بقدر ما تُزيّن خديك بالسموط بقدر ما تنال من قبلاته.
«وعنقك بقلائد»
القلائد هي المجوهرات التي توضع حول العنق لتزيينه.
فما هو المقصود بالعنق روحيًا؟
1- العنق هو موضع الذبح . فالرسول بولس يقول عن أكيلا وبريسكلا إنهما «وضعا عنقيهما من أجل حياتي» (رو 16: 4)، بمعنى أنهما خاطرا بحياتهما حتى الموت لأجل بولس والمسيح الذي ينادي به بولس.
2- كذلك العنق هو الذي يُحمل النير عليه:
«احملوا نيري عليكم» (مت 11: 29). يقول القديس كيرلس الكبير في شرحه لنشيد الأنشاد:
[إنه يعني بالعنق خضوع النفس. فما أجمل وما أبهى ذلك العنق المتفكر في حمل نير المسيح!].
فالإنسان قد يمد عنقه للسيف حُبًّا في المسيح (كالشهداء)،
أو قد يمد عنقه لحمل نير المسيح مدى الحياة (كالرهبان القديسين).
هذا هو معنى تقديم العنق للمسيح، وتزيينه لينال رضى المسيح.
والآن كيف تزين عنقنا؟
بالاستعداد للبذل حتى الموت حبًّا في المسيح. مكتوب عن أنبا أنطونيوس إنه نزل إلى الإسكندرية ليُشجّع الشهداء، لعله يصير معهم شهيدًا، ولكن لما توقف الاضطهاد أخيرًا، عاد إلى صومعته حيث كان كل يوم يُقدِّم نفسه شهيدًا بالنية ] (حياة أنطونيوس: ٤٧)
ووسيلة أخرى لتزيين العنق تكون بالاستعداد الدائم لحمل نير المسيح بكل صوره: «احملوا نيري عليكم…». وذلك بالإقبال بفرح على كل أعمال الإخلاء والاتضاع التي تعرض علينا.
تزيين العنق بمثل هذه القلائد هو من أكثر ما يعجب المسيح ويسبي قلبه، كما يقول أيضًا في نفس النشيد : «قد سَبَيتِ قلبي يا أختي العروس، قد سبيتِ قلبي بإحدى عينيكِ بقلادة واحدة من عُنقِكِ» (4: 9).
وهذا يُشجّعنا أن نتساءل بطريقة عملية أكثر ، كيف تزيّن عنقنا؟
ما هي القلائد، أي أحمال الاصالح والإجارة المختلفة التي بها تزين عنقنا؟
راهب يختار أن يجمع الزبالة في الدير.
وراهب آخر يتنازل عن رأيه لزميله في العمل، وقد يكون هذا الآخر أقل منه في المعرفة، ولكنه يُنفّذ الوصية «مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة» (رو 12: 10)، «وأيضًا حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم» (في 2: 3). وبهذا المعنى نقرأ في البستان
[وهو قال شيخ: «لو كُنَّا حكماء ونجعل أنفسنا جهلاء، فإننا نستريحُ ونتنيَّح». فقال له أخ وكيف يجعل الإنسانُ نفسه جاهلاً حكيم؟ قال له الشيخ: إذا أنت قلتَ كلمةً في وسط الإخوة، وكانت تلك الكلمة حقًا وصوابًا، ويتَّفقُ أن يقوم آخر ويقول كلمة كذب وغير صائبة، فإنك إن أبطلت كلمتك الصائبة، وأقمت كلمة أخيك الكاذبة، فتكون حكيمًا وقد جعلت نفسك جاهلاً من أجل الله»](قول ۸۹۸).
من أكثر الرهبان القديسين الذين برعوا في تزيين عنقهم بنير المسيح القديس يوحنا القصير. فبستان الرهبان يذكر عنه قصصًا كثيرةً تُبيّن ذلك، ويمكن تلخيصها جميعًا في هذا المبدأ العام [إنه وضع نفسه تحت كل الخليقة]. فبعض القصص تبيّن كيف عاش هذا المبدأ في علاقته مع أبيه الروحي، والبعض الآخر كيف عاشه في علاقته مع الشيوخ الذين كانوا يحسدونه ويتهكمون عليه، أو بقية الرهبان. المهم أن البستان يُقرّر أن نتيجة وضعِهِ لنفسه تحت كل الخليقة كانت [إنه حمل شیهیت كلها كما يحمل الإنسان قطرة ماء على إصبعه] . فأفضل وسيلة لكي تحمل أخاك وترفعه إلى فوق وتجعله يتقدَّم روحيًا هي أن تضع نفسك تحته.
وفي الحقيقة إن يوحنا القصير لم يخترع هذا المبدأ من فراغ، ولكنه استمده من تعمقه في معرفة سر إخلاء المسيح.
فالمسيح هو أكثر من وضع نفسه في الموضع الأخير تحت البشرية كلها، حتى رفعها معه إلى ملكوت السموات فما عَمِلَه يوحنا القصير لا يمكن مقارنته بما عَمِلَه المسيح، فيوحنا القصير لم يولد في مذود للبقر، ولم يمت بأكثر وسيلة فيها تشهير في ذلك الزمان وهي ،الصليب بين اثنين من فاعلي الشر. ولكن كل ما فعله القديس يوحنا القصير أنه استمدَّ من المسيح سرَّ الإخلاء، سر تزيين العنق بنير المسيح.