تفسير رسالة العبرانيين أصحاح 12 للقديس يوحنا ذهبي الفم

الإصحاح الثاني عشر

العظة الثامنة والعشرون (عب12: 1-3)

“لذلك نحن أيضا إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه” (عب 12: 1).

 بسبب الشرور التي تحدث جرّاء الأحداث الجارية يقدم لنا الكتاب المقدس العزاء، في حالات كثيرة مثلما يقول داود النبي ” وتكون مظلة للفئ نهارًا من الحر ولملجأ ولمخباء من السيل ومن المطر ويقول أيضًا “لا تضربك الشمس في النهار ولا القمر في الليل”. هذا ما يقوله هنا أيضًا. إن تذكر هؤلاء الرجال القديسين هو بمثابة سحابة تُظلّل ذلك الذي يلتهب من الأشعة الحارقة، هكذا تقيم وتحيا النفس الملتهبة بالبؤس والتعاسة. ولم يقل سحابة من الشهود مُعلقة فوقنا، بل قال محيطة بنا”، والذي يُعد أكثر سمو بكثير، وهو يفعل هذا لكي يُعلن بذلك، أن هذه السحابة من الشهود مُحيطة بنا، فيكون من الطبيعي أنها ستجعلنا في أمان كبير. وهو يعني بكلمة شهود ، ليس فقط أولئك الذين ذكروا في العهد الجديد، بل والذين وردوا في العهد القديم أيضًا، كذلك أولئك الذين كانوا شهودًا لعظمة الله، مثل الفتية الثلاثة وشهود إيليا (حين أقام إبن الأرملة)، والأنبياء جميعاً.

“لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة”. يقول كل ثقل، أي ثقل هذا؟ أي النوم والكسل، والتهاون والأفكار التي لا معني لها، وكل الأمور الدنيوية والخطية المحيطة بنا بسهولة. إن عبارة المحيطة بنا بسهولة” تعني تلك المحيطة والتي من السهل أن تجذبنا وتغلبنا ، أو تلك التي هي بهذه السهولة بحيث يمكن مواجهتها من جانبنا، ويمكن تجنبها، بل ربما هذا ما يقصده، لأنه لو أردنا أن ننتصر علي الخطية فهذا أمر سهل. ثم يقول ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا”. لم يقل “لنلاكم”، ولا “النصارع” ، ولا لنحارب، بل قال ما كان أسهل من كل هذا ، أي المنافسة في الركض، هذا ما يشير إليه. ولم يقل لنكن المتقدمين في المنافسة بل لنحاضر بالصبر، حين تجري هذه المنافسة، ولا نوقف الحركة. يقول “ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا . ثم بعد ذلك يقدم أهم جزء في هذا الرجاء، والذي فيه يضع المسيح أولاً وأخيراً قائلاً:

 “ناظرين إلي رئيس الإيمان ومكمله يسوع” (عب 12: 2)

الأمر الذي كان يسوع نفسه يقوله لتلاميذه بإستمرار ” إن كانوا قد لقبوا رب البيت ببعلزيول فكم بالحري أهل البيت ” وأيضاً “ليس التلميذ أفضل من المعلم ولا العبد أفضل من سيده . يقول “ناظرين إلي”، أي لكي نتعلم أن نركض، فلنحول نظرنا إلي المسيح تماماً كما يحدث في كل الفنون وكل المنافسات، عندما ننتبه لمعلمينا ، حينئذ نطبع أو نرسم الفن في مخيلتنا فندرك بالرؤية بعض القوانين ، أي الخاصة بالقول هكذا هنا أيضًا، إن كنا نُريد أن نركض، ونتعلم أن نركض بشكل صحيح، فلنحول نظرنا تجاه يسوع الذي هو رئيس الإيمان ومكمله. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن المسيح هو الذي وضع داخلنا الإيمان، وهو الذي أعطانا البداية. هذا ما قاله لتلاميذه “ليس أنتم اخترتموني بل أنا إخترتكم * بل والرسول بولس يقول : ” حينئذ سأعرف كما عُرفت.

لكن إن كان الرب قد وضع فينا بداية الإيمان، فإنه سيكمله. يقول: “الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينا بالخزي”. هذا يعني أنه كان يمكنه ألا يعاني إن كان قد أراد ذلك. لأنه ” لم يعمل ظلما ولم يكن في فمه غش كما قال هو نفسه في الأناجيل ” رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء كان يمكنه ألا يُصلب، إن أراد ذلك بالطبع، فلم يكن هذا متوقفا علي ذاك (رئيس هذا العالم لأنه يقول لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضاً. إذا فإن كان المسيح والذي لم يكن مُجبراً أن يُصلب، قد صُلب لأجلنا، فكم يكون أمراً عادلاً أن نصبر نحن علي كل شيء بشجاعة، يقول “من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينا بالخزي”. ماذا يعني بعبارة “مستهينا بالخزي؟ يعني أنه فضل موت العار، لكن لماذا بهذه الطريقة المخزية؟ ليس لسبب آخر سوي أنه أراد أن يُعلّمنا أن نحتقر المجد الذاتي لهذا برغم من أنه لم يظلم (أي لم يُخطئ)، إلا إنه فضل أن يموت بهذه الطريقة (الصلب) ، لماذا لم يتكلم عن “الآلام” بل تكلم عن إستهانته “بالخزي”؟ لأنه لم يحزن لاجتيازه هذه الآلام، إذا ماذا كانت النتيجة؟ إسمع ما يقوله “فجلس في يمين عرش الله”.

أرأيت المكافأة؟ هذا ما كتبه القديس بولس قائلاً “لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه إسما فوق كل إسم لكي تجثوا بإسم يسوع كل ركبة” ” يقصد الأمر المشار إليه في الجسد. وحتى إن لم يكن هناك أي مكافأة، فإنه كان كافيًا أن يشير إلي الرب كمثال لكي يُقنع كل احد بأن يُفضل قبول هذه الآلام فالمكافأت القائمة أمامنا الآن ليست المعتادة، بل هي مكافأت عظيمة وسرية. ونحن أيضا، إذا حدث لنا شيء مثل هذا، فلنفكر في المسيح، لماذا؟ لأن حياته كانت مليئة بالإهانات، فدائما ما كان يسمع أنه مجنون، مضل وساحر، وفي أحد المرات قال عنه اليهود ” هذا الإنسان ليس من الله”. ومرة أخري يقولون إنه “يُضيل الشعب” وأيضا ” ذلك المضل قال وهو حي إني بعد ثلاثة أيام أقوم ” وقد وشوا به واتهموه كساحر قائلين” هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزيول رئيس الشياطين” و” به شيطان وهو يهذي ، ، لم يكن من الصواب القول أن به شيطان وأنه يهذي. وهذا الكلام قد سمعه من اليهود، بينما هو قد أحسن إليهم، إذ قد صنع معهم معجزات وأعمال الهية. إن كان قد سمع هذا الكلام، دون أن يفعل شيئًا، ما كان في هذا الأمر ما يدعو للغرابة، لكن إن كان قد علم الحقيقة، وسمع أنه مضل، وبينما أخرج الشياطين، قالوا إن به شيطان، وبينما أبعد الشرور، دعي ساحراً ، وهل هناك معجزة لم يجريها؟ لقد ألصقوا به هذه الإتهامات علي الدوام.

3 . وإن كنت تريد أن تعرف مدي الإستهزاء والسخرية التي وجهت إليه، الأمر الذي يجرح نفوسنا بشدة، فإسمع هذا التهكم الذي جاء من أبناء جنسه، إذ قالوا “أليس هذا ابن النجار أليست أمه تُدعي مريم. أو ليست أخوته جميعهن عندنا. وتهكموا عليه لأجل مسقط رأسه وقالوا أنه من الناصرة وأيضا يقول” فتش وأنظر إنه لم يقم نبي من الجليل” ، وقد احتمل كل شيء، بالرغم من أنهم قد وشوا به كثيرًا جدًا. وأيضًا قالوا ألم يقل الكتاب إنه من نسل داود ومن بيت لحم .. أتريد أن تعرف التهكم والإستهزاء الذي وجهوه له أثناء الصلب؟ سجدوا له متهكمين ضربوه، لطموه، وقالوا ” تنبأ لنا من ضربك”. وقدموا له خلاً، وقالوا له : ” إن كنت إبن الله فانزل عن الصليب” . وحتى عبد رئيس الكهنة قد لطمه والرب قال له ” إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد علي الردى وإن حسنًا فلماذا تضربني؟ “، بل وتهكموا عليه فألبسوه ثوبا أرجوانيا ، وبصقوا علي وجهه، وجازوا به كل التجارب، متهكمين عليه. أتريد أن تعرف الإتهامات الخفية والظاهرة التي وجهت إليه من تلاميذه ؟ لأنه يقول “تريدون أن تمضوا”، وعبارة “بك شيطان”، قيلت من أولئك الذين كانوا قد آمنوا بالفعل.

لكن أخبرني ألم يكن المسيح ينتقل علي الدوام مرة نحو الجليل ومرة أخرى لليهودية؟ ألم يُجرِّب كثيرًا حتى عندما كان مُقمطا؟ فبينما كان بعد طفلا، ألم تأخذه أمه معها وإتجهت إلي مصر؟ لأجل كل هذا إذا ، يقول “ناظرين إلي رئيس الإيمان ومكمله يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه إحتمل الصليب. مستهينا بالخزي فجلس في يمين عرش الله. إذا فلنحول أنظارنا نحو المسيح، ونحو كل ما احتمله تلاميذه، فاحصين كل ما عاناه الرسول بولس، ونسمعه وهو يقول ” في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات في سجون في إضطربات في أتعاب في أسهار في طهارة في علم …. وفي كلام الحق ، وأيضاً ” إلي هذه الساعة نجوع ونعطش ونعري ونلكم وليس لنا إقامة ونتعب عاملين بأيدينا نشتم فنبارك تضطهد فنحتمل يفتري علينا فنعظ”. هل يستطيع أحد منا أن يقول إنه عاني ولو جزءًا يسيرًا من هذه الآلام؟

لأنه يقول بهوان ، بصيت رديء، وكأن لا شيء لنا وأيضا” من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة ثلاثة مرات ضُربت بالعصي مرة رجمت ثلاثة مرات إنكسرت بي السفينة ليلاً ونهارًا قضيت في العمق في جوع وعطش” . ومن حيث أن هذه الآلام كلها كانت كافيه أمام الله ، فإسمع ماذا يقول هو نفسه “من جهة هذا تضرعت إلي الرب ثلاث مرات أن يفارقني فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل”. ولهذا قال “لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والإضطهادات والضيقات لأجل المسيح .. وإسمع المسيح نفسه الذي يقول : ” في العالم سيكون لكم ضيق .. لأن ق بولس يقول: 

” فتفكروا في الذي إحتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم” (عب 12: 3).

بالصواب أضاف هذا الكلام، لأنه إن كانت معاناة الآخرين تحركنا ، فكم تكون معاناة الرب ألا تحركنا وتجعلنا راغبين في تحمل المعاناة؟ وهل هناك ما لا تستطيع المعاناة أن تقدمه؟ ولاحظ كيف تجاوز كل شيء، قال كل شيء في كلمة “مقاومة” التي أضافها، لأن الجروح في الرأس، والتهكم، والإهانات والخزي والسخرية كل هذا قد عبر عنه بكلمة “مقاومة”، وليس فقط تلك الآلام، بل وكل الأمور الأخرى التي حدثت له في حياته، أثناء الفترة التي كان يُعلّم فيها.

‏إذا أيها الأحباء فلنفكر دومًا في هذه الأمور، ليلاً ونهارًا أيضًا، ولنعيد التفكير فيها دائمًا، عالمين أننا سنجني من وراء هذا ، ثمار الخيرات العظيمة وسننال منفعة عظيمة لأن آلام المسيح وآلام الرسل تمثل لنا تعزيات عظيمة. لأن الرسول بولس قد إعتبرها بكل تأكيد أفضل طريق يقود إلي الفضيلة، حتى أن ذاك الذي ليس مُجبرا علي إجتيازها ، يرغب في أن يسير في هذا الطريق، بقدر قوة إيمانه، فالضيقة تحقق لنا ،منفعة وربما تصير سببًا لراحتنا إسمع ما يقوله المسيح ” مَنْ لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني .. هو لا يقول هذا الكلام من خلال هذا التعليم فقط، فإن كنت تلميذا ، فتمثل بمعلمك، لأن هذه هي سمة التلميذ. فإن كان المسيح قد أتي وجاز الضيقات، بينما أنت تفضل الراحة، فأنت لا تسير في نفس الطريق الذي سار هو فيه، بل تسير في طريق مختلف. إذا كيف تتبع المسيح، وأنت في الحقيقة لا تتبعه؟ كيف تكون تلميذاً دون أن تتبع المعلم؟ هذا ما يقوله ق بولس أيضًا “نحن ضعفاء وأما أنتم فأقوياء أنتم مكرمون وأما نحن فبلا كرامة” ٥٩ وكيف يستطيع أن يُبرر قوله أنكم تلاميذ ونحن معلمون، بينما نحن نحمل داخلنا رغبات متناقضة؟ وبناء علي ذلك أيها الأحباء، فإن الضيقة هي شئ عظيم، لأنها تحقق أمرين: تمحو الخطايا، وتجعلنا أقوياء.

4- لكن ماذا لو أن الضيقة أصابتنا بالتشتت وأهلكتنا؟ الضيقة لا تصنع هذا ، بل الذي يصنع هذا هو خمولنا وتوانينا وكيف يقول (ق. بولس) هذا الكلام؟ لأنه لو سهرنا، وترجينا الله، حتى لا يتركنا أن نجرب أكثر مما نحتمل، إن كنا ملتصقين بالله دوما ، سنقف بثبات وشجاعة، وسنواجهها (أي الضيقة). وعلي قدر ما يكون الله مُعينًا لنا في حياتنا، حتى وإن كانت التجارب تهب بشدة أكثر من شدة الرياح، ستكون بالنسبة لنا مثل عشب بسيط، وورقة شجر تتطاير. إسمع ق. بولس الذي يقول: ” في هذه جميعها يعظم إنتصارنا، وأيضا ” فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا، وأيضا “لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً. تأمل حجم الأخطار، والإخفاقات والضيقات المتوالية، وكل الآلام المشابهه، يدعوها أموراً خفيفة، وحاول أن تتمثل بهذا الإنسان الفولاذي، الذي يحمل هذا الجسد، متحملاً ما يحدث له، بل وما سيحدث من آلام متوقعة. هل أنت فقير ؟ لكن ليس بقدر ما كان بولس فقير، فقد جُرِب بالجوع والعطش، والعري، ولم يعاني من هذا يوما واحدا فقط، بل إحتمل كل هذا طوال حياته من أين يتضح هذا؟ إسمع ق. بولس وهو يقول : ” إلي هذه الساعة نجوع ونعطش ونعري.

يا للعجب، كم تحمل الكثير، هذا الذي تمجد كثيرا في الكرازة، بالرغم من أنه كان في سن العشرين عاماً، عندما كتب هذه الأمور ! لأنه يقول: “أعرف إنسانًا في المسيح قبل أربع عشر سنة أفي الجسد لستُ أعلم أم خارج الجسد لستُ أعلم ، ، وأيضا يقول ” ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم وأيضا إسمعه هو نفسه وهو يقول “خير لي أن أموت من أن يعطل أحد فخري .. وليس هذا فقط، بل أيضا يكتب قائلا “صرنا كأقذار العالم”. هل يوجد ما هو أكثر رعبا من الجوع؟ وهل هناك ما هو أكثر فزعاً من الصقيع؟ وما هو الأكثر رعبا من المكائد التي تأتي من الأخوة؟ والذي يدعوهم أخوه كذبة. ألم يدعونه مخرب المسكونة؟ ألم يقولوا عنه إنه مخادع ومتمرد ؟ ألم يتمزق (ظهره) عندما جلد ؟

فلنفكر في هذه الأمور أيها الأحباء ولنتأملها، لنتذكرها، ولن نفقد رجاءنا أبدا ، حتى وإن ظلمونا ، أو سلبونا الثروة ، أو عانينا آلاماً لا حصر لها. أرجو أن ننال الخيرات التي في السموات، وكل الأشياء الأخرى هي معاناة، وليت تكون أعمالنا موافقة لتلك الخيرات (التي سننالها في الدهر الآتي). ولم يغفل أي حديث عن الحياة الأرضية فقال : إن الأمور المتعلقة بالأرضيات، أيا ما كانت هي ظلال وأحلام، أمام الخيرات السمائية التي نترجى وننتظر أن نتمتع بها، لذلك فإن الكوارث التي نتعرض لها لا تُمثل شيئًا ، لا من حيث طبيعتها ولا من حيث مدة إستمرارها. تريد ، أن تقارن هذه الكوارث، بالمعاناة الشديدة التي تنتظرنا في الحياة الآخري؟ ماذا نقول عن النار التي لا تطفئ ؟ الدود الذي لا يموت؟ أي عذاب أو ألم في هذه الحياة يمكن أن يُقارن بصرير الأسنان، وبالقيود، وبالظلام الأبدي، وبالغضب، بالضيقة، وألم الحياة الآخري؟ وماذا عن الزمن ؟ ماذا تنتفع بالسنوات العديدة أمام الحياة الأبدية؟ أليست هي مثل نقطة صغيرة، في محيط لا حد له؟ وماذا نقول بالنسبة للخيرات؟ خيرات الدهر الآتي فهي أكبر بما لا يُقارن، لأنه يقول ” ما لم تر عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر علي بال إنسان” . وهذا كله سيوجد في الحياة الأبدية. إذا ألا يستحق أن تُجلد آلاف المرات، أن ثمات، أن تحرق، أن نصبر علي ميتات كثيرة، وأي شيء آخر مُخيف، أن نصبر بالكلام وبالعمل أيضا من أجل التمتع بخيرات الدهر الآتي؟ لأنه إن اقتضي الأمر أن نحيا في آلام مستمرة، ألا ينبغي أن نصبر علي كل شيء وإن نحتمل الآلام ، لكي تربح تلك الخيرات التي وعدنا بها الله؟

لكن لماذا أكرر هذا الكلام، تجاه أناس لا يقبلوا أن يحتقروا ولا حتى المال، كما لو كانوا خالدين، وإن أعطوا القليل من كثير يمتلكونه، يعتقدون أنهم أنجزوا كل شيء؟ هذا ليس عمل رحمة، لأن عمل الرحمة هو ما فعلته تلك الأرملة (صاحبة الفلسين، التي أعطت كل ما تملك. لكن إن لم تستطع أن تقدم الكثير جدا كما فعلت تلك الأرملة، فعلي الأقل قدم كل الفائض لديك، إحتفظ بما تحتاج إليه فقط، ولا تحتفظ بالفائض أو الزائد عن الإحتياج. لكن لا يوجد أحد يقدم الفائض عنه ، لأن لديه كثير من الخدم، وملابس حرير، وكل هذه هي أمور زائدة. ليس هناك شيئًا ضروريًا أو هاما، ولا حتميًا، بل وبدون هذه (أي الخدم والملابس الحريرية، يمكن أن نعيش هذه هي أمور زائدة، وهي فقط مظاهر خارجية. إذا فلنفحص ما هو الأمر الذي بدونه لا نستطيع أن نعيش؟ يمكننا أن نعيش وحتى لو كان لدينا خادمين فقط، وماذا نستطيع أن نقول نحن الذين لا نكتفي بخادمين حين يكون مَنْ يعيش بلا خدم ؟ يمكننا أن نمتلك منزلا مبنيا بالطوب أو القرميد مكونا من ثلاثة طوابق، وهذا يكفينا ، ألا يوجد البعض ممن لديهم أبناء وزوجة، ولهم بيت واحد ؟ علي أي حال ليكن لك خادمين إن أردت.

وكيف لا يكون أمرًا مُخجلاً أن تسير الحرة ومعها اثنين من الخدم ، لا تقول مرة أخري أن سيرة الحرة ومعها أثنين من الخدم أمر من الخدم، أمر لا يدعو للخجل، بل الذي يدعو للخجل أن تسير ومعها تابعين كثيرين، ربما تضحكون لما تسمعونه. ثقوا أن هذا أيضًا أمر مُخجل أن تسير ومعك تابعين كثيرين. تماما مثل هؤلاء الذين يبيعون خراف، أو أولئك الذين يبيعون عبيدا ، هكذا تعتقدون أنه أمر هام أن تسيروا ومعكم خَدمًا كثيرين. هذا زهو ومجد باطل، بينما الأمر الآخر (التجرد)، هو التعقل والوقار. فالنبل لا يتضح بكثرة العبيد، لأنه أية فضيلة لمن لديها عبيد كثيرين؟ هذه ليست سمة للنفس لا تجعلها حرة. عندما تكتفي النفس بالقليل، عندئذ تصير حرة بالحقيقة، بينما حين تحتاج للكثير، عندئذ تكون عبده، بل وأسوأ من العبيد.

أخبرني ألا تجول الملائكة المسكونة، دون أن يحتاجوا لأي تابع؟ إذا فهل بسبب هذا يكون أولئك الذين ليس لهم إحتياجاً لأحد هم أقل منا نحن الذين لنا إحتياج؟ فإن كان عدم الإحتياج لتابع هو سمة ملائكية، فمن هي الأكثر قربا للحياة الملائكية، تلك التي تحتاج لتابعين كثيرين، أم تلك التي تحتاج لخدم قليلين؟ ألا يُعد هذا أمر مخجل، فالسلوك بعدم لياقة هو الخجل بعينه. أخبرني، من تسترعي إنتباه أو نظرات أولئك الذين في السوق، تلك التي تُحضر معها عبيدا كثيرين، أم التي تُحضر قليلين؟ وألا تبدو تلك التي تسير بمفردها أكثر وقار، من تلك التي تسير ومعها عبيد؟ أرأيت كيف أن التباهي يعد أمر مخجل؟ مَنْ التي تجذب أنظار الناس في السوق، تلك التي ترتدي ملابس فاخرة أم التي ترتدي ملابس بسيطة؟ أيضًا مَنْ تلفت أنظار أناس السوق إليها ، هل تلك التي تمتطي الجواد المزين بالذهب، أم التي تسير ببساطة ووقار؟ وهذه حتى وإن كنا ننظر إليها، لا ننتبه إليها ، بينما تلك الفاضلة، ليس فقط يسارع الكثيرون للنظر إليها ، بل ويسألوا لكي يعرفوا مَنْ هي، ومن أين أتت؟ ويبقي أن أقول إن كماً كبيرا من الحسد يُولد هنا (بسبب هذا السلوك).

ماذا إذا ، إخبريني، هل يعد أمر مُخجل أن ينظروا إليكِ، أم المخجل أن لا ينظروا إليك؟ متى يكون الخجل كبيرًا ، عندما ينتبه إليها الجميع، أم عندما لا ينتبه إليها أحد؟ عندما يعرفون عنها شيئًا، أم عندما لا يهتمون أن يعرفوا شيئًا ؟ أرأيت كيف أننا نفعل كل شيء لا بخجل، بل بدافع المجد الباطل؟ لكن لأنه يستحيل علي أن أمنعكم عن مثل هذا السلوك، يكفيني أن تعرفوا أولاً، أن هذا المسلك لا يدعو للخجل. الخطية وحدها هي التي تجلب الخجل، لكن لا أحد يعتبر الأمر هكذا فكل الأمور الأخرى بالنسبة لكثيرين تدعوا للخجل، عدا الخطية. ليكن لنا الملابس الضرورية، وليست الزائدة عن الحد. ولكي لا أزعجكم بشدة، أقول لكم أن تلك التي تحتاج إليها بكل تأكيد، ليست هي الأقمشة المذهبة، ولا الملابس الحريرية الناعمة. وهذا لا أقوله أنا ومن حيث أن هذا ليس كلامي، فأسمع ما يقوله المطوب بولس، ينصح النساء قائلا أن يزين ذواتهن بلباس الحشمة مع ورع وتعقل لا بضفائر أو ذهب أو لآلي أو ملابس كثيرة الثمن.

لكن كيف تريد يا بولس أن يتزين، لأنه ربما يقولون إن الذهب وحده هو كثير الثمن، بينما الملابس الحريرية ليست هكذا أخبرنا ، كيف تريدهن يقول ” فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما “. هكذا ينبغي أن يكون الرداء، إما المطلوب منه أن يستر فقط. لأنه من أجل هذا الغرض أعطاه لنا الله، لكي يستر عرينا، وهذا يمكن أن يصنعه أي رداء، حتى ولو كان رخصيًا. ربما تضحكون أنتم يا من تريدون ملابس حريرية، يجب أن تضحكوا بالحقيقة. ماذا طلب الرسول بولس وماذا نفعل نحن؟ وأنا لا أتوجه فقط للنساء، بل وللرجال أيضًا. وكل الأشياء الآخري حتى وإن كنا نمتلك منها الكثير، هي أ أشياء زائدة، الفقراء فقط هم الذين ليس لديهم هذه الملابس، بسبب الإحتياج، فحتى هؤلاء لن يتجنبوها ، إن كانوا بالطبع لديهم القدرة علي إمتلاكها. لكن سواء كان الأمر هكذا ، أم لا ، إلا أنهم حتى الآن ليس لديهم أشياء زائدة. لماذا الإحتياج للذهب الكثير؟ هذا يناسب الممثلين، فهو للزينة الخاصة بهم هذا الذهب الكثير هو للنساء العاهرات واللاتي يفعلن كل شيء حتى يجذبن أنظار الآخرين لتتزين تلك التي تقف هناك فوق (المسرح) في المشهد، وهذه التي تقف في الأوركسترا ، لأن هذه تريد أن الجميع ينجذبون إليها، بينما تلك التي تقدم نفسها كإنسانة ،وقورة، لتتجنب هذه الأمور، لأن لها زينة مختلفة أعظم بكثير من الأخرى.

لديك أنت أيضًا مسرح علي مثال ذلك المسرح، لكي تتزينين، ارتدى تلك الحلة المسرحية. و لكن ما هو مسرحك؟ إنه السماء الملائكة. لا أقول وجمهور هذا الكلام للعذارى فقط، بل وللعلمانيات أيضًا، كل من تؤمن بالمسيح لديها ذلك المسرح السمائي. لنتكلم بهذا الكلام، لكي تسعد أولئك المشاهدين، إرتدى مثل هذه الملابس البسيطة لكي تُبهجين هؤلاء المشاهدين (الملائكة). لأنه لو حدث وهجرت المرأة الزانية الحلي الذهبية، والملابس (الفاخرة)، والضحكات المزعجة، وكذلك كلام الهزل، والكلام المقزز، ثم إرتدت ملابس زهيدة ، فبعدما تُعد نفسها دون تصنّع تقف في المشهد، وتتكلم بكلام وقورا ، قويا وواضحا ونقيًا، وتُحاجج من أجل الحكمة والتعقل، دون أن تتكلم بأي شيء منفر، ألا يقف الجميع ليهموا بالإنصراف)؟ ألا ينفض هذا المسرح؟ ألا يخرجوها خارجا ، لأنها لا تعرف أن تتوافق مع المشاهدين، عندما تتحدث بكلام غير مفهوم، وهل هناك مكان لا يوجد فيه هذا المسرح الشيطاني؟ هكذا أنت أيضًا، إن أتيتِ إلى المسرح السمائي، مرتديه نفس الملابس التي ترتديها تلك (التي تقف علي مسرح الشيطان)، فإن المشاهدين سيطردونك (خارجًا). لأن هناك لا يحتاجون الملابس المذهبة، بل ملابس أُخري. وما هي هذه الملابس؟ هذه التي يُشير إليها النبي منسوجة بذهب ملابسها”. لا لكي تجعل الجسد مُنيرًاً وبهيا ، بل لكي تزينين نفسك، لأن النفس هي التي تجاهد هناك وتصارع. ” كل مجد ابنة الملك في خدرها.

ومن خلال كل هذا يقول البسي ( في خدرك) لأنكِ تُخلصين زوجك من الهموم ونفسك من أ آلاف الأمور الشريرة وستكونين بهذا موضع تقدير وإحترام كبير من زوجك، عندما لا تحتاجين للكثير

6- بالحقيقة كل إنسان إعتاد ألا يبالي بأولئك الذين لهم إحتياج له، لكن عندما يري أنهم لا يحتاجون إليه، يُغيّر رأيه، ويعاملهم كمساوين له. فعندما يري زوجك، إنك لا تحتاجينه في أي شيء ولا تُبدين إهتمامًا كبيرًا بالهدايا الذهبية، حتى وإن كان يفتخر بك للغاية، فإنه سيُقدرك أكثر مما لو كنت ترتدين الذهب، ولن تكون بعد عبدة له. كذلك فإننا نضطر أن نخضع لأولئك الذين نحتاج إليهم، لكن إن إبتعدنا ولم نطلب شيئًا فلن نكون بعد خاضعين، بل سيعرفوا أننا نظهر خضوعاً ما لأجل إحترامنا لوصية ) الله، وليس لأجل الهدايا التي يقدمها لنا. لأنه الآن عندما يقدم أشياء ثمينة، فمهما قدمنا له من كرامة، فإنه يعتقد أنه لم يُكافأ بشكل كاف، بينما إن لم نطلب شيئًا، فإنه حتى وإن لم يتمتع إلا بقليل من التقدير، سيكون مُمتن لنا ولن يُدينك، ولن يضطر أن يطلب أكثر مما يحق له لأنه ما هو الأمر الأكثر مُخالفة للعقل من أن ترتدي زوجة بعض الذهب لكي تسير بين الحمامات والأسواق؟ لكن ربما هذا السلوك لا يُعد غير معقول أو غير مقبول بهذا القدر أن تشق طريقها هكذا في الحمامات والأسواق لكن أن تدخل إمرأة الكنيسة متزينة هكذا ، فهذا ما يُثير السخرية جدا.

ولأي سبب تأتي إلي الكنيسة مُرتدية الذهب، فتلك التي تدخل وهي متزينة لكي تسمع، يجب علي النساء أن يتزين لا بذهب أو لآلئ ولا بملابس كثيرة الثمن إذا لأي سبب تدخلين الكنيسة أيتها المرأة ؟ هل لكي تحاربين بولس، ولكي تظهرين أنه حتى ولو قال هذا آلاف المرات، فلن تتغيري؟ أو ماذا تريدين أن تُظهري لنا نحن المعلمين أننا غير محقين فيما نقول ؟ لأنه لو كان هناك شخصاً وثنيًا وغير مؤمن، وسمع هذا الجزء من رسالة .ق. بولس إلي تيموثاؤس) وقرأ ما قاله المطوب بولس، ناصحا النساء ألا يتزين بالذهب واللآلئ والملابس كثيرة الثمن، وبينما هو متزوج من امرأة مؤمنه يري أنها تنشغل كثيراً بزينتها، وترتدي الذهب لكي تذهب إلي الكنيسة ، ألا يتساءل ناظراً إليها وهي تتزين في غرفة النوم بكل هذه الزينة، وتعتني بنفسها، لماذا تبقي زوجتي كل هذا الوقت في غرفة النوم؟ لماذا تتأخر؟ لماذا تلبس الذهب؟ إلي أين تنوي الذهاب؟ هل إلي الكنيسة؟ لماذا؟ هل لكي تسمع “لا تلبسوا ملابس كثيرة الثمن”؟ ألا يسخر منا؟ ألا يستهين بنا ضاحكا ؟ ألا يري أن كل ما لدينا وما نقوله هو خداع وتزييف؟

من أجل ذلك أترجاكم فلنترك الذهب للمواكب للمسارح، ولواجهات العرض في محال الذهب، بل أن صورة الله ينبغي ألا تتزين بالذهب، ولتتزين المرأة الحرة بالحرية (الداخلية)، والحرية هي التعقل والبساطة بل إن أرادت أن تربح المجد الإنساني بهذه الطريقة، فستناله لأننا لن نعجب بزوجة رجل غني بهذا القدر الكبير، لأنها ترتدي ذهباً وحريراً لأن هذا السلوك معتاد بين كل النساء)، بقدر ما تعجب بها إذا ما إرتدت ثوباً رخيصاً وبسيطا، مصنوعاً من صوف فقط، هذا الثوب سيكون موضع إعجاب الجميع، وسيصفقون له لأن نساء تلك الطبقة التي ترتدي الذهب والملابس كثيرة ،الثمن أمامهن منافسات كثيرات، وأن فاقت الجميع، فإنها ستهزم من ملكتها. بينما هنا ( في إختياراتها البسيطة) هي تفوق الجميع، بل وحتى الملكة، لأن هذه الزوجة التي بين النساء الثريات، قد فضلت ملابس الفقراء حتى وإن كن بعد يتلهفن للمجد، ففي هذا السلوك يكمن أعظم مجد. لا أتوجه فقط إلي الأرامل، وإلي النساء الغنيات، لأن من الواضح هنا أن إحتياج الأرملة هو الذي يجعلها تصنع هذا، بل أتوجه أيضًا إلي المتزوجات. لكنكِ ستقولين لن أعجب زوجي. أنتِ لا تسعين لتكونين موضع إعجاب لزوجك، بل موضع أعجاب لهذا الجمع من النساء الفقيرات، وربما لا تكونين موضع إعجابهن، بل أن تجعليهن يغرنّ ويتألمن، وتُزيدهن من فقرهن. كم من كلام التجديف يُقال بسببك؟ تقول الأخرى ينبغي ألا يوجد فقر ، الله يكره المتألمين، ولا يحب الفقراء.

حقاً من جهة أنكِ لا تهتمين أن تُعجبي زوجك، وأنه بسبب هذا الكلام (كلام الأخريات) تتزينين، فهذا تبرهنين عليه بكل وضوح من خلال ما تفعلينه لأنكِ بمجرد أن تعودي إلي بيتك، تنزعي عنك كل شيء، الملابس كثيرة الثمن، والحلي الذهبية، والآلئ ، وبشكل أساسي لا ترتدينها عندما تكونين في البيت. أما إن أردت أن تعجبين زوجك بصورة تامة وكاملة، فهناك طرق بها يمكنك أن تصبحين موضع إعجابه ، وهي ،الرقة والحنو والبساطة. صدقيني أيتها الزوجة، حتى وإن كان زوجك أحمق ومتطرفًا أو غير منضبط إلي أقصي حد، فإن الرقة والبساطة والتعقل والتدبير والتهذب، كل هذا سيجذبه علي كل الأحوال. كذلك فإن الفاسق لن تجذبينه، حتى وإن تزينت بكل وسيلة، ويعرف هذا الأمر كل من هن متزوجات بمثل هؤلاء الرجال، لأنه مهما تزينت فذاك (أي الزوج)، إن كان فاسقا ، ا، سيذهب لامرأة أُخري، لكن العاقل الطاهر، فلن تأسريه بهذه الزينة، بل بعكسها، وبالأكثر ستضايقينه، لأنه يري أنك تسعين وراء أشياء باطلة. لكن لو أن زوجك بدافع الإحترام، ولأنه حكيم، لم يقل لك أي شيء، فإنه سيدينك في ضميره، ولن يمنع الحاسدين من الحسد، هؤلاء الذين هم نتاج هذه الزينة. إذا هل لا تُقاومين هذه اللذة أي التزيّن مادامت تثير ضدك الحسد؟

ربما تغتظن وأنتن تسمعن هذا الكلام، وتغضبن قائلات أنه يجعل الأزواج أكثر حدة ضد الزوجات. لا أقول هذا الكلام لكي أجعل الرجال أكثر حدة، بل لأني أريدكن أن تفعلن هذا بإرادتكن الكلام موجه إليكن أنتن، وليس لأولئك، لا لكي أنقذ أولئك من الحسد ، بل لكي أنقذكن أنتن من الأمجاد الدنيوية الباطلة. هل تريدين أن تبدين جميلة؟ وأنا أيضًا أريد هذا، لكنني أريد الجمال الذي يريده الله الجمال الذي يشتهيه الملك. مَنْ ترغبين أن يكون حبيبا لك، الله، أم الناس؟ فلو أنك ستكونين جميلة من ناحية ذلك الجمال (الداخلي)، فإن الله سيشتهي جمالك، أما إن كنت جميلة من حيث الزينة الخارجية، بدون هذا الجمال، فإن الله سيحول وجهه عنك، وسيكون عشاقك رجالا دنسين، لأنه لا يوجد رجل صالح يشتهي امرأة متزوجة. فلتفكرين في هذا من جهة زينتك الخارجية. كذلك فإن هذه الزينة أي زينه النفس تجذب الله، بينما الزينة الخارجية تجذب الرجال الدنسين أرأيتم كيف أنني أعتني بكن، وأهتم بكن، لكي تكن جميلات بالحق وتسعين للمجد الحقيقي لكي يكون حبيبكن الله رب الجميع، وليس الرجال الدنيسين؟ وهذه التي يكون الله حبيبها، هل لها من نظير؟ هذه تفرح مع الملائكة. لأنه لو أن إنسانة ما صارت محبوبة من الملك، ستكون سعيدة الحظ أكثر من الجميع، فمن يستطيع أن يتجاهل هذه التي صارت محبوبة من الله بكل هذا الحب الكبير؟ فليس هناك شيء ذي قيمة أمام هذا الجمال (الداخلي) حتى لو كان يُضاهي كل المسكونة.

إذا لنسعى نحو هذا الجمال، ولنتزين بهذه الزينة، لكي نذهب إلي السموات إلي موضع عرس الروحيين، إلي مكان العرس غير الدنس. لأن الجمال الخارجي، يكتسبه الجميع، وعندما يُحتفظ بالجمال الداخلي جيداً ، فإنه لا يؤثر فيه المرض، ولا القلق، الأمر الذي من المستحيل أن يحدث للجمال الخارجي لأنه لن يستمر عشرين عاما، بينما ذلك الجمال، يزهر دومًا، ويزدهر بإستمرار، وليس هناك خوفا من التغيير، فلا الشيخوخة بقدومها تستطيع أن تظهر فيها غَضَ، ولا المرض يجعله يذبل، ولا الحزن يُفسده، بل هو أسمي من كل هذا. بينما الجمال الجسدي، يختفي بعد حين، وعندما يوجد لا يكون له مُعجبين كثيرين لأن العقلاء لا يعجبوا به، والذين يُعجبون به، يكون أعجابهم بدافع الفسق. إذا ينبغي ألا نسعى في أثر هذا الجمال الجسدي، بل نسعى في أثر جمال النفس، ولنتمسك به، لكي نذهب إلي العرس بمصابيح مضاءة. كذلك فإن الرب لم يعد (بالدخول إلي عرسه السمائي)، للعذارى فقط، بل للنفوس النقية، لأنه إن كان العرس السمائي هو للعذارى فقط، ما كان له أن يدعو العذارى الخمسة. إذا هذا العرس السماوي هو لكل من يحمل نفسا نقية، ولكل المتحررين بصفة عامة من الإهتمامات الأرضية، لأنها تُفسد النفوس. إذا إن ظللنا أنقياء، سنذهب إلي هناك، وسنصبح مقبولين (أمام الله).

يقول الرسول بولس” خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح ” وهذا لم يقله للعذارى، بل قاله لكل ملء الكنيسة. كذلك فإن نفس المرأة إذا ما كانت نقية فهي عذراء، حتى وإن كان لها زوجًا، فهي عذراء ومستحقة للإعجاب، لأنها تحمل العذراوية الحقيقية، لأن العذراوية هي التابع والظل للنفس النقية، والنفس النقية هي العذراوية الحقيقية فلنزيد من هذه النقاوة، هكذا سنستطيع أن نري العريس (السماوي)، بوجهه المفرح، ونأتي إلي محفل العريس بمصابيح، فإننا نكتسب هذا الزيت الذي يجعل المصابيح منيرة ومبهجة، وهذا الزيت هو محبة الناس، فإن أعطينا جزء من ممتلكاتنا للآخرين، إن جعلناها رحمة، عندئذ فإن الله سيقبلنا، ولن نقول في ذلك الزمن الآتي “أعطنا زيتا فإن مصابيحنا تنطفى ٥٩٣ . ولن نترجى الآخرين، ولن نعزل أو تستعبد مع الذين ذهبوا إلي باعة الزيت، ولن نسمع ذلك الصوت المخيف والمرعب لا أعرفكم”، ونحن نطرق الباب، بل سيعترف بنا ، وسندخل مع العريس، وبعدما ستدخل إلي المحفل الروحي، سنتمتع بخيرات لا حصر لها . لأنه إن كان مكان العرس هنا (في الحياة الحاضرة) مشرقاً إلي هذا الحد، وإن كانت غرفة العرس مشرقة وبهية إلي هذا الحد الذي معه لا يشبع المرء حين ينظر إليها، فكم بالأكثر يكون الحال هناك ( في الحياة الأبدية)؟ غرفة العرس هي السماء، وأكثر جمالاً من السماء بكثير، هو مكان العرس، ونحن سندخل إلي هذا العرس السمائي. فإن كان مكان العرس جميلا إلي هذا الحد، فكم يكون العريس يا تري؟

وماذا أقول، بعدما تنزعَن عنكن الحلي الذهبية، لكي تعطونها لأولئك الذين يحتاجون لها ؟ لأنه إن إحتاج الأمر أن تصيروا عبيدا بعد أن كنتم أحراراً ، لكي تستطيعوا أن تكونوا مع ذلك العريس، وأن تتمتعوا بجماله أن تنظروا فقط إلي وجهه، ألا ينبغي أن تقبلوا كل شئ برضي؟ إننا إذا رغبنا في أن ننظر الملك الأرضي فكثيرا ما تلقي كل ما في أيدينا من ذهب)، بالرغم من أنها ضرورية، أما من أجل الملك والعريس، حيث يوجد الأثنان ( في شخص المسيح) في السماء، فإننا ليس فقط سنكون مستحقين أن نراه، بل أن نسير أمامه بمصابيح، ونكون إلي جواره، فهل بعد كل هذا يصح أن نتقاعس عن عمل أي شيء ينبغي علينا عمله؟ وهل هناك شيئًا لا ينبغي عمله أو إحتماله؟

من أجل هذا ، لنشتهي تلك الخيرات السمائية، لنشتهي ذاك العريس (السماوي) ، لنكن عذارى من حيث مفهوم العذراوية الحقيقية، لأن الرب يطلب عذاروية النفس. لندخل بهذه العذراوية إلي السماء، بدون وسخ أو بقع أو أي شئ آخر من هذه الأدناس لكي ننال الخيرات التي وعدنا بها الله، والتي أرجو أن ننالها جميعا بنعمة الله ومحبته للبشر.

العظة التاسعة والعشرون (عب12: 4-10)

” لم تقاموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية وقد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين يا أبني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل إبن يقبله إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين فأي إبن لا يؤدبه أبوه” (عب 12: 4-7).

1- هناك نوعان من الطلبات أو الصلوات اللتان كانتا تبدوان في تناقض فيما بينهما، إلا أن الواحدة تدعم الأخرى بقوة، وهو قد أشار إليهما هنا. الواحدة هي عندما نقول إن البعض قد عانوا الكثير، والنفس قد إستراحت، وذلك عندما يكون هناك شهوداً كثيرين علي آلامها، الأمر الذي ذكره سابقا، عندما قال “ولكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أنرتم صبرتم علي مجاهدة آلام كثيرة”.

أما الطلبة الأخرى، فهي عندما تقول إنك لم تعان شيئًا كبيرًا ، لأنه بهذا الكلام نشجع أنفسنا ونحثها ، حتى أننا بتأهب نصبر علي كل شيء برغبة كبيرة. هكذا فإنه يُريح النفس المتعبة ويجعلها تهدأ، بينما النفس التي صارت غافلة وخاملة، يشددها، ويضبط الفكر المتعالي.

ولكي لا يتولد لديهم إفتخار وزهو من تلك الشهادة، لاحظ ماذا يفعل يقول لم تُقاموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية وقد نسيتم الوعظ ولم يُقدم الدلائل المناسبة بشكل مباشر.

لكنه بعدما أظهر لهم كل الذين بقوا ثابتين حتى الدم، بعد ذلك، وبعدما أضاف آلام المسيح كمدعاة للفخر، عندئذ كان من السهل عليه أن يُدينهم. هذا ما كتبه إلي أهل كورنثوس قائلاً “لا يدعكم تجربون فوق ما لا تستطيعون” أي أن التجربة تعتبر بسيطة، وهذا يكفي لكي يجعل النفس تتأثر وتنصلح عندما تُدرك أن هناك تجارب لم تجوزها بعد، وهكذا تقتنع حين تنظر الذين سبقوا وقبلوا هذه الآلام ما يقوله يعني الآتي : أنكم لم تميتوا ذواتكم بعد ، وخسارتكم تقف عند حد خسارة المال، وفقدان المجد، وعند المطاردة، لكن المسيح سفك دمه من أجلكم، بينما أنتم لم تسفكوا دمًا حتى لأجل أنفسكم، المسيح جاهد حتى الموت لأجل إعلان الحق، قاوم لأجلكم ، بينما أنتم لم تتعرضوا أبدا لأخطار تهدد بالموت.

يقول: ” لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية وقد نسيتم الوعظ ” (عب 12: 4).

أي إستسلمتم وشُلت حريتكم. وحين يقول “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية” فإنه يُظهر أن هجوم الخطية حاد جداً ومسلّح، لأن كلمة “تقاوموا” قيلت للمستمرين في جهادهم ثم يقول:

“نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك” (عب 12: 5).

لقد عزاهم بنفس الأشياء، إذ يُضيف في كلامه عزاءً يصل إلي درجة كبيرة من خلال هذه الشهادة، بقوله لا تحتقر تأديب الرب” وبناء علي ذلك فإن هذه الأمور هي للرب. وهو في وضع يجعله يُقدم عزاءً كبيراً ، وذلك عندما نعرف أن الضيقات هي عمل الله، هو الذي يسمح بها، كما يقول ق. بولس “تضرعت إلي الرب ثلاث مرات أن يفارقني فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل. فالله هو الذي يسمح بها.

“لأن الذي يحبه الرب يؤدبه وكأب بإبن يسر به”. لا نستطيع أن نقول إن هناك شخص بار بدون ضيقة ، لأنه حتى وإن كان يبدو هكذا ، إلا أننا لا نعرف نحن الضيقات الأخرى حتى أنه من الضروري أن كل بار، ينبغي أن يجتاز الضيقات. هذا هو قرار المسيح أن الطريق الواسع والرحب لن يقود إلي الحياة. إذا إن كان من الممكن أن يأتي أحد إلي الحياة من خلال الضيقات فإنه من غير الممكن أن يأتي بطريقة أخرى. فمن خلال الباب الضيق يكون الجميع قد أتوا (للحياة)، وهكذا كل الذين انتقلوا إلي الحياة الأبدية. فإن كنتم تحتملوا التأديبات، فإن الله يأتي بالقرب منكم، كما الأب نحو أبنائه. لأنه هل يوجد إبن لم يؤدبه أبوه؟ لأنه إن أدبه، فهو يفعل هذا لأجل إصلاحه، وتهذيبه.

إنتبه إلي تلك الأمور التي بسببها قد آمنوا، لقد تركهم الله، وكان يجب أن يؤمنوا أنهم ليسوا متروكين، بسبب هذا الأمور ذاتها. كما لو كان قد قال لهم، هل لأنكم عانيتم شرورًا هذه مقدارها، تعتقدون أن الله قد ترككم وأبغضكم؟ فإن كنتم لم تُعانوا منها ، فهل كنتم ستتعرضون لهذه الشكوك، لأنه إن كان الآب يجلد كل إبن يقبله، فذاك الذي لم يُجلد، هل لا يعتبر إبن. ماذا إذا؟ هل الأشرار لم يُعانوا الآلام؟ بالتأكيد يعانون، وكيف لا يعانون ؟ لكنه لم يقل، كل أحد يؤدبه هو إبن، بل قال:

” الذي يحبه الرب يؤدبه يجلد كل ابن يقبله ” (عب 12: 6).

لكنك لن تستطيع أن تجيب، لأن هناك أشرار كثيرون يُجلدون، مثل القتلة، واللصوص والسحرة، ونابشي القبور. كل هؤلاء يُعاقَبُون كأشرار، بينما أنتم كأبناء. أرأيت كيف أنه يقدم أفكارًا في موضوعات كتابية تشمل كل موضوع في الكتاب المقدس، سواء من خلال الكلام، أو من خلال معاني معروفة، ومن خلال أمثله حياتية ؟ وبعد ذلك يُشير إلي التقليد المشترك.

” فإن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين فأي إبن لا يؤدبه أبوه. ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون” (عب 12: 7-8). 

2- أرأيت . كما قلنا سابقا – كيف أنه من غير الممكن لمن لم يُؤدَب أن يكون إبنا ؟ لأنه تماما مثلما أن الآباء داخل العائلات لا يُبالون بالأبناء المزيفون (غير الحقيقيين)، بينما بالنسبة لأبنائهم الحقيقيين فهم يقلقون لئلا يكونوا غير مهتمين بهم، هكذا في هذه الحالة أي معاملة الله لأبنائه ومادام عدم ا التأديب، خاص بالأبناء المزيفين، فيجب عليكم أن تفرحوا لأجل التأديب طالما أنه يعتبر دليل علي صحة بنوتكم لله. “يعاملكم الله كالبنين”، ولذلك قال هذا الكلام بعد ذلك يقول:

” ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم أفلا تخضع بالأولي جدا لأبي الأرواح فتحيا ” (عب 12: 9).

مرة أخرى يحثهم (علي الإحتمال)، من خلال الآلام التي عانوا منها هؤلاء، إذ يقول “تذكروا الأيام الأولي”، هكذا يقول هنا “يعاملكم الله كالبنين”، ولا تقدروا أن تقولوا ، إننا لا نستطيع أن تعاني هذه الآلام، مثل أبناء المحبوب. وإن كان هؤلاء يهابون آباءهم الجسديين فكيف لا تهابون أنتم الآب السماوي؟ بالرغم من أن الإختلاف لا يتضح فقط من خلال ذلك من خلال الأشخاص، بل من خلال الحدث نفسه، كذلك فإن الله والآباء، لا يؤدبون لنفس الأسباب.

ولهذا أضاف “لأن أولئك أدبونا أياما قليلة حسب إستحسانهم” (عب 12: 10).

أي أنه مرات كثيرة كانوا يهدفون لإرضاء أنفسهم، ليس دومًا لأجل منفعتنا. لكن بالنسبة لله لا يمكن أن ننسب له شيئًا مثل هذا ، بل كل ما يفعله هو لأجل منفعتكم فقط، أما أولئك (الآباء) فقد فعلوا ذلك لكي يصيروا نافعين لهؤلاء أيضًا، وكثيرا ما كانوا يلجاؤن للتأديب بدون سبب، بينما هنا لا يوجد شيء مثل هذا.

أرأيت كيف أن هذا (التأديب) يُعزي أيضًا؟ لأننا نحن نقترب بشكل أساسي من هؤلاء، عندما نري أنهم لم يسعون لمنفعتهم الشخصية، بل أن كل إهتمامهم كان يهدف إلي منفعتنا. إن هذه حقاً محبة خالصة وحقيقية، وحين لا نكون نافعين مطلقا لذاك الذي يُحبنا ، ومع هذا نصير محبوبين منه، لأنه يحبنا لا لكي يأخذ ، بل لكي نستطيع نحن أن نتقبل خيراته لأنه يقول لأن أولئك أدبونا أياما قليلة حسب إستحسانهم وأما هذا فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته” ما معني “قداسته”؟ تعني النقاوة، حتى نصبح مستحقين له، فالله يهتم لكي تأخذوا ، وهو يفعل كل شيء لكي يُعطي هباته، بينما أنتم لا تهتمون لكي تأخذوها ، يقول المرنم ” قلت للرب أنت سيدي خيري لا شيء غيرك.

ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم أفلا تخضع بالأولى لأبي الأرواح”، فإما أنه يقصد أبي المواهب، إما أبي البركات، أو أب القوات غير الجسدانية. وبالصواب قال إن آباء أجسادنا أدبونا أياماً قليلة حسب إستحسانهم”، لم يكن تأديبهم في كل موقف هو لمنفعتنا، لأن الذي كان يبدو لهم صوابا لم يكن دائما لمنفعتنا ، بينما الله يهدف دائماً لمصلحتنا ومنفعتنا.

3- إذا فالتربية نافعة وهي مدخل للقداسة بشكل كبير. لأنه حين يختفي التكاسل والرغبة الشريرة وعشق الأمور الدنيوية، عندما تجعل النفس تتجلي، وعندما تجعلها تتجاوز كل الأمور الأرضية، ألا تصير النفس حينئذ مقدسة؟ ألا تجذب إليها نعمة الروح القدس؟ لنتفكر دوماً في الأبرار، ولنري كيف أشرق كل هؤلاء، كيف عاشوا في بهاء، مثل هابيل ونوح حسنًا ، ألم يشرقوا بسبب الضيقة؟ كذلك فإنه لم يكن من الممكن ألا يمر ذاك الذي كان وحده بارا وسط هذا الكم الكبير من الأشرار، بضيقته، لأنه يقول إن نوحا كان هو وحده الكامل في جيله، قد أرضي الله.

أرجو أن تفكر، إن كان الآن لدينا كل هذا العدد من آباء ومُعلمين، ألا يجب أن نتمثل بفضيلتهم، ولا نحزن وهل كان من الطبيعي أن يعاني ذاك الذي كان وحده بارا وسط كثيرين؟ لكن ماذا أقول عن ذلك الطوفان المجهول والغريب؟ وهل لي أن أشير إلي إبراهيم وما عاناه أي الترحال المستمر، خطف زوجته، الأخطار التي مر بها ، الحروب والتجارب؟ وهل أشير إلي يعقوب والكوارث التي عاناها ، إذ طاردوه في كل موضع، كما أنه تعب ظلما، وعاني لأجل آخرين؟ حقا ليس من الضروري أن أشير لكل تجاربه، لكن من الصواب أن أذكر الشهادة التي قالها وهو يُناقش فرعون ” قليلة وردية كانت أيام سني حياتي ولم تبلغ إلي أيام سني حياة آبائي .. وهل لي أن أشير إلي يوسف وموسي ويشوع ، وداود، وصموئيل، وإيليا، أم أشير إلي كل الأنبياء؟ غير أنك ستجد أن كل هؤلاء قد صاروا في بهاء بسبب الآلام.

أخبرني إذا أُتريد أن تصير مشرقاً بواسطة الراحة والطعام؟ ونحن نعود إلـي أيامنا ، فلنشتهي الأزمنة القديمة. فالغني الذي أحترق في النار، اليهود الذي عاشوا لأجل بطونهم والذي كان إلههم بطنهم، أولئك الذين عاشوا في البرية وكانوا يطلبون الراحة علي الدوام، لماذا هلكوا؟ تماماً مثل هؤلاء الذين عاشوا في زمن نوح، ألم يهلكوا ، لأنهم فضلوا الحياة الرخوة والهادئة؟ وسكان سدوم قد هلكوا بسبب النهم، لأنه يقول ” بسبب كثرة الخبز كانوا غارقين في الرجس . قيل للساكنين بسدوم. لكن إن كانت كثرة الخبز قد أحدثت كل هذا الشر فماذا يمكن أن نقول عن الممارسات الآخري؟ ، هذا قد هل عاش عيسو في راحة ؟ وأيضًا ماذا عن أولئك الذين رأوا زوجات أبناء الله وسقطوا في براثن الفسق؟ وماذا عن أولئك الذين عشقوا الرجال بجنون؟ وكل ملوك الأمم، ملوك بابل، ملوك المصريين، ألم تكن نهايتهم ميتة شنعاء؟ ألا يُجدون في الجحيم؟ بل والآن أيضا ألا تحدث نفس الأشياء؟ إسمع ما يقوله المسيح “هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك” ” ، بينما كل مَنْ لم يرتدي هذه الملابس، هم في السماوات. لأن الثوب الناعم يعرقل النفس الخشنة ويكسرها وينثرها ، وإن أخذت جسداً ممتلئا ، وخشنًا ، فإنها سريعا ما تجعله مترفًا وضعيفا عن طريق هذه الرفاهية هل تعتقدون أن هناك سبب آخر يصيب النساء بالمرض إلي هذا الحد ؟ هل فقط بسبب طبيعتهن ؟ بالطبع لا ، بل بسبب التربية والتغذية، لأن التغذية، بصرف النظر عن حرارة الشمس، وعدم العمل والحمامات والتعطر، والروائح الكثيرة ونعومة وليونة الفراش، يجعلهن مرضي.

ولكي تفهم انتبه لما سأقوله خذ نباتًا من حديقة أشجار موجودة في الصحراء معرض لضربات الرياح، ثم ضعه في مكان رطب ومظلل، ستري أنه سيضعف سريعا، وسيفقد أول عنصر الحيويته. ومن حيث إن هذا أمر حقيقي، فهذا واضح من النساء اللاتي يعشن في الريف، فهن أقوي من رجال المدن، ويمكن لهؤلاء النساء أن يتغلبن علي كثيرين أمثال هؤلاء الرجال في أي صراع بينهم. وعندما يصبح الجسد لينا وناعما ، فبالضرورة تتقبل النفس هذه النعومة، لأن الطاقات أو الأعمال النفسية تعتمد في حالات كثيرة علي الرغبة الجسدية. فنحن بالحقيقة نكون مختلفين خلال فترة المرض الناتج عن الترف أو التنعم، ونكون مختلفين أيضًا عندما نكون أصحاء. تماما مثلما يحدث مع أوتار الآلة الموسيقية، حين تكون الأصوات خافته ولينه ولا تكون الأوتار مشدودة بشكل جيد، حينئذ يقل تميز الأداء الموسيقي لأنه يضطر أن يتوافق مع ضعف الأوتار، هكذا في حالة الجسد ، فإن أضرار كثيرة تستقبلها النفس من الجسد والتزمات كثيرة أيضًا. لأنه . حين نعتني بالجسد بشكل مبالغ فيها ، فإن النفس أيضًا تحتمل هذه العبودية المرة.

لذلك أرجوكم، أن تحفظوا الجسد قويًا، ولا تخضعه (لهذه العناية الكبيرة). وكلامي ليس موجهًا للرجال فقط، بل وللنساء أيضًا. لماذا أيتها المرأة تعرقلين جسدك دائماً ، بالطعام وتُضعفينه؟ لماذا تُقللين من قوته، بسبب الوزن الزائد الذي يجعله خاملاً وضعيفًا، بينما إذا إبتعدت عن هذه الأمور ودربتِ نفسك بشكل مختلف، عندئذ فإن الجمال الجسدي سيتوافق مع الأرادة النفسية، مادام هناك قوة، ومتانة جسدية، لكن إن حاصرتيه بضعفات كثيرة، فلن يكون ناضجا ولا قويا لأنه سيكون دوما متجهما.

4- ألا تعلمون أن المناخ حين يبتسم لبيت جميل، فإنه يجعله أجمل أو يُظهره أكثر بهاء، هكذا فرح النفس عندما يضاف لوجه جميل يجعله أجمل، أما عندما يغلب عليه العبوس ،والآلام يصبح أكثر بشاعة. إن العبودية هي التي تخلق أمراض وآلام الجسد ، فالضعفات تصيب الجسد الذي أصبح مُترفا من كثرة التنعم. حتى أنه لهذا السبب، عليكم أن تتجنبوا اللذة التي تأتي من تذوق الطعام إن إقتنعتم بكلامي. غير أنه توجد لذة في المتع (الدينونه). لكنها ليست عظيمة إلي هذا الحد، مقارنة بالصعوبات والمتاعب الكثيرة. من ناحية أخرى فإن لذة الطعام تصل إلي حد البلعوم واللسان، لأنه بعد الاستفادة من أي طعام بعد بلعه سيكون من الأفضل أن تقول إنني أصبحت أسوأ بكثير، نظراً لما ينتج عن هذا الطعام من زيادة الوزن والصداع، ونوم يشبه الموت، وفي مرات كثيرة أرق نتيجة الشبع، وضيق في التنفس، ومرات عديدة ستلعن البطن، بينما يجب أن نلعن الخطية.

إذا لا ينبغي أن نزيد من وزن الجسد ، بل لنسمع الرسول بولس الذي يقول “لا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات ” لأنه تمامًا لو حدث أن شخصا ما أخذ أطعمة ووضعها في مجرى أو مزراب، هكذا يضعها في معدته، أو من الأفضل أن تقول ليس هو هكذا ، بل أسوأ بكثير. لأنه في حالة المجرى، فإن ذاك يملأه دون أن يحدث لنفسه ضررًا ، بينما في الحالة الأخري (أي الأكثار من تناول الأطعمة) يُسبب أمراضا كثيرة جدا. كذلك فإن الاكتفاء بما هو ضروري هو الذي يطعم الجسد، ويمكن أن يكمله، بينما ما هو أزيد من هذا ، ليس فقط لا يُغذيه، بل ويدمره. لكن لا أحد ينتبه إلي هذه الأمور، بل أن هناك خداع من اللذة غير الملائمة، والفكر الذي إعتاد هذا السلوك.

أتريد أن تُطعِم الجسد ؟ إبتعد عن الأكثار من الطعام وأعطه الضروري فقط وما يستطيع أن يحتمله لا تثقله حتى لا تتلفه. الأكتفاء بما يحتاجه الجسد يعد طعام ومتعة، لأنه لا يوجد شيء يثير المتعة بهذا القدر، بقدر الطعام سهل الهضم، لا شئ يدعو للصحة الجيدة، أو للمشاعر المتيقظة أو يُبعد المرض، بقدر الطعام المتوازن). إذا الأكتفاء بما هو ضروري هو طعام، ومتعة، وصحة، بينما الطعام الزائد ، هو إتلاف إشمئزاز ومرض. كذلك فإن ما يسببه الجوع، هو ما يسببه الشبع، ومن الأفضل أن نقول بل وأفظع، لأن الجوع يؤدي بالإنسان إلي الموت خلال أيام قليلة، ويطلقه حرًا ، بينما الشبع والطعام الزائد عن الحاجة، فإنه يقود إلى فساد الجسد ، ويسلمه للمرض سنوات طويلة، وبعد ذلك يُسلمه لموت مخيف. إلا أننا نعتقد أن الجوع أيضًا هو تجربة مُخيفة، لكن أن نركض نحو الامتلاء والشبع، فهذا ما يُعد أكثر رعباً من الجوع.

من أين يأتي هذا المرض، وهذا الهوس؟ لا أقول يجب أن نستهلك أنفسنا أو ننفقها ، بل أن نأكل بشكل متوازن، الأمر الذي يحمل معه متعه، بل ومتعه حقيقية، والجسد يمكنه أن يتغذي ونجعله قادرًا، ومتوافقا مع أعمال النفس، مقدمين إياه ثابتًا وقويًا جدًا، وفي وضع ملائم أيضًا، لكن عندما يملأ الإنسان بطنه بالطعام بشكل مُبالغ فيه، وبعدما يفسخ أو يفكك التواصل، كما يمكن للمرء أن يقول والتجانس الذي يجعله قويًا، فلن يستطيع أن يوقف الطوفان، لأنه

حين يدخل الطوفان إلي الداخل، فإنه يذيب ويدمر كل شيء. يقول الرسول بولس لا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات وبالصواب قال لأجل الشهوات”، لأن حب اللذة يُغذي الشهوات المخالفة للعقل، ولو أن مُحب اللذة هو أكثر تعقلاً من الجميع، فعلي كل الأحوال سيعاني شيئًا بسبب شرب الخمر، كما أنه سيتجمد في مكانه نتيجة الأطعمة الزائدة، وحتمًا ستزيد الشهوة من لهيب اللذة. من هنا يأتي العهر والزنا، لأن البطن الجائعة لا يمكن أن تلد حب اللذة، بل ولا تلك التي هي مكتفية، بل إن البطن التي تلد شهوات مخالفة للعقل هي التي تعيش بإسراف، بسبب حب اللذة تماماً كما أن الأرض الممتلئة بالندي والرطوبة بشكل كبير تلد حشرات، كذلك روث البهائم المبلل بشكل كبير يصنع نفس الشيء، بينما الأرض غير الممتلئة بهذه الرطوبة الكبيرة وهذا الماء، بل مروية بشكل قانوني، فإنها تأتي بثمر كثير، حتى وإن كانت لم تفلح بعد ، فإنها تنتج عشبا ، لكن عندما تُفلح تنتج ثمار كثيرة، هكذا نحن أيضا.

إذا ينبغي ألا نسيئ إستخدام الجسد، وألا نجعله غير نافع، بل لنغرس فيه ثمارًا نافعة، ونباتات مثمرة، ولنحرص علي عدم أضعافه بسبب حب اللذة، لأن هذه الرغبات عندما تفسد ، تُخرج حشرات وليس ثمارًا. هكذا الشهوة الغريزية، إن رويتها بشكل مبالغ فيه، تلد متعا مخالفة للعقل بشكل كبير جدا. إذا فلنبعد هذا الضرر بكل الطرق، لكي ننال الخيرات التي وعدنا بها الله بمعونة ربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والإكرام الآن وكل أوان وإلي دهر الدهور آمين.

العظة الثلاثون (عب12: 11-15)

” ولكن كل تأديب في الحاضر لا يري أنه للفرح بل للحزن وأما في النهاية فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام. لذلك قوموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة وأصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحري يشفي” (عب 12: 11-13).

 1 – أولئك الذين يتناولون الأدوية المرة، يشعرون في البداية بالاشمئزاز، وبعد ذلك يشعرون بالفائدة. حقاً إن الفضيلة شيء مثل هذا ، وشيء مثل هذا أيضا هو الشر. إن اللذة هي التي تسبق، ويتبعها الحزن في حالة الشر، بينما في حالة الفضيلة، فإن الحزن هو الذي يسبق، ثم تتبعه المتعة. وهناك فارق بين الأثنين لأنه أن تحزن مسبقاً، ، ثم تفرح بعد ذلك لا يتطابق مع أن تفرح أولاً ثم تحزن بعد ذلك. كيف؟ لأنه في الحالة الثانية، إنتصار التمتع في الدهر الآتي، يُقلل من حزن الحاضر المفرط. هكذا بالنسبة للحالة الأولي التي لا يعرف الإنسان فيها التمتع ولا الفرح هناك، بينما هنا لا يعرف الحزن أبدا . ولا يختلف من جهة هذا الأمر فقط، بل ومن جهة الأمور الآخري. كيف؟ لأن الفترات الزمنية ليست متساوية، بل هناك هي أكبر وأكثر (إتساعا). أما هنا فهي ضيقة ومحدودة هي أكثر إتساع في الأمور الروحية فقط.

إذا من هذا المدخل شرع ق بولس أن يُعزيهم، ووضع أمامهم أيضا الدينونه العامة التي لا يستطيع أحد أن يرفضها ، ولا أن يُقاومها. لأنه عندما يتحدث شخص عن ما يعترف به الجميع، فإن الجميع يقبلونه، ولا يعترض عليه أحد. أحزنوا، هكذا يقول ق. بولس، فهذا أمر طبيعي، مثل هذا هو التأديب، ومثل هذه هي البداية لهذا أضاف

“كل تأديب في الحاضر لا يري أنه للفرح بل للحزن” (عب 13: 11).

بالصواب قال لا يُري، لأن التأديب لا يدعو للحزن، ولكنه يبدو فقط أنـه يدعو للحزن، فالأمر لا يرتبط بأن هذا التأديب يدعو للحزن، بينما الآخر لا يدعو بل كل تأديب ، لأنه يقول وكل تأديب في الحاضر لا يُري للفرح بل للحزن”. أي التأديب البشري والروحي أرأيت كيف أنه يستخدم معاني معروفة للجميع؟ يقول يبدو أنه للحزن، وبناء علي ذلك فهو لا يدعو للحزن، لأنه أي حزن يلد فرحا؟ لا يوجد تماما مثلما أنه لا يوجد متعة تلد حزنا.

“وأما أخيراً فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام” لم يقل “ثمرة”، بل قال “ثمر”، لكي يقدم الجمع الأكبر. يقول الذين يتدربون به، ماذا يعني بقوله “الذين يتدربون به؟” ، يعني أولئك الذين احتملوا التأديب وصبروا عليه كثيرًا. أرأيت كيف يستخدم الإطراء؟ وبناء علي ذلك فإن التأديب هو تدريب، وهذا التدريب يقوي المجاهد، ويجعله لا يهزم في المنافسات، ولا يُقهر في الحروب (الروحية). إذا مادام كل تأديب هو هكذا، فإن كل تدريب سيكون هكذا أي يعطي ثمر بر للسلام”. وبناء علي ذلك يجب أن نترجى و ننتظر خيرات عظيمة، وأن تكون النهاية مفرحة وسلامية. ولا تتعجب حين يكون التأديب قاسيًا، لكنه يحمل ثمار حلوة. لأنه في الأشجار تجد أن القشرة لا مذاق لها تقريبًا ،وجافة، بينما الثمار تكون حلوة. هذا قد تكلّم به وفقًا للرؤية العامة التي يشترك فيها الجميع. إذا إن كان ينبغي أن تنتظروا خيرات عظيمة، فلماذا تتضايقون؟ لماذا بينما أظهرتم صبرًا في الأمور المحزنة، تفقدون رجاءكم الآن، حين يتعلق الأمر بخيرات الدهر الآتي فالأمور المحزنة التي كان يجب أن تصبروا عليها، قد صبرتم عليها ، إذا يجب ألا تخافوا من أجل المكافأة.

“لذلك قوموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة وأصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحري يشفي” (عب 12: 12-13).

يتكلم كما لو أنه يتوجه إلي عدائين، وملاكمين، ومصارعين. أرأيت كيف يُسلّحهم، كيف يسندهم و يدعمهم؟ إنه يقول هذا من جهة أفكارهم. يقول . “مسالك مستقيمة”، أي لا تتشككوا لأنه إن كان التأديب يأتي بسبب المحبة، وبسبب الإهتمام، وإن كان ينتهي بنهاية مفرحة خاصة وأن هذا قد تبرهن عليه بالأعمال والكلام، وكل شيء)، فلماذا تُوهن عزيمتكم؟ لأن مثل هؤلاء، هم كل الذين قد أصابهم اليأس، ولم يُسنَدوا بالرجاء في خيرات الدهر الآتي. يقول وأصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة”، حتى لا تزيدوا العرج، بل تعودوا إلي حالتكم الأولي، لأن الأعرج حين يجري تسوء حالته. أتري كيف أن الشفاء الكامل يعتمد علينا نحن؟

” أتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يري أحد الرب” (عب 12: 14).

ما قاله سابقاً “غير تاركين إجتماعكم هذا ، هذا ما يُشير إليه الآن. لأنه لا شيء يجعلنا ضعفاء أمام التجارب إلي هذا الحد، ويساهم في هزيمتنا، بقدر الإنشقاق، ولاحظ كيف إنه إذا تفتتت وحدة عسكرية أثناء الحرب، لن يحتاج الأعداء إلي جهد للإنتصار عليها، بل سيأسر جنودهما ، لأنه وجدهم بمفردهم، وأكثر ضعف بسبب التفتت يقول إتبعوا السلام مع الجميع”، وهذا يعني ومع أولئك الذين يصنعون بنا شراً”. وهذا يذكره في موضع آخر، قائلاً إن كان ممكنا فحسب طاقاتكم سالموا جميع الناس” ” . يقول “بحسب طاقاتكم سالموا” دون أن تُسئ إلى التقوى والوقار، بل حين يُساء إليك، فلتحتمل الأساءة بشجاعة، لأن التسامح هو سلاح عظيم في التجارب. هكذا المسيح أيضا قد شدد تلاميذه، بهذا الكلام: “ها أنا أُرسلكم كغنم وسط ذئاب فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام. ماذا تقول؟ هل تقيم وسط ذئاب، وتحثنا أن نكون كالغنم، وكالحمام ؟ يقول نعم ، لأنه لا شيء يدعو للسخرية (بقدر مجازاة الشرير في شره)، فبقدر الشر الذي يكون عليه الإنسان الشرير بقدر الشجاعة التي يجب أن تتحملوا بها ما يفعله الأشرار بكم، ولا تدافعوا عن أنفسكم، لا بالكلام ولا بالأعمال. وهذا يجعلنا بالأكثر أتقياء، ويُعد لنا مكافأة أعظم، وينفع أولئك (المسيئين). هل أهانك فلان ؟ فلتباركه أنت، لاحظ كم ربحت من وراء هذا ، أطفأت الشر، أعددت مكافأة لك، أخجلت المسيي إليك، وأنت لم يُصيبك أي شر.

أتبعوا السلام مع الجميع والقداسة” ماذا يعني “بالقداسة؟” يعني التعقل والوقار في الزواج. لو أن أحد غير متزوج، فليكن طاهرًا، أو ليتزوج، ولو كان متزوجا فينبغي ألا يزني، بل يكتفي بزوجته، لأن هذا أيضا قداسة. كيف؟ ليس الزواج قداسة، بل إن الزواج يحفظ القداسة التي تأتي من الإيمان، لأنه لا يتركك تتجه نحو الزنا. كذلك فإن الزواج مكرم، الزواج هو نقاء أو طهارة، لكنه لا يُقدم قداسة، سوي أنه يُعيق تدنيس النقاء أو الطهارة التي أُعطيت بالإيمان يقول القداسة التي بدونها لن يري أحد الرب”. هذا بالضبط ما يقوله لأهل كورنثوس “لا تضلوا لا زناه ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعوا ذكور ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله ٦ لأنه كيف سيقدر من أصبح جسدا زانيًا أن يكون جسد المسيح؟.

” ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع إنزعاجا فيتنجس به كثيرون لئلا يكون أحد زانيا” (عب 12: 15).

أرأيت كيف أنه في كل موضع يستأمن كل أحد علي الخلاص المشترك؟ يقول ” عظوا (عزوا) أنفسكم كل يوم ما دام الوقت يُدعي اليوم *

2- إذا لا تلقون كل شيء علي المعلمين، وعلي الرؤساء وكما يقول الرسول بولس تستطيعون أنتم أيضًا أن تبنوا بعضكم بعضا وهو يكتب إلي أهل تسالونيكي “ابنوا أحدكم الآخر كما تفعلون أيضا” ، “ليعزي أحدكم الآخر بهذا الكلام. وهذا هو ما ننصحكم به نحن أيضًا الآن لأنه إن أردتم سيقدم الواحد للآخر، أكثر منا ، لأن الواحد متواجد مع الآخر لزمن أطول والواحد يعرف مشاكل الآخر أكثر منا ، ولا يجهل نقائص الآخر. ويجب أن توجد جرأة ومحبة، وعشرة أكثر فيما بينكم ، وهذه الأمور ليست بالبسيطة لكي تقودكم للتعليم المتبادل فيما بينكم، بل هي إمتيازات وفرص كبيرة. بل إنكم تستطيعون وأكثر منا ، أن تبكتوا وأن تحثوا بعضكم بعضًا. وليس هذا فقط، بل أنا واحد فقط، بينما أنتم كثيرون، وستقدرون جميعكم كما أنتم أن تصيروا معلمين. ولهذا أترجاكم ألا تهملوا هذه الموهبة، كل واحد له زوجة، وصديق، وخادم، وجار، فليبكته، وينصحه. فكيف لا يكون أمرًا غير منطقيا، أن تقيموا ولائم وموائد لأجل طعامكم، وأن يكون لكم يوما محددا للقائكم، وما يغيب عن كل واحد عندما يكون وحده ، تكملوه أنتم بالشركة فيما بينكم (سواء إحتاج هذا أن تذهبوا معه إلي جنازة، أو للطعام، أو تساعدون جاركم في كل شيء، ولكن من حيث تعليم الفضيلة، لا تفعلون هذا؟ أترجاكم ألا يهمل أحد هذا، لأنه سينال أجرًا كبيرًا من الله.

ولكي تعلم هذا ، فإن ذاك الذي استؤمن علي الخمس وزنات، هو المعلم، وذاك الذي أخذ وزنه واحدة هو التلميذ، لكن إن قال التلميذ، أنا تلميذ، ولن أخاطر، ثم أخفي الكلمة التي أخذها من الله، وهي سامية وللجميع، ولم يتكلم بجرأة، ولم يرشد ، إن كان في إمكانه ،هذا ، بل أخفاها في الأرض لأنه بالحقيقة الأرض هي القلب الذي يُخفي موهبة الله، إذا إن كان قد أخفاها، بسبب الكسل، أو الإهمال، فلن يستطيع أن تكون له حجة، بأن يقول، وزنة واحدة هي التي لي. لديك وزنة واحدة نعم، لكن كان ينبغي حتى وإن كنت تملك وزنة واحدة أن تستثمرها وتضاعفها ، فإن استثمرتها ، لن يكون ممكنا أن تُدان. لأنه لم يقل لذاك الذي قدم له وزنتين، لماذا لم تُحضر لي خمس وزنات، بل إعتبره مستحقا لنفس المكافأة التي نالها الذي قدم له خمس وزنات لماذا؟ لأنه إستثمر الوزنتين اللتين أخذهما ، ولم يسقط في الإحباط لأنه أخذ أقل من ذاك الذي أخذ خمس وزنات، ولا أنه بسبب قلة الوزنات ظل عاطلا عن العمل ولا أنت أيضا كان ينبغي أن تنظر ذاك الذي أخذ ،وزنتين أو من الأفضل القول بأن ذاك كان ينبغي أن يهتم بوزنتيه، وتماما مثلما أنه تمثل بمن أخذ خمس وزنات بالرغم من أن لديه وزنتين هكذا أنت أيضًا كان يجب أن تتمثل بذاك الذي أخذ وزنتين. لأنه إن كان هناك عقابا معدا لذاك الذي لديه أموال ولم يساعد الآخرين، والذي كان يمكن أن يوصي ولم يفعل، كيف لن يعاني من عقاب أشد ؟ وحين تقدم للمحتاج فأنت تطعم الجسد، لكنك تغذي نفسك بالعطايا الإلهية، وعندما تعطيه فأنت تعيق عنه الموت هنا إلي حين، أما هناك ( في الأبدية) فإنك تنجو من الموت الأبدي.

3- إلا أنه قد يكون هناك مَنْ يقول ليس لدي موهبة الكلمة، لكن الأمر لا يحتاج لقدرات في الكلام، ولا فصاحة لسان فإن رأيت صديقا لك يسلك في العهر قل له ما تفعله هو أمر سيئ، ألا تخجل ألا تستحي هذا شر. قد يقول ألا يعرف ذاك أن ما يفعله هو أمر سيئ ؟ نعم هو يعرف، لكنه ينجذب من الشهوة والمرضي أيضا يعرفون أن شرب الماء البارد هو أمر ضار ، لكنهم يحتاجون لأولئك الذين يمنعونهم من شربه، لأن ذاك الذي هو مأسور بالشهوة، لن يستطيع أن يتحصن سريعا من المرض. إذا يجب عليك، يا مَن أنت صحيح وسليم أن تهتم بشفائه، وإن لم يسمعك، تتبع خطواته وإمنعه ربما يخجل منك.

قد تقول: وما هي الفائدة إن فعل هذا بسبب تدخلي أنا، وتبكيتي له؟ لا تدقق في الأمر كثيراً، عليك أولاً أن تبعده بأي طريقة عن العمل البائس، وليعتاد علي عدم الذهاب إلي ذلك الهلاك، سواء بواسطتك أم لأي سبب يمكن أن يُعيقه، سيستفيد منه لأنه عندما تجعله يعتاد علي عدم الذهاب إلي الفساد، حينئذ ستتمكن بعد ذلك من خلال إبتعاده عن الخطية (إنقطاعه عن هذا الفعل) أن تعلمه، أنه يجب أن يفعل هذا لأجل الله، وليس لأجل الإنسان. لا تتصور أنك تفعل كل شئ دفعة واحدة لأنك لن تستطيع، بل أفعل هذا بهدوء، وبطريقة تدريجية. إن رأيته يذهب لشرب الخمر، ولموائد مليئة بالسكارى، أفعل نفس الشيء، وترجاه أيضا ألا يذهب وإن رأي فيك عيبا ،ما ، فليساعدك علي أن تصححه، لأنه عندئذ سيحتمل إرشادك له عندما يري أنك أنت أيضًا تحتاج إلي الإرشاد الذي توجهه إليه، ليس فقط حين تراقب سلوكه، كما لو كنت قد صححت كل أخطاءك، ولا تعامله كمعلم ، بل تساعده كصديق وكأخ.

وكأنك تقول له : أنا قد ساعدتك، لذلك فإن رأيت عندي عيبا ما ، فلتمنعه صححه، وإن رأيت أنني أغضب بسهوله، وأنني جشع، عليك أن تحاصر توجهي هذا بنصيحتك. هذه هي الصداقة، هكذا فإن الأخ عندما يُساعد من الأخ، فإنه يشبه مدينة محصنه ، لأنه لا يجعل الصداقة مثل الأكل والشرب، مثل هذه الصداقة هي للسارقين والقتلة، لكن إن كنا أصدقاء، فيجب أن يهتم الواحد بالآخر حقا، ولنتفق علي هذا فيما بيننا، فإن هذا سيقودنا إلي صداقة بناءة، وسينجينا من الذهاب إلي الجحيم.

ولا تغضب عندما يراقبون سلوكك، لأننا بشر ولنا نقائص، ولا تجعل الذي يراقبك كمن يستحق السخرية والإحتقار والتشهير، بل عامله برفق، لأن ذاك الذي يوجه الإرشاد، يجب أن يتمتع بلطف ورفق كبير، لكي يستطيع أن يُقنع مَنْ يرشده أن يحتمل الجراحة. ألم تروا الأطباء عندما يمارسون الكي، وعندما يجرون جراحة، كيف أنهم يحققون الشفاء بكل هذا القدر من اللين والرفق؟ بالأكثر يجب أن يفعل هذا أولئك الذين يُراقبون سلوك الغير، لأن ضبط سلوك الآخر، هو أكثر شدة من النار ومن الحديد، ويجعل الإنسان يتألم ، ولهذا فإن الأطباء يبتكرون (طرقًا جديدة، لكي يُجرون العملية الجراحية برفق وهدوء، أي أنهم يبدأون الجراحة ثم يتوقفون إن إحتاج الأمر ذلك، لكي يتشجع المريض قليلا. هكذا ينبغي أن نجعل المرشدين (أن يكونوا مثل الأطباء) لكي لا يتألم مَنْ يتقبل الإرشاد. وحتى وإن أهنّا أو جرحنا ، فلا يجب أن نوقف المحاولة. لأن المرضي الخاضعين للجراحة يطلقون صرخات في مواجهة الجراحين، ولكن الجراحين لا يعطون إهتماما أو لا يُبالون بأي شيء سوي إهتمامهم بصحة المرضي. هكذا هنا أيضاً في المجال الروحي)، يجب أن نستخدم كل الوسائل لكي يكون المرشد نافعا يجب أن نحتمل كل شئ، ناظرين للمجازاة التي تنتظرنا. يقول ق. بولس “احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا ناموس المسيح

هكذا إذا يجب أن يكون المرشدون، ملاحظين ومحتملين، ومتعاونين معنا ، وسنتمكن بهذا أن نكمل بناء المسيح وستخففون من تعبي، بتعضيدكم لي في كل شيء، بأن تمدوا يدكم لمساعدتي، وأن تقتسموا معي العمل، مشاركين هكذا في تتميم الخلاص، الواحد نحو الأخر، وكل واحد في خلاص نفسه. إذا فلنحتمل، وليحمل الواحد أثقال الأخر، وليُرشد الواحد الآخر، لكي نرث الخيرات التي وعدنا بها الله بمعونة ربنا يسوع المسيح.

العظة الواحدة والثلاثون (عب12: 16-17)

يقول “اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يري أحد الرب”

1 – أمور كثيرة هي تلك التي تصف المسيحية، لكن أكثرها أهمية وسمو من كل شيء، هي المحبة والسلام بين المسيحيين. لهذا يقول المسيح سلامي أعطيكم، وأيضا يقول ” لهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضكم لبعض . . ومن أجل هذا يقول ق. بولس الآن اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة”، أي فضيلة التقوي التي بدونها لن يري أحد الرب”.

ثم يقول” ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله

تماما كما يحدث عندما تسيرون في شارع طويل برفقة كثيرين، أنظروا لئلا يكون أحد قد تأخر أو تخلف عن المسيرة إن ق بولس لا يطلب فقط، أن تَصَلوا أنتم إلي هدفكم، بل أن تلاحظوا رفقاءكم الآخرين في المسيرة، حتى تصلوا معا. يقول لئلا يخيب أحد من نعمة الله”. إنه يدعو خيرات الدهر الآتي، الإيمان بكلمة البشارة، طريقة الحياة المتميزة (نعمة الله، لأن هذا كله يُعد نتيجة لنعمة الله. إذًا لا تقل لي إن الذي فقد هو واحد فقط، لأن المسيح مات لأجل هذا الواحد. مات المسيح لأجل واحد، فهل لا تهتم به أنت؟ يقول “ملاحظين”، أي أن تفحصوا بدقة، أن تتفكروا ، أن تختبروا ، كما يحدث مع المرضي وإختبروا لتعرفوا مستخدمين كل الوسائل.

ثم يقول لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع إنزعاجاً. هذا الكلام موجود في سفر التثنية، أخذ هذا المثال مجازيًا من حياة النباتات يقول لئلا يطلع أصل المرارة”، هذا ما قاله في موضع آخر خميرة صغيرة تخمر العجين كله. هكذا يقول، أنا لا أريد هذا الأمر بسبب ذاك، ولكن بسبب الضرر الذي يحدثه بمعني أ أنه لو كان هناك مثل هذا الجذر ، لا تترك أي فرع ينمو إلي أعلي، بل إقطعه، لكي لا يحمل ثمارًا مرة ، فيلوث ويؤذي الفروع الآخري.

يقول لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع إنزعاجًا فيتنجس به كثيرون”. وأمر مبرر وله الحق في أن يدعو الخطية مرارة لأنه بالحقيقة لا يوجد ما هو أكثر مرارة من الخطية، وهذا يعرفه أولئك الذين ، قد إنحلّوا مُتأنبين من ضمائرهم، محتملين مرارة كثيرة بعد أرتكابها. ولأنها مُرة جدًا فإنها تدمر المنطق نفسه. هذه. هي طبيعة المرارة، لا فائدة منها. وبالصواب قال عنها أصل مرارة”. لم يقل : “مر”، بل قال: “أصل المرارة ، لأن الجذر المر من الممكن أن يحمل ثمارًا حلوة، بينما أصل المرارة، هو المصدر والأساس، ومن غير الممكن علي الإطلاق أن تحمل ثمراً حلوا ، لأنها بأكملها مرة ليس فيها شيئًا حلوا ، إنها مقززة، وكل شيء فيها مملوء بالبغضه ويثير الإشمئزاز. ثم يقول إن كثيرين يتنجسون بأصل المرارة، أي إبعدوا المدنسين، لكي لا يحدث هذا.

“لئلا يكون أحد زانيًا أو مستبيحا كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته ” (عب 12: 16).

ومتى كان عيسو زانيا؟ إنه هنا لا يقصد هذا ، أن عيسو كان زانيا، بل إتجه في مسار ضد تميّزه “اتبعوا القداسة”، بينما الاستباحة قيلت عن عيسو. إذا ينبغي ألا يكون أحد مستبيحا كعيسو، أي نهم أو شره، مندفع دنيوي، يبيع الروحيات. هذا لأجل أكلة واحدة باع بكوريته ، أي الكرامة التي خصه بها الله ، سلمها وباعها بسبب خموله، وبسبب متعة صغيرة خسر هذه الكرامة الكبيرة والمجد العظيم. هذا لائق بمَنْ هم علي شاكلة عيسو، هذه هي سمة الإنسان المقزز سمة الإنسان النجس.

إذا ليس الزاني وحده هو النجس، بل والشره أيضًا، الذي هو عبد لبطنه، لأن هذا أيضا هو عبد للذة أخري، ويضطر أن يكون شرها أو نهما، وأن يسلب وكثيرًا ما يُخجل نفسه، لأنه عبد لشهوة الطعام هذه، وكثيرا ما جـدف عيسو واحتقر بكوريته، ولأنه فكر في الراحة المؤقتة، فقد وصل إلـي حـد أنـه بـاع البكورية. حتى أن البكورية أصبحت لنا بالأكثر وليست لليهود. وفي نفس الوقت فإن الرسول بولس يقارن بين شهوة الأخوين، أي أنه يقصد بهذا، أن الأول قد صار، في الترتيب ،والمكانة، ثانيًا، والثاني صار أولاً، وأن بسبب صبره صار أولاً، وعيسو بسبب خموله صار ثانيًا.

بعد ذلك يقول “فإنكم تعلمون أنه أيضا بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاتا مع أنه طلبها بدموع” (عب 12: 17).

2- ما معني هذا الكلام؟ هل الله يرفض التوبة؟ لا علي الإطلاق، إذا كيف يقول، لم يجد للتوبة مكانًا ؟ فإذا كان قد أدان نفسه بكي بصراخ، فلماذا لم يجد مكانا للتوبة؟ لأن التوبة لم تكن صادقة تماما مثل أن حزن قايين الذي لم يكن حزنا للتوبة والقتل الذي ارتكبه قد برهن علي هذا، هكذا هنا أيضًا العبارات لم تكن عبارات توبة، والقتل الذي تبع هذا قد برهن علي ذلك، خاصة وأن ذاك (أي عيسو) قد قتل يعقوب ولكن علي مستوي الإرادة. وكأنه يقول لقد ” قربت أيام مناحة أبي فأقتل يعقوب أخي.

ولهذا لم تستطع دموعه أن تُقدم له التوبة. ولم يتكلم فقط عن “توبة”، بل قال “وإذ لم يجد للتوبة مكانًا مع أنه طلبها بدموع”. تري، لماذا؟ لأن توبته لم تكن بالطريقة الصادقة، لم يتب كما يجب. إذا كيف قال هذا الكلام؟ أيضًا لماذا يحثهم، طالما أنهم قد صاروا مُتوانيين؟ كيف يقول مع أنهم قد صاروا عاجزين؟ كيف يكون هذا ، طالما أنهم قد تجمدوا أو شلّوا؟ كيف هذا، طالما كانوا تحت ضغط شديد ؟ لأن هذه هي بداية السقوط. أنا أعتقد أنه يقصد بعض الزناة، الذين كانوا بينهم، ونظراً لأنه لم يُرد أن يوبخهم علانيةً، تظاهر أنه يجهل هذا الأمر، لكي يصححوا مسيرتهم بمعني أنه في البداية يجب أن يظهر أنه يجهل طريقة سلوكهم، ولكن إذا أصروا علي موقفهم، عندئذ يبدأ التأنيب، حتى لا يبلغ بهم الأمر إلي أن يصيروا عديمي الحياء. هذا ما صنعه موسي – في حالة زمري وكزبي.

يقول لأنه لم يجد للتوبة مكاناً. هذا معناه إما أنه لم يجد التوبة، أو أن خطيئته كانت أكبر من توبته إما أنه لم يُقدم توبة صادقة، فهناك خطايا أكبر من التوبة مما يقوله يعني الآتي : أن لا يكون سقوطنا ، لا شفاء له، وبقدر ما أن سقوطنا لا يكون فسقاً بقدر ما يكون شفاؤنا سهلا. أما إذا إنحرفنا فماذا سيحدث؟ إنه يتكلم بهذا الأسلوب تجاه أولئك الذين لم يسقطوا من قبل، لكي يحفظهم بواسطة الخوف من السقوط. ويقول إنه من غير الممكن أن يُعزي الذي سقط، ولكي لا يصيب الذين سقطوا باليأس، ينصح بما هو عكس ذلك، فيقول “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلي أن يتصور المسيح فيكم ” ، وأيضا “أيها الذين تتبررون بالناموس سقطتم من النعمة. وها هو يشهد بأنهم قد سقطوا من النعمة. لأن الإنسان المستقيم الذي يسمع أنه لو سقط، فلن يُصفح عنه، سيصير أكثر قوة، وأكثر أمان من جهة ثباته. أما إذا استخدم نفس القسوة تجاه ذاك الذي سقط، فلن ينصلح أبداً ، فبأي رجاء يرغب في التغيير؟ وليس هذا فقط، يقول مع أنه طلبها بدموع”، هو هنا لا يرفض فكرة أن هناك توبة، عندما يقول “لم يجد للتوبة مكاناً ، لكنه يؤمنهم بالأكثر بهذا القول، حتى لا يسقطوا. إذًا كل من يُشكك في وجود جهنم، فليتذكر هذا. لماذا لم يُغفر لعيسو؟ لأنه لم يتب كما يجب.

3- أتريد أن تري توبة حقيقية؟ إسمع توبة بطرس بعد إنكاره يروي ق. متى الإنجيلي الحدث المتعلق بهذه التوبة فيقول “فخرج إلي خارج وبكي بكاء مرا “””. ومن أجل هذا فقد غُفِرت له خطتيه العظيمة هذه، لأنه تاب بالطريقة التي يجب أن تكون. وإن كان بالطبع لم يكن الذبيح قد قدم بعد، ولم تقدم الذبيحة، ولم يكن المسيح قد حمل الخطية ،بعد ، فقد كانت الخطية تسود وتملك بعنف. ولكي تعلم أن الإنكار لم يكن نتيجة للتغافل بقدر ما هو ترك من قبل الله ، الذي علمه هكذا، لكي يعرف حدود القدرات الإنسانية، ولكي لا يُعارض كلام معلمه، ولا أن يفتخر بقدراته)، بل لكي يعرف أنه بدون الله لا يمكن تحقيق شئ، لأنه “إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون”. إسمع كيف أنه لكي يُحصنه، ولكي يُقنعه أن يكون متضعاً ، قال له المسيح ” سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفني إيمانك “. ولأنه كان من الطبيعي أن يفتخر بطرس، لأنه كان يعرف أنه أحب المسيح أكثر من الآخرين، لهذا سمح الله أن يسقط، أن يُنكر معلمه، ومن أجل هذا بكي بكاءً مرا ، وعمل أعمالاً أخري، الواحدة تلو الأخرى بتوبة صادقة، وهل هناك شيئًا لم يفعله؟ لأنه بعد كل هذا ألقي بنفسه في أخطار كثيرة جدا ، مُظهرًا بهذه الأخطار بسالة وشجاعة كبيرة.

ويهوذا قد تاب أيضًا، لكن ليس بشكل صحيح، لأنه شنق نفسه. لقد تاب، كما سبق وتاب عيسو، أو من الأفضل أن نقول أن هذا لم يتب، لأن دموعه لم تكن دموع توبة ، بل كانت فعلاً شيطانيًا، وربما كانت غضبا، والأفعال اللاحقة قد أثبتت هذا المطوب داود قدم توبة، قائلاً “اعوم في كل ليلة سريري بدموعي أذوب فراشي ” ، والخطية التي كان قد ارتكبها منذ سنوات عديدة، حزن علي فعلها بعد كل هذه السنوات، بعد كل هذه الأجيال، كما لو أنها قد حدثت لتوها.

هذا الذي تاب لا يجب أن يغضب ولا أن يسخط، بل أن ينسحق كمذنب، كمن لا جرأة له، كمدان، وكمن ينبغي عليه أن يتحرر بالنعمة فقط، وكمن يبدو أنه جاحد أمام المحسن إليه، ومثل ناكر الجميل، ومثل غير المجرب، وكمن هو مستحق لعقوبات كثيرة. لو أنه فكر في كل هذا لن يغضب، لن يغتاظ، بل سيحزن، وسيبكي، سينوح وسيئن ليلاً ونهارًا. الذي يتوب لا ينبغي عليه أبدا أن ينسي خطيته، بل يترجي الله أن ينساها، لكن الخاطئ نفسه لا يجب أن ينساها أبدا، فلو أننا تذكرناها ، فإن الله سينساها. نحن أنفسنا فلنعاقب أنفسنا وندينها ، وهكذا سنجلب مراحم الديان. لأن الخطية التي يُعترف بها تنقض، أما عندما لا يعترف بها تصير أسوأ . فإن كانت الوقاحة، والجحود تضاف للخطية فلن تتوقف أبدا، وكيف لمن هو هكذا أن يتحصن، حتى لا يسقط مرة أخري في نفس الخطايا، طالما أنه لم يُدرك سابقاً أنه لم يخطئ؟ إذا يجب ألا ننساها، ولا نكون سفهاء، حتى لا تدان دون إرادتنا.

لقد سمع قايين من الله “أين هابيل أخوك؟” فقال “لا أعلم أحارس أنا لأخي ” أرايت كيف أن هذا قد جعل الخطية أثقل؟ لكن أبوه لم يتصرف هكذا، لكن كيف؟ عندما سمع آدم أين أنت؟” ، قال ” سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت”. صلاح كبير أن يعترف المرء بأخطائه، وأن يتذكرها علي الدوام، لأنه لا شيء يشفي من الخطية، سوي تذكرها بإستمرار، ولا شيء يجعل الإنسان متردداً أمام الشر، سوي تذكرها أعرف أن الضمير يهرب ولا يحتمل أن يُعَذِّب من تذكر الشرور ، عليك أنت أن تقسو علي نفسك، وَضَع عليها لجام، مثل الخيول الجامحة، التي تغضب ولا تُريد أن تعترف أنها أخطأت. أن كل هذا الفعل يعد فعل شيطاني، فيجب أن تقنع أنفسنا بأنها أخطأت لكي تتوب، وبعدما تتوب تتخلص من العقوبات. أخبرني كيف تطلب أن يسامحونك عن الخطايا، مادمت لم تعترف بها مطلقاً؟ في كل الأحوال، فإن الذي إعترف بخطاياه، هو مستحق للرأفة وللمحبة، بينما أنت يا من لم تقتنع أبدا أنك أخطأت ، كيف تطلب أن تُرحم، مادمت تسلك بمثل هذه الدناءة من جهة خطاياك؟.

لنقنع أنفسنا أننا أخطأنا، ولا يجب أن نقول هذا بالكلام فقط، بل وبالفكر أيضًا، ولا ينبغي أن ندعو أنفسنا بالخطاة فقط، بل لنفكر في خطايانا ، فاحصين إياها واحده فواحده لا أقول لك أسخر من ذاتك، ولا أن تدينها وأنت بالقرب من الآخرين، بل أنصحك أن تصدق كلام النبي الذي يقول سلم للرب طريقك إعترف بكل هذا أمام الله، إعترف بخطاياك أمام الديان، مُصليا إن لم يكن باللسان، فليكن بالذاكرة، حينئذ ستكون مستحقاً للرحمة. فإن تذكرت خطاياك بإستمرار، فلن تحتفظ بالإساءة في مواجهة قريبك. إن صدقت أنك خاطئ، فلا أقول لك هذا الكلام، ولا هذا الكلام يقدر أن يجعل النفس متضعه هكذا، بقدر تذكر هذه الخطايا، عندما يحدث فحص دقيق وتفصيلي لكل خطية. لن تحتفظ بالإساءة إن كانت الخطايا في ذاكرتك بإستمرار، ولن تغضب ولن تتكلم بالسوء، لن تتباهي، لن تسقط مرة أخري في نفس الخطايا، وستصير أكثر رغبة في عمل الصلاح

4- أرأيت كم الأمور الحسنة التي تُولد من تذكر الخطايا؟ إذا لنكتبها في ذاكرتنا. أعرف أن النفس لا تحتمل مثل هذه التذكرة المرة ، لكن لتلزمها ولنضغطها ، فمن الأفضل أن تُجرح النفس بتذكرها للخطايا الآن، علي أن تدان في الدهر الآتي، فإن تذكرتها الآن ووضعتها أمام الله بإستمرار، وأخذت تصلي لأجل هذه الخطايا، فإن الله سيموحها سريعًا ، أما إن نسيتها الآن أو تغافلت عنها ، عندئذ ستتذكرها دون إرادتك، لأنها ستُعرض أمام كل المسكونة، وستصير منظراً أمام الجميع، أصدقاء، وأعداء، وملائكة لأنه بالطبع لم يقل لداود فقط “أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل” * ، بل إنه قال لنا جميعًا لقد خفت من الناس، وخجلت منهم أكثر من الله، ولم تفكر أن الله يراك، بل خجلت من الناس، لأن الناس يخشون من نظرات الناس من أجل هذا (يقول الله)، سادينك أمام هؤلاء الناس، لأني سأوبخك، وسأظهر خطاياك أمام أعين الجميع. 

ومن جهة أن هذا أمر حقيقي، وأنه في يوم الدينونه سيتهكمون علي جميعنا من أجل خطايانا ، إن لم تظهرها الآن من خلال تذكرها بإستمرار، إسمع كيف ستدان قسوة ووحشية أولئك الذين لا يرحمون شركاءهم في الإنسانية هنا (في الحياة الحاضرة). يقول ” جعت فلم تُطعموني .. متى قيل هذا الكلام؟ هل قيل في زاوية ما؟ هل قيل سرًا؟ لا علي الأطلاق. فمتى إذا؟ قيل عندما أتي إبن الإنسان، وجمع كل الأمم، عندما فصل هؤلاء عن أولئك ، حينئذ وبينما سيسمع الجميع سيقول بعدما يضعهم عن يمينه وعن يساره “جعت فلم تطعموني”.

إنتبه أيضا أن الخمسة عذارى (الجاهلات)، قد سمعن أمام الجميع “لا أعرفكن”. لأن الخمس عذارى الجاهلات لا يُعلن عن رقم خمسة فقط، بل يشير إلي كل التصرفات الخبيثة والقاسية والمتوحشة التي تصدر من العذارى، وعن ، اللاتي لسن عذارى.

هكذا ذاك الذي طمر الوزنة الواحدة، سمع أمام الجميع، بالأضافة لأولئك الذين قدموا الخمسة وزنات والذين قدموا الوزنتين، عبارة “أيها العبد الشرير والكسلان”. ليس فقط بالكلام، بل إنه بكتهم آنذاك من خلال أعمالهم ذاتها، تماما كما يقول ق. متى الإنجيلي وستنظره كل عين والذين طعنوه”. لأن القيامة ستحدث للجميع في وقت واحد للأشرار والأبرار، وسيقفون أمامه في نفس الوقت لكي يُدينهم جميعًا. تأمل إذا كيف سيكون المتجهمين عندئذ، أولئك الذين سيعانون، وسيجرون للنار الأبدية في اللحظة التي فيها سيتوج الآخرون، إذ يقول لهم “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم”، وأيضا أذهبوا عني يا ملاعين إلي النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته. إذا ينبغي ألا نسمع هذا الكلام بطريقة سطحية، بل لنتمثله أمام أعيننا، ولنعتبر أن من يقول هذا الكلام، هو كائن أمامنا الآن، وأننا مقادين إلي تلك النار الأبدية. 

كيف ستشعر نفوسنا ؟ وأي عزاء سنناله؟ وكيف سنشعر عندما سيفصلنا الله لقسمين؟ وكيف أيضًا سنشعر عندما تتهم بالسلب؟ وأي مبرر سنقوله؟ وأي كلام يمكن أن يكون مقبولاً ؟ لا يوجد ، بل ستربط حتما ، وسننكس رؤوسنا ، وسنجر إلي ألسنة اللهب ونهر النار، والظلام الدامس والعقوبات الدائمة، ولن يستطيع أحد أن يترجى لأجل خلاصه أو إنقاذه. لأنه يقول ” بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت حتى أن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا” ، بل حتما سنحترق للأبد، ولن يستطيع أحد أن يساعدنا، سواء كان أبا أم أما ، أو أي أحد آخر ، حتى ولو كانت له داله كبيرة أمام الله. لأنه يقول “الأخ لن يفدي الإنسان فداء. إذا لأننا لا نستطيع أن نعتبر رجاء خلاصنا يعتمد علي الآخر، بل علي أنفسنا فقط، وعلي محبة الله للبشر، فأرجوكم أن نصنع كل شيء (بإستقامة)، حتى تكون حياتنا نقية وطريقة حياتنا اليومية مرضية أمام الله وألا ترضى بأي تلوث من البداية، بل وإن قبلناه، فيجب ألا نهدأ، بل لنحاول بإستمرار أن ننظفه بالتوبة، وبالدموع، وبالصلوات، وبعمل الرحمة. وقد يقول أحد ، لكن ماذا لو لم يكن لدي أموالا لعمل الرحمة ومساعدة الفقراء؟ مهما كنت فقيرًا، فلابد أن يكون لديك كأس ماء بارد ، أو فلسين مهما كان مقدار فقرك كبيرًا ، فلديك أرجل لتفتقد المرضي، وتزور المسجونين، لديك مأوي لإستقبال الغرباء لأنه لا يوجد أي صفح لمن لم يقدم عمل رحمة.

لن أكف عن التكلم بهذا الكلام، لعلي أقنعكم حتى ولو بالقليل، بتكراره المستمر، وهذا أقوله لكم ، غير مهتم بأولئك الذين يُعانون، بقدر اهتمامي بكم. لأن الخيرات المادية الحاضرة تُعطي لأولئك، أما لكم فقد ضمنت الخيرات السمائية كمجازاة، والتي ليتنا جميعًا ننالها بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة والسجود ، الآن وكل آوان وإلي دهر الدهور أمين.

العظة الثانية والثلاثون (عب12: 18-27)

” لأنكم لم تأتوا إلي جبل ملموس مضطرم بالنار وإلي ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق وصوت كلمات أستعفي الذين سمعوه من أن تزاد لهم كلمة. لأنهم لم يحتملوا ما أمر به وإن مست الجبل بهيمة ترجم أو ترمي بسهم. وكان المنظر هكذا مخيفا حتى قال موسي أنا مرتعب ومرتعد بل قد أتيتم إلي جبل صهيون والي مدينة الله الحي أورشليم السماوية وإلي ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السماوات وإلي الله ديان الجميع وإلي أرواح أبرار مكملين وإلي وسيط العهد الجديد يسوع وإلي دم رش يتكلم أفضل من هابيل” (عب 12: 18-24).

1- كل الأمور المتعلقة بالهيكل، كانت أمورًا مدهشة، وبشكل خاص قدس الأقداس، أيضا كانت مُخيفة تلك التي حدثت في جبل سيناء، النار، الظلام الضباب، العاصفة، لأنه يقول إن الله ظهر في رعود” وبروق وسحاب ثقيل. غير أن العهد الجديد لم يُعط بأي شيء من هذه الأشياء، لكنه أُعطي بالمسيح بكلام بسيط. لاحظ إذا كيف يعقد هذه المقارنات. وبالصواب أضاف هذه الأمور بعد ذلك، بعدما أقنعهم فيما سبق بحجج كثيرة جداً ، وبعدما أظهر خاصية كل عهد ، حينئذ ولأن هذه الخاصية كانت معروفة بالفعل مُسبقاً ، فإنه كان من السهل عليه أن يبدأ في تقديم ما يختص بالعهد الجديد أيضًا، وماذا قال؟ قال : “لأنكم لم تأتوا إلي جبل ملموس مضطرم بالنار وإلي ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق وصوت كلمات استعفي الذين سمعوه من أن تُزاد لهم كلمة. لأنهم لم يحتملوا ما أمر به وإن مست الجبل بهيمة تُرجم (عب 12: 18-20).

يقول إن هذه أمور كانت مخيفة إلي حد أنهم لم يحتملوا أن يسمعوها ، ولم يجرؤ أحد ولا حتى الحيوانات تجرأت أن تصعد إلي الجبل.

لكن ما حدث بعد ذلك ( في العهد الجديد)، لم يكن هكذا، لأن ما هي سيناء، أمام السماء؟ وما هي النار التي تلمس أمام الله الذي لا يلمس؟ لأنه يقول “إلهنا نار آكلة”. ومن حيث أن ما حدث آنذاك في جبل سيناء كان مملوء بالرعب، فقد صار واضحا من خلال ما قاله الشعب ” قالوا لموسي تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم الله معنا” . يقول “لأنهم لم يحتملوا ما أمر به وإن مست الجبل بهيمة ترجم، وكان أمرًا مُخيفا هذا الذي ظهر أمام أعينهم وعبّر موسي نفسه عن ذلك بقوله أنا مرتعب ومرتعد”. وما هو المثير للدهشة في خوف الشعب، مادام أن ذاك الذي دخل إلي السحاب الكثيف، حيث حضور الله، قال “أنا مرتعب ومرتعد؟”.

بل قد أتيتم إلي جبل صهيون وإلي مدينة الله الحي أورشليم السماوية وإلي ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات والي الله ديان الجميع وإلي أرواح أبرار مكملين وإلي وسيط العهد الجديد يسوع وإلي دم رش يتكلم أفضل من هابيل” (عب 12: 22-24).

لاحظ كيف أظهر مقدار إمتياز العهد الجديد علي العهد القديم لأنه بدلاً من أورشليم الأرضية، توجد أورشليم السمائية، هكذا يقول “بل” قد أتيتم إلي مدينة الله الحي أورشليم السماوية، وبدلاً من موسي، لدينا يسوع، ويقول “وإلي وسيط العهد الجديد يسوع”، وبدلاً من الشعب، هناك كل الملائكة يقول “وإلي ربوات هم محفل ملائكة”. لكن من هم الذين يدعوهم أبكارًا ، عندما يقول “وكنيسة أبكار؟”، يقصد كل خورس المؤمنين السمائيين هم أنفسهم، يدعوهم أرواح أبرار مكملين (كاملين في الإيمان)”.

يقول لا تحزنوا، لأنكم ستكونون مع هؤلاء. ماذا يعني بقوله “وإلي دم رش يتكلم أفضل من هابيل ؟ وهل دم هابيل يتكلم؟ نعم، كيف ؟ إسمع ق بولس الذي يقول ” بالإيمان قدم هابيل الله ذبيحة أفضل من قايين فيه شهد له أنه بار إذ شهد الله لقرابينه وبه وإن مات يتكلم بعد”. هذا ما يُظهره الله أيضًا عندما يقول” صوت دم أخيك صارخ إلي. إذا إما أن يكون هذا ما يمكن أن تقوله، أو أنه يُمجد بعد حتى الآن، لكنه لا يتكلم ، بقدر ما يتكلم دم المسيح، لأنه طهر الجميع، وترك صوتاً أكثر بهاء، يمكن تمييزه بوضوح وسهولة، بقدر ضخامة الخطية كما تبدو من الأحداث نفسها.

” أنظروا أن لا تستعفوا من المتكلم لأنه إن كان أولئك (العبرانيين) لم ينجوا إذ استعفوا من المتكلم علي الأرض. فبالأولي جدا لا ننجو نحن المرتدين عن الذي من السماء الذي صوته زعزع الأرض حينئذ وأما الآن فقد وعد قائلاً إني مرة أيضا أزلزل لا الأرض فقط بل السماء أيضا. فقوله مرة أيضا يدل علي الأشياء المتزعزعة المصنوعة لكي تبقي التي لا تتزعزع لذلك ونحن قابلون ملكوتا لا يتزعزع ليكن عندنا شکر به نخدم الله خدمة مرضية بخشوع وتقوي لأن إلهنا نار أكلة” (عب 12: 25-29).

أمور مرعبة تلك التي حدثت في سيناء، لكن الأمور المختصة بالسمائيات فهي مستحقة للإعجاب الشديد وتوصف بالبهاء. لأنه لا يوجد فيها ظلام، ولا سحاب كثيف، ولا عاصفة، كما حدث في سيناء. لماذا ظهر الله آنذاك من داخل النار؟ أتصور أنه بهذه الرموز يُستعلن غموض العهد القديم، وعدم وضوح الناموس وليس هذا فقط، بل لكي يُعلن أن المشرع يجب أن يكون مُخيفا ويعاقب المخالفين.

2- لكن ماذا يعني بعبارة “هتاف بوق؟” من الطبيعي أن هذا الهتاف يرتبط بحضور ملك ما. هذا إذا سيحدث في المجيء الثاني للرب، لأنه يقول “فإنه سيبوق فيقام الأموات”. حتى أنه بقوة الله سيقوم الجميع، وهتاف البوق لا يعلن سوي هذا الأمر، أن الجميع لابد أن يقوموا. أما الحوادث التي وقعت في سيناء في ذلك الوقت فقد صارت مدركة بواسطة الأحاسيس، ومن خلال كل ما رأوه وسمعوه بينما تلك التي ستحدث بعد ذلك ستكون كلها مدركة ، لكنها مرئية. وبالطبع النار ترمز إلي أن إلهنا .نار لأنه يقول “إلهنا نار آكلة، بينما الضباب، والظلام والدخان أيضًا، يُظهرون مقدار الخوف، هكذا يقول إشعياء أيضاً ” وامتلأ البيت دخانا”. وماذا يُريد أن يُظهر بكلمة “زوبعة؟” يُريد أن يقول إن الجنس البشري كان خاملا، فكان ينبغي أن يسترعي انتباهه أو يثيره بهذه الوسيلة لأنه لم يكن هناك من هو خامل إلي هذا الحد، حتى لا يكون قلبه متجها نحو السماء، عندما حدثت هذه الأمور وأعطي الله الناموس لموسي، وتكلم موسي وأجابه الله بصوت (واضح)، لأنه كان ينبغي عليه أن ينقل (الشعب) كلام الله. ولأن الله كان ينوي أن يعطي الناموس بواسطة موسي، لهذا فقد جعله موضع ثقة. لم يرونه بسبب السحاب الكثيف، ولم يسمعوه لأن صوته كان منخفضًا. ماذا إذًا؟ الله يُجيب بصوت واضح ونقي، كما لو أنه كان يتوجه مباشرة لشعبه جاعلاً الناموس الذي حدده وأعطاه، يُسمع جيداً.

لكن لننظر الكلام الذي قيل من البداية لأنكم لم تأتوا إلي جبل ملموس مضطرم بالنار وإلي ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق وصوت كلمات استعفوا الذين سمعوه أن تُزاد لهم كلمة”. وبناء علي ذلك، هؤلاء صاروا سببًا في أن يظهر الله بصوت إنساني. لكن ماذا قالوا ؟ قالوا ليكلمنا موسي وليس الله”. هؤلاء الذين يعقدون المقارنات، يسمون بهذه الأمور أكثر، لكي يظهرون أنها أعظم بكثير، ومن جهتي أنا أعتبرها أيضًا مستحقة للدهشة، لأنها أعمال الله، وهي دليل علي قوته ، لكن هكذا أيضا الأمور المختصة بنا (السمائية)، هي أوضح وأسمي ومثار لإعجاب أكثر. فهي بالحقيقة عظيمة لسببين، لأنها تتصف بالبهاء، ولأنها أعظم، هي في متناول يد البشر أكثر، وأكثر ألفه ووداعة. هذا ما يقوله في رسالته إلي أهل كورنثوس ” نحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة.. وليس كما كان موسي يضع برقعًا علي وجهه”. هؤلاء العبرانييون لم يستحقوا ما إستحققناه نحن وماذا إستحق هؤلاء؟ إستحقوا رؤية ظلام، وضباب وسمعوا صوتا. بل أنت أيضًا قد سمعت صوتًا، ليس من داخل ضباب، بل من داخل جسد إنساني، لم تضطرب، ولم تنزعج، بل وقفت وتكلمت مع الوسيط. كذلك فإن الظلام يُظهر بأن الله غير مرئي.

وكان تحت أرجله سحب سوداء، في ذلك الوقت خاف موسي أ أيضا ، ، بينما الآن لا أحد يخاف آنذاك إنتظر الشعب أسفل عند سفوح الجبل، بينما نحن لسنا في الأسفل، بل أكثر علو من السماء، بالقرب من الله كأبنائه، وليس كما كان موسي هناك في برية سيناء، لكن هنا نحن في مدينة (الله)، حيث آلاف الملائكة الذين يحتفلون، في هذه المدينة يظهر الفرح والبهجة، بدلاً من الضباب، والظلام، والعاصفة. وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وإلي الله ديان الجميع”. أولئك (اليهود) لم يقتربوا ، بل وقفوا بعيداً ، بل وموسي أيضاً، أما أنتم فقد إقتربتم. وهنا قد أخافهم بما قاله “بل قد أتيتم.. إلي الله ديان الجميع”. إذا فلن يكون ديان اليهود ، أو المؤمنين فقط، بل ديان كل المسكونة. يقول أتيتم إلي أرواح أبرار مكملين (كاملين)”. يقصد هنا نفوس الصالحين أتيتم إلي وسيط العهد الجديد يسوع وإلي دم رش”، أي الدم الذي به تطهرنا . “يتكلم أفضل من هابيل”. لكن لو كان الدم يتكلم، فبالأكثر جدا ، يحيا ذاك الذي ذُبح. وإسمع ماذا يقول “الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها “. كيف يتكلم؟ عندما يدخل إلي ذهن صادق، يثيره ويجعله يتكلم.

“انظروا أن لا تستعفوا من المتكلم” (عب 12: 25).

أي أنظروا أن لا تفقدوا رجاءكم. لأنه إن كان أولئك لم ينجوا إذ استعفوا من المتكلم علي الأرض” من يقصد؟ أعتقد أنه يقصد موسي . ما قاله يعني الآتي: إن كان أولئك (اليهود) الذين رفضوا أن يخضعوا لموسي، الذي أعلن لهم الوصايا الإلهية علي الأرض، لم ينجوا ، فكيف ننجوا نحن الذين رفضنا أن نخضع للذي يُشرع من السماء؟ يتضح هنا أن الذي ظهر لموسي هو إلهنا، وليس إله آخر بل إنه يبدو مخيفا وهو يتكلم من السماء. إذا فهو نفسه إله العهد القديم (الذي ظهر لموسي)، وإله العهد الجديد، لكنه في القديم ظهر مُخيفا. بالطبع هو لا يشير إلي إختلاف الأشخاص، بل يستخدمون أسلوبًا مختلفًا للتقليد الناموسي. من أين يتضح هذا؟ من تلك الكلمات التي أضافها:

إذ قال ” لأنه إن كان أولئك لم ينجوا إذ استعفوا من المتكلم علي الأرض فبالأولي جدا لا ننجو نحن المرتدين عن الذي من السماء” (عب 12: 26).

ماذا إذا ؟ هل إله العهد القديم، ليس هو إله العهد الجديد؟ وكيف يقول “الذي صوته زعزع الأرض؟” بالحقيقة صوت الله آنذاك، الذي أعطي الناموس، قد زعزع الأرض. والآن قد أعطي وعد وقال:

” وأما الآن فقد وعد قائلاً إني مرة أيضا أزلزل لا الأرض فقط بل السماء أيضا. فقوله مرة أيضا يدل علي تغيير الأشياء المتزعزعة كمصنوعة” (عب 12: 27).

وبناء علي ذلك فإن كل الأشياء الموجودة هنا علي الأرض ستتزعزع، وستتحد كلها معا نحو الأفضل، هناك في السماء، لأن هذا هو ما يقصده عندما يتكلم عن هذه الأمور هنا ( علي الأرض). إذًا لماذا تحزن، مادمت لن تبقي في العالم الذي يئن، طالما أنك ستهجر هذا العالم الذي تشعر فيه بالضغوط ؟ فإن كانت الراحة هناك، هي في نهاية العالم، حينئذ كان ينبغي أن لا تحزنوا، وأنتم ناظرين نحو النهاية يقول “لكي تبقي التي لا تتزعزع”. وما هي تلك التي لا تتزعزع؟ هي الأشياء المتعلقة بحياة الدهر الآتي.

3- إذا فلنبذل قصارى جهدنا لأجل هذه الحياة، لكي ننال تلك الأشياء التي لا تتزعزع، لكي نتمتع بتلك الخيرات نعم أترجاكم وأتضرع إليكم، فلنسعى نحو هذا الهدف. ليس هناك أحد يبني بيتًا في مدينة ستسقط، إذا فلتخبرني لو أن أحد قال لك إن هذه المدينة ستسقط بعد سنة واحدة، والمدينة الأخرى لن تسقط أبدًا ، فهل ستبني بيتًا في المدينة التي ستسقط؟ بل إنني أقول أيضًا لا يجب إن تبني في هذا العالم، فبعد قليل سيسقط كل شيء، وسينتهي إلي زوال. لكن لماذا أقول سيسقط كل شيء؟ لأننا قبل السقوط، سنهلك ، وسنعاني أمورا مخيفه، وسنهجر كل الأشياء.

لماذا نبني علي الرمال؟ لنبني علي الصخر، لأنه مهما حدث فإن مثل هذا البيت سيبقي منيعا وثابتًا ، لا شيء يمكن أن يهدمه، لأن هذا المكان إزاء هذه النوعية من الهجوم، يعتبر مكان حصين لا يُقترب منه. تمامًا كما هو الحال في الحياة الحاضرة، فالمكان هنا معرض لكل شيء، زلازل، وحرائق، وهجوم أعداء، بينما نحن لازلنا نعيش فيه، يسلبوننا المسكن، وفي مرات عديدة نهلك نحن أيضا مع المسكن. بل أيضًا عندما يبقي المسكن، فإن مرضاً ما سيخطفنا سريعا، وحتى إن عشنا، فلن يسمح لنا أن نتمتع بالحياة كما تريد. إذا هل هناك لذة، حيث توجد الأمراض، والوشايات والأحقاد و الحسد ، والمكائد ؟ وإن لم يوجد أي شيء من هذه الأشياء التي تُحزننا، فإننا ننزعج، ونحزن عندما لا يكون لنا أبناء. لمن سنترك بيوتنا ، وكل الممتلكات الأخرى، ونهلك تاعبين أنفسنا لأجل الآخرين وكثيرا ما آلت ثروتنا لأعدائنا ، ليس فقط بعدما نرحل، بل وأثناء حياتنا أيضًا. إذا هل يوجد ما هو أكثر تعاسة من أن يعمل البعض لأجل أعدائهم، ولكي يعيش أولئك الأعداء في راحة ، هؤلاء يجمعون لأنفسهم خطايا؟ وهذه النوعية من هذه النماذج موجودة بكثرة في المدن ولا أريد الإشارة إليها، حتى لا أُحزن أولئك الذين ليس لهم نسلا، لأني أستطيع أن أذكر البعض من هؤلاء بأسمائهم، وأن أستعرض عليكم بيوتا كثيرة لهذه النماذج، تلك التي أخذها أعداء أولئك الذين تعبوا لكي يبنوها ، وليس فقط البيوت، بل والعبيد، ومرات كثيرة قسم من الثروة يؤول إلي الإعداء. لأن هذه هي الأمور البشرية.

 أما السماء فلا يوجد بها شيء يُخيف من كل هذا، ولن يأتي العدو ليرث ثروة ذاك الذي مات. لأنه لا يوجد هناك موت، ولا عداءات. هناك توجد خيام القديسين فقط، ولهؤلاء القديسين يوجد ترنم، وفرح ومسرة، لأن المرنم يقول ” صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين “. وهذه المسرة والفرح هما أمور أبدية وليس لها نهاية. لا تنقضي بمرور الزمن، وهؤلاء القديسون الذين ربحوا هذه الأمور، لا ينالوها كمكافأة، بل يقفوا بإستمرار بزهو وإفتخار ، لأنه لا يوجد هناك شيء فان أو قابل للفساد، بل كل شيء خالد وأبدي. إذًا لننفق أموالنا في هذا المسكن، الذي لا نحتاج في بناءه إلي فنيين ولا عمال هذه النوعية من المنازل، تبنيها أيادي الفقراء والعرج والعميان والمعاقين هؤلاء يبنون تلك المنازل. ولا تتشكك في أن هؤلاء يصرحوا لنا بالدخول إلي ملكوت السموات، ويعطون لنا الجرأة للوقوف أمام الله.

4- إن عمل الرحمة هو بالحقيقية عمل مميز، ويُمجد أولئك الذين يمارسونه لأنه محبب لدي الله ، وكائن عنده، ومن السهل أن يطلب من يمارسه نعمة لمن يريد ، يكفي أنه لا يُدان، فهو يُدان عندما يمارسه بأموال ليست له، بل مسلوبة من آخرين أما عندما يكون بنقاوة، فإنه يعطي داله كبيرة لأولئك الذين يقدمونه إلي الله ( في شخص الفقير). إن قوتها (أي عمل الرحمة) عظيمة للغاية، طالما أنها تبتهل لأجل هؤلاء الذين يُقاومون إرادة الله، ولأولئك الذين إرتكبوا الخطية. هذا الإحسان يكسر القيود ، يُبدد الظلام، يُطفئ النار، يُميت الدود (الذي لا يموت) يُبعد صرير الأسنان، وتُفتح أبواب السماء بكل أمان لعمل الرحمة هذا، وتماما كما يحدث حين تأتي الملكة إلي القصر، لا يجرؤ أحد من الحراس أن يسألها ، من هي، ومن أين أتت بل الجميع يستقبلونها علي الفور، هكذا أيضا عمل الرحمة، لأنه بالحقيقة هو ملك، ويجعل الناس متمثلين بالله. لأنه يقول “فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضا رحيم . . عمل الرحمة منطلق ورشيق وخفيف الحركة، له أجنحة من ذهب. يقول المرنم ” فأجنحة حمامة مغشاه بفضة وريشها بصفوة الذهب. أي أنه تماما مثل حمامة ذهبية تطير ولها عينان وديعتان، ونظرة هادئة. لا يوجد شيء أفضل من هذه العين جميل هو الطاووس، لكنه أقل جمالاً مقارنة بهذه الحمامة التي تستحق أن تنظر إلي أعلي بصفة دائمة، ومحاطة بمجد إلهي كبير، وعذراء هي التي تزينها بأجنحة ذهبية ولها وجه أبيض وهادئ، هي ذي أجنحة وخفيفة، وتقف بجوار العرش الملكي. عندما تدان، نجدها تطير فجأة، وتتقدم أمامنا، وتخطفنا من الجحيم، وتطوينا تحت جناحيها، هذا الإحسان هو ما يريده الله وليست الذبائح، لقد تكلم الرسول بولس كثيرا عن عمل الرحمة، وقد أحب هذا العمل كثيراً. يقول المرنم ” الرب يحفظ الغرباء يعضد اليتيم والأرملة. الله يحب أن يُدعي بهذه الصفة، يقول داود النبي “الرب رحيم ورؤف طويل الروح وكثير الرحمة” ٦٤٣ ، وأيضا يقول ” ليرتفع علي كل الأرض مجدك”. هذه الرحمة الإلهية أنقذت الجنس البشري، لأنه إن لم يتراءف الله علينا، لهلك كل شيء. وهذه الرحمة قد صالحتنا مع الله، بالرغم من أننا كنا أعداء، وصارت سببًا في خيرات كثيرة، وجعلت ابن الله يصير عبدا ويتضع. أيها الأحباء فلنحاول أن نقتضي بها (الرحمة) ، والتي بواسطتها خلصنا، ولنحبها، ولنفضلها علي المال ولنحمل نفسا ،رحيمة، دون رغبة في المال.

لا شي يمكن أن يوصف به المسيحي، أكثر من عمل الرحمة، أيضًا لا شئ يدهش غير المؤمنين والآخرين بهذا القدر الكبير، إلا عندما نمارس عمل الرحمة. كذلك فإننا كثيراً ما نترجى أن ننال هذه الرحمة، ونقول لله كل يوم ” كرحمتك أذكرني أنت من أجل جودك يارب .. فلنبدأ نحن أولاً ، أو من الأفضل أن نقول، لا نبدأ أولاً ، لأن الله أظهر لنا رحمته أولاً لكن أيها الأحباء حتى لو كنا ثانيةً، فلنتبع خطواته لأنه لو كان الناس يُقدرون الإنسان الرحوم، حتى وإن كان يرتكب خطايا لا حصر لها، فبالأكثر جدا الله إسمع النبي الذي يقول “أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله. هكذا ينبغي أن نصبر، لنصير مثل الزيتونة، لنكن محملين بثمار الوصايا من كل جهة، لأنه ليس كافيا أن نكون مثل الزيتونة، بل يجب أن نكون محملين بالثمار بالحقيقة يوجد البعض ممن يعطون لكنهم يعطون قليلاً ، أو يقدمون مرة واحدة طوال العام ، أو مرة في كل أسبوع، أو يمنحون ما يجدونه بالمصادفة أمامهم. هؤلاء هم بالطبع شجرة زيتون، ولكن ليست مثمرة، بل جافة. أي لأنهم يصنعون رحمة ، هم شجرة زيتون، ولكن لأنهم لا يفعلون ذلك بمحبة فهم ليسوا شجر زيتون محمل بالثمار. لكن ليتنا نحن نكون شجر زيتون مثمراً.

 وما قلته مرات عديدة، هذا أكرره الآن أيضا إن عمل الرحمة الحقيقي غير مرتبط بحجم التقدمة، بل بنية ذاك الذي يمارس عمل الرحمة تعرفون ماذا صنعت الأرملة (صاحبة الفلسين)، ومن المفيد دوماً أن نسوق هذا النموذج. وحتى لا يفقد الفقير رجاءه بسبب فقره، فلينظر إلي هذه الأرملة التي قدمت فلسين وقدم البعض شعر رؤوسهم، عندما كان الهيكل في طور البناء، لكن ولا هؤلاء كانوا قلقين. أما إذا كانوا يمتلكون ذهباً ، وقدموا شعر رؤوسهم، لأصبحوا ملعونين، لكن طالما كانوا يملكون هذا فقط (أي شعر رؤوسهم) فهذا قد قدموه، وصاروا مقبولين. ومن أجل هذا فإن قايين أيضا قد أدين، لا لأن تقدمته كانت أسوأ، بل لأنه قدم أسوأ ما عنده، يقول الكتاب “ملعون الماكر الذي يوجد في قطيعه ذكر وينذر ويذبح للسيد عائباً “. لم يقل فقط من يملك، لكنه قال مَنْ يملك ويحزن أن يُقدم. إذا إن كان أحد لا يملك شيئًا فهو برئ من الإدانة، بل وله أجر. لأنه ما هو الشئ الأكثر تفاهة من فلسين ولا قيمة له من الشعر؟ أو ما هو الأكثر بساطة من سميذ جاف؟ لكن هذه الأشياء قد قُبلت مثلها مثل تقدمة العجول والذهب. “لأنه إن كان النشاط موجودًا فهو مقبول علي حسب ما للإنسان لا علي حسب ما ليس له “. يقول “بحسب ما تمتلك يديك، يجب أن تصنع رحمة”.

من أجل هذا أترجاكم أن نعطي للفقراء بنية خالصة، وحتى وإن كان قليلاً، سينال نفس الأجر مع أولئك الذين سيعطون الكثير ، أو من الأفضل أن نقول أكثر من أولئك الذين أودعوا أموالاً لا حصر لها. إن صنعنا هذا فإننا سنربح الكنوز الإلهية التي لا توصف، إن لم نكن مستمعين فقط، بل عاملين أيضا، إن لم نمتدح، بل نظهر إحسانًا في وقته. وليتنا جميعًا ننال هذه الخيرات بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة، الآن وكل أوان وإلي دهر الدهور أمين.

العظة الثالثة والثلاثون (عب12: 28-29)

” لذلك ونحن قابلون ملكوتا لا يتزعزع ليكن عندنا شكر به نخدم الله خدمة مرضية بخشوع وتقوي لأن إلهنا نار اكله ” (عب 12: 28-29).

1. هذا ما يقوله في موضع آخر “لأن الأمور المنظورة مؤقتة أما غير المنظورة فهي أبدية”، وهو بهذا يُعزينا في الأمور المحزنة التي تحدث لنا في هذه الحياة، هذا إذا ما يفعله هنا أيضا، فيقول “ليكن عندنا شكر ، أي لنشكر الله، ولنبقي ثابتين في إيماننا. لأنه ليس فقط نحن مديونون بألا نفقد صبرنا بسبب كل ما يحدث لنا في هذه الحياة، بل يجب أيضًا أن نشكر الله جدا ، من أجل تلك الخيرات التي سيهبنا إياها في المستقبل.

يقول “ليكن عندنا شكر به نخدم الله خدمة مرضية بخشوع وتقوي”، أي إنك ستخدم الله خدمة مرضية تليق به، عندما تشكره لأجل كل شيء. يقول الرسول بولس “افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة ، لأن هذا العمل الذي يعمله المرء بدمدمة يتمزق والدمدمة تفقده الأجر، مثل الأسرائليين، لأنكم تعرفون كم عُوقبوا بسبب دمدمتهم لهذا يقول “بلا دمدمة”. وبناء علي ذلك فمن غير الممكن أن نخدم الله خدمة مرضية، إن لم نشكره علي كل شيء، علي التجارب، وعلي الراحة بخشوع وتقوي” أي لا تقل شيئًا بعدم تبصر أو بطريقة طائشة، لا تقل شيئًا بعدم حياء ، بل لنجعل نفوسنا متضعه، لكي نكون موقرين، فهذا ما يقصده عندما يقول “بخشوع وتقوي”.

تفسير رسالة العبرانيين 11 رسالة العبرانيين 12 تفسير رسالة العبرانيين تفسير العهد الجديد تفسير رسالة العبرانيين 13
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير عبرانيين 12 تفاسير رسالة العبرانيين تفاسير العهد الجديد
 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى