تفسير رسالة العبرانيين أصحاح 11 للقديس يوحنا ذهبي الفم
الأصحاح الحادي عشر
العظة الحادية والعشرون (عب11: 1-2)
” وأما الإيمان فهو الثقة بما يرجي والإيقان بأمور لا تري”(عب 11: 1).
يا للعجب! يا لدقة المعني الذي ظهر في قوله “الإيقان بأمور لا تُري”، لأن كلمة “الإيقان” تُستخدم للتعبير عن أمور واضحة كل الوضوح. إذا فهو يقول إن الإيمان هو الوسيلة التي بها نري الأمور غير المرئية، ويجعلها متساوية مع الأمور المرئية من حيث درجة التأكد منها فلا يمكن لأحد إلا أن يؤمن بما يري كما أنه لا يمكن أن يؤمن بما لا يري إن لم يكن لديه تأكيدًا شديد الوضوح عن الأمور غير المرئية أكثر منه للأمور المرئية. لأن الأمور المرجوة ليس لها وجودًا ماديًا، غير أن الإيمان يكسبها وجودا ، الإيمان يُعطي لهذه الأمور كيان، ومن الأفضل أن نقول، بل هذا هو جوهر الأمور (المرجوة). علي سبيل المثال، فإن القيامة (الأخيرة) لم تحدث بعد ، ولم توجد ككيان، لكن الرجاء يضعها داخل نفوسنا. هذا هو معني ” الثقة بما يرجي . ومادام الإيمان يجعل الأمور غير المرئية مؤكدة ، فلماذا تريدون أن ترونها ، حتى أنكم بهذا تسقطون من الإيمان، رغم كونكم أبرار، طالما أن البار بالإيمان يحيا؟ إلا إنكم إذا أردتم أن ترون هذه الأمور فلن تكونوا بعد مؤمنين اجتهدوا وجاهدوا ، هكذا يقول، وأنا أيضًا أقول ذلك، لأن هذا هو “الإيمان”، أن لا يقتصر رجاؤكم علي ما يُري هنا.
3- هذا الكلام قيل للعبرانيين، لكنه يُمثل حث وإرشاد للكثيرين من المجتمعين هنا. كيف وبأي طريقة ؟ إنه يتوجه إلي ضعاف وصغار النفوس، لأنه عندما يري هؤلاء، أن الأشرار يهنأون، أما هم فيكابدون مصاعب ويحيون في إضطراب وضيق وغضب، فأنهم يشعرون بالألم والأسى ويتمنون عقاب الأشرار والإنتقام منهم، وينتظرون المجازاة عن أتعابهم لأنه بعد قليل جدا سيأتي الآتي ولا يُبطئ” هكذا قال ق. بولس. ونحن أيضا نقول الكلام عينه للمتوانين، وعلي أيه حال فهناك جحيم، وسيأتي الرب يسوع، فالقيامة قائمة أمام أعيننا. من أين يتضح هذا؟ ألم أتكلم من الأنبياء، فكلامي هذا لا يُوجه فقط إلي المسيحيين، بل إن وجد شخص أممي، فسيكون لدي شجاعة كافية لأبشره ، وسأقدم له البراهين وسأعلمه، كيف يصغي لأمور كثيرة سبق وقالها المسيح، فإن لم تكن قد تحققت، فلا تؤمن بها أيضًا (وأعني بها الأمور الخاصة بالدهر الآتي)، لكن إن كانت قد تحققت كلها، فلماذا تتشكك في الأمور الباقية؟ وبالرغم من أنه كان من الصعوبة بمكان أن نؤمن بتلك الأمور بدون أن يتحقق منها شيئًا، إلا أن هذا أفضل من أن لا نؤمن بها وقد تحقق كل شيء. وسأجعل هذا الأمر واضحا بمثال.
لقد قال المسيح إن أورشليم ستهدم، وستدمر ، علي نحو لم يحدث من قبل، وأنه لن يُعاد بناؤها بعد، وقد تحققت نبؤته. قال إن حزن وضيق عظيم سيحدث، وقد حدث. قال إن البشارة ستمتد وتنتشر ، تماما مثل حبة الخردل التي تزرع، ونحن نري أن البشارة تنتشر يومًا بعد يوم في كل المسكونة. قال إن أولئك الذين سيتركون أباءهم، أو أمهاتهم، أو أخواتهم، سيكون لهم آباء وأمهات وهذا نراه وقد صار حقيقة. قال” في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم . أي لن يغلبكم أحد ، وهذا ما يؤكده الواقع. قال إن أبواب الجحيم لن تقوي علي الكنيسة”، فعلي الرغم من الإضطهاد الذي وقع علي الكنيسة، إلا أنه لم يستطيع أحد أن يمحو البشارة، وهذا ما تؤكده هذه النبوءة، وخبرة الوقائع والأحداث أيضًا. رغم أن هذه الأقوال كانت تبدو آنذاك غير مصدقة علي الإطلاق. لماذا؟ لأنها كانت مجرد أقوال، ولم تُقَدَم أية براهين أو دلائل علي هذه الأقوال. إلا أنها قد صارت الآن موضع تصديق كامل وتام.
قال “ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهي”، هكذا فنحن نقترب الآن من المنتهي. لأن البشارة بالإنجيل قد بلغت الجزء الأكبر من المسكونة : إذا فالمنتهي قد إقترب فلنرتعد أيها الأحباء، ماذا إذا ؟ هل تهتم بنهاية العالم؟ بالطبع هذه النهاية أيضًا تقترب، إلا أن حياة كل منا، ونهايته، هي أكثر إقتراباً. لأن المرنم يقول “أيام سنيننا هي سبعون سنة وإن كانت مع القوة فثمانون ” يوم الدينونة يقترب ، وهكذا فلنخف. “الأخ لن يفدي الإنسان فداءً ولا يعطي الله كفارة عنه ” سنندم هناك علي أمور كثيرة، لكن بعد الموت لن يستطيع أحد أن يعترف لينال مغفرة الخطايا. لهذا قال تتقدم أمام وجهه بالإعتراف بخطايانا ” ، أي في حضوره، لأن كل ما سنفعله هنا له قوة، و فاعلية، بينما هناك لا يحمل أي قوة و لن يحدث شيئًا.
أخبرني لو أن شخصاً وضعنا في أتون نار متقد لوقت قليل، ألا نفعل كل شيء حتى ننجو منه، حتى وإن إحتاج الأمر لدفع أموال أو حتى قبولنا لأن نصير عبيدا؟ كم من الناس الذين أصيبوا بأمراض خطيرة، وفضلوا أن يعطوا كل شيء لكي ينالوا الشفاء، طالما كان هناك إمكانية للإختيار. فإن كنا نشعر بالضيق الشديد جدا إذا أصابنا مرض في هذه الحياة، فماذا سنفعل في الدهر الآتي، إن لم نكن قد قدمنا توبة ونحن هنا علي الأرض؟ كم نحن ممتلئون بهذا القدر الكبير من الشرور، ولا نشعر بهذا ؟ الواحد ينهش الآخر، نلعن بعضنا البعض، والواحد يظلم الآخر، ويتهمه ويشي به فآراء الآخرين تجرحنا ولاحظ الأمر المرعب، عندما يريد شخص أن يحط من كرامة قريبه، يقول إن فلانًا قال عن ذاك، شيئًا شائنا ، ويتصنع التقوى قائلا يا إلهي سامحني، لا تحسب لي هذه الخطية، أنا مدين بأن أقول ما سمعته. لماذا تقوله عندئذ، إن كنت لا تصدق ما تقول؟ لماذا تجعل هذا الكلام موضع تصديق بواسطة نشر هذه الشائعة التي تتعلق به؟ لماذا تنقل أو تنشر هذا الكلام، طالما أنه ليس حقيقيا ؟ أ أنت تشك في مدي صحة هذا الكلام، ثم بعد ذلك تترجي الله ألا يدينك؟ إذا لا تنشر شائعات، بل أصمت وستتخلص من كل خوف.
4- لكنني لا أعرف من أين سيطر هذا المرض علي البشر، لقد صرنا سليطي اللسان ونهوى الثرثرة، ولا نحتفظ بشيء داخل نفوسنا. إسمع كلام حكيم ينصح ويقول : “إن سمعت كلاما فليمت عندك ثق فإنه لا يشفيك”، وأيضًا “الأحمق يتمخض بالكلمة مخاض الوالدة بالجنين” نحن جاهزون لتوجيه الإتهامات ومستعدون لتوجيه الإدانات. إن إطلاق الشائعات سيكون كافيا لإدانتنا ، وذهابنا إلي الجحيم، وحتى وإن كنا لن نسقط في أي خطية أخري. هذه الخطية يمكن أن تحيطنا بشرور لا حصر لها. ولكي تعرف ذلك بدقة، إسمع النبي الذي يقول تجلس تتكلم علي أخيك “. لكنك تقول لست أنا ، بل ذاك، وبالطبع أنت الذي تفعل ذلك، لأنه إن كنت أنت لم تتكلم به، ما كان الآخر قد سمعه، لكن إن حدث وسمعه ، فستكون أنت سبب الخطية. يجب علينا أن نغطي ونخفي نقائص شركائنا في الإنسانية، فهل يصح لك أن تُشهر به بسبب هذه النقائص بحجة حب الخير؟ أنك بتشهيرك به لست فقط ،مدان، بل ثرثارًا، وغبيًا، وأحمقا. أي رعب هذا ! تُسبب لنفسك الخجل ومع ذلك لا تشعر. لاحظ كم الشرور التي تأتي جراء تلك الشائعات: تُغضب الله، تسبب ضيقاً للقريب تجعل من نفسك مسئولاً عن الجحيم (الذي ستؤول إليه). ألم تسمع الرسول بولس الذي يتكلم عن النساء الأرامل؟ يقول ” يتعلمن أن يكن بطالات يطفن في البيوت وليس بطالات فقط. بل مهذارات أيضًا وفضوليات يتكلمن بما لا يجب . وعندما تصدق ما يُقال ضد أخيك، فلا ينبغي أيضاً أن تشيع ما يُقال بل بالحري يجب ألا تصدقه.
لكنك في كل موضع، عليك أن تفكر في نفسك وتخشي ربما تدان من الله. لتخف ربما تُدان بسبب ثرثرتك، كذلك فإنك لا تستطيع هنا (في الحياة الحاضرة)، أن تقول إن الله لن يدين بسبب الثرثرة هذا بحد ذاته يُعد ثرثرة أن تروج الشائعات (عن قريبك) ، فلماذا تُزيد من حجم الشر؟ هذا الأمر فيه من القوة ما يكفي لهلاكنا.
لهذا قال المسيح لا تدينوا لكي تدانوا .. إلا أننا لا نتصرف بتعقل علي الرغم من كلام المسيح ضد الفريسي الذي قال لستُ مثل هذا العشار”، وقد أُدين برغم أنه لم يسبق له وسمع شيئًا في حق ذلك العشار. فإن كان هذا الفريسي الذي تكلم هكذا في حق غيره، دون أن يسمع عنه أي شيء، قد دين، فإن هؤلاء الذين يتكلمون بالكذب وينشرون تلك الأكاذيب في كل موضع، وهم أنفسهم لا يصدقونها ، يشبهون نساء ثرثارات، أي رعب سيصيب هؤلاء؟ وأي معاناة ستلحق بهم؟ إذا فلنضع علي أفواهنا باباً وقفلاً، لأن شرورًا لا حصر لها، تسببها الثرثرة، بيوت خُربت، صداقات تحطمت وشرور كثيرة جدا قد حدثت أيها الإنسان لماذا تنشغل وبفضول، بأمور قريبك؟ وإن كنت ثرثاراً وعندك هذه النقيصة، فعليك أن تتكلم بما يخصك أمام الله، وهكذا لن يكون هذا التوجه عيبا بل ميزة. تكلم مع أصدقائك عما يخصك فقط، الأصدقاء المقربين والأبرار الذين تستطيع أن تكلمهم بجرأة، لكي يُصَلُّون من أجل غفران خطاياك. أما إن تكلمت عن خطايا الآخرين، فليس فقط لن تنتفع شيئًا ، وليس فقط لن تربح شيئًا، بل وتكون قد خسرت الكثير أيضًا. لكن إن إعترفت بخطاياك للرب، فستنال أجرًا كبيرًا ، لأن المرنم يقول ” قلت أعترف للرب بذنبي وأنت رفعت أثام خطيتي. أتريد أن تدين؟ دن ما يتعلق بك، فإن حكمت علي نفسك، فلن يدينك أحد ، وفي المقابل سيدينك إن لم تحكم علي نفسك، سيدينك إن لم تلُم نفسك، سيدينك إن لم تُلجم فمك. أرأيت شخصا يغضب ويثور، أو يصنع شيئًا آخر غير معقول ؟ فلتتذكر علي الفور أمورك أنت أيضًا، وعندئذ لا يمكنك أيضا أن تدينه بشكل حاد، بل ستحرر نفسك من ثقل الخطايا التي ارتكبها.
إن رتبنا حياتنا هكذا إن إعتنينا بها إن حرصنا على إدانة أنفسنا ، فيمكن ألا نرتكب خطايا كثيرة، وفي المقابل سنصنع أمور حسنة كثيرة، وسنكون رحماء ومتواضعين وسننال كل الخيرات التي وعد بها الله الذين يحبونه، والتي ليتنا جميعا ننالها بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة، الآن وكل أوان وإلي دهر الدهور آمين.
العظة الثانية والعشرون (عب11: 3-6)
” بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة حتى لم يتكون ما يري مما هو ظاهر. بالإيمان قدم هابيل الله ذبيحة أفضل من قايين فيه شهد له أنه بار إذ شهد الله لقرابينه. وبه وإن مات يتكلم بعد ” (عب 11: 3-4).
1- الإيمان يحتاج إلي عطاء وسخاء ونفس متجددة ونضرة، حتى نتجاوز كل الأمور المحسوسة، ونتغلب علي ضعف الأفكار الإنسانية. لأنه من غير الممكن أن يصير المرء مؤمنًا، إن لم يسمو بنفسه فوق الأمر المعتاد. ولأن نفوس العبرانيين أيضاً كانت ضعيفة، فقد بدأ كلامه بالإيمان. وبسبب الظروف، أي الآلام والضيقات فقد أصيبوا بالحيرة وصغر النفس والإضطراب. في البداية شجعهم، فبدأ بهؤلاء أنفسهم، قائلاً: “تذكروا الأيام السالفة”، ثم استشهد بقول الكتاب: “والـبـار بإيمانه يحيا”، وبعد ذلك استعرض بعض الأفكار قائلاً “أما الإيمان فهو الثقة بما يرجي والإيقان بأمور لا تري . وقد أخذ يُشجعهم أيضًا من خلال التحدث عن الأجداد والرجال العظماء، أولئك الرجال المدهشين وهو يبدو كمن يقول: إن كانت الخيرات أمامنا ، فالجميع سيخلص بالإيمان، وبالأكثر جدا نحن. لأنه حين تجد النفس شخصاً يُشاركها إهتماماتها فإنها تستريح وتهدأ. هذا ما يمكن أن نراه يحدث في حالة الإيمان، وفي حالة الضيقة، تماما كما يقول في موضع آخر لنتعزي بينكم بالإيمان الذي فينا جميعا إيمانكم وإيماني . الجنس البشري غير مؤمن إلي حد كبير جدًا ، وليس له ثقة في نفسه، فتجده يتحير في أزماته، لأنه يعطي أهمية كبرى لأراء الآخرين.
إذا ماذا يفعل القديس بولس؟ إنه يشجعهم مبتدئا بالأمور السالفة، وما قبلها، أي بالمفهوم المقبول من الجميع لأن الإيمان أدانوه آنذاك كشيء لم يُبرهن عليه أو لا يمكن إثباته، في الغالب خداع ، ومن أجل هذا أثبت أن الأمور العظيمة تتحقق بالإيمان، وليس بالأفكار العقلية المجردة، لكن أخبرني كيف برهن علي هذا الأمر؟
بقوله ” بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمه الله حتى لم يتكون ما يري مما هو ظاهر” (عب 11: 3).
يقول إنه من الواضح أن الله خلق كل الموجودات من العدم، ومن تلك التي لم تكن موجودة خلق الموجودات من أين يظهر أن هذا العالم قد خلقه الله بكلمته؟ لأن الفكر لا يُوحي بشيء مثل هذا ، بل بالعكس، فهذا الذي لم نكن نراه، قد أتي مما نراه ولهذا فإن الفلاسفة قالوا إن لا شيء قد أتي من العدم، ولم ينسبوا شيء للإيمان، لكنهم أدركوا أيضًا أنه حين يحدث ويعبروا عن فكرة هامة وعظيمة، فإنهم يرجعونها للإيمان علي سبيل المثال يقولون إن الله لا بداية له، وغير مولود علي الرغم من أن الفكر لا يفترض هذا ، بل يفترض العكس.
لكن لاحظ حماقتهم الكبيرة. يقولون إن الله لا بداية له، الأمر الذي هو مثار للإعجاب الكبير، أكثر من فكرة الخلق من العدم لأنه من الصعوبة بمكان أن يقول المرء إن الله بلا بداية، وأنه غير مولود، وأنه لم يولد لا من ذاته، ولا من آخر، ولا يؤمن في الوقت ذاته بأن الله خلق الموجودات من العدم. كذلك كثيرة هي الأشياء التي تستحق التصديق ( في هذه الحياة الحاضرة علي سبيل المثال، أن الخليقة أخذت بدايتها من الله ، وأنها خُلقت بشكل تام وكامل. وعلي الجانب الآخر من حيث صفات الله مثل: “الذاتي”، “وغير المولود”، “والذي لا بداية له”، وغير الزمني”، أخبرني ألا يحتاج هذا إلي إيمان؟ لكن القديس بولس لم يتكلم عما هو أسمي بكثير، بل تكلم بما هو أقرب إلي الفهم قائلاً ” بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله . إذا كيف تقول أنه قد صار من الواضح أن الله خلق كل شيء بكلمته ؟ لأن المنطق لا يُملي هذا أو يقضي بهذا، ولا أحد كان حاضراً حين تم كل هذا. لقد صار واضحا بالإيمان، لأن الفهم هو عمل الإيمان. ولهذا قال هكذا “بالإيمان نفهم”. أخبرني ماذا نفهم بالإيمان؟ نفهم أن ما نراه، قد صار مما لم نراه، لأن هذا هو الإيمان. إذا بعدما قال ما هو معروف، فإنه ينقل حديثه بعد ذلك إلي أشخاص، خاصة وأن قيمة وكرامة الإنسان الممجد، هي أسمي من قيمة المسكونة بأسرها. هذا إذا ما قاله فيما بعد بأسلوب مبهم، بعدما قارن هذا بمائه أو مائتين شخص ورأي بعد ذلك أن الرقم صغير من حيث القيمة، وعندئذ قال “وهم لم يكن العالم مستحقا لهم”.
” بالإيمان قدم هابيل ذبيحة أفضل من قايين” (عب 11: 4).
لاحظ من يذكر أولاً، ذاك الذي فعل به أخاه شرًا ، بالرغم من أنه لم يظلمه في شيء، ومع ذلك فقد قتله حسدًا. بسبب أنه وجد نعمة في عيني الله. وبناء علي ذلك فإن هذا الأمر يعد مثيل لآلامكم لأنه يقول “لأنكم تألمتم أنتم أيضا من أهل عشيرتكم ” ، في نفس الوقت يُظهر أن هؤلاء أيضًا قد وشي بهم أصبحوا هدفًا للهجوم والحقد عليهم. لقد قدم هابيل الإكرام لله ثم مات، لأنه قد قدم الإكرام وهو لم يكن قد نال القيامة ،بعد ، ورغبة هابيل كانت واضحة كل الوضوح وأيضاً ما فعله هو نفسه كان واضحاً. لكن المجازاة من الله لم تكن قد أعطيت بعد. يقول ذبيحة أفضل وهو هنا يدعوها بالذبيحة المكرمة، والبهية، والضرورية. ولا يمكننا أن نقول إن الله لم يقبلها ، بالطبع قد قبلها ، وقال لقايين ” إلي قرابينك لن أنظر”.
وبناء علي ذلك فإن هابيل قدم لله قرابين حسنة وبإستقامة، لكن أي مكافأة أخذ مقابل هذه القرابين؟ ذُبح بيد أخيه والعقوبة التي كان ينتظرها الأب (آدم) ، بسبب الخطية، هذه قد قبلها الإبن البكر (قايين)، وقد تألم وعاني بشكل مخيف، إذ كان هو أول من ذبح أخيه. وهذه الأمور قد فعلها دون أن يُطلع عليها أحد. حقا هل أطلع أحد علي هذه الأمور ، وهل هكذا قد مجد الله؟ وهل هكذا قد أكرم أباه وأمه؟ الواقع أنه قد أساء إلى الله رغم إحساناته، وقد أطلع أخاه، ولكنه قد أهانه أيضًا. وماذا عاني ذاك الذي كان مستحقا لتلك الكرامة؟ لقد قتل. ثم بعد ذلك يذكر مدحاً آخراً، قائلاً بالإيمان قدم هابيل الله ذبيحة أفضل من قايين فيه شهد له أنه بار إذ شهد الله لقرابينه وبه وإن مات يتكلم بعد .. وما هي الطريقة التي شهد بها له بأنه بار؟ قيل لأنه نزلت نار من السماء وأخذت الذبيحة المقدمة، لأن الكتاب يقول “تنظر الرب إلي هابيل وقرابينه”. فالله شهد له بأنه بار بالأقوال والأفعال، ورأي أنه قد قتل لأجله، ولم يدفع عنه القتل، بل تركه بلا دفاع.
2- غير أن نفس الأمر لا يحدث معكم. كيف يحدث نفس الأمر طالما كان لديكم الأنبياء، والنماذج (البارة) ، والمرشدين الكثيرين، والآيات، والمعجزات التي حدثت ؟ فقد كان هذا بالحق هو الإيمان لأنه أي معجزات رآها ذاك (أي هابيل) ، حتى آمن بأنه سيجازي عن أعماله الصالحة؟ ألم يُفضل العيش بالفضيلة مدفوعا بالإيمان فقط؟ ماذا يعني بقوله “وبه وإن مات يتكلم بعد؟” ولكي لا يصيبهم باليأس أو الإحباط التام، يُظهر أن هابيل تمتع بجزء من المجازاة. كيف؟ لقد نال مدحا عظيمًا جدا، لأن هذا هو ما أشار إليه قائلا “يتكلم بعد”، أي أن قايين قتله، لكنه لم يقتل معه المجد والكرامة، فهو لم يمت إذا ولا أنتم أيضًا ستموتون. لأنه علي قدر ما تكون الآلام عظيمة، بقدر ما يكون المجد عظيم. إذا كيف يتكلم أيضًا بعد الآن؟ هذا دليل علي أنه يحيا، وإنه ممجد أكثر من الجميع، وموضع إعجاب وتطويب أكثر من الكل، لأن من يحث الآخرين علي أن يكونوا أبراراً ، فهو يتكلم عن هابيل. لأنه لا يوجد حديث يمكن أن يُحقق أشياء عظيمة مثل الحديث عن ألم هابيل. فكما أننا نتحدث عن السماء، بكل ما هو ظاهر فيها ، هكذا هابيل، فهو يتكلم عندما نتذكره. ما كان له ان يصير موضع إعجاب إن كان قد أخبر عن نفسه أو عرف نفسه، أن هذه الأحداث التي حدثت لم تصير هكذا بدون عقاب على الجريمة، ولا هكذا تمر مروراً عابراً.
” بالإيمان نقل أخنوخ لكي لا يري الموت ولم يوجد لأن الله نقله. إذا قبل نقله شهد له بأنه قد أرضي الله . ولكن بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه لأنه يجب علي الذي يأتي إلي الله أن يؤمن بأنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه ” (عب 11: 5، 6).
وهذا (أي أخنوخ)، أظهر إيمانًا أعظم من هابيل، تُري لماذا؟ لأنه وإن كان قد عاش بعد هابيل، إلا إن ما حدث مع هابيل كان يمكن أن يكون كافيا ليُبعده عن الله. كيف؟ لأن الله قد علم مسبقا أنه سيموت، إذ قال لقايين ” عند الباب خطية رابضة وإليك إشتياقها ” . وقد أعطي هابيل الإكرام لله، لكن الله لم ينقذه، بل هذا أيضا لم يجعله يغير تفكيره. هل قال لنفسه ما الحاجة للمتاعب والأخطار؟ فهابيل قدم الإكرام لله، ولم يساعده الله لأنه ما هي منفعة هابيل الذي مات بعقاب من أخيه؟ وأي فائدة جناها من وراء هذا؟ لنفترض أن قايين عوقب عقابًا شديدًا أو مُخيفًا. فما . هي منفعة ذاك الذي قتل؟ لا شيء، فلا هو قد قال هذا ، ولا فكر فيه، لكنه بعدما حدث له كل ذلك آمن بأن الله موجود ، وهو علي كل حال يجازي أيضًا. وإن كانوا بالطبع لم يعرفوا أي شيء بعد عن القيامة. إذا فإن كان أولئك الذين لم يعرفوا شيئًا مطلقا عن القيامة، بل ورأوا متناقضات تحدث في هذه الحياة، وعلي الرغم من ذلك فقد أرضوا الله كثيرا ، فكم بالأكثر ينبغي علينا نحن؟ لأن أولئك لم يعرفوا شيئًا عن القيامة، ولم يكن أمامهم نماذج لكي يتمثلوا بها. إذا فهذا الأمر تحديدا هو الذي جعله يُرضي الله إن الله يُجزل العطاء. من أين يتضح هذا؟ خاصة وإنه لم يعوض هابيل بعد بالمكافآت. وإذا كان هابيل قد إعتمد علي التفكير فقط لكان الفكر يُملي عليك أمور أخرى، أما الإيمان فإنه يُملي عليك عكس ما يراه الفكر. إذا فأنتم أيضًا، إن رأيتم أنكم لم تنالوا شيئًا هنا في الحياة ،الحاضرة، لا تضطربوا. لكن كيف نقل أخنوخ بسبب إيمانه؟ إن أرضاء الله كان هو سبب نقله، إذ بالإيمان يتحقق هدفه. فكيف أرضاه بالرغم من إنه لم يكن قد عرف أنه سيجازي؟ بدون الإيمان لا يمكن لأحد أن يُرضي الله. كيف؟ بمعني لو أن شخصا يؤمن بأن الله موجود ويُجازي، فإنه سينال المجازاة. من هنا إذا يأتي الإرضاء. لأنه يجب علي مَنْ يأتي إلي الله أن يؤمن أنه موجود ، ولا يفحص عن ماهيته. ومن حيث أن الله موجود ، فإن إدراك ذلك يحتاج إلي إيمان وليس إلي أفكار وهل من الممكن أن يُدرك أحد بفكره ماهية الله ؟ فإن كان من حيث أنه يُجزل العطاء يحتاج الأمر إلي إيمان، وليس إلي أفكار ، إذا كيف من الممكن للمرء أن يدرك جوهر الله، بأفكاره؟ لأنه أي فكر يستطيع أن يدرك هذه الأمور؟ كذلك فإن البعض يقول إن الكائنات أتت إلي الوجود بشكل ذاتي. أرأيت أنه إن لم نؤمن بكل شيء، ليس فقط بما يتعلق بالمجازاة، بل بأن الله موجود ، فإن كل البناء الإيماني سينهار؟
كتيرون يريدون أن يعرفوا این نُقل اخنوخ ولماذا نُقل ولماذا لم يمت، سواء هو أو إيليا ، وإذا كانا يعيشان، فكيف يعيشان، وبأي شكل. لكن ليس هناك حاجة للبحث في ذلك لأنه من حيث أن اخنوخ نُقل، وأن إيليا أصعد، فهذا قد أخبرت به الأسفار المقدسة، لكن أين هما وكيف يعيشا فالأسفار لم تضف شيئا، لأنها لم تتكلم سوي عن الأمور الضرورية. إن موضوع نقل اخنوخ إلي السماء قد حدث من البداية، لكي تنال الطبيعة الإنسانية رجاء في إنقضاء الموت، وإبطال سلطان الشيطان، لأن أخنوخ نُقل ، لكن دون أن يري الموت. ولهذا أضاف “نقل حيا لأنه أرضي الله، تماما كما لو أن أحد الآباء يريد أن يتوعد إبنه، ويرغب علي الفور أن يمضي في وعيده، لكنه يحتمل وينتظر ، لكي يقوده إلي التعقل ، تاركا مساحة لتأكيد جدية التهديد. هكذا يفعل الله، فلكي نستطيع أن تعبر عن أنفسنا بشكل إنساني، فإنه لم ينتظر، بل علي الفور أظهر أن الموت قد أبطل. أولاً ترك البار ليموت أي هابيل)، فقد أراد أن يُخيف الأب أي آدم بموت الإبن (هابيل). أي أنه أراد أن يُظهر أن القرار هو ثابت حقاً، فإنه وإن لم يُعاقب الأشرار علي الفور. غير أنه وقع عقوبة علي ذاك الذي أرضاه أقصد ذاك المطوب هابيل وما لبث أن نقل اخنوخ حيا . ولم يقم هابيل حتى لا يأخذون جزائهم على الفور، لكنه نقل اخنوخ حيا ، فما فعله تجاه هابيل كان هدفه إخافتهم، بينما بنقله اخنوخ يحثهم علي إرضائه بكل قلوبهم. إذا فهؤلاء الذين يقولون إن كل الأشياء قد أتت للوجود بشكل تلقائي، ولم ينتظروا مجازاة، فإنهم لا يُرضوا الله ، تماما مثل الوثنيين. لأن الله يجازي الذين يطلبونه من خلال الأعمال والمعرفة.
3- إذا طالما أن لدينا مَن يُجازي، فعلينا بذل كل ما في وسعنا حتى لا تحرم من المجازاة التي تُعطي كمكافئة عن الفضيلة، خاصة وأن إحتقار مثل هذه المكافآة ومثل هذا التعويض يعد أمر يستحق زرف دموع غزيرة. فالله يعطي المكافآت للذين يطلبونه، ولا يعطي للذين لم يطلبونه، “أطلبوا تجدوا ” هكذا يقول الرب. وكيف يكون ممكنا أن يجد أحد الرب؟ فكر في كيف يوجد الذهب، إن الأمر يتطلب متاعب كثيرة. يقول المرنم يدي في الليل إنبسطت ولم تخدر” أي أنه تماماً كما لو كنا نبحث عن الشيء المفقود. هكذا نطلب الله. أنني أطرح بعض التساؤلات: ألا نحول ذهننا بإستمرار نحو الله، لنختبر حضوره؟ ألا نسأل الجميع؟ ألا نذهب إلي كثير من الأماكن؟ علي سبيل المثال لنفترض أننا فقدنا أحد أبنائنا ، هل ستقبل الأمر هكذا ، أم أننا لن نترك وسيلة إلا ونلجأ إليها؟ ولن نترك أرضاً أو بحراً إلا وسنبحث فيهما ولن تعطي أهمية للأموال، والبيوت وكل شيء أمور ثانوية أمام العثور علي إبننا؟ وإن وجدناه تمسكه ونضمه بقوة في أحضاننا، ولا نتركه و أيضًا عندما نطلب شيئًا ، فإننا نفعل كل شيء، لكي نجد ما نطلبه، فكم بالأحرى يجب أن نفعل هذا إذا تعلق الأمر بالله، كما لو كنا نطلب شيئًا ضروريًا وأساسيًا أو من الأفضل أن نقول ليس فقط بهذا القدر بل أكثر بكثير. لكن قبل ذلك ولأننا ضعفاء، فعلي الأقل كما تبحث عن أموالك أو تطلب أبنك، هكذا فلتطلب الله. ألا تتغرب لأجله؟ ألم تتغرب أبدا لأجل المال؟ ألا تفحص كل شيء بدقة؟ ألا تشعر بجرأة ودالة كبيرة عندما تجده؟ يقول “إطلبوا تجدوا” . بالحقيقة الطلب يحتاج لمحاولة كبيرة وإلحاح مستمر، وبالأحرى طلب الله، لأن العقبات كثيرة، وكثيرة هي الأمور التي تطغي علي الطلب وكثيرة هي الأشياء التي تعرقل إحساسنا تماماً مثل الشمس فهي ظاهرة (للعيان) ، موجودة أمام الجميع، ولا يحتاج أن نبحث عنها ، ولكن إذا نزلنا إلي باطن الأرض، وكل شيء تنكس، فسنحتاج إلى جهد كبير لكي ننظر إلي الشمس، هكذا هنا أيضًا، إن دفنا أنفسنا في قاع رغباتنا الشريرة إن دفنا أنفسنا داخل ظلام الشهوات والهموم الحياتية، فسنحتاج إلى جهد كبير لكي ننهض ونري. فالملوث بالتراب داخل حفرة، بقدر ما يصعد أكثر إلي أعلي بقدر ما يقترب أكثر للشمس. إذًا لننفض عنا التراب، ولنطرح عن كاهلنا الظلام الدامس، إذ هو كثيف ولا يمكن اختراقه، ولا يتركنا نري جيداً. وكيف ينقشع هذا الضباب؟
إذا جذبنا إلينا أشعة الشمس العقلية، شمس البر ، إن إرتفع الذهن مع الأيدي. لقد فهمتم كلامي أيها المبشرين، وربما عرفتم أين قيل وفهمتم الإشارة فلنرفع ذهننا، فأنا أعرف رجالاً كثيرين، متعلقين بالأرض رأيتهم بأيدي مرفوعة علي نحو مبالغ فيه، ولكنهم ظلوا حزانى، لأنهم لم يستطيعوا أن يرتفعوا روحيًا، وأن يُصلوا برغبة صادقة. هكذا أريد أن تكونوا دوما أنتم ، وإن لم يكن علي الدوام، فعلي الأقل مرارا كثيرة، وإن لم يكن مراراً كثيرة، فعلي الأقل بعض المرات علي الأقل في فترة صلاة السحر وصلاة الغروب ألا تستطيع أن ترفع الأيدي؟ فلترفع إرادتك كيفما شئت لترفعها حتى السماء، وإن شئت لتُلامس القمة ذاتها، أو لتصعد وتسير عاليًا، تستطيع أن تفعل ذلك، لأن ذهننا يكون أكثر خفة من كل جناح عندما ينال نعمة الروح يا للعجب كم يكون سريعًا عندئذ، كم يكون نافذا، ويتجول في كل مكان، كيف لا يسقط علي الأرض! فليكن لدينا مثل هذه الأجنحة (أجنحة الروح) التي سنستطيع بها أن نجتاز بحر هذه الحياة الحاضرة الهائج. هناك من الطيور السريعة ما يشق الجبال والوديان، والمحيطات والشعب أو العوائق، في زمن قصير، ودون أي ضرر.
هكذا هو الذهن، عندما يفرد أجنحته عندما يتحرر من الهموم الحياتية، لا شيء يستطيع أن يوقفه، يصعد فوق كل شيء، بل وفوق سهام الشيطان الملتهبة. فالشيطان ليس ماهرًا بهذا القدر في إصابته للهدف بنجاح، حتى يستطيع أن يصل عاليا، لكن ماذا يفعل؟ يُلقي سهامه، لأنه وقح ، دون أن يُصيب الهدف، ويعود بالسهم إلي الفراغ، وليس فقط فراغاً بل ويسقط أيضًا فوق رأسه، لأنه كان يجب علي هذا السهم الذي أطلقه أن يُصيب شيئًا. مثل السهم الذي يُطلق من البشر، إما أنه يُصيب من أطلقه بدلاً من الذي أطلق عليه، أو يصيب طائرا، أو حائطًا، أو ثوبا ، أو خشباً، وإما أن يخترق الهواء ويطيش ، هكذا سهم الشيطان، ينبغي علي كل حال أن يُصيب شخصاً ، وإن لم ينجح في إصابة من أُطلق عليه، فإنه بالتأكيد سيصيب ذاك الذي أطلقه. ويمكننا أن نتأكد من هذا من خلال أمور كثيرة، حيث أننا إذا لم تصب فسيكون الشيطان علي كل حال هو من يتلقي الإصابة. وأعني بما أقوله الآتي: لقد استخدم الخداع تجاه أيوب، ولكنه لم يُصبه، بل أصاب نفسه. وسلك بخداع ضد بولس، لكنه لم يجرحه ، بل جرح نفسه. ويمكننا أن نري ذلك يحدث في كل موضع، إن كنا منتبهين لما يحدث. وعندما يريد أن يضرب فإنه يتلقي هو نفسه الضربات، وبالأكثر جداً هو الذي يُصاب حين نحفظ أنفسنا في أمان، حتى لا تُصب بجرح، مُسلحين ومُسيّجين أنفسنا بسيف ودرع الإيمان.
إن سهم الشيطان هو الشهوة الشريرة. الغضب هو لهيب نار تؤدي إلي سخط، وتذمر، بل ويشعل كل شيء. لكن ليتنا تطفئ هذه النار، بطول الأناة والإحتمال. لأنه كما أن الحديد المحمي بالنار عندما يغطس في ماء يخمد النار، هكذا الغضب الذي يهدأ بطول الأناة، لا يضر الإنسان، بل ربما يُفيده، ويصير بالأكثر في أمان. لأنه لا يوجد شيء يُعادل طول الأناة. الإنسان طويل الأناة لا يُهان مطلقا، بل يكون مثل الأجسام الماسية لا تُخدَّش، هكذا. النفوس طويلة الأناة، لأنها ترتفع أعلي من السهام. فالإنسان طويل الأناة هو شخص متسامي، وهو سامي بقدر كبير، حتى أنه لا يُجرَّح من أي سهم. عندما يُزمجر الشيطان، فيجب أن تضحك ولكن ليس بشكل مُعلن لكي لا تثير حنقه، بل إضحك داخل نفسك. لأن الأولاد أيضا عندما يضربوننا بغضب، نضحك ونحن ندافع عن أنفسنا، إذا إن كنت تضحك، فإن المسافة ستكون كبيرة بينك وبين ذاك، بقدر ما تكون المسافة بين الطفل والرجل. أما إذا إنفعلت وغضبت، فقد صرت طفلا، لأن الأقل وعيا من الأطفال أيضا هو كل من يغضب أخبرني إذا ، لو أن شخصا رآك وأنت تغضب ضد ولد ، ألا يسخر منك؟ هكذا أيضًا كل من يغضب يكون من صغار النفوس وطالما هم صغار النفوس، فهم أيضًا حمقي. يقول الكتاب “قصير الروح معلي الحمق ف ” . . إذًا الأحمق هو طفل ” وبطيئ الغضب طويل الأناة كثير الفهم . فلنسعى لإقتناء طول الأناة هذه، والتي منها يأتي الفهم الكثير لكل من يمارسها ، لكي ننال الخيرات التي وعدنا بها بمعونة ربنا يسوع الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد، والقوة والكرامة ، والسجود الآن وكل أوان وإلي دهر الدهور أمين.
العظة الثالثة والعشرون (عب11: 7-12)
” بالإيمان نوح لما أوحي إليه عن أمور لم تر بعد خاف فبني فلكاً لخلاص بنية فيه دان العالم وصار وارثا للبر الذي حسب الإيمان” (عب 11: 7).
١- يقول “بالإيمـان نـوح لما أُوحي إليه”. هكذا تمامًا إبن الله في حواره (مع تلاميذه)، بشأن مجيئه (الثاني)، قال “كما كان في أيـام نـوح. كانوا يزوجون ويتزوجون” الأمر نفسه يقوله القديس بولس، وبالصواب يُذكرهم بصورة معروفة ، لأن نموذج اخنوخ ، كان فقط إيمان بينما في حالة نوح كان هناك عدم إيمان أيضاً. إنه يُعتبر عزاء كامل وفي نفس الوقت إرشاد، عندما يتضح أن الأمر غير مرتبط فقط بأن المؤمنون يبتهجون، بل أيضاً غير المؤمنين يُعانون الآلام لأنه ماذا يقول؟ بالإيمان نوح لما أوحي إليه”. ماذا يعني هذا؟ أنه أوحي إليه من قبل. إن الرسول يُسمي هذا الأمر نبوة. لأنه قال في موضع آخر أعطي النبوة بالروح القدس”، وأيضا ماذا تقول النبوة؟ آرايت المساواة في الكرامة التي للروح؟ لأنه كما أن الله يهب أو يُعطي، الروح القدس هكذا. فلأي سبب تكلّم؟ لكي يبين أن عبارة “أوحى إليه” هي نبوة.
يتكلم عن أمور لم تُر بعد” أي عن الطوفان، وأنه خاف فبني فلكا”. “. بالطبع التفكير لم يملي عليه أن يفعل شيئًا مثل هذا. كذلك فإنهم كانوا ” يُزوجون ويتزوجون”، كانت السماء صافية ولم تظهر علامات تنذر بحدوث طوفان، ولكن نوح خاف، ولهذا قال أيضًا “بالإيمان نوح لما أوحي إليه عن أمور لم تُر بعد خاف فبني فلكـا لـخـلاص بيته”. كيف؟ بالإيمان الذي به “دان العالم”. لقد أظهر أن هؤلاء لم يتعقلوا حتى مع بناء الفلك لذلك كانوا مستحقين للعقاب. وصار وارثا للبر الذي حسب الإيمان”. أي أنه بسبب هذا إتضح أنه بار، من حيث أنه آمن بالله. وهذه هي سمات نفس مؤمنة بالله، وأنه ليس هناك ما يمكن أن يعتبره أكثر مصداقية من كلامه، تماما كما أن عدم الإيمان يصنع العكس. ومن الواضح جدا ، أن الإيمان يصنع البر، وكما أننا أخبرنا مسبقاً عن جهنم، هكذا ذاك أيضًا (أي نوح). بالرغم من أنهم سخروا منه أنذاك، وتكلموا عليه بالسوء، وتهكموا عليه إلا إنه لم يتأثر بأي شيء من هذا كله.
“بالإيمان إبراهيم لما دعي أطاع أن يخرج إلي المكان الذي كان عتيد أن ياخذه ميراثا فخرج وهو لا يعلم إلي أين يأتي بالإيمان تغرب في أرض الموعد كأنها غريبة ساكنا في خيام مع إسحق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه ” (عب 11: 8 -9).
فلتخبرني إذا هل رأي أحد حتى يتمثل به في هذا الإيمان؟ كان له أبا أمميا وعابد للأوثان، ولم يسمع أنبياء ولا عرف إلي أين ذهب. لأن كل من آمن من العبرانيين (فيما بعد) كان يقصد هؤلاء (الأنبياء)، تمتعوا بخيرات لا حصر لها ، أما في زمن إبراهيم لا أحد قد تمتع بشيء بعد، ولا أحد قد تمت مكافأته. أما إبراهيم، ترك وطنه، وبيته، وخرج دون أن يعرف إلي أين هو ذاهب.
وما هو وجه الغرابة في هذا ، إن كان إبراهيم قد سلك هكذا، في الوقت الذي عاش نسله علي هذا النحو؟ وبالرغم من أنه قد رأي الوعود تنقض، إلا أنه لم يتهاون، خاصة وأن الله قال له “لنسلك أُعطي هذه الأرض”. رأي إبنه يسكن هناك، وحفيده أيضا سكن في أرض غريبة، ولم ينزعج مطلقًا. لأن ما حدث لإبراهيم كان منطقيًا، طالما أن وعود الله كان مقرر لها أن تتحقق في نسله، وإن كان بالطبع قد قيل له “لك ولنسلك” وليس عن طريق نسلك تكون لك، بل لك ولنسلك”. لكن لا إبراهيم، ولا إسحق، ولا يعقوب قد تمتعوا بهذه الأرض الموعودة. لأن احدهم إشتغل كخادم، والآخر إبتعد عن وطنه، وهذا نفي نفسه من شدة الخوف، وأراضي أخري قد أخذها بالحرب، لكن أيضًا إن لم يكن مدعومًا بالسند الإلهي لكان قد فقدها بالكامل. ولهذا قال “الوارثين معه لهذا الموعد” هكذا يقول ليس إبراهيم فقط، بل والوارثين معه.
بعد ذلك أضاف شيئًا آخر أعظم بكثير مما قيل، إذ يقول “في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد”. هنا يجب أن نتبين أمرين، كيف بعدما قال، أنه بالإيمان ثقل اخنوخ لكي لا يري الموت ولم يوجد”، يقول “في الإيمان مات هؤلاء أجمعون” وأيضا بعدما قال “لم ينالوا المواعيد ، يُظهر أن نوح أخذ أجرًا، وهو خلاص بيته، وأخنوخ ،ثقل وهابيل يتكلم بعد، وإبراهيم أخذ الأرض، ويقول “بالإيمان” مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد. إذا ماذا يعني بهذا الكلام؟ يجب أن نشرح أولاً الأمر الأول ثم بعد ذلك الثاني. يقول “بالإيمان مات هؤلاء أجمعون”. كلمة أجمعون” قالها هنا لا لأن الجميع قد ماتوا، بل لأننا لو إستثنينا اخنوخ، فإن هؤلاء قد ماتوا أجمعون، ونحن نعرف حقا أنهم ماتوا. أيضاً عبارة “وهم لم ينالوا المواعيد” هي حقيقة، لأنه ليس هذا هو الوعد الذي أُعطي لنوح.
2- وأي وعود يقصد ؟ لأن إسحق ويعقوب نالا أرض الموعد، لكن الذين كانوا يعيشون في زمن ،نوح، وهابيل وأخنوخ إما أنه عندما كان يتكلم عن هؤلاء الثلاث، لم يكن الوعد هو هذا ، أن يصير هابيل مستحقا للثناء ، ولا يُنقل اخنوخ، ولا أن يخلص نوح، بل إن هذا قد حدث لهؤلاء أيضًا، بسبب فضيلتهم، وكان هذا يمثل نوع من تذوق تلك الخيرات التي سيتمتعون بها في المستقبل. ولأن الله يعرف أن الجنس البشري يحتاج إلي كثير من التسامح، فإنه يهبنا ليس فقط الأبديات، بل وخيرات هذا العالم الحاضر، تماماً مثلما قال المسيح لتلاميذه وكل من ترك بيوتا أو أخوة أو أخوات، أو أبا أو أما أو امرأة أو أولادًا أو حقولًا من اجل أسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية”، وأيضاً “أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم”. أرأيت كيف أن هذه (الخيرات) الحاضرة تعطي من الرب بشكل تكميلي، حتى لا يملوا ؟ لأنه تماما كما أن الرياضيين ينالون فترة نقاهة وإستشفاء بإهتمام عندما يتنافسون، لكنهم لا يتمتعوا بكل الراحة أثناء المنافسة لأنهم يخضعون للقوانين، بينما سيتمتعوا بذلك فيما بعد، هكذا يفعل الله أيضًا لا يعطي هنا أيضا التمتع الكامل بالراحة، بالطبع هو يعطي هنا راحة، لكنه حفظ الراحة التامة لنا في الحياة الأبدية.
ومن حيث أن ذلك يعتبر حقيقي، فقد أوضحه بما أضافه قائلاً “بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها . يُشير هنا إلي ،سرما ، أي أنهم قد نالوا مسبقا كل ما قيل عن حياة الدهر الآتي، الأمور المتعلقة بالقيامة، وبملكوت السموات، وكل الأمور الآخري التي كرز بها المسيح حين أتي، لأنه كان يقصد المواعيد في كلامه. إذا إما أنه كان يقصد هذا، وإما أنهم لم ينالوها، لكنهم رحلوا علي رجاء أن ينالوها ، وكان لديهم هذا اليقين من خلال الإيمان فقط. وقال إنه “من بعيد نظروها”، لكي يُعلن أن هذا قد حدث منذ أربعة أجيال سابقة. لأنه بعد كل هذا الوقت، عادوا من مصر. ثم يقول “وحيوها ” بفرح. لقد تأكدوا من تحقيقها إلي هذا الحد، حتى أنهم حيوها بفرح، وقد قال هذا علي نحو رمزي بحسب المثال الخاص بالبحارة الذين ينتظرون المدن التي يتمنوا الوصول إليها من بعيد ، حتى قبل أن يدخلونها ويجعلونها لهم، ويكونوا قد سمعوا عنها فقط.
لأنه يقول ” لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله ” (عب 11: 10).
أرايت كيف أن كلمة “نال”، تعني أنهم سينالوا في المستقبل، وأن لديهم يقين من جهة هذه المواعيد ؟ إذا فعبارة كان لديهم ثقة أو يقين تعني أنهم “نالوا”، وأنتم أيضا من الممكن أن تنالوا لأن هؤلاء بالرغم من أنهم لم يتمتعوا بالمواعيد، لكن بسبب إشتياقم إليها فقد نظرها.
إذا لماذا حدثت هذه الأمور؟ لكي نخجل نحن، لأن أولئك على الرغم من أنهم نالوا الوعد بالخيرات الأرضية، فإنهم لم يعطوها أهمية ، بل طلبوا المدينة الآتية بينما نحن يكلمنا الله عن المدينة السمائية بطرق كثيرة، لكننا نطلب تلك الكائنة هنا. قال لهم “سأعطي لكم خيرات العالم الحاضر”، ولأنه قد رأي أنه سيعطيهم الأفضل، لأنهم أظهروا أنهم مستحقين لما هو أعظم، حينئذ لم يتركهم ينالوا هذه (الخيرات)، بل الخيرات الأبدية، فقد أراد أن يُظهر لنا أنهم مستحقون لما هو أعظم، لأنهم لم يريدوا أن يرتبطوا بهذه الخيرات (الأرضية)، كما لو أن شخصا وعد إنسانًا ناضجاً بأشياء طفولية لا لكي ينالها ، بل لكي يظهر كل ما لديه من حكمة، لكن ذاك يطلب ما هو أعظم. وبالحقيقة هذا يظهر أنهم بغيرة شديدة قد رفضوا الأمور الأرضية، طالما أنهم لم يأخذوا ولا حتى تلك التي أعطيت لهم. من أجل هذا فقد أخذ نسلهم هذه الخيرات الأرضية، لأن هؤلاء كانت لهم أطماع أرضية. ماذا يعني بعبارة “المدينة” التي لها الأساسات” أليست هذه الأطماع الأرضية أساسات؟ ليست أساسات بالمقارنة مع الخيرات السمائية؟ “التي صانعها وبارئها الله”. يا للعجب ما هذا المديح لتلك المدينة (السمائية) !
” بالإيمان سارة نفسها ” (عب 11: 11).
لقد بدأ هنا كلامه بشكل من أشكال الحياء، لأجل ما نحن فيه من وهن وظهرنا نحن ضعاف النفوس أكثر من ضعف إمرأة. وربما يقول أحد كيف يكون هذا إيمانًا علي الرغم من أنها قد ضحكت؟ الضحك يأتي من عدم الإيمان، لكن الخوف الذي صاحبه، يأتي من الإيمان، لأن قولها “لم أضحك”، قد قالته بالإيمان. بالإيمان” سارة نفسها أيضاً أخذت قدرة علي إنشاء نسل وبعد وقت السن ولدت. ماذا يعني بعبارة “إنشاء نسل ؟ يعني أنها أخذت قدرة علي حفظ الجنين، أي أن تستضيفه داخل أحشائها، التي ذبلت لأن الخلل الجسدي كان مزدوجا ، واحد بسبب عامل الزمن، لأنها بالحقيقة قد شاخت ، والأخر كان طبيعيا، لأنها كانت عاقرا.
” لذلك ولد أيضا من واحد وذلك من ممات مثل نجوم السماء في الكثرة وكالرمل الذي علي شاطئ البحر الذي لا يعد” (عب 11: 12).
ومن أجل هذا يقول إنه من واحدة وُلِد الجميع. ولا يقول هذا هنا فقط، إنها ولدت، بل وصارت أُما لعدد كبير ، لم يصر ولا حتى لبطون خصبة (أي لديها القدرة علي إنشاء نسل ) يقول “مثل النجوم”. إذا كيف في مرات عديدة يُحصيهم، وإن كان قد قال أنهم لا يستطعون أن يُحصوا نجوم السماء، هكذا ولا نسلكم يمكن أن يُحصون؟ هذا يعني إما أنه قال هذا كشكل من أشكال المبالغة، أو أنه تكلم هكذا عن الأنسال القادمة. لأنه من الممكن أن يُحصي المرء الأسلاف لبيت أو لعشيرة واحدة فقط، مثلما نقول أن فلانا هو لفلان، وهذا لذاك، لكن هنا حيث نسلهم يُضاهي . عدد النجوم، فمن غير الممكن أن يُحصي.
3- هذه هي مواعيد الله كم هي : مملوءة حكمه. وإن كانت تلك الأمور التي وعد بها كشيء تكميلي، هي موضع دهشة إلي هذا الحد، وعجيبة إلي هذا الحد، وهبات عظيمة بشكل فائق، فما هي أنواع تلك الخيرات، التي تُعد هذه الخيرات الأرضية هي تكميلية لها ويسيرة بالنسبة لها. إذا هل يوجد من هم أكثر سعادة من أولئك الذين ينالوا هذه الخيرات السمائية؟ وهل يوجد من هم أكثر تعاسة من أولئك الذين يفشلون في تحقيق هذا؟ لأنه لو أن شخصا كان قد طرد من وطنه وصار تعساً أكثر من الجميع، وخسر كل ميراثه، فإنه يُعد مستحقا للأسف والحزن عليه أكثر من الجميع، فكم من الدموع يجب أن يزرف علي الذي فقد السماء وخيراتها ، ؟ أو من الأفضل ألا يبكي، لأن المرء يبكي عندما يُعاني شيئا ، ليس هو السبب في حدوثه، ولكن حين يجرح نفسه بإرتكابه الشرور بإرادته، فهو يستحق ليس فقط لأن يزرف الدموع، بل أن ينوح، أو من الأفضل يجب عليه أن يحزن، لأن ربنا يسوع المسيح حزن علي أورشليم وسكب دموع لأجلها، برغم أنها سلكت بجحود.
بالحق نحن مستحقين لأنين متواصل، وحزن لا ينقطع. فلو أن كل المسكونة إكتسبت صوتًا الصخور، والأخشاب والأشجار، والوحوش والزواحف والأسماك، لناحت علينا نحن الذين قد سقطنا من تلك الخيرات، ما كانت لتستطيع وبحق أن تنوح وتنتحب علينا، لأنه أي حديث وأي عقل يمكنه يصف تلك الطوباوية، وهذه الفضيلة وهذه المتعة، وهذا المجد، وهذا الفرح، وهذا البهاء كما يقول ما لم تر عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر علي بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه”، لم يقل فقط أن هذه الأمور تتجاوز (الفكر)، بل قال إن أحدا لا يستطيع أن يتخيل مطلقاً في “ما أعده الله للذين يحبونه. وحقاً هل ما أعده الله من خيرات هي أمور طبيعية (أم أنها تفوق ذلك)؟
إذا إن كان بعدما خلقنا مباشرة وبدون أن نعمل أي شيء مُسبقاً، منحنا كل هذه الهبات والفردوس، والشركة معه، والوعد بالحياة الأبدية، والحياة الطوباوية المتحررة من الإنشغالات لأولئك الذين فعلوا الكثير وجاهدوا واحتملوا من أجله صعوبات كثيرة، فهل لا يمنحهم الكثير؟ لم يشفق على إبنه وحيد الجنس من أجلنا، وسلمه للموت من أجلنا، فإن كان قد جعلنـا مستحقين لمثل هذه الخيرات، بينما كنا أعداء له، فأي خيرات لا يجعلنا مستحقين لها الآن حين صرنا أحباءه؟ وأي خيرات لا يجعلنا مستحقين لها الآن حيث صالحنا معه؟ إنه يمنحنا غني بشكل فائق ويشتهي بشدة ويحرص علي أن تُقدم له محبتنا. لكننا أيها الأحباء لا نبذل جهدا ولا حتى مجرد إهتمام ضئيل. ماذا أقول، ليس هناك مَنْ يفهم نحن لا تريد أن ننال خيراته، بقدر ما يريد هو. ومن حيث أنه يريد لنا بالأكثر هذه الخيرات، فهذا ما برهن عليه من خلال ما فعله لأجلنا. لكننا نتخلى وبصعوبة شديدة عن قليل من الذهب، بينما الله قدم إبنه لأجلنا.
فلنرغب أيها الأحباء أن نصنع هذا الذي يليق بمحبة الله، لكي نتمتع بمحبته يقول الكتاب” أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به يا للعجب! إن أعداءه الذين قاوموه مرات لا حصر لها ، ورغم أنه يتفوق عنهم في كل شيء بدرجة لا تقارن، إلا أنه قد جعلهم أحباء ، ويدعوهم أحباء؟ ماذا إذا؟ ألا ينبغي أن يتألم أحد لأجل هذه المحبة؟ نحن كثيرًا ما نُعرِّض أنفسنا للخطر من أجل محبة الناس، لكننا لا نقدم ولا حتى مال لأجل محبة الله نحن نستحق الحزن والبكاء، والأنين، والنحيب الكثير. لقد سقطنا من رجائنا هبطنا من سموّنا ، ظهرنا غير مستحقين لكرامة الله ، ناكرين للنعمة، وبعد الإحسان ظهرنا جاحدين، لقد جردنا الشيطان من كل الخيرات، نحن الذين استحققنا أن نكون أبناء، وإخوة وشركاء الميراث، لم نختلف في شيء عن أعدائه، وعن أولئك الذين يهينوه. إذا أي تعزية ستكون لنا؟ لقد دعانا الله إلي السماء، بينما نحن ندفع أنفسنا إلي جهنم. لقد تفشي في الأرض اللعنات، والكذب، والسرقة، والزنا، البعض يخلط دما بدم، والبعض يُمارس أعمالاً أسوأ من إراقة الدماء. كثيرون من المظلومين، كثيرون ممن خُدعوا ، يفضلوا بالأكثر جدا أن يموتوا علي أن يُعانوا هذه الأمور، وإن كانوا لا يخشون مخافة الله، لكانوا قد وضعوا نهاية لحياتهم، هكذا يشتهون موتهم إلي هذا الحد. أليست هذه الأمور أشر من إراقة الدماء؟
“ويل لي”، قال النبي الذي خاب رجاؤه، لأنه قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس. لكن لنصرخ الآن بهذا أيضاً لأجل أنفسنا أولاً. لكن أرجو أن تتفهموا هذا الحزن، ربما يعتبره البعض علامة جنون ويضحكون، لكن لأجل هذا تحديدا يجب أن أكثر من النحيب، لأنه كم نحن مهوسين ومعتوهين، حتى أننا لا نعرف أننا مأسورون بهذا الهوس، لكننا نضحك لتلك الأمور التي كان ينبغي أن نتنهد عليها. لأن غضب الله معلن من السماء علي جميع فجور الناس ” ويقول المرنم ” يأتي إلهنا ولا يصمت نار قدامه تأكل وحوله عاصف جلد، وأيضا “قدامه تذهب نار وتحرق أعداءه ” . ” فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور”. ولا أحد يفكر في هذه الأمور، بل إن هذه الأمور المخيفة والمرعبة أُحتقرت وأهينت أكثر من الأساطير، وبسبب هذه الأمور المخيفة والمرعبة. لا أحد يسمعها، بل بالعكس الجميع يضحكون ويسخرون منها. وما هو المخرج بالنسبة لنا؟ أين سنجد الخلاص؟ لقد ضعنا ، وهلكنا ، وصرنا موضع سخرية لأعدائنا، وإستهزاء من اليونانيين والشياطين
4- الآن الشيطان يتباهي، يتفاخر ويفرح، لكن كل الملائكة الذين وثقوا فينا، صاروا خجولين وحزانى، لا أحد يتغير كل شيء ضاع سدي، ونحن قد صرنا لكم كمن يهذي هي فرصة الآن أيضًا لأن أرفع يدي بالدعاء إلي السماء لأن تحتج عناصر الكون، لأنه لا أحد يسمع قول النبي إسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم . قدموا أيد المساعدة لكل مَنْ لم يغرق مع أولئك الذين هلكوا بالسكر أو الثمالة، أما الأصحاء فليساعدوا المرضي العقلاء فليساعدوا المعتوهين، الثابتون في الإيمان فليساعدوا المخدوعين. أترجاكم ألا يُفضل أحد سوي خلاص الصديق وتحمل الإهانة والتوبيخ، وليكن هدفه شيء واحد فقط، هو منفعته فحين يصاب شخصاً بإرتفاع في درجة الحرارة، ويكون الخدم لا زالوا يمارسون وظائفهم في الوقوف إلى جوار سيدهم وخدمته، فإذا حدث والتهب جسده لسبب الإرتفاع الشديد في درجة الحرارة. فإن نفسه تصير مملوءة بالحيرة والإرتباك، وتجد الخدم يقفون حوله، ولا أحد يلتفت للقانون الملكي في وقت فقدان السيد. أرجو أن نستفيق فهناك حروب يوميه غرقي، هلاك بالآلاف، وغضب الله يحيط بنا من كل موضع. لكننا كما لو كنا نتفضل علي الله ، نشعر أننا في أمان، كل منا يجهز يديه لكي نأخذ أكثر فأكثر، لا أحد يمد يديه لكي يساعد الجميع لكي يسلبوا ، لا أحد يمد يديه لكي يحمي، كل واحد يهتم كيف يُزيد من ممتلكاته، ولا أحد يهتم بكيفية مساعدة الفقير كل واحد يهتم كيف يُكثر من أمواله، ولا أحد يهتم بكيفية خلاص نفسه، خوف واحد يسيطر علينا جميعًا، وهو الخوف من أن نصير فقراء. أما لكي لا يسقط أحد في جهنم، فلا أحد يجاهد، لا احد يرتعب هذه الأمور تستحق النحيب وتستحق الإدانة، وتستحق اللوم. بالطبع. أنا لا أريد أن أتكلم بهذه الكيفية لكنني مضطر بسبب إحساسي بالألم الشديد، سامحوني، فبسبب الحزن أجدني مدفوعاً لأن أقول أشياء كثيرة مما لا أريد أن أقولها . أري أن الجرح مخيف والكارثة مفزعة، والمآسي التي تسيطر علينا هي أكثر بكثير من التعزية، لقد هلكنا. يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي؟. فلنبكي أيها الأحباء، لنبكي، ولنتنهد . ربما يوجد البعض هنا ممن يتكلمون دائما عن الحزن وعن البكاء. صدقوني لا أريد أن أحدثكم عن هذه الأمور، بل أرغب في أن أثني عليكم وأمتدحكم، لكن الآن هو وقت حزن. أيها الأحباء ليس أمراً مخيفا أن يحزن المرء، بل المخيف أن يعمل أعمالاً مستحقة للحزن، وليس عملاً مفزعا أن ينتحب المرء، لكن الفزع يتمثل في إرتكاب أعمال تثير الإحساس بالفزع. لا تخطئ أنت، وأنا لن أحزن لا تمت أنت ( في خطاياك وأنا لن أبكي. لكن إن رقد الجسد ، فإنك ترجو الجميع أن يشاطرونك أحزانك ، وتعتبر أولئك الذين لا يحزنون غير شفوقين، لكن الآن والنفس تهلك ، كيف تطلب ألا يحزن أحد؟
لكنني لا أستطيع ألا أبكي، بينما أنا أب، فأنا أب حنون. إسمعوا ق بولس وهو يصرخ قائلاً: “يا أولادي الذين أتمخض بكم. أي أم تحمل ولا تطلق هذه الصرخات المرة، حين تتمخض كما تمخض الرسول بولس؟ يا ليت أحد يقدر أن يري هذا الوهج الفكري الذي لي وسيري أنني أحترق أكثر من كل امرأة تُعاني ألم الترمل قبل الأوان. فهذه الأرملة لا تحزن بهذا القدر علي زوجها، ولا الأم علي فقدان إبنها، بقدر حزني أنا علي هذا الجمع القريب مني لا أري أي تقدم أري كل شيء يقود إلي إفتراءات وإدانات، لا أحد يعمل عملا مرضيا أمام الله، بل الواحد يقول لنتكلم بالسوء علي فلان الذي يعيش في سفه. بينما نحن مدينون أن نحزن علي شرورنا. وحتى وإن كنا أنقياء من الخطايا فلا يُسمح لنا بأن ننتقد الآخرين. لأن الرسول بولس يقول ” لأنه من يميزك وأي شيء لك لم تأخذه وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذه. ولماذا تلوم أخاك، بينما أنت نفسك مملوء بشرور لا تُعد ؟ فعندما تقول إن فلان خبيث وفاسد ، وشرير، فكر في نفسك وأفحص أمورك بالتدقيق، ستندم علي كل ما قلته بالحقيقة لا يوجد هكذا تصح يمكن أن يقود إلي الفضيلة، مثل أن نتذكر خطايانا.
فإن تذكرنا هذين الأمرين (عدم الإدانة – تذكر الخطايا) سيمكننا أن ننال الخيرات التي وعدنا الله بها، وسيمكننا أن ننقي أنفسنا، ونجعلها بيضاء. أيها الأحباء لنجعل هذا الفكر بداية ولنهتم بهذا الأمر، فلنعاني بالفكر هنا (في الحياة الحاضرة)، لكي لا نعاني هناك في الجحيم، بل نتمتع بالخيرات الأبدية هناك حيث لا يوجد ألم ، ولا حزن، ولا تنهد ، لكي بنال هذه الخيرات التي تتجاوز الذهن الإنساني، بمعونة ربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد إلي أبد الدهور أمين.
العظة الرابعة والعشرون (عب11: 13-16)
” في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء علي الأرض. فإن الذين يقولون مثل هذا يظهرون بأنهم يطلبون وطنا فلو ذكروا ذلك الذي خرجوا منه لكان لهم فرصة للرجوع ولكن الآن يبتغون وطنا أفضل أي سماويا . لذلك لا يستحي بهم الله أن يُدعي إلههم لأنه أعد لهم مدينة” (عب 11: 13-16).
1- الفضيلة الأولي والعظمي هي أن يشعر المرء بأنه غريب ونزيل في هذا العالم، وألا يكون متعلقاً بأي شيء من الأمور الأرضية، بل يتجنبها كغريبة عنه، تماما مثل أولئك التلاميذ الطوباويين الذي يقول عنهم الكتاب ” طافوا في جلود غنم وجلود معزي معتازين مكروبين مذلين وهم لم يكن العالم مستحقا لهم هؤلاء اعتبروا أنفسهم غرباء، بينما القديس بولس قال شيئا أكثر من ذلك، لم يعتبر نفسه غريباً فقط، بل يقول قد طلب العالم لي وأنا للعالم. بينما نحن نحيا كمواطنين، ونعيش كمواطنين بشكل مبالغ فيه، ولذلك فإن كل اهتماماتنا تكون محصورة في الأمور الأرضية، وكما أن الأبرار كانوا غرباء وأموانًا عن العالم، نفس الشئ ينطبق علينا نحن فيما يختص بالسماء، وكما كانت علاقة هؤلاء الأبرار بالسماء مستمرة وممتدة طوال حياتهم، هكذا نحن أيضا من جهة علاقتنا بالعالم.
ولهذا فإننا قد متنا ، لأننا رفضنا الحياة الحقيقية وفضلنا الحياة الوقتية وأغضبنا الله ، إذ أننا لا نريد أن نبتعد عن المتع الأرضية بل تماما مثل حشرات ، نتجول من مكان إلي مكان وأيضًا من هذا المكان إلي مكان آخر، وبشكل عام لا نريد أن نرفع رأسنا ، حتى ولو لوقت قليل تجاه الأمور السماوية، ولا تريد أن نبتعد عن الأمور الدنيوية، بل كما لو كنا غائصين في مخدر ما، ونوم عميق وثمالة، نبقي منذهلين من أوهام العالم، ومثل هؤلاء المستحوذ عليهم النوم العميق وليس فقط بالليل، بل خلال فترة السحر، وبينما يشرق النهار ببهاءه، يبقوا مضجعين علي فراشهم، ولا يخجلون مستسلمين للشهوة ووقت العمل والنشاط يجعلونه وقت نوم وكسل. وهكذا نحن أيضًا، بينما يقترب النهار، ويتراجع الليل نعمل أعمال الليل أكثر بكثير، لأنه يقول إعملوا “مادام نهار ، بينما هو نهار، فنحن نعمل كل أعمال الليل ننام نري أحلاماً ، تبتلع من الأوهام، عيون أذهاننا وأجسادنا قد أُغلقت نهذي تُخرّف، ولو أن شخصاً أصاب أحدنا بجرح نافذ ، لا نشعر به، حتى لو سلب كل ثروتنا، أو دمر بيتنا ذاته، أو من الأفضل أن نقول إننا لا ننتظر آخر لكي يفعل هذا بنا، بل نحن أنفسنا نصنع هذا بأنفسنا نجرح وتصيب أنفسنا كل يوم، نضجع بعدم لياقة ونتجرد من كل مجد، ومن كل كرامة، حتى أننا لا نستر أو نحجب أعمالنا البذيئة، ولا نسمح للآخرين أن يفعلوا هذا ، بل تقدم أنفسنا بغير حياء لكل هؤلاء الذين ينظروا إلينا وهم حاضرون ومثيرين للسخرية والمضايقات التي لا حصر لها.
ألا تعلموا أن الأشرار أنفسهم يستهزئون بمن يسلكون بنفس طريقتهم ويدينونهم؟ لأن الله وضع داخلنا قضاء نزيها وعادلاً ولا يفسد أبدا، وحتى ولو وصلنا إلي قاع الخطية، بسبب هذا القضاء ونستطيع أن نلوم أنفسنا والأشرار أنفسهم يُدينون أنفسهم، ولو أن شخصاً قال لهم ما هي حقيقة أنفسهم، فإنهم يخجلون، ويغضبون ويعتبرون الأمر إهانة، وهكذا إن لم يدينوا أنفسهم عما يرتكبونه بالأعمال، فإنهم يفعلون هذا بالكلام من خلال ضميرهم، ويمكن أن نقول بل وبأعمالهم أيضًا ( يدينوا أنفسهم). لأنهم حين يختبئون ويعملون بشكل غير ملحوظ، فإنهم يُبرهنون بذلك علي رؤيتهم لهذا الأمر بالحقيقة إن الشر واضح كل الوضوح حتى أن الجميع يدينونه، وحتى أولئك الذين يسعون في أثره، وبالعكس من ذلك هي الفضيلة، فهي واضحة للغاية حتى أنها تصير موضع إعجاب أيضا من أولئك الذين لا يحاولون أن يتمثلوا بها. كذلك فإن الزاني سيمدح التعقل والطماع سيدين الظلم، وسريع الغضب سيعجب بالمتسامح، والفاسق سيدين صغر النفس والفجور.
2- كان القديسون غرباء ونزلاء ، لكن كيف وبأي طريقة؟ وأين يعترف إبراهيم بأنه غريب ونزيل؟ ربما يكون هو نفسه قد إعترف، لكن من حيث إن داود قد أعترف فهذا بالتأكيد واضح لكل أحد ، إسمعه هو نفسه الذي يقول أنا غريب عندك ونزيل مثل جميع آبائي. لأن أولئك الذين عاشوا في خيام، والذين أشتروا القبور بالمال من الواضح أنهم كانوا غرباء إلي حد أنهم لم يكن لديهم ولا حتى مكانًا يدفنون فيه موتاهم. ماذا إذا؟ تُري هل كانوا يقصدون أنهم غرباء عن تلك الأرض التي كانت في فلسطين فقط؟ بالطبع لا، بل لأنهم لم ينظروا إلي شئ في هذه الأرض، بل رأوا أن كل شئ غريب عنهم وليس ملكا لهم، هؤلاء أرادوا ممارسة الفضيلة، لكن شرورًاً كثيرة كانت توجد هنا، ولهذا شعروا بنفور تجاه الأمور الأرضية، لم يكن لديهم أي صديق أو محبة لشيء، ولا إقامة سوي القليل جداً.
وكيف كانوا غرباء ؟ لقد سلكوا كغرباء لم ينشغلوا بالأمور الأرضية، وقد أظهروا هذا لا بالكلام، بل بالأعمال. كيف وبأي طريقة ؟ لأن الرب قال لإبراهيم أذهب من أرضك.. إلي الأرض التي أريك”، ولم يتراجع بسبب أقربائه، بل كما لو كان ينوي أن يترك بلدا غريبا عنه، وبكل هذه السهولة ترك أرضه أيضا قال له “خذ أبنك وحيدك… وأصعده محرقة ، وقد قدمه بكل هذه السهولة، كما لو كان ليس لديه أبنا، قدمه كما لو كان مُجردًا من الطبيعة الأبوية. كل ما له كان مشتركا مع العابرين من هناك، وهذا الأمر كان يفعله كما لو كان لم يفعل شيئًا. المكانة الأولي كان يتنازل عنها الآخرين، أما نفسه فقد رماها في الأخطار، وعاني من مصائب كثيرة. لم يبني بيوتا فخمة، ولم يعش في رفاهية، ولم يهتم بالملبس، ولا بأي شئ آخر من تلك الأمور المتعلقة بهذه الحياة، لكنه أهتم بكل ما يتعلق بتلك المدينة السمائية). كان مُحبًا للغرباء ومضيافا، محبا للأخوة مُحسنا، متسامحاً، إزدرى بالمال وبمجد هذه الحياة الحاضرة، وكل الأشياء الآخرى.
بل إبنه (أي يعقوب) كان هكذا ، مُطاردًا، ومُضطهدًا، تراجع وأبتعد ، كما لو كان في بلد غريب، لأن الغرباء، مهما عانوا من أشياء، فإنهم يحتملونها ، ما داموا ليسوا في وطنهم. وإن كان قد أخذ معه امرأته، فهذه قد احتملته كغريب، فقد عاش كمواطن للمدينة العليا (السمائية) ، بكل تعقل وتوافق مع الحياة الحاضرة. لأنه بعد ولادة الأبناء، لم يرد أن يضاجع امرأته مرة أخري، لكنه حين كان في عنفوان الشباب، آنذاك فقط أضجع معها، مبينًا أنه لم يفعل هذا بسبب الشهوة، بل لكي يخدم وعد الله.
وماذا صنع يعقوب؟ ألم يطلب خبزًا وملابس فقط، والتي هي بالحقيقة مطلب الغرباء الذين وصلوا إلي أعلي درجات الفقر؟ ألم يرحل عندما اضطهدوه تماما مثل غريب؟ ألم يخدم كأجير؟ ألم يعاني مصائب لا حصر لها متجولاً في كل مكان كغريب؟ وبينما عاني من كل هذا، فقد أحتمل هذه الكوارث)، مظهرا هكذا أنه كان يطلب وطنًا آخر. يا للعجب، كم هو الفرق بيننا وبينهم أولئك عانوا بشكل يومي، لأنهم قد أرادوا أن يتحرروا من الوطن الأرضي، وأن يأتوا إلي وطنهم السماوي، بينما نحن نفعل العكس فإن أصابنا إرتفاع في درجة الحرارة نترك كل شئ تماما مثل الأطفال الصغار الذين يبكون، وأيضًا نرتعب من الموت، رغم أننا سنلاقي المسيح وهذا حق، لأننا لا نعيش هنا (في الحياة الحاضرة) كغرباء، ولا نسرع كما لو كنا ذاهبين إلي وطننا، بل كما لو كنا ذاهبين إلي الجحيم. ولهذا نتألم لأننا لا نستخدم الأمور الأرضية كما ينبغي لها، بل غيرنا نظامها، ولذلك ننوح، بينما كان ينبغي أن نفرح. ومن أجل هذا ،نرتعد، مثل بعض قتلة البشر، واللصوص، الذين عندما يُعرَضُون علي المحكمة، يفكرون في كل ما صنعوه، ولهذا يخافون ويرتعدون.
أما أولئك الآباء فلم يكونوا هكذا ، بل كانوا يتعجلون الذهاب إلي هناك. أجل لقد تنهد الرسول بولس، وأسمع ما يقوله ” فأننا نحن الذين في الخيمة (خيمة الجسد) نئن مثقلين . . مثل هؤلاء ، كانوا أولئك الذين عاشوا في زمن إبراهيم لأنه يقول “أقروا بأنهم غرباء ونزلاء علي الأرض … يطلبون وطنا”. إذا ما هو هذا الوطن؟ هل هو ذلك الوطن الذي هجروه؟ بالطبع لا، لأنه ماذا كان يعوقهم لو أنهم أرادوا أن يعودوا إليه مرة أخري، وأن يصيروا مواطنين في هذا الوطن، لقد طلبوا الوطن الذي في السموات. هكذا ساروا بعجلة في اتجاهه، وهكذا أرضوا الله. “لذلك لا يستحي بهم الله أن يُدعي إلههم يا للعجب، أي كرامة عظيمة هذه ! لقد قبل أن يُدعي إلههم. ماذا تقول؟ مع أنه يُدعي إله الأرض والسماء، إلا أنه لا يستحي بأن يُدعي إلههم، فهل هذا شيئًا عظيمًا؟ هذا أمر عظيم، وبالحقيقة هو عظيم، ودليل علي تطويب وسعادة شديدة. كيف؟ لأنه يُدعي إله السماء والأرض، كما يُدعي إله اليونانيين، ويُدعي إله السماء والأرض لأنه هو الذي صنعهما وخلقهما ، لكن بالنسبة لأولئك القديسين فهو لم يُدعي فقط إلههم، بل دُعي كمحب حقيقي. وسأبرهن علي ذلك بهذا المثال، كما في حالة أولئك الذين يعيشون في البيوت الكبيرة، فحين يتميز بعض القائمين علي إدارة هذه البيوت عن غيرهم، بل ويتميزون بشكل فائق، وهم مسموح لهم بإدارة كل شيء فيها، ولهم دالة لدي سادتهم، فإن رب البيت يُدعي بأسماء هؤلاء . ويمكن للمرء أن يجد كثيرين يُدعون هكذا أيضا.
لكن ماذا أقول؟ فكما أنه من الممكن أن يُدعي الله، ليس إله الأمم، بل إله الكون كله ، هكذا دعي إله إبراهيم. لكن ألا تعلمون كم هو عظيم هذا المقام، لأننا لم ننله صدفه. تمامًا كما هو الآن أيضًا، فالرب يُدعي إله كل المسيحيين، إلا أن الاسم يفوق قيمتنا نحن، ولكن إن كان قد دعي إلها لشخص واحد، فلتفكر في مقدار القيمة العظيمة، إذ أن إله الكون كله لا يستحي أن يُدعي إله لثلاثة أشخاص (إبراهيم وإسحق ويعقوب)، وهذا صواب، فهو ليس فقط إله الكون، بل إله أعداد من القديسين لا حصر لهم مساويين في الكرامة لهؤلاء الثلاث. ” ولد واحد يتقي الرب خير من ألف منافقين . ومن حيث أنهم دعوا أنفسهم هكذا غرباء، فهذا أمر واضح حسنًا فهؤلاء قالوا أنهم غرباء بسبب (تواجدهم) في بلد غريب، لكن لماذا قال داود عن نفسه أنه (غريب)؟ ألم يكن ملكا؟ ألم يكن نبيا؟ ألم يقيم في وطنه ؟ ولأي سبب يقول لأنــي أنـا غـريـب عندك؟ كيف تكون غريباً؟ كما يقول نزيل مثل جميع آبائي”. أرأيت أن أولئك (الآباء) كانوا غرباء؟ يقول إن لدينا وطنا، لكن ليس الوطن الأرضي. وكيف تكون أنت غريباً ؟ أنا غريب من جهة علاقتي بالأرض. إذا فأولئك الآباء كانوا غرباء من حيث علاقتهم بالوطن الأرضي، لأنه كما كان أولئك كان داود أيضاً ، ومثلما كان داود غريبًا ، هكذا كان أولئك الآباء غرباء.
3- إذا فلنصر نحن أيضا الآن ،غرباء، لكي لا يستحي الله أن يُدعي إلهنا. هي إهانة لله أن يُدعي إلـه أُناس أشرار، ويستخي بهم، تماما مثلما يتمجد عندما يكون إله أناس صالحين وأبرار وسالكين بالفضيلة، لأنه إن كنا نحن لا تريد أن تدعي سادة لعبيدنا الأشرار، ونستغني عنهم، وإن أقترب منا أحد وقال لنا هذا الذي يصنع شرورًا كثيرة، هل هو عبد لك، نقول علي الفور، لا لكي نتجنب الخجل (خاصة وأن هناك علاقة بين العبد وسيده، والسمعة السيئة للعبد تنتقل إلي سيده)، بالأكثر جدا هذا يسري علي الله. لكن القديسون كانوا في بهاء شديد ، وكانوا مملوءين بالجرأة والسخاء، حتى أنه لا يستحي أن يُدعي فقط إلههم، بل هو ذاته لا يستحي أن يقول أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب”. فلنصر أيها الأحباء غرباء، حتى لا يستحي الله ،بنا، ويسلّمنا لجهنم. مثل هؤلاء كان أولئك الذين قالوا ” يارب أليس باسمك تنبأنا … وباسمك صنعنا قوات كثيرة ” لاحظ ماذا أجابهم المسيح “لا أعرفكم ، الأمر الذي كان سيصنعه السادة في العبيد الأشرار، الذين يلتجأون إلي هؤلاء السادة، لكي يمحوا عنهم الخجل.
يقول “لا أعرفكم”. إذا كيف تُعاقب أولئك الذين لا تعرفهم. بمعني أخر، أنه من الأفضل لكم، أن أقول لا أعرفكم ولا أقول لا أقبلكم. لكن ليتنا لا نسمع نحن أيضا هذا الصوت المهلك والمملوء رعب. لأنه إن كان أولئك هم الذين أخرجوا شياطين وتنبأوا ، فكم نكون نحن؟ وكيف يكون ممكنا أن يرفض أولئك الذين تنبأوا وصنعوا معجزات وأخرجوا شياطين؟ لأن هؤلاء تغيّروا بعد ذلك وصاروا أشراراً، ولذلك لم تنفعهم فضيلتهم السابقة علي الإطلاق. لا ينبغي أن تكون البداية فقط مُشرقة، بل النهاية أيضًا يجب أن تكون أكثر إشراقا. فلتجيبني من فضلك ، ألا يحرص الخطيب علي أن يجعل نهاية خطابه أو حديثه، مشرقا، حتى ينصرف بالتصفيق والموظف العام عندما يصل إلي نهاية خدمته، ألا يسلك بشكل مشرق وبهي؟ وإن لم يختم الرياضي مشواره بنهاية مشرقه، ولم ينتصر حتى النهاية، وإن فاز بعد علي كل الرياضيين الآخرين، لكنه هزم من المنافس الأخير ألا تكون كل إنتصارته السابقة بلا فائدة؟ والقبطان أيضا، لو أنه أجتاز البحر كله، ثم تحطم القارب بالقرب من الميناء ألا يكون قد فقد كل الجهد السابق؟ وماذا عن الطبيب أيضا، إذا أستطاع أن يشفي المريض، و لكنه تسبب في موته في اللحظة التي فيها كان ينوي أن ينقذه تماما من المرض، ألا يكون قد حطم كل شيء؟ نفس الأمر يحدث مع الفضيلة، فكل من لم ينتهي بنهاية موافقة للبداية ومنسجمة معها ، يكون قد ضاع وهلك. مثل هؤلاء هم أولئك الذين تفوقوا من بداية مسيرتهم، مشرقين وفخورين، لكن بعد ذلك ضعفوا وتراخوا، ولهذا حرموا من المجازاة، وأصبح الله لا يعرفهم.
فليسمع هذا كل من يُحب المال لأن محبة المال هذه هي أكبر مخالفة. لأنه يقول ” محبة المال أصل لكل الشرور. ليستمع لهذا كل من يريد منا أن يُزيد من ثروته، لنسمع هذا الكلام، ولنتوقف عن الطمع، حتى لا نسمع ما سمعه أولئك (أني لا أعرفكم). لنسمع هذا الكلام الآن ولنحترس ، لئلا لا نسمع حينئذ “أذهبوا عني لأنني لا أعرفكم قط ) ، ولا حتى حين تنبأتم وأخرجتم شياطين. بالطبع هنا هو يُشير إلي شيء أخر فقد عملت النعمة رغم عدم الاستحقاق، لأنه إن كانت النعمة قد عملت من خلال بلعام، فبالأكثر جدًا ستعمل رغم عدم ا الاستحقاق وهذا الأمر ينطبق علي من تواني وأنتفع، وإن كانت القوات والمعجزات لم تستطع أن تنقذهم من الدينونة، فبالأكثر جداً لن ينقذ المرء من الدينونة، حتى وإن كان له رتبة كهنوتية، أو وصل إلي أسمي كرامة، حتى وإن كانت النعمة قد عملت في الرسامة، وعملت في كل الأمور الأخرى، فبسبب أولئك المحتاجين للحماية سيسمع ذاك أيضًا “لم أعرفك قط”، حتى وإن كان عمل النعمة قد جاز إلي نفسك.
يا للعجب، كم تكون المطالبة بنقاوة الحياة هناك كيف أن هذه النقاوة وحدها كافية لكي تُدخلنا إلي ملكوت السموات وكيف تغدر بالإنسان عندما تغيب، حتى وإن كان لديه ما يقدمه من عظائم وعجائب لا حصر لها ! لأنه لا يوجد شيئًا يُفرح الله بهذا القدر الكبير، سوي الحياة الفاضلة. يقول ” إن كنتم تحبونني”، لم يقل إن صنعتم المعجزات، لكن ماذا قال؟ ” فأحفظوا وصاياي ” وأيضًا ” قد سميتكم أحباء ” ، لا عندما أخرجتم شياطين، بل حين فعلتم ما أوصيتكم به.
لأن المعجزات هي نتيجة لعطية الله، بينما هذه (أي نقاوة الحياة)، هي نتيجة للعمل المشترك بين إرادة الإنسان وعطية الله لنحرص أن نصير أحباء الله، ولا نكون أعداء له. نفس الكلام نقوله بإستمرار، ونفس الأمور ننصح بها علي الدوام، لأنفسنا ولكم، ولكن دون جدوى، ولهذا أنا أخاف عليكم أيضًا. أريد أن أصمت، لكي لا أزيد عليكم الخطر، لأنه أن يسمع المرء الكثير، دون أن يطبقه، فإنه يُغضب الله، ولكنني أخاف أنا نفسي من خطر آخر، خطر الصمت أي إن كان مسموح لي أنا يا من إنتظمت في خدمة الكلمة، أن أصمت.
إذا ماذا سنصنع لكي نخلص ؟ لنبدأ بالفضيلة، مادام لنا الوقت (أي مادمنا علي قيد الحياة)، فلنهب أنفسنا للفضائل، تماما مثلما يمنح الفلاحون الحرث والزراعة للأرض. لننتصر علي الكلام السيئ، والتباهي، والغضب غير المبرر، ولنضع قانونًا لأنفسنا، ولنقل أننا سنحقق اليوم هذا الأمر، ولندرب أنفسنا علي التسامح وفي الشهر القادم، وفي الشهر التالي علي فضيلة أخري، وعندما نعتاد علـي هـذه الفضيلة لنذهب إلي الفضيلة الأخرى، كما يحدث مع الدروس (التي نتلقاها)، وبعدما نحفظ هذه الفضائل التي اكتسبناها بالفعل فلنسعى لإكتساب فضائل أخري.وبعد إكتساب تلك الفضيلة (النقاوة)، ولنزدري بالمال، أولا فلنمسك أيدينا عن الطمع، وبعد ذلك فلنمارس أعمال الرحمة، ولا نخلط الأمور بعضها ببعض، بنفس الأيدي نخطف أو نسلب، ثم نصنع رحمة بها. وبعد هذا لنأت إلي فضيلة أخرى، وبعدها إلي فضيلة تالية. يقول “لا يسم بينكم كلام السفاهة والهزل التي ، هذه الأمور فلنحققها أولا وتحقيقها لا يحتاج إلي نفقات ولا جهد وتعب يكفي أن يريد المرء فقط، وسينال كل شيء. لا يحتاج الأمر لأن نسير في طريق طويل، ولا أن نجتاز بحور لا نهاية له، بل فقط محاولة إظهار النية الصادقه، وأن نلجم التلفظ بالإهانات غير اللائقة. الشهوات، الرغبات الشريرة المتع البذخ، محبة المال، نقض القسم، وأيضاً القسم المستمر، هذه كلها فلننزعها من لا تليق لسانيا عن أنفسنا.
إن جعلنا نفوسنا تنمو هكذا ، وإقتلعنا الأشواك من جذورها، ووضعنا داخلنا البذرة السمائية، فسيمكننا أن ننال الخيرات التي وعدنا بها الرب. لأنه سيأتي الزارع وسيضعنا في المستودع (الإلهي) وسنتمتع بكل الخيرات، والتي ليتنا ننالها جميعًا بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة، والسجود ، الآن وكل أوان والي دهر الدهور أمين.
العظة الخامسة والعشرون (عب11: 17-19)
” في الإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مجرب. قدم الذي قبل المواعيد وحيده الذي قيل له إنه بإسحق يُدعي لك نسل. إذ حسب أن الله قادر علي الإقامة من الأموات أيضا الذين منهم أخذه أيضا في مثال” (عب 11: 17-19).
1- عظيم هو إيمان إبراهيم حقاً. لأنه في حالة هابيل، ونوح، وأخنوخ، كانت المعركة معركة أفكار فقط، وكان ينبغي أن يتجاوزوا الأفكار الإنسانية، أما هنا فكان ينبغي علي إبراهيم ليس فقط أن يتجاوز الأفكار الإنسانية، بل وشيئا آخر كان يجب أن يبرهن عليه، لأن وعود الله كانت في مواجهة مع أعماله وإيمان يحارب إيمان، والأمر يتصارع مع الوعد. أقصد بما أقوله الآتي : لقد قال الله أذهب من أرضك ومن عشيرتك إلي الأرض التي أريك ” … . ولم يعطه ميراثا في هذه الأرض، ولا خطوة واحدة أرأيت كيف أن الواقع إصطدم بالوعد ، يقول أيضا بإسحق يُدعي لك نسل”، وقد آمن إبراهيم بهذا، ويقول في موضوع آخر “خذ إبنك… وأصعده محرقة”، الابن الذي ستمتلئ المسكونة من نسله. أرايت معركة الأوامر والوعود ؟ لقد كان أمر الله بعكس كل ما وعد به، وبالرغم من كل هذا، لم يهتز البار، ولا قال إنه إنخدع من الله. ولكنكم بالطبع لا تستطيعوا أن تقولوا هذا ، إنه وعدكم بالراحة، ثم أعطاكم أشياء تدعو للحزن، لأن ما يعد به هنا، ينفذه أيضا.
كيف؟ يقول “في العالم سيكون لكم ضيق ” ، ” ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني. من وجد حياته يضيعها ومن أضاع حياته من أجلي يجدها ، وأيضا “تساقون أمام ولاه وملوك من أجلي، وأيضاً يقول أعداء الإنسان أهل بيته. إذا فالأمور المتعلقة بالحزن، ترتبط بالحياة الحاضرة، بينما تلك المتعلقة بالراحة (الأبدية)، ترتبط بحياة الدهر الآتي. لكن العكس قد حدث مع إبراهيم، فقد طلب منه الله أن يعمل بعكس الوعود التي أعطاها له، ولم ينزعج أبدا ، ، ولا أهتز من خلال تفكير يُصور له أنه إنخدع بينما أنتم لا تحتملوا شيئًا يخالف الوعد بل وتنزعجوا. لقد سمع إبراهيم من الله الذي أعطاه الوعود، أمورًا تتناقض مع ما وعده بها، ولم ينزعج، وجعلها كما كانت وفقا للوعود التي أخذها، إنها في الحقيقة كانت وفقاً لوعد الله، وكانت بعكس (وعود الله)، بحسب الفكر الإنساني، لكنها وفق الإيمان، كيف؟ هذا ما يُعلّمنا إياه الرسول بولس نفسه، قائلاً “إذ حسب أن الله قادر علي الإقامة من الأموات”. ما يقوله يعني الآتي: إنه بنفس الإيمان الذي به آمن أن الله سيهبه إبنا، بالرغم من أن إمكانية (الإنجاب) كانت غير موجودة، بنفس الإيمان كانت لديه ثقة بأن الله قادر أن يقيم ميتا ، بل ومذبوحا أيضاً.
أيضا كان من غير المعقول بحسب المعايير الإنسانية، وبالنسبة لأم بمستودع مائت، وفي سن الشيخوخة، وغير صالحة بعد لإنجاب الأطفال، أن يعطيها الله ولدا، وأن يُقيم ذاك الذي ذبح، لكنه آمن، لأن الإيمان كان أمامه، مكتفيا بالأمور التي ستحدث في المستقبل حياة الدهر الآتي). وبوجه آخر فإن إبراهيم قد رأي الأمور الحسنة أولاً ، بينما المحزنة قد رآها مؤخرًا في شيخوخته أما أنتم فيحدث معكم العكس، الأمور المحزنة أولاً، بينما الأمور المفرحة تأتي في النهاية. هذا (الإيمان) يأتي كإجابة علي كل الذين يتجرأون ويقولون إنه وعدنا بالخيرات بعد الموت، وربما يكون قد خدعنا. وبهذا هو يظهر بأن الله قادر أن يقيم من الأموات. ومادام أنه قادر علي أن يقيم من الأموات فعلي كل حال سيعوض بكل شيء. وإن كان إبراهيم آمن منذ سنوات طويلة بأن الله قادر أن يقيم من الأموات، فبالأكثر جدا يجب أن نؤمن نحن أيضاً. أرأيت كما سبق وقلت كيف إن الموت وإن لم يكن قد دخل بعد، فقد جذبهم إلي رجاء القيامة مباشرة، لقد قادهم إلي هذا اليقين الكبير، حتى عندما أمرهم أن يذبحوا أبناءهم أيضا، وكيف أن هؤلاء الأبناء الذين كانوا رجاء آبائهم بأن يملأوا المسكونة، قد قدموهم بنية خالصة ؟
ومن خلال هذا الذي قاله يُظهر شيئًا آخرًا أن الله إمتحن إبراهيم”، ماذا إذا؟ ألم يعرف الله أن إبراهيم كان جريئا وشجاعاً ومُختبرا؟ لقد كان يعرف، ويعرف جيدا. فلماذا قد وضعه في إمتحان آنذاك، مادام كان يعرفه؟ لا لكي يعرف هو نفسه، بل لكي يُظهره للآخرين، ويجعل شجاعته واضحة كل الوضوح للجميع. وهو يُظهر هنا سبب التجارب أيضًا، لكي لا يعتقدوا أنهم قد عانوا من هذه الأمور لأن الله قد تركهم. أي أنه توجد ضرورة هنا لأن يُمتحن المرء، لأن هناك كثيرون يطاردونه ويناصبونه العداء، بينما في حالة إبراهيم فما هي الضرورة التي تجعله يجوز به تجارب لم يكن لها وجود؟ لقد كان من الواضح جدا أن هذا الإمتحان قد أتي من الله الذي أعطي الأمر. التجارب الأخرى تعود إلي طول أناة الله، بينما إمتحان إبراهيم صار بحسب أمر الله. إذا مادامت التجارب تجعل المجربين كاملين إلي هذا الحد، حتى أن الله يجرب مجاهديه بهدف تدريبهم فقط، فبالأكثر جدا ينبغي علينا نحن أيضًا أن نحتمل التجارب بشجاعة. ولكي يشدد علي أهميه التجربة، قال “بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مُجرب” لأنه لم يكن هناك سببًا آخرًا للتقدمة إلا هذا السبب فقط (التجربة). بعد ذلك يفحص معني الأمر كله، فلا يستطيع أحد أن يقول إنه كان لإبراهيم إبنا آخرا، وأنه إنتظر أن يتمم الوعد من خلاله، ولهذا قدم إبنه هذا (إسحق)، بشجاعة كبيرة يقول “قدم الذي قبل المواعيد وحيده”.
لماذا تقول “وحيده” ألم يكن إسماعيل إبنه؟ يقول نعم أقول وحيد، من حيث كلمة الوعد ، ولهذا أضاف “وحيده لكي يبيّن أنه يتكلم عن إسحق “الذي قيل له إنه بإسحق يُدعي لك نسل”، أي أن النسل سيأتي من إسحق. أرايت كيف أنه أُعجب بما صدر عن أب الآباء (أي إبراهيم)؟ لقد سمع . أنه بإسحق يُدعي لك نسل” ومع ذلك قدم إبنه ذبيحة. بعد ذلك لكي لا يظن أحد أنه فعل هذا، لأنه فقد رجاءه، أو أصابه اليأس وبسبب هذا الأمر فقد ذلك الإيمان. ولكي يعرف أن ما فعله إبراهيم هو بالحقيقة دليل علي الإيمان، يقول الرسول بولس “بالإيمان”، وإن كان يبدو أنه صارع لأجل هذا الإيمان، لكنه لم يصارع ، لأنه لم ينظر إلي قوة الله بحسب الأفكار الإنسانية، لكنه قد أرجع كل شيء إلي الإيمان. ومن أجل هذا لم يخف أن يقول:
” الذين منهم أخذه أيضا في مثال” (عب 11: 19).
أي بمثال، مثال الخروف. كيف؟ لأنه بتضحية الخروف أنقذ إسحق، حتى بواسطة الخروف الذي أخذه، ذبح الخروف بدلاً من إبنه.
هذه بالطبع كانت أمثله تعبر عن الحقيقة، لأنه هنا إبن الله هو الذي ذبح. ولاحظ من فضلك ، كم كانت محبة الله للبشر فائقة، لأنه كان يُعد للبشر نعمة عظيمة، راغبا ألا يجعل هذا كمتفضل بل كمديون، أولاً جعل إبنه إنسانا، لكي يُسلمه (للموت) تنفيذا للأمر الإلهي، وحتى لا يظهر الله وهو يقدم إبنه وكأنه يفعل شيئًا عظيما، مادام أن هناك إنسان (أي إبراهيم) قد فعل هذا (أي قدم إبنه محرقة)، لكي لا يُعتقد أنه فعل هذا من محبته للبشر فقط، بل وكدين أيضا لأن أولئك الذين نحبهم، نريد أن نمنحهم هذا أيضًا، حتى تقوى ثقتهم طالما أننا سبق وأن أخذنا شيئًا بسيطا منهم ، ولهذا تقدم لهم كل شئ، ونفتخر بالأكثر جدا لذلك الذي أخذناه. ولهذا يقول الذين منهم أخذه أيضًا في مثال” أي بطريقة رمزيه تماما مثلما حدث عند تشبيه الخروف بإسحق، هكذا كان إسحق رمزا للمسيح. أي لأنه اكتملت الذبيحة وذُبح إسحق بالنية (أي أن نية إبراهيم كانت متجهة لذبح إسحق)، ولهذا فقد منحه الله لإبراهيم (ولم يُذبح).
أرأيت كيف أن ما كنت أقوله دائما ، قد تبرهن علية الآن؟ ماذا لو قدمنا إرادتنا بالكامل، وأظهرنا أننا نحتقر الأمور الأرضية، عندئذ يمنحها الله لنا أيضًا، بينما في فترات لاحقة لا يمنحها، إن كنا لا نزال مرتبطين بها لكي لا يكون منح هذه الخيرات الأرضية، سببًا في إرتباطنا بها أكثر، حَرِرِ نفسك أولاً من العبودية ، حينئذ خذ كل ما يتعلق بالأرضيات، لكي لا تأخذها كعبد ، بل كسيد، أحتقر الغني، وستصير غنيًّا، أزدري بالمجد، ستصبح ممجدا ، لا تفكر في إدانة أعدائك، وحينئذ ستتغلب عليهم إحتقر ،الراحة فستنالها ، عندئذ لا يكون نوالها كعبد ، بل كحر. تماما مثلما يحدث مع الأطفال الصغار، عندما يشتهي الولد ألعاب أطفال، مثل الكرة وكل الألعاب المشابهة، فإننا نحرص جدا علي أن نخفيها ، حتى لا تفصله عن الأمور الضرورية. أما عندما نجده يحتقر هذه الأمور ولا يعود يشتهيها ، فإننا بدون خوف تعطيها له، لأننا سنكون قد عرفنا أنها لم تعد تمثل خطراً عليه، لأن تلك الشهوة (اللعب) لم تعد لها سيطرة علية في أن تبعده عن الأمور الضرورية. هكذا الله أيضًا عندما . أننا لا نتلهف بعد للأمور الأرضية، حينئذ يتركنا لنستخدمها، لأننا في هذه الحالة نستخدمها كأحرار وكأناس ناضجين يري وليس كأطفال.
ومن حيث أنه حقا ، ا، لو أنك لم تبال بإدانة أعدائك، فحينئذ ستتغلب عليهم، إسمع ماذا يقول “فإن جاع عدوك فأطعمه وأن عطش فأسقيه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار علي رأسه”. وأيضا إن إحتقرت الغني، فحينئذ ستناله، فأسمع ما يقوله المسيح له المجد وكل من ترك بيوتا أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولادًا أو حقولًا من أجل إسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية”. وإنك إن أزدريت بالمجد الأرضي، فحينئذ ستربحه، فإسمع أيضًا ما يقوله المسيح له المجد ” من أراد أن يكون فيكم عظيما فليكن لكم خادماً، وأيضا” فمن يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع”.
ماذا تقول؟ إن سقيت عدوي، أكون وكأني أعقابه؟ إن تركت ممتلكاتي، حينئذ ستكون لي؟ وإن وضعت نفسي، سأرتفع ؟ يقول نعم، هذه هي قدرتي، فأنا أقدم عكس المعتاد ، لا تخف فأنا غني وجزيل العطاء، فطبيعة كل الأشياء تتبع إرادتي فأنا لا أتبعها، أنا أعمل علي الدوام، هذه الأشياء لا تُوجهني، ولهذا أستطيع أن أُغيرها ، وأن أنظمها. ولماذا تتحير، إن حدث هذا في كل هذه الأمور؟ لأن نفس الأمر ستجده يحدث في كل الحالات الأخرى. بالحقيقة إن ظلمت، تكون قد ظلمت نفسك، وإن ظلمت، فحينئذ لا تكون قد ظلمت، وحين تدافع عن نفسك، فأنت لا تحميها ، بل تعاقبها ، لأنه يقول ” مَن يحب الظلم يبغض نفسه أرأيت أنك لا تظلم، بل تُظلم؟ ولهذا يقول الرسول بولس ” لماذا لا تظلمون بالحري؟ “. أرايت أنه بهذه الطريقة لا تؤذي نفسك؟ عندما تهين عندئذ تهان وهذا يعمله الكثيرون حين يتجاذبون أطراف الحديث فيما بينهم، لنرحل من هنا ولا تهن نفسك”. لماذا؟ لأن هناك مسافة كبيرة بينك وبين الآخر، فبقدر ما تهينه بقدر ما تمجده.
فلنضع هذا في إعتبارنا في كل الحالات، ولنرتفع فوق مستوى الإهانات. كيف؟ هذا سأشرحه لكم. إن كنا في نزاع مع مَنْ يلبس الأرجوان، فإهانته نعتبرها إهانه لأنفسنا، بالحقيقة عندما نهينه، فنحن أيضاً تقع علينا الإهانات. ماذا تقول، أخبرني؟ بما أنك أنت من مواطني السماء، ولك الحكمة السمائية، أتهين نفسك مع ذاك الذي يُفكر في الأرضيات؟ وحتى وإن كان بعد قد ربح أموالا لا حصر لها، وإن كان لدية سلطة ، فإنه لم يعرف بعد ما تمتلكه من نعم. لا تُهين نفسك، باهانتك له أحزن علي نفسك وليس عليه، كرّم نفسك وليس ذاك. ألا يوجد مثل هذا المثل “من يكرّم الآخر، يكرم نفسه. هذا صواب، لأنه لا يكرّم الآخر بل يكرّم نفسه إسمع كلام أحد الحكماء الذي يقول “أكرم نفسك كما يحق لها “. ماذا يعني بعبارة “كما يحق لها؟ يعني إن كان أحد طماعا، لا تكن أنت أيضا طماعا، إن أهانك أحد ، لا تهينه أنت أخبرني من فضلك، لو أن شخصاً فقيرا أخذ من فناء تملكه طينا كان معد للنقل، فهل لأجل هذا الأمر، ستقيم دعوي قضائية ضده؟ بالطبع لا . لماذا؟ لكي لا تهين نفسك، وحتى لا يدينك الجميع. هذا ما يحدث الآن أيضًا، إن الغني يعتبر فقيرًا بقدر ما يزداد غناه، ويصبح أكثر فقدل من جهة الفقر الحقيقي. الذهب هو طين مُلقى داخل فنائك، وليس في فنائك لأن بيتك هو السماء. فهل لأجل الذهب ستطلب رفع دعوى أمام محكمة، ألا يسخر منك مواطنو السماء؟ ألا يطردونك من وطنهم، أنت أيها التعس والمعدم، والذي من أجل قليل من الطين تُفضّل النزاع؟ لأنه لو كان العالم ملكا لك، وبعد ذلك أخذه أحدا منك، لكان ينبغي عليه أن يُرجعه لك.
3- ألا تعلم، لو أنك إمتلكت عشرة أضعاف المسكونة، ومئات الأضعاف وآلاف المرات أكثر، وأضعاف الآلاف، فإنه لا يُعد شيء أمام جزء يسير من الخيرات السمائية؟ إذا فذاك الذي يُعجب بالخيرات الأرضية، يكون قد إحتقر الخيرات السمائية. إن كان حقا يعتبر الخيرات الأرضية مستحقة للإهتمام، فإنه يبتعد أكثر عن الخيرات السمائية، أي كيف يمكنه أن ينجذب إليها، مادام هو منجذب للخيرات الأرضية. فلنمزق ولو متأخراً ، الحبال والخيوط التي تقيدنا ، لأن هذه الحبال وهذه الخيوط هي الأمور الأرضية. إلى متى سننحني إلي أسفل؟ إلي متى سيلتهم الواحد الآخر. إن الوحوش لا تأكل بعضها البعض، بل تأكل تلك التي تنتمي لنوع آخر، علي سبيل المثال فإن الدب لا يقتل بسهوله دبا، ولا الثعبان يقتل ثعبانا ، بل يحترم جنسه المشترك، بينما أنت تقتل من هو من جنسك، بالرغم من أنك تتمتع بصفات مشتركة كثيرة معه مثل القرابة، الفكر، معرفة الله، الطبيعة القوية، وأمور أخري كثيرة، إلا أنك تقتل قريبك، والمشترك معك في نفس الطبيعة، بل وتحاصره أيضًا بشرور لا حصر لها لأنه ما أهمية أو معني أنك لم تغمس السيف في عنقه، ولم تطوق هذا العنق بيدك ؟ إنك تصنع ما هو أشر بكثير من هذا، تحاصره بأحزان مستمرة. لأنك لو قتلته، فستحرره أو تخلصه من الإنشغالات العالمية، لكنك الآن أنت تحاصره بالجوع والعبودية وخيبة الأمل، وشرور أخري كثيرة.
أتكلم بهذه الأمور ولن أتوقف عن التكلم بها، لا لكي أجعلكم تشتهون القتل، ولا لكي أحرضكم عليه، كما لو كان شراً أقل، بل لكي لا تتجرأوا علي فعل الشر متصورين أنكم لن تدانوا. لأنه يقول من ينزع عن قريبة وسائل حياته. فإنه يصادر الخبز. فلنمسك أيدينا، أترجاكم، لنمسك أيدينا، أو الأفضل أن نقول ينبغي ألا تمسكها ، بل لنمدها بطريقة صحيحة، لا لكي تسلب الأشياء التي لا تملكها، بل نمدها بالخير وأعمال الرحمة، وأن تكون يدنا مثمرة، ولا تكون جافة، لأن اليد التي لا تقدم أعمال الرحمة، هي يد جافه، بينما اليد التي تسلب فهي ملوثة ودنسه لا يأكل أحد بمثل هذه اليد، فإن هذا يُعد إهانه للمدعوين. فلتخبرني، لو أن أحدًا قد وضعنا لنرقد فوق بساط ومراتب ناعمة، وملاءات مطرزة بخيوط الذهب في بيت بهي وفخم ووضع في خدمتنا أعدادًا كبيرة من الخدم، وبعدما أعد أطباقا من الذهب والفضة وملأها بكثير من مختلف أنواع الأطعمة الفاخرة وألزمنا أن نأكل ، بشرط أن نتحمل أن يكون يديه ملوثة ومتسخة ويجلس معنا لتناول الطعام بهذه الأيدي، تري، هل سيتحمل أحد هذا العذاب وألا يعتبر هذا السلوك إهانه؟ أنا علي الأقل أعتقد أن هذا المسلك يُعد إهانة، سأنصرف علي الفور. بينما الآن تري أنه ليس فقط الأيدي مملوءة بوحل حقيقي، بل والأطعمة نفسها هي هكذا ، ومع هذا أنت لا تنتفض واقفا ، ولا تنصرف، ولا تستطيع أن تنتقد هذا المسلك، بل إن كان الذي دعي لهذه المائدة)، صاحب . سلطة، فإنك تعتبر هذا الأمر شيئًا مهما ، فتهلك نفسك، بأن تأكل من هذه الأطعمة.
إن الطمع هو أسوأ من كل وحل، لأنه يُلوث ليس الجسد ، بل النفس أيضا ، ويجعل تنظيفها صعبا. أما أنت، فبينما تري أن الذي يجلس بجوارك هو مغموراً في الوحل الذي يكسو يديه ووجهه ويملأ بيته ومائدته أيضاً ، (لأن تلك الأطعمة هي أكثر نجاسة وأكثر تلوث من قطعان الأبقار المتنجسة ومن أي شيء آخر أسوأ من هذه الأبقار)، هل تشعر كما لو كنت قد كرمت، وترغب في أن تبتهج؟ ولا تخشي حتى من ق بولس الذي يسمح لنا دون أي عائق أن نذهب إلي مائدة عابدي الأوثان، إذا أردنا ، بينما لا يسمح أن نأكل علي مائدة الطماعين، حتى لو أردنا؟
لأنه يقول ” إن كان أحد مدعو أخًا زانيًا ” ، هنا هو يدعو أي مؤمن أخا، وليس أحد بمفرده أو بعينه لأنه ما الذي يصنع هذه القرابة (الأخوة)؟ إنه حميم التجديد (أي المعمودية)، هذا الذي يجعل الإنسان يدعو الله أبا ، حتى أن الموعوظ ولو كان علمانيًا فهو أخ، يقول إن كان أحد مدعو أخاً. لأنه آنذاك لم يكن هناك رهبانًا ، بل أن هذا كله قد وجهه هذا الطوباوي (بولس) ، لعلمانيين يقول “إن كان أحد مدعو أخا زانيًا أو طماعًا أو سكيرًا.. أن لا تؤاكلوا مثل هذا. لكنه لم يقل هذا الكلام عينه لعبده الأوثان، لكن ماذا قال؟ قال وإن كان أحد من غير المؤمنين يدعوكم”، يقصد عبده الأوثان، وتريدون أن تذهبوا فكل ما يقدم لكم كلوا منه. لكنه يقول إن كان أحد مدعو أخا.. سكيرًا” ، (يوصي بعدم مؤاكلته).
4 – يا لدقة هذه التوصية فنحن لا نتجنب السكارى، بل نذهب إليهم أيضًا، لكي نشارك فيما يقدمونه. لذلك فكل شيء إنقلب رأسًا علي عقب، بل كل شيء، قد فقد . فلتخبرني لو أن أحدا من هؤلاء دعاك أن تأكل معه، أنت يا من تعتبر فقير وزهيد، ثم بعد ذلك سمعك تقول له أن هذه الأطعمة المقدمة قد أتت من طمع، لذلك فإني لا أحتمل أن ألوث نفسي بها ، ألا يشعر بالإهانه؟ ألا يخجل؟ ألا يشعر بالخزي ؟ هذا القول وحده قادر أن يُصححه، ويجعله يحزن علي نفسه لأجل ثرائه، وأن يُعجب بك أنت لأجل فقرك، وإن كان بالطبع قد شعر بالازدراء من جانبك. لكننا قد صرنا عبيدا للبشر ، لا أعرف لماذا نصير) عبيدا)، بالرغم من أن ق بولس قد صرخ بقوة : ” لا تصيروا عبيدا للناس”.
إذا لماذا صرنا عبيدا للناس ؟ لأننا قد صرنا من قبل عبيدا للبطن، وللمال، وللمجد، ولكل الأشياء الأخرى، تنكرنا للحرية التي منحنا المسيح إياها. إذا ماذا بقي من ذاك الذي صار عبداً؟ إسمع ما قاله المسيح العبد لا يبقي في البيت إلي الأبد. أنت صاحب قرارك ، فلن تدخل ملكوت السموات أبدًا (ما دمت قد قبلت أن تصبح عبدا) ، لأن هذا أي ملكوت الله هو البيت لأنه يقول” في بيت أبي منازل كثيرة إذًا “العبد لا يبقي في البيت إلي الأبد”. العبد ، هو ذاك الذي صار عبدا للخطية. وهذا الذي لا يبقي في البيت للأبد، يبقي في الجحيم للأبد، دون أن يكون له أي عزاء من أي جهة. فالأمور قد وصلت إلي هذا الحد الكبير من الشر، ومهما كانت هناك أعمال رحمة يقدمونها من تلك الأشياء (الملوثة)، وحتى لو أن الذين يقبلون أعمال الرحمة هذه هم كثيرون. ولهذا فقد فقدنا دالتنا، ولا نستطيع أن نلوم أو نؤنب أحد.
لنتجنب الأذى الذي يأتي من هذه الأمور ولو إعتبارًا من الآن، وأنتم الذين تحركون هذا الوحل بكل هذه السهولة، فلتوقفوا هذا الدمار وإضبطوا إندفاعكم نحو هذه الأنواع من الموائد أو الولائم، وربما يكون الآن أيضا في مقدورنا أن نجلب مراحم الله وننال الخيرات التي وعدنا بها والتي ليتنا جميعا ننالها بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلي دهر الدهور أمين.
العظة السادسة والعشرون (عب11: 20-27)
” بالإيمان إسحق بارك يعقوب وعيسو من جهة أمور عتيدة بالإيمان يعقوب عند موته بارك كل واحد من ابني يوسف وسجد علي رأس عصاه، بالإيمان يوسف عند موته ذكر خروج بني إسرائيل وأوصي من جهة عظامه” (عب 11: 20-22).
1- يقول المسيح له المجد “أن أنبياء وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا”. تُري، هل كل الأمور المستقبلية قد عرفها الأبرار؟ نعم بالطبع، لأن الإبن لم يُستعلن لأولئك الذين لم يستطيعوا أن يقبلوه، بسبب ضعفهم، ولكنه إستُعلن للذين أستناروا بفضيلتهم، هذا ما يقوله الرسول بولس الآن، أنهم عرفوا الأمور المستقبلية، أي قيامة المسيح، إذا إما أن هذا هو ما يريد أن يقوله، أو أنه لا يُشار إلي الأمور الخاصة بالحياة الأخروية بإعتبارها ستحقق في الدهر الأتي بل أنها ستحقق فيما سيحدث سريعا هنا في الحياة الحاضرة لأنه إن لم يكن يقصد هذا، فكيف يمكن لإنسان أقام في بلد غريب أن يُعطي مثل هذه البركات، وكيف أيضا حقق البركة، ولم ينلها؟
أرأيت كيف أن ما قلته عن إبراهيم ينطبق علي يعقوب أنه لم ينل البركة، لكن البركات تحققت لنسله، بينما هو نفسه نال خيرات الحياة الأبدية؟ لأننا نري أن أخاه ربما يكون قد تمتع بها. كذلك فإن يعقوب عاش كل حياته في هذا العالم كعبد وكخادم، جاز في أخطار، وعداءات وخداع ومخاوف، وعندما سأله فرعون، قال “قليلة ورديئة كانت أيام سني حياتي”، بينما عيسو عاش في أمان وفي قوة كبيرة، وبعد هذا كله، صار مُرعباً ليعقوب نفسه. إذا أين تحققت البركات، إن لم تكن في الحياة الأبدية؟
أرأيت كيف أن الأشرار قد تمتعوا بخيرات هذه الحياة، بينما الأبرار لم يتمتعوا ، بالطبع ليس الجميع لأنه ها هو إبراهيم، لقد كان بارا ، وتمتع بخيرات هذه الحياة أيضا، وإن كان ذلك مع بعض الضيقات والتجارب. فقد كان لديه غني وفير، بينما كانت كل الأمور الأخرى المرتبطة بالغني مليئة بالضيقات لأنه من غير الممكن ألا يتضايق البار، حتى ولو كان غنيًا، أي إذا كان يُفضل أن يُخدع، وأن يُظلم، وأن يعاني من كل شيء، فمن الطبيعي أن يتضايق حتى وإن كان بعد يتمتع بغناه، لكن تمتعه لا يخلو من حزن. تُري، لماذا؟ لأنه يحيا داخل الضيقات والأحزان. فإن كان الأبرار آنذاك قد عاشوا في ضيقات، فبالأكثر جدا الآن.
يقول ” بالإيمان إسحق بارك يعقوب وعيسو من جهة أمور عتيدة” (عب 11: 20).
وبرغم أن عيسو كان هو الأكبر، لكنه وضع يعقوب أولاً ، أرأيت عظمة الإيمان؟ لأنه من أين وُعِد بكل هذه الخيرات لأولاده، إلا إذا كان قد آمن تماماً بالله.
” بالإيمان يعقوب عند موته بارك كل واحد من إبني يوسف وسجد علي رأس عصاه، بالإيمان يوسف عند موته ذكر خروج بني إسرائيل وأوصي من جهة عظامه ” (عب 11: 21-22).
هنا يجب أن نذكر كل البركات، لكي يصير الإيمان وتصير نبوءته واضحة كل الوضوح. ثم يقول وسجد علي رأس عصاه وقد أظهر بهذا ، أنه ليس فقط قد تكلّم، بل كان متأكداً بصورة كبيرة جدا من كل ما سيحدث في المستقبل، حتى أنه قد برهن علي ذلك، بعملة هذا لأنه من إفرايم سيأتي ملك أخر، ولهذا يقول “سجد علي رأس عصاه أي بالرغم من أنه كان شيخا بالفعل، إلا أنه سَجَدَ ليوسف، مُعلناً عن السجود الذي سيقدمه له كل الشعب. وهذا قد تحقق بالفعل عندما سَجَدَ له أخوته، لكن هذا كان سيحدث فيما بعد بواسطة العشرة أسباط.
أرأيت كيف أنه سبق وتكلّم عن تلك الأمور التي ستحدث في المستقبل؟ أرأيت مقدار الإيمان الذي كان لهم، وكيف آمنوا بتلك الأمور التي ستحدث في الدهر الآتي؟ بالحقيقة أن بعض هذه الأشياء تعتبر أمثله للإحتمال والصبر فقط، أي إشارة للآلام التي تحدث الآن، والمتاعب التي يجتازها الأبرار، وأنهم لا يتمتعوا بأي خير، كما حدث مع إبراهيم، ومع هابيل بينما أمور أخري تعد أمثله للإيمان، كما في حالة نوح، والتي تؤكد علي أن الله موجود ، وأن هناك مجازاة، لأن الإيمان كلمة تحمل معاني كثيرة، فتارة تعني هذا المعني، وتارة أخري تعني معني أخر، وهي هنا تعني أن هناك مجازاة، وأنه لا يجب أن ينتظرها الجميع بنفس الشروط، وإذ هي تتطلب جهادًا قبل المكافآت. أما من جهة الأمور المتعلقة بيوسف فهي تعود وبشكل حصري إلي الإيمان فقط. لأن الله وعد إبراهيم قائلا “لك ولنسلك أُعطي هذه الأرض”، أطاع يوسف، برغم من أنه كان في بلد غريب ولم يكن قد رأي بعد تحقيق الوعد ، لكن إيمانه لم يتوقف، وآمن بقوة، حتى أنه تكلّم عن الخروج (من أرض مصر)، وترك وصية من جهة عظامه، وليس هو فقط الذي آمن بل قاد الآخرين للإيمان. من أجل هذا فقط، أوصي أن يفكروا دوما في الخروج. وما كان له أن يُوصي من جهة عظامه ما لم يكن متأكدا من العودة (إلي أرض الموعد). حتى أنه عندما يقول البعض، ها هم الأبرار أيضا قد اهتموا بقبورهم، فلنقل لهم، إنه قد أهتم بذلك لا لسبب إلا لأنه عرف أن ” للرب الأرض وملؤها “. هذا الأمر لم يجهله من عاش بفضيلة تامة، ومن عاش حياته كلها في مصر. وإن كان بالطبع يستطيع أن يعود مرة أخري إلي وطنه إذا أراد ، ولا يحزن ولا يعاني. لكن بعدما أحضر أبوه إلي (إلي أرض مصر)، ما هو السبب الذي جعله يُوصي من جهة عظامه أن ينقلوها إلي أرض الموعد أليس من الواضح أن السبب هو تأكده من عودة الشعب مرة أخري إلي هناك؟.
2- لكن أخبرني ماذا (في ذلك الأمر ) ؟ ألا توجد عظام موسي في أرض غريبة؟ أيضًا عظام ،هرون ودانيال وارميا ، كذلك عظام الرسل، فلا نعرف عن أكثرها أين توجد . لأنه فيما يختص ببطرس، ويوحنا، وتوما، فقبورهم معروفة، لكن فيما يتعلق بالآخرين، برغم من أنها كثيرة، فلم تكتشف قط. إذًا لا ينبغي أن نحزن لهذا الأمر، ولا تصاب بصغر النفس، فإننا في مكان ما سندفن، وللرب الأرض وملؤها. علي كل الأحوال هذا الذي يجب أن يحدث، سيحدث. إذا إن حزن المرء ونواحه، ونحيبه علي من رحلوا من هذه الحياة، هذا يحدث بسبب صغر النفس.
” بالإيمان موسي بعدما ولد أخفاه أبواه ثلاثة أشهر” (عب 11: 23).
أرأيت كيف أنهم قد ترجوا أن يتمتعوا بخيرات ما بعد الموت هنا علي الأرض؟ وأمور كثيرة قد تحققت لهم بعد موتهم، هذا موجه لأولئك الذين يقولون إن بعد الموت سينال هؤلاء هذه الخيرات التي لم يكتسبوها أثناء حياتهم، لكنهم لم يؤمنوا أنهم سينالونها حتى بعد الموت. ولم يقل يوسف، إن الله لم يعطني الأرض أثناء حياتي، ولا أعطاها لأبي ولا لجدي، والذي كان ينبغي أن تُقدر له فضيلته، فهل سيعطي هؤلاء الأشرار ما لم يعطه لأولئك (الآباء) ؟ لم يقل شيئًا من هذا ، لكنه إنتصر وتجاوز كل هذا بالإيمان. لقد ذكر (ق. بولس)، هابيل ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف، وكل العظماء المستحقين للإعجاب أيضا يُزيد من مقدار العزاء، متحولاً في كلامه تجاه أشخاص عاديين. لأنه من حيث أن هناك أشخاصاً هم في موضع إعجاب، ويعانون آلاماً ، فهذا لا يدعو للدهشة البتة، أما وأن تظهر أقل من هؤلاء، فهذا ليس أمرًا مُخيفا إلي هذا الحد، ولكن أن نكون أقل من أشخاص عاديين، فهذا هو الأمر المخيف. ويبدأ من أبوي موسي، اللذين لم يذكر عنهما شيئًا ، ولم يكن لهما في العالم شيئًا ثمينًا أو قيما ، سوي إبنهما، ولذلك تقدم في الكلام، فيزيد الأمر غرابة، مُشيرًا إلي نساء زانيات وأرامل، لأنه يقول “بالأيمان راحاب الزانية لم تهلك مع ا العصاة إذ قبلت الجاسوسين بسلام”. وليس فقط الإيمان، بل وبعدم الإيمان يقدم المجازاة، كما في زمن نوح. لكن هناك حاجة لأن نتكلم أولاً عن أبوي موسي.
لقد أمر فرعون بقتل جميع المواليد من الذكور، ولم ينج أحد من الخطر. إذا كيف إنتظر هذان إنقاذ أبنهما أي موسي ؟ بناء علي إيمانهما. يقول “لأنهما رأيا الصبي جميلاً. هذا المنظر الذي لإبنهما جذبهما إلي الإيمان. هكذا من أول لحظة، وبينما هو في الاقمطة، سكبت نعمة علي البار، ليست نعمة طبيعيه، بل هي نعمة الله الذي صنع هذا. لاحظ أنه بعد ولادة الصبي مباشرة قد بدي جميلاً، وليس قبيحاً لَمَنْ كان هذا العمل؟ بالطبع ليس عمل الطبيعة، بل عمل نعمة الله وهذه المرأة المصرية الأممية (ابنة فرعون) لكي تحميه من الخطر، فإن الإيمان هو الذي دفعها لهذا الفعل، وقواها وجذبها، لكي تفعل هذا، برغم من أن الإيمان بالطبع لا يحمل دافع كاف لكل هذا ، لأنه ماذا كان يمكن أن يفعل لها لكي تؤمن من مجرد المنظر ؟ لكن أنتم آمنتم مدفوعين من الأحداث ذاتها، ولأن لديكم ضمانات إيمانية كثيرة، لأنه من جهة أنكم قبلتم سلب أموالكم بفرح، بالإضافة إلي كل الأمور الأخرى، فهذا مؤشر ودليل علي الإيمان والإحتمال. لكن نظرا لأن هؤلاء (العبرانيين) قد آمنوا، وبعد ذلك أُصيبوا بصغر النفس، فإنه يبدو أن إيمان أولئك الآباء أستمر طويلاً مثل إيمان إبراهيم، بالرغم من أن هذه الأحداث تبدو وكأنها تتناقض فيما بينها ، فيقول ” ولم يخشيا أمر الملك برغم أن ذلك (الأمر) كان ساريًا ، بينما هذا (الصبي)، كان مجرد رجاء فقط. وهبه لوالديه، أما نفسه موسي فلم يقدم أي شيء.
بعد ذلك أيضًا يذكر لهؤلاء ( العبرانيين)، نموذجًا آخرًا معروفا ، وربما هو أسمي من السابق. إذا فما هو هذا النموذج؟ يقول
” بالإيمان موسي لما كبر أبي أن يُدعي ابن ابنة فرعون” (عب 11: 24).
كما لو كان يقول لهم، لا أحد منكم ترك قصرًا ، بل وقصرا بهيًا، ولا ترك مثل هذه الخزائن ولا أزدري بلقب إبن الملك، كما فعل موسي. وأنه لم يترك كل هذا مصادفة، هذا أوضحه قائلاً: “أَبَي”، أي أبغَضَ كل هذا، وأَعرَضَ عنه. وطالما أن هدفه كان موجهًا نحو السماء، فكان أمرًا لا لزوم له أن ينجذب إلي قصور مصر.
3. ولاحظ كيف طرح الرسول بولس هذا الأمر بشكل مدهش، لم يقل أنه حسب أن السماء وما في السموات، هو غني أعظم من خزائن مصر، لكن ماذا؟ قال “حاسبًا عار “المسيح” لأنه فضل أي حسب أنه من الأفضل أن يُضحي بذاته لأجل المسيح، علي أن يتركه ، وهذا بحد ذاته كان أجرًا.
يقول ” مفضلا بالأحرى أن يُذل مع شعب الله ” (عب 11: 25) .
أي أنكم تألمتم لأجل أنفسكم، بينما موسي فضل أن يُذل، لأجل الآخرين. وبإرادته عرض نفسه للخطر بشكل كبير جدا، بينما كان في مقدوره أن يعيش بإحترام وتقدير، ويتمتع بالخيرات. ثم يقول علي أن يكون له تمتع وقتي بالخطية”. الخطية التي تحدث عنها ، هي عدم رغبة المرء في أن يُشارك الآخرين معاناتهم، هذا قد حسبه خطية. إذا إن كان موسي قد حسب أن الخطية هي أن لا يُذل مع شعب الله بإرادته، فإن المذلة التي وضع نفسه فيها ، هي صلاح عظيم، بعدما ترك القصور. وهذا كله قد صَنَعَه ، لأنه كان ينظر إلي المجازاة العظيمة، لهذا فقد تكلّم هكذا.
“حاسباً عار المسيح غني أعظم من خزائن مصر” (عب 11: 26).
ماذا يعني بعار المسيح؟ يعني أن يُهان لأجل تلك الأمور التي لأجلها تهانون أنتم أيضا، أي المهانة التي إحتملها المسيح، أو أنه لأجل المسيح إحتمل (هذه المهانة)، عندما هزأوا به بشأن الصخرة التي أخرجت ماء. يقول ” الصخرة كانت المسيح” وكيف يكون عار المسيح؟ لأننا رفضنا تلك الأمور التي تسلمناها . الأسلاف لذلك هزأوا بنا ، ولأننا ركضنا نحو الله ، فقد تعرّضنا للمذلة. وكان من الطبيعي أن يُهان موسي عندما سمع “أتفكر أنت بقتلي كما قتلت المصري”. هذا إذا هو عار المسيح أن يُهان المرء حتى النهاية وحتى آخر نفس في حياته، تماما مثل المسيح الذي حمل عاره، وسمع من أولئك الذين صُلب من أجلهم من أبناء وطنه أنفسهم “إن كنت إبن الله”. هذا هو عار المسيح، عندما يُهان أحد من أخصائه، عندما يُحتقر أحد من هؤلاء الذين أحسن إليهم. لأن المسيح قد عاني هذه الأمور، من يهوذا، الذي أحسن إليه. هنا الرسول بولس قد سما بهما ، مظهرًا أن المسيح وموسي قد عانيا من تلك الأمور، أي إنهما شخصان ممجدان حتى أن هذا العار هو للمسيح وليس لموسي، لأنه لقي من أحبائه مثل هذه الآلام. لكن ولا هذا (أي موسي) صنع شيئًا كرد فعل ، ولا ذاك (أي المسيح) أرسل صواعق (من السماء)، لكنهما عانيا وإحتملا كل شيء ، حتى وإن كان هؤلاء قد حركوا رؤوسهم (للإستهزاء). إذا فنظرا لأنه كان من الطبيعي أن يسمع هؤلاء العبرانيين مثل هذه الأمور، وأن يرغبوا في المجازاة، فإن المسيح وموسي قد عانيا هذه الآلام. إذا فالتنعم منسوب للخطية، بينما العار يُنسب للمسيح. إذا ماذا تريد ؟ هل تريد عار المسيح، أم التنعم؟
” بالإيمان ترك مصر غير خائف من غضب الملك لأنه تشدد كأنه يري من لا يري” (عب 11: 27).
ماذا تقول؟ ألم يخف؟ ولكن الكتاب يقول أنه بمجرد أن سمعه، خاف، ولهذا فقد أُنقذ بهروبه، بعدما رحل من هناك (من مصر وآتي إلي مديان)، وهناك أختبأ ، وكان لا يزال خائفا بعد كل هذا لاحظ كيف يتكلم بدقة، يقول “غير خائف من غضب الملك”، قال هذا لأنه كان قد وقف أمامه من قبل. لأنه لو كان قد خاف (من غضب الملك) ، ما كان له أن يتعهد الدفاع عن العبرانيين، ولا كان قد شَرَعَ فيه، لكن أن يتعهد هذا الأمر أيضاً، فإنه يُظهر أنه قد وضع كل الأمور أمام الله. أي أنه لم يقل إنه يبحث عني، ويفعل كل ما في وسعه لكي يجدني ، وأنا لا أحتمل أيضًا أن أنشغل بنفس الأمور. ولذلك فإن هروبه كان علامة إيمان. أذا لماذا يقول “ترك”؟ حتى لا يضع نفسه في خطر واضح للغاية. لأن ما كان سيعد محاوله لتجربة الله أن يقفز داخل الأخطار، ويقول لأري إن كان الله ينقذني. هذا ما قاله الشيطان للمسيح “أطرح نفسك إلي أسفل ” ” . أرأيت كيف أن ما يعد أمر شيطاني هو أن نفكر في أن تلقي بأنفسنا في الأخطار باطلا وبلا هدف، ونجـرب مـا إذا كان الله سيُنقذنا ؟ لأن موسي لم يستطع أن يقف أمام العبرانيين، طالما أن أولئك الذين أحسن إليهم قد عاملوه بكل هذا الجحود ، لذلك كان الأمر سيعد حماقة وغباء أن يبقي في نفس المكان. وكل هذا حدث لأنه تشدد كأنه يري الله غير المنظور وتماسك كثيرًا منتظراً معونته”.
إذا إن كنا نحن أيضا نري الله دوما بأذهاننا، وإذا وجهنا فكرنا دوما إليه، سيبدو لنا كل شيء سهلاً، ومحتملاً، وسنصبر علي كل شيء بسهولة، وسنتجاوز كل شيء . لأنه لو أن شخصاً رأي شخصًا محبوبًا لديه أو من الأفضل القول أنه حين يتذكر هذا، تنتعش نفسه، ويسمو فكره، ويحتمل كل شيء بسهوله ، ويكون في حالة سعيدة، بسبب ذكرياته، فمن كان يحمل في فكرة ذاك الذي أراد حقا أن يحبنا، ويتذكره، هل سيشعر بشيء بهي، أو سيخاف من أي شيء مُرعب وخطر؟ وهل سيصاب بصغر النفس؟ لن يحدث هذا مطلقا. إن كل شيء يبدو لنا صعبا، لأننا لا نحمل الله في ذاكرتنا كما ينبغي، لأننا لا نفكر فيه علي الدوام. إذا سيستطيع الله أن يقول لنا وبشكل مبرر، أنت قد نسيتني، وأنا أيضا سأنساك. حتى أن النسيان سيصير متبادلا ، فنحن ننسي الله، والله ينسانا لأن هذا النسيان المتبادل، برغم أنه يتكون من شقين مترابطين للغاية، لكنهما أثنان أي نسيان من جانبنا، ومن جانب الله. إذا فإنه أمر عظيم أن يتذكرنا الله، وعظيم أيضا أن نتذكره نحن أيضًا، وهذا يجعلنا نفضل الصلاح، بينما ذاك يغيرنا ويقودنا نحو الكمال. ومن أجل هذا يقول النبي أذكرك من أرض الأردن وجبال حرمون من جبل مصعر.
4- إذا نحن أيضاً، فلنقل نفس الكلام كما لو كنا في بابل ، لأنه برغم أننا لا نعيش وسط أناس يحاربوننا، لكننا نعيش بين أعداء. كذلك فإن البعض من هؤلاء (العبرانيين) عاشوا كأسري، بينما البعض الآخر، لم يشعر بالأسر، فمن عاش في الأسر مثل دانيال، والثلاثة فتية هؤلاء وإن كانوا في الأسر، إلا أنهم قد صاروا أكثر بهاء في تلك الكورة، بل وأكثر بهاء من الملك الذي أسرهم، لأنه سجد للأسري الذين أسرهم. أرأيت مقدار عظمة الفضيلة؟ بينما كانوا أسري، إلا أنهم نالوا إهتمام كحكام أو ولاه، وبناء علي ذالك فقد بدي الملك وكأنه هو الأسبـ أسير وليس هؤلاء. ألم يكن الأمر مستحقاً للإعجاب أكثر لو أنه أتي وسجد لهم في وطنهم. والمثير للدهشة أنهم قد ملكوا هناك، برغم أنه قيدهم وأخذهم أسري ووضعهم تحت سلطانه، ولم يخجل من أن يسجد لهم بينما الجميع ينظرونه، ويقدم لهم العهد أرأيت كيف أن الأمور المشرقة حقاً تلك المختصة بالله، وإن الأمور الإنسانية هي ظلال ؟ وبناء علي ذلك فقد كان يجهل أنه قد حمل معه قادة له، وأولئك الذين سيسجد لهم، ألقاهم في أتون النار، لكن هذا كان كحلم بالنسبة لهؤلاء الفتية الثلاثة.
إذا أيها الأحباء لنخف الله حتى وإن كنا في الأسر فسنصير أكثر بهاء من الجميع، فليكن لدينا مخافة الله ، ولن يحدث لنا أي شيء محزن، سواء جوع، أو مرض أو أسر، أو عبودية، أو أي شيء آخر من هذه الأمور التي تُعتبر محزنه، بل وهذه الأمور كلها ستكون لها نتائج عكسية، من أجلنا نحن. كان أولئك (العبرانيين) أسري، وسجد لهم الملك، وبولس كان صانع خيام، وقدموا له ذبائح، كما لو كان إلها. هنا تبرز مشكلة، فكثيرون يتساءلون قائلين، لماذا رفض الرسولان الذبائح التي قدمت لهما، ومزقا ملابسهما ، وأبعدا نفسيهما عن هذه المحاولة، وصرخا قائلين ” نحن أيضا بشر تحت الآلام مثلكم” بينما دانيال لم يفعل شيئًا مثل هذا؟
حقا، من حيث أن دانيال كان مُتضعاً ونسب المجد لله، وأنه ليس بأقل من هذين الرسولين، فقد صار هذا واضحا من أمور كثيرة. أولاً لقد صار هذا واضحاً بشكل أساسي، من حيث أن الله قد أحبه ، لأنه ما كان له أن يتركه ليعيش، لو أنه سلب كرامة الله ، لا أقول إنه تفضّل، ثانيًا لأنه قال بكل جرأه أما أنا فلم يكشف لي هذا السر لحكمة في أكثر من كل الأحياء. وثالثًا أيضا، من حيث أنه ألقي في جب الأسود، لأجل الله، وعندما أحضر له النبي طعاما ، قال اللهم لقد ذكرتني لقد كان متواضعاً ومنسحقاً للغاية في جب الأسود كان موجودا لأجل الله، وأعتبر نفسه غير مستحق أن يتذكره الله ويسمعه. بينما نحن برغم من أننا نتجرأ علي فعل الكثير من الأشياء المنفّرة، ونحن أكثر نجاسة من الجميع، إن لم يُسمع لنا من أول صلاة، نتراجع بالحق هناك فارق كبير بين هؤلاء (الأنبياء والرسل)، وبيننا نحن بقدر المسافة بين السماء والأرض، بل وأكبر من هذه المسافة. ماذا تقول؟ بعد كل هذه الإنجازات، وبعد المعجزة التي صارت في الجب، تعتبر نفسك متواضعاً إلي هذا الحد الكبير؟ يقول نعم، لأننا مهما عملنا فإننا ” عبيد بطالون” . هذا حدث قبل أن تتحقق الوصية الإنجيلية، ولم يعتد مطلقا بنفسه “اللهم قد ذكرتني ، هكذا قال ولاحظ صلاته أيضًا، كم هي مملوءة بالتواضع.
هذا ما قاله الثلاثة فتية، أخطانا وأثمناً. في كل موضع قد أظهروا هذا الفكر المتضع. وإن كان دانيال بالطبع لديه دوافع كثيرة تدعوه للافتخار، لكنه كان يعرف أن هذه قد نالها لأنه لم يفتخر، ولم يُحطم الكنز (الروحي). كذلك فإنه أكثر من جميع الناس في كل المسكونة، كان دانيال موضع أعجاب، ليس فقط لأن الملك قد سجد له وقدم له تقدمات، بل لأن الملك دعاه إلها ، ذاك (أي الملك) الذي كرم كإله في كل المسكونة، لأنه ملك علي كل الأرض. وهذا واضح مما قاله أرميا ” ويلبس أرض مصر كما يلبس الراعي رداءه” وأيضا أعطيت هذه الأرض لعبدي نبوخذ نصر . ومن خلال كل ما كتب وأرسل صار هذا أيضا واضحا ، فهو لم يكن موضع إعجاب، هناك حيث كان عرشه فقط بل في كل موضع وصار أسمي من أولئك الذين عرفوه حين سمعوا عنه، هذا بخلاف الأمم الأخرى التي كانت تحت سلطانه، بعدما إعترف كتابة بالعبودية والمعجزة. لكنه أيضًا صار موضع إعجاب لحكمته، لأنه يقول “ها أنت أحكم من دانيال؟” ” . وبعد كل ما حدث، كان متضعاً للغاية، حتى أنه كان مستعدا آلاف المرات لأن يلاقي الموت من أجل الرب.
لكن لماذا ، بينما كان متضعاً إلي هذا الحد، لم يرفض سجود الملك (له)، ولا السكيب (سكب الطيب)؟ هذا لن أقوله، يكفيني أن أشير للموضوع فقط وأترك البقية لكم، ربما هكذا أُثير أفكاركم. لكن ما أشير به عليكم هو أن تشعروا بمخافة الله في كل شيء، خاصة وأن لديكم مثل هذه المثل العليا، وأنه بالحق سنتمتع بخيرات هذه الحياة الحاضرة، لو أننا حقا فهمنا خيرات الدهر الآتي. إذا من حيث أنه لم يفعل هذا بسبب الإفتخار، فهذا واضح مما قاله لتكن عطاياك لنفسك”. وهذا أيضا بالحقيقة يفتح موضوع آخر، كيف أنه في الوقت الذي فيه رفض هذا ، بالكلام، لكنه عمليًا قبل الكرامة، وأرتدي القلادة الذهبية. إن هيرودس، عندما سمع من الشعب ” هذا صوت إله لا صوت إنسان” ولأنه لم يعط المجد لله ، صار يأكله الدود ومات، بينما هذا (أي دانيال)، قد قبل الكرامة الإلهية، وليس فقط مجرد الكلام.
هنا يلزم أن نقول، لماذا حدث هذا لأنه فيما يتعلق بالحدث الخاص بهيرودس)، سقط الشعب في أسوأ عبادة للأوثان، أما فيما يختص ( بدانيال)، فلم يحدث هذا مطلقا، كيف؟ لأنه من حيث أنه أُعتبر مستحقاً للكرامة، فقد كانت هذه كرامة معطاة لله، ولهذا فقد تدارك وقال أما أنا فلم يُكشف لي هذا السر لحكمة في ٥٣٤ . كذلك لم يظهر أنه قبل السكيب (أي الطيب) لأنه قال ينبغي أن يذبحوا (أي يقدموا لدانيال تقدمة)، لكن لم يتضح أن هذا العمل قد تم أو التقدمة حصلت بينما في حالة الرسولين أحضروا ثيرانًا لكي يذبحوها “فكانوا يدعون الواحد (برنابا ) زفس، والآخر . (بولس) هرمس”. إذا فالقلادة الذهبية التي قبلها دانيال، كان هدفها أن يجعل نفسه ظاهرا ، ولكن بالنسبة لسكيب الطيب (رائحة سرور)، لماذا لم يظهر أنه قد رفضه ؟ لم يحدث تقديم ذبائح في حالة الرسولين، بل كانوا قد شرعوا في ذلك إلا أن الرسولين منعاهم، حتى هنا أيضًا كان يجب علي دانيال أن يرفضه علي الفور. وهناك ( في حالة الرسولين كان الشعب كله حاضرًا ، بينما هنا (في حالة دانيال)، كان القائد الأعلى (أي الملك).
إذا لماذا لم يرفض دانيال سكيب الطيب، فكما أوضحت قبلاً إن الطيب لم يقدم كما لإله، وعليه ينتفي موضوع العبادة، بل هذا كان بسبب عظمة المعجزة. كيف؟ لأن الملك أصدر الأمر لأجل الله أي بسبب عظمة الله)، معترفا بسيادته علي الكون، وبناء علي ذلك فهو لم يسلب منه الكرامة أما الشعب (في حالة الرسولين)، فلم يفعل نفس الشيء، بل صدقوا أنهما ينتميان إلي الآلهة، ولهذا فقد منعاهم، ومن ناحية أخري هنا أيضاً، بعدما سجد الملك له أمر بهذه الأمور، لأنه لم يسجد له كإله، بل كإنسان حكيم. ولم يظهر أنه ذبح ، وحتى وإن كان قد ذبح بعد ، لكن دانيال لم يقبل الذبيحة. فما الذي جعله يسميه بلطشاصر، إسم إلهة ؟ هكذا لم يعتبروا آلهتهم لها صفة الإعجاب، طالما أنه قد دعي الأسير هكذا (بإسم الإله)، هذا الذي أمر الجميع أن يسجدوا لصورته (لتمثاله) الكثير الألوان وكان من بين هؤلاء القاطنين في السترا، وأما البابليون فقد إعتبرهم الأكثر غباء، لذلك لم يكن ممكنا أن يحثهم علي هذا الأمر مباشرة وأمور أخري كثيرة يمكن للمرء أن يقولها. لكن هذه اللحظة يكفي هذا.
إذا إن كنا نرغب أن نتمتع بكل هذه الخيرات، فلنطلب تلك الأمور التي تُرضي الله. لأنه كما أن أولئك الذين يطلبون الأشياء التي تتعلق بهذا العالم الحاضر، يخسرون خيرات الدهر الآتي هكذا كل من يُفضل الأشياء التي تُرضي الله، يربحون الإثنين أي خيرات هذا العالم وخيرات الدهر الآتي). إذا ينبغي أن لا نسعى في طلب خيرات العالم الحاضر، بل في طلب خيرات الدهر الآتي، لكي تربح أيضا الخيرات التي وعدنا بها الله بمعونة ربنا يسوع المسيح.
العظة السابعة والعشرون (عب11: 28-37)
” بالإيمان صنع الفصح ورش الدم لئلا يمسهم الذي أهلك الأبكار. بالإيمان اجتازوا في البحر الأحمر كما في اليابسة الأمر الذي لما شرع فيه المصريون غرقوا “(عب 11: 28-29).
1. لقد إعتاد الرسول بولس أن يعرض أمور كثيرة من خلال ما يُقدمه، وهو يكثف من المعاني.. إنها نعمة الروح القدس، فهو لا يُدخل معاني قليلة في كلام كثير، بل يضع معاني كثيرة وعظيمة في كلام مختصر. لاحظ إذا كيف: فبينما يتحدث عن الإيمان، بشكل مُعزي ، يذكرنا بنموذج وسر عظيم، يتعلقان بالحقيقة التي لدينا. يقول “بالإيمان” صنع (موسي) الفصح ورش الدم لئلا يصيبهم الملاك المهلك”، وما هو رش الدم؟ كان يُذبح خروف في كل بيت، وبدمه كانوا يدهنون القائمتين والعتبة العليا للباب وهذا الأمر كان وسيلة للنجاة من الهلاك الذي حدث للمصريين. إذا إن كان دم الخروف قد حفظ اليهود الذين كانوا بين المصريين، من الأذى إلي هذا الحد، وكانوا معرضين لخطر (الهلاك)، فبالأكثر جدا سيخلصنا دم المسيح، الذي يدهن ليس فقط قوائم وأعتاب الأبواب، بل يدهن نفوسنا، لأن المهلك الآن أيضًا يتجول داخل هذا الليل العميق. فلنتسلح بهذه الذبيحة.
الدهان يُسميه “الرش”، لأن الله أخرجنا من مصر، ومن الظلام، ومن عبادة الأوثان. وإن كان ما حدث لا يمثل شيئًا ، بينما الذي تحقق كان عظيما، خاصة أن ما حدث كان هو رش بالدم، بينما ما تحقق هو الخلاص، وإعاقة المهلك. لأن الملاك خاف من الدم لأنه أدرك لأي شيء يرمز هذا الدم، وقد توقف، لأنه فكر في موت الرب، ولهذا لم يمس القوائم (المرشوشة بالدم). قال لهم موسي ” إدهنوا ، ودهنوا ، وبعدما دهنوا اكتسبوا جرأة. وأما أنتم فعلي الرغم من أن لديكم دم الحمل ذاته، إلا أنه ليس لديكم جرأة ؟ “بالإيمان إجتازوا في البحر الأحمر كما في اليابسة”. مرة أخري شعب بأكمله يُقابل أو يُوَازن بشعب. ولكي لا يقولوا ، لا نستطيع أن نصير مشابهين للقديسين يقول “بالإيمان أجتازوا في البحر الأحمر كما في اليابسة الأمر الذي كما شرع فيه المصريون غرقوا “. أنه يذكرهم هنا بمعاناة أسلافهم في مصر. كيف حدث هذا بالإيمان؟ لأنهم آمنوا بأنهم سيجتازوا البحر ومن أجل هذا صلوا ، أو من الأفضل إن نقول أن موسي هو الذي صلي.
أرأيت كيف أن الإيمان في كل موضع يتجاوز الأفكار الإنسانية، ويتجاوز الضعف، ووهن الطبيعة أو الرغبة؟ أرأيت كيف أنهم آمنوا وفي نفس الوقت خافوا العقوبة، وظهر ذلك من خلال دهن الأبواب بالدم، ومن خلال إجتياز البحر الأحمر؟ وموت المصريين الذين سقطوا وغرقوا في البحر، يظهر أن هذا أيضا كان ماء ولم يكن خيالاً، بل كان حدثا حقيقيًا. وكما ظهرت الحقيقة في حالة الأسود التي (أُلقي إليها دانيال) وفي حالة أتون النار الذي أحرق أولئك (بينما لم يحترق الفتيه الثلاثة)، هكذا الآن أيضًا، تري أن نفس الأحداث هي سبب خلاص ومسرة للبعض، وللبعض الآخر إدانة. إنه لصلاح عظيم هو الإيمان، لأنه عندما تنتابنا الحيرة، فالإيمان يُريحنا حتى ولو وصلنا إلي مرحلة الموت، أو يئسنا مما يحدث لنا. حقاً ماذا تبقي بعد ؟ المصريون والبحر قد حاصروا أولئك غير المسلحين، وكان لابد أن يغرقوا في محاولتهم للنجاة، أو يقعوا في أيدي المصريين. إلا أن الإيمان أنقذهم، بالرغم من أنهم كانوا في حيرة وارتباك، نفس الماء صار أرض يابسة للعبرانيين وفقد طبيعته، أما بالنسبة للمصريين فقد أغرقهم كبحر.
” بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعد ما طيف حولها سبعة أيام” (عب 11: 30).
فإن كان صوت الأبواق غير قادر علي هدم أحجار، حتى ولو ظل أحد يُبوق لسنوات طويلة، غير أن الإيمان يستطيع تحقيق كل شيء.
2- أرأيت كيف أن الإيمان في كل الحالات لا يخضع لمنطق الأحداث، ولا لقانون الطبيعة، بل إن كل شيء يأتي عكس المتوقع بواسطة الإيمان؟ إذا فكل شيء هنا أيضا قد صار عكس المتوقع. لأنه دائمًا ما كان يقول إنه ينبغي أن نؤمن بتلك الأمور التي نرجو أن نتمتع بها في الدهر الآتي. وقد أشار إلي كل هذا بشكل مبرر، لكي يُبيّن أن كل المعجزات قد تحققت بالإيمان ليس الآن، بل منذ البداية.
” بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاه إذ قبلت الجاسوسين بسلام” (عب 11: 31).
إن ما يدعو للخجل هو أن تظهروا عديمي الإيمان مُقارنة بالزانية، بالرغم من أن راحاب أخبرت من الرسولين وآمنت علي الفور، إلا أنها تتبعت الأمر حتى النهاية. لأنه بينما قتل الجميع، كانت راحاب فقط هي التي نجت من الموت. هل قالت لنفسها سأكون مع كثيرين من أبناء وطني، وهل قالت أنا أكثر رؤية من كثيرين من الرجال العقلاء الذين لم يؤمنوا، وأنا سأؤمن؟ لم تقل شيئًا من هذا كله مما كان طبيعيًا أن يقوله ويفعله أي شخص آخر، لكنها آمنت بما كلماها به.
” ماذا أقول أيضا لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت” (عب 11: 32).
لم يتذكر الأسماء بعد ، لكن بعدما توقف عند راحاب الزانية شعر بالخجل بسبب نوعية الشخصية، ولم يُطل في حديثه، لكي لا يظهر أنه يسهب في كلامه. بالطبع لم يتوقف عن أن يورد ،أمثلة، لكنه يتناولها بحكمة شديدة، محتفظًا بأمرين، تجنب الإكثار من الأمثلة، وعدم فقدان رصانة الحديث، ولم يصمت تماماً ، ولا صار مزعجًا وهو يتحدث عن هذه النماذج، بل حرص علي الأمرين معا. لأنه حين يجاهد ويناضل شخص ما بقوة شديدة، فإذا ما إستمر في التحدث بحماس شديد فإنه يرهق السامع الذي يشعر بكل تأكيد أنه مزعج وبذلك تلحق به سمعة العناد. إذا فهو يكتفي بما هو نافع ومفيد.
يقول: “وماذا أقول أيضًا؟ لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء”. البعض ينتقد الرسول بولس هنا، لأنه يُشير في هذا الجزء إلي باراق وشمشون ويفتاح، لماذا ؟ فذاك الذي أشار إلي الزانية ألا يشير لهؤلاء ؟ لا تذكر لي الجانب الآخر من حياتهم، أذكر فقط ما إذا كانوا قد آمنوا وأشرقوا من جهة هذا الإيمان. يتكلم عن
” الذين بالإيمان قهروا ممالك” (عب 11: 33).
أنك تري أنه لا يُقدم هنا حياتهم المشرقة ، لأن هذا لم يكن مطلوبا قبلاً، بل إن الحديث كان عن قوة الإيمان فلتخبرني، ألم يُحققوا كل شيء بالإيمان؟ كيف؟ يقول “بالإيمان قهروا ممالك أمثال جدعون، و”صنعوا برًا . مَنْ هم هؤلاء؟ هم أنفسهم الذين سبق ذكرهم في الجزء السابق. وقد دعي عمل الرحمة هنا برا. نالوا مواعيد” أعتقد أنه يقول هذا عن داود. وأيا من هذه المواعيد قد نالها؟ تلك التي قال عنها ، أن من نسله من سيجلس علي عرشه.
” سدوا أفواه أسود” ثم يقول “أطفاوا قوة النار نجوا من حد السيف” (عب 11: 34)
لاحظ كيف أنهم كانوا داخل الموت نفسه، دانيال كان محاطا بالأسود ، الثلاثة فتية داخل آتون النار إبراهيم وإسحق ويعقوب كانوا محاصرين بتجارب متنوعة، ومع ذلك لم ييأسوا . هذا هو الإيمان بالحقيقة، حين تقع الأحداث عكس ما نترجي، عندئذ ينبغي أن نؤمن أنه لم يحدث شيء متعارض، بل كل شيء كان في تناسق يقول: “نجوا” من حد السيف”. أعتقد أنه يتحدث هنا أيضا عن الثلاثة فتية. ثم يقول “تقوا من الضعف صاروا أشداء في الحرب هزموا جيوش غرباء”. يشير هنا إلي الأحداث التي وقعت أثناء عودتهم من بابل. يقول : ” تقوا من الضعف أي من الأسر عندما تركوا حياتهم اليهودية، وعندما لم يختلفوا في أي شيء عن عظام الموتى، وقتها تحققت عودتهم حقاً مَنْ كان يترجى عودتهم من بابل، وليس هذا فقط، بل ويصيروا أقوياء، وأن يهزموا جيوش الأعداء ؟ أما نحن فلم يحدث لنا شيء مثل هذا ، بل أصبحت هذه نماذج للدهر الآتي.
“أخذت نساء أمواتهن بقيامة” (عب 11: 35)
هنا هو يشير للأحداث التي صارت من قبل النبيين إليشع، وإيليا، لأن هذين أقاما موتى “وأخرون عذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل” بينما نحن لم ننل القيامة، لكنه يقول لهم، أنني أقدم لكم أولئك الذين قطعت رؤوسهم ولم يقبلوا النجاة، لكي ينالوا قيامة أفضل، أخبرني إذا ، لماذا بينما كانوا يستطيعون النجاة، رفضوا أن يعيشوا ؟ هل لم يفعلوا هذا ، لأنهم كانوا ينتظرون حياة أفضل؟ وأولئك الذين أقاموا ،آخرين هم أنفسهم فضلوا أن يموتوا ، لكي ينالوا قيامة أفضل، ليست مثل تلك التي نالها أبناء تلك النسوة. يبدو لي هنا أنه يقصد أيضًا يوحنا ويعقوب. كان بإمكانهما أن يريان الشمس، وألا يكونا موضع ملامة لكنهما فضلا الموت، وهذان أي) اليشع وإيليا اللذان أقاما موتى، هما أنفسهما قد فضلا أن يموتان لكي ينالا قيامة أفضل.
“وآخرون تجربوا في هزء وجلد، ثم في قيود أيضا وحبس رجموا، نشروا، جربوا” (عب 11: 36-37)
3- لقد توقف عند هؤلاء الذين كانوا أكثر شهرة ومعروفين للجميع. كذلك فإن هذه الأمور تحمل تعزيات كثيرة، حين يكون سبب حزنهم مشتركا ، لأنه إن تكلمت بشئ أكبر لم يرجع إلي نفس السبب، فلا تكون قد صنعت شيئًا. ولهذا توقف في حديثة هذا، وتحدث عن قيود، وحبس، وجلد ورجم، مُذكرًا إياهم بكل ما له علاقة باسطفانوس، وزكريا، ولهذا فقد أكمل قائلاً: “ماتوا قتلا بالسيف”. ماذا تقول؟ البعض نجا من حد السيف، والبعض مات بالسيف؟ ماذا يعني هذا؟ من يمتدح وبمن يُعجب؟ هذا أم ذاك؟ يقول هذا وذاك، لأنه (أي الموت) صار أكثر ألفة لديهم، لأن الإيمان إنتصر علي الموت نفسه، وهذا الإنتصار هو نموذج لما سيحدث في الدهر الآتي. لأن معجزات الإيمان هي نموذج لأمرين، إن الإيمان يحقق أشياء عظيمة، ودون أن يعطي إهتمامًا أو يحسب حسابا للمحن أو للآلام. ولا تستطيع أن تقول إن البعض كانوا خطاه ولا شأن لهم، وحتى لو أنك قارنت العالم كله بهم، فستري أن كفة الميزان سترجح لحسابهم أو لمصلحتهم، وأن هؤلاء (شهود الإيمان) هم الأكثر إستقامة وكرامة. ولذلك قال “وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم”. إذا بماذا سيتمتعون هنا في هذا العالم، مادام أنه لا شئ من أمور هذا العالم الحاضر كان مستحقاً لهم؟ إنه يثير أفكارهم هنا، لكي يُعلّمهم أنه لا ينبغي أن نهتم أو تنحصر في أمور هذا العالم الحاضر، بل يجب علي الجميع أن يسموا بأفكارهم فوق خيرات هذه الحياة الأرضية، طالما أن العالم كله لا يمكن أن يُقارن بهم: إذا لماذا تريد أن تأخذ المكافأة هنا؟ سيكون خزيا لك إن أخذت المكافأة هنا.
إذا لا ينبغي أن نفكر بشكل دنيوي، أو ننتظر التعويض هنا، لا نكون فقراء إلي هذا الحد الكبير، ومادام العالم كله لا يمكن أن يُقارن بهم، فلماذا تصبو إلي طلب الأمور الدنيوية، التي لاتقارن بالأبديات؟ وبالصواب تكلم، لأن هؤلاء كانوا أحباء الله. كلمة “عالم” هنا يقصد بها إما جموع البشر، أو الكون ذاته، كذلك فإن الكتاب المقدس إعتاد أن يدعو الأثنين هكذا. فالكون كله بالإضافة لكل البشر جميعًا إن وقفوا إلي جوارهم لن يمكنهم أن يظهروا مساويين في الإستحقاق لهم، وهذا صواب. لأنه تماماً كما أن وزنات لا حصر لها من القش والتبن لن تكون مساوية في القيمة مع عشرة لألئ ، هكذا لا الكون كله ولا البشر جميعًا يمكن مقارنتهم من حيث قيمتهم بشهود الإيمان. لأنه عندما يتمم واحد فقط مشيئته الله يكون أسمي من آلاف من العصاه، ولا يقصد بكلمة “آلاف” الكثيرين، بل الجمع الذي لا حصر له. تأمل سمو الإنسان البار. قال يشوع بن نون ” يا شمس دومي علي جبعون ويا قمر علي وادي أيلون، وقد حدث هذا. إذا فلتأتي المسكونة كلها ، ليس مسكونة واحدة بل ربما أثنين وثلاثة وأربعة وعشرة وعشرين وليحاولوا أن يصنعوا ذلك، إلا أنهم لن يستطيعوا لكن المحب لله أمر مخلوقات الله، أو من الأفضل أن نقول ترجي ! الله، عندئذ تراجعت عناصر الطبيعة الخاضعة لأوامر الله، فالإنسان الذي كان علي الأرض أمر تلك العناصر التي في السماء. أرأيت كيف أن هذه العناصر قد خُلقت لكي تخدم وتتمم طريق الأمر والوعد ؟
أن هذا العمل (الذي عمله يشوع) ، يعد أعظم من أعمال موسي.. لماذا يا تري؟ لأن صدور أمر للبحر لا يتساوي مع صدور أمر للعناصر التي هي . في السماء وأن ما قام به موسي هو بالحقيقة عمل عظيم جدًا، ولكنه لا يمكن أن يعتبر مساو العمل يشوع). إسمع كيف صار يشوع عظيمًا بهذا القدر لماذا؟ لأن إسم يشوع بن نون كان مثالاً للمسيح. ولهذا إذا وبسبب التشابه في الأسم، وهذه الصفة التي ليشوع فقد خضع الكون له بإحترام. ماذا إذا؟ ألم يكن هناك شخص آخر دعي بإسم يشوع؟ نعم، لكن يشوع بن نون دعي بهذا الإسم لهذا الهدف: أن يكون مثالاً للمسيح، لأنه دعي أيضًا أوسيس، ولهذا غير الاسم لأنه كان يحمل صفة الكهانة والنبوة. هذا (أي يشوع) ، أدخل الشعب أرض الموعد، كما أدخل يسوع البشر إلي السماء فالناموس لم يُدخل الشعب للسماء، ولا موسي، بل بقي خارجا. لم يكن للناموس قوة لكي يُدخل، بل القوة كانت للنعمة. أرايت كيف أن الأمثلة قد سبقت وتحددت منذ القديم؟ أمر الكون أو من الأفضل أن نقول أمر الجزء الرئيسي في الكون، الموجود فوق رأسه، حتى لا ترتعب ولا أن تندهش عندما تري يسوع في تجسده يصنع نفس الأشياء. هذا أي يشوع بن نون، بينما كان موسي علي قيد الحياة إنتصر علي أعدائه أيضا بالرغم من وجود الناموس، فقد كان يُدير كل شئ، لكن ليس علنية. لنري كم هي عظيمة فضائل القديسين.
4ـ فإن كانوا هنا (في هذه الحياة) قد عملوا أعمالاً عظيمة، وفعلوا أشياء عظيمة، بقدر ما فعل الملائكة، فماذا يا تري سيفعلون هناك (في الدهر الآتي)؟ ما هي قوة البهاء التي ستكون لهم؟ ربما يريد أحدكم أن يكون مثل يشوع، حتى أنه يستطيع أن يأمر الشمس والقمر. وبالنسبة لهذا الأمر، ماذا يمكن لهؤلاء الذين يدعون أن السماء دائرية الحركة، أن يقولوا؟ ولماذا إذا لم يقل فقط” يا شمس دومي ، بل أضاف علي جبعون ويا قمر علي وادي أيلون” أي يجعل اليوم أكبر. هذا قد حدث أيام حزقيا ، لأن الشمس تقهقرت أو تراجعت هذه المعجزة مثيرة للدهشة أكثر من الأخرى، أن تتراجع الشمس إلي نفس الطريق، دون أن تواصل طريقها. أما نحن فإذا أردنا سنحقق معجزات أعظم من هذه. حقا بماذا وعدنا المسيح؟ إنه لم يقل لنا أننا سنوقف الشمس، بل قال : ” يحبه أبي وإليه نأتي وعنده تصنع منزلاً.
وما هي حاجتي للشمس والقمر ومعجزاتهما إن كان رب الجميع قد أتي وسكن في؟ لن أحتاج إلي هذه الأمور. فما هي حاجتي لشيء من هذه الأشياء؟ لأن المسيح سيكون بالنسبة لي هو الشمس والقمر والنور. فلتخبرني، ما هو الأنسب لك، إذا دخلت إلي قصر الملك، أن يكون في مقدورك تنظيم شيئًا من هذه الأشياء الثابتة أو المستقرة، أم تكسب صداقته، حتى تقنعه أن يأتي إليك؟ ألا تفضل بالأكثر جدا هذه الصداقة علي الأمر الآخر؟ ولكن ماذا؟ أليس هو أمر مدهش حقا أن إنسانا يأمر (الشمس والقمر) التي يأمرهما المسيح. غير أن المسيح بكونه إله لا يحتاج إلي نوال معونة من الآب، بل يعمل بسلطان مطلق. إذا فلتعترف أولاً وقل، إن المسيح يأمرهما يعمل بسلطان مطلق، وحينئذ سأقول لك أيضا، أو من الأفضل سأعلمك . عن الصلاة التي يُصليها، إذ هي تصب داخل إطار التدبير الإلهي (لأن المسيح لم يكن أقل من يشوع بن نون)، وأنه كان يستطيع أن يُعلّمنا بدون صلاة.
وكما يحدث عندما نسمع المعلم يتكلم مثل ولد ، ويشرح العناصر الأساسية لا نقول إنه غير متعلم، وعندما يسأل أين هو هذا العنصر، تدرك أنه لا يسأل عن جهل، بل لأنه يُريد أن يُعلّم التلميذ، هكذا المسيح أيضًا صلي، لا لأنه محتاج للصلاة، بل لأنه يريد أن يعلمك أنت أن تصلي علي الدوام، وبدون إنقطاع وبصفاء روحي، وأن تفعل هذا في سهر كثير. وعندما أقول يجب أن تسهر، لا أقصد فقط أن تنهض ليلاً (لتصلي)، بل وخلال فترة النهار أيضاً عليك أن تسهر في الصلاة (أي تكون متيقظاً دوماً) ، لأن من يفعل هذا أو يحيا هكذا ، يُدعي متيقظا أو ساهرًا. فإنه من الممكن أن يغلب النعاس علي شخص أثناء الصلاة ليلا، بينما يسهر خلال فترة النهار ، ويكون هكذا ساهرًا حتى عندما لا يصلي أيضا، حين تسمو نفسه إلى الله، وعندما يدرك مع من يتحدث، وإلي مَنْ يتوجه، عندما يفكر أن الملائكة تقف إلى جوار الله بخوف ورعدة، بينما ذاك يأتي بتثاؤب ورغبة في النوم.
الصلاة هي سلاح عظيم حين تُرفع برغبة صادقة وبطريقة لائقة. ولكي تعلم قوتها، لاحظ هنا أن الصلاة المستمرة إنتصرت علي السفاهة والظلم والقسوة والوقاحة، لأن الرب يقول : ” إسمعوا ما يقول قاضي الظلم .. وما لا تحققه الصداقة، تحققه اللجاجة وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج ” . وهذه اللجاجة أيضًا جعلت غير المستحقة (أي المرأة الأممية مستحقة، يقول المسيح له المجد ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويعطي للكلاب فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها”
5- إذا لنكن منتبهين في صلاتنا، لأن الصلاة هي سلاح عظيم، عندما تُرفع بإرادة الإنسان، وبلا رغبة في المجد الباطل بل بنية صادقة الصلاة سحقت أعداء، الصلاة أحسنت لأمة كاملة غير مستحقة، يقول الكتاب ” إني علمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم . . إنها دواء منقذ ، الصلاة تُعيق إرتكاب الخطايا، وتشفي الجروح، بالصلاة حصلت الأرملة علي طلبها بلجاجة إذا إن صلينا بإتضاع، لـو قرعنا الصدر مثل العشار، وإن رددنا الكلمات التي قالها ، “اللهم أرحمني أنا الخاطئ” ، فإننا سننال كل شيء. لأنه إن لم نكن عشارين، لكن لدينا خطايا أخري ليست بأقل من العشار. إذا لا تقل لي، إن خطيئتك بسيطة، لأن لها نفس النتيجة. هكذا أيضا فالقاتل يدعي قاتلاً سواء كان قد قتل طفلا أو رجلاً وهكذا يُدعي طماعًا أيضاً ذاك الذي يسلب الكثير، أو الذي يسلب القليل.
بل إن حفظ الإساءة أيضًا ليس بالشئ البسيط، ولكنه خطيئة كبيرة، لأن الكتاب يقول ” حفظ الإساءة طرقها مؤدية للموت”. لأن “كل من يغضب علي أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم”. ينطبق هذا علي من يدعو أخاه أحمق وغبيا ، أو الذي يصفه بأية صفة آخري شبيهه أننا نتناول الأسرار المقدسة بدون إستحقاق، إذ أننا نحسد، ونسئ بل ومرات كثيرة البعض منا يسكر. كل خطيئة من هذه الخطايا، هي بحد ذاتها كافية لتحرمنا من ملكوت السموات، وإذا كنا نرتكب كل هذه الخطايا فأي دفاع سنقدمه؟ أيها الأحباء نحن في إحتياج شديد للتوبة، لصلاة كثيرة، وصبر وإحتمال كثير، وحذر شديد، لكي نستطيع أن نربح الخيرات التي وعدنا بها الله. إذا فلنقل نحن أيضا، “أرحمني أنا الخاطئ”، أو من الأفضل لا يجب أن تقول ذلك فقط، بل لنفكر هكذا ، وإن أداننا أحد آخر، فيجب ألا نغضب إسمع ذاك الذي يقول أنا لست مثل ذلك العشار”، إن العشار لم يغضب، لكنه إتضع وأظهر التميّز ونزع العار عن نفسه). تكلم (العشار) عن جرحه وطلب الدواء. إذا فلنقل أرحمني أنا الخاطئ ، بل وإن دعانا أحد بالخطاة، فينبغي ألا نغتاظ نحن أنفسنا، نقول أننا نرتكب شرورا لا حصر لها ، أما عندما نسمع ذلك من الآخرين، فإننا نغضب، هذا لا يُعد إتضاع ولا إعتراف بإرتكاب الخطية، بل تظاهر ومجد باطل.
وهل هو تظاهر أن تدعو نفسك خاطئا ؟ نعم، لأنه بذلك نكتسب سمعة الإتضاع وتعجب بأنفسنا، ونمدح أنفسنا، أما إن لم نقل العكس عن أنفسنا، فإنهم يحتقروننا حتى أننا نصنع هذا لأجل تمجيدنا وما هو الإتضاع؟ أن تحتمل إدانة الآخر، أن تعترف بخطاياك، وأن تحتمل الإتهامات ولا هذا أيضًا سيعد علامة علي الإتضاع، بل هو علامة أمتنان وشكر. لكن الآن نحن ندعو أنفسنا خطاه، غير مستحقين، وأمور أخري كثيرة، ولكن إن نسب إلينا أحد خطيـة مـن هـذه الخطايا، نتضايق ونغضب بشدة. أرأيت كيف أن هذا القول بأنه خاطئ ليس إعترافا (بالخطية ) ولا هو امتنانًا ؟ إذا قلت أنك مثل العشار، إذا لا تغضب حين تسمع من الآخرين أنك خاطئ، وعندما تُهان فإن خطاياك تصبح أخف، وأيضًا عندما يُدينك آخرون، لأن هؤلاء يُضيفون لأنفسهم ثقلا، بينما يقودونك أنت لممارسة الفضيلة.
إسمع ماذا قال المطوب داود، عندما سبه شمعي يقول ” دعوه يسب لأن الرب قال له سيب داود. لعل الرب ينظر إلي مذلتي ويكافئني الرب خيرًا عوض مسبته بهذا اليوم . بينما أنت، برغم من أنك تنسب لنفسك أعظم الشرور، تغضب حين لا تسمع من الآخرين، المديح الذي للأبرار العظام أرأيت كيف أنك تتلاعب في أمور لا يصلح التلاعب فيها إذا أننا نرفض مديح الآخرين، لكي نجني بذلك مديحاً أعظم وأكبر، لكي يُعجبوا بنا أكثر. وبناء علي ذلك نحن نصنع هذا ، لا لأننا لا نرغب في المديح، بل لكي نزيده، ولكي يصير كل شيء لأجل مجدنا ، وليس لأننا بالحقيقة نريد هذا. ولهذا فكل شئ يؤول إلي فراغ وإلي المجد باطل.
ولذلك فإنني أرجو أن نبتعد عن مصدر الشرور والغرور و المجد الباطل، وأن نحيا بحسب مشيئة الله لكي ننال خيرات الدهر الآتي بمعونة ربنا يسوع المسيح.
العظة الثامنة والعشرون (عب11: 38-40)
” طافوا في جلود غنم وجلود معزي معتازين مكروبين مذلين وهم لم يكن العالم مستحقا لهم تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض” (عب 11: 38).
1- ما يحدث لي بصفة دائمة هو أنني عندما أفكر فيما حققه هؤلاء القديسون أجدني أرغب في أن أنسي كل ما يخصني، لأنه لا يمكننا حتى في أحلامنا، أن نعرف ما أجتاز فيه هؤلاء الرجال في حياتهم كلها ، بالرغم أنهم دائمًا ما كانوا يسجلوا إنجازات، إلا أنهم قد واجهوا ضيقات بصفة دائمة. حقا فلتفكر في إيليا الذي تحدثنا عنه اليوم، لأن عبارة “طافوا في جلود غنم”، الرسول بولس يشير بها إليه، وقد توقف في عرضه لنماذج شهود الإيمان عند (إيليا) ، في معرض حديثه عن الشخصيات التي إتخذها أمثلة دون أن يترك ما كان معروفًا لديهم (العبرانيين). وبعدما أشار إلي الرسل الذين واجهوا الموت ذبحا ، ورجما، عاد وتحدث عن إيليا الذي عاني نفس معاناة هؤلاء الرسل. لأنه كان من الطبيعي أن لا يكون لدي العبرانيين بعد، فكرة كبيرة عن الرسل، إلا أنه بالنسبة لإيليا الذي أُصعد وكان موضع إعجاب شديد، فقد حمل لهم العزاء والرجاء.
يقول “طافوا في جلود غنم وجلود معزي معتازين مكروبين مذلين وهم لم يكن العالم مستحقا لهم” فلم يكن لديهم حتى ملابس ليرتدوها، بسبب الإضهادات الشديدة، ولا السكنى في مدينة، ولا منزل ، ولا مأوي لهم، هذا ما قاله المسيح تحديداً ” وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه ” . لكن ماذا أقول، ألم يكن لديهم مأوي؟ لم يكن لهم مكانا يقفوا فيه لأنهم لم يكن لهم استقرار حتى عندما لجأوا إلى الصحراء. كذلك لم يقل أنهم بقوا في البرية، بل رحلوا من هناك، واضطهدوا ، وطُردوا ليس فقط من المناطق الآهلة بالسكان، بل ومن المناطق غير الآهلة ويُذكر بالأماكن التي عاشوا فيها ، والأحداث التي حدثت لهم هناك “معتازين مكروبين”. ثم يقول بعد ذلك، ومن جهتكم فهم يتهمونكم لأجل المسيح، وهذه الآلام والعذابات فعلوها بإيليا. ماذا كان لديهم ليقولوه ضده، وليطردوه، وليضطهدوه وليجبروه أن يُصارع الجوع؟ هذا أي إيليا) وهؤلاء (الرسل) قد ماتوا ولهذا قال في موضع آخر فحتم التلاميذ حسبما تيسر لكل منهم أن يُرسل كل واحد شيئًا خدمة إلي الأخوة الساكنين في اليهودية . الأمر الذي حدث لهؤلاء (شهود الإيمان).
يقول: “مكروبين”، أي كانوا معًا في كل الإضطهادات، وفي السير في الطرق، وفي الأخطار، الأمر الذي حدث للرسل. لكن ما معني “طافوا “؟ تعني “تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض”. إن هذه الكلمة لا تعني سوي أنهم طافوا مثل المنفيين والمهاجرين تماماً مثل أولئك الذين أُدينوا بالفسق، أمثال هؤلاء الذين لا يستحقوا أن ينظروا حتى للشمس، ولم يجدوا ولا حتى ملجأ في الصحراء، بل كان يتحتم عليهم أن يرحلوا علي ،الدوام، وأن يبحثوا عن أماكن للإختباء، كان ينبغي أن يُدفنوا أحياء، وأن يظلوا مطاردين من الخوف.
” فهؤلاء كلهم مشهودا لهم بالإيمان لم ينالوا الموعد. إذا سبق الله فنظر لنا شيئا أفضل لكي لا يكملوا بدوننا” (عب 39:11-40).
إذا ما هي مكافأة مثل هذا الرجاء العظيم؟ وما هو التعويض؟ إنه عظيم جدا ، حتى أنه لا يمكن التعبير عنه بالكلام. لأن هذا كما يقول ” ما لم تري عين ولم تسمع أذن ولم يخطر علي بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه ؟ لكنهم لم يكونوا قد تمتعوا بذلك بعد ، لقد إنتظروا وماتوا هكذا في ضيق شديد جدا. إن هؤلاء، ظلوا سنوات طويلة جدًا حتى إنتصروا علي كل هذه الضيقات والآلام، ولم يتمتعوا بعد بالمكافأة أو المجازاة، وأنتم الذين بعد في مرحلة الجهاد ، لا تصبروا؟ فلتفتكروا أنتم أيضًا، ماذا يعني هذا الكلام، وكم من الزمن سينتظر إبراهيم، والرسول بولس حتى تكمل أنت لكي يستطيعوا عندئذ أن ينالوا المكافأة لأنه إن لم تُوجد إلي جوارهم هناك ( في الحياة الأبدية)، فلن يكافئهم المخلص. كما سبق وقال لهم هذا تماما مثل أب حنون إن قال لأبنائه الذين يبتهجون، وقد أكملوا عملهم، إن لم يأت أخوتهم، فلن يأكلوا، فهل أنت تتضايق لأنك لم تكافأ بعد؟ إذا ماذا ينبغي لهابيل أن يفعل، الذي إنتصر (علي الشر) قبل الجميع، وهو بعد ينتظرنا غير متوج؟ أيضًا ماذا ينبغي لنوح أن يفعل؟ وماذا يفعل كل أولئك الذين عاشوا كل هذه السنوات، والذين إنتظرونك أنت وكل من سيأتي بعدك؟ أرأيت كيف أننا نتمتع بمكانة أكثر تميزا من أولئك (الذين جهادوا قديمًا ) ؟ إذا حسنًا قال “إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل” لكي لا يعتقدوا أنهم متميزون علينا ، لإنهم تُوجوا أولاً ، فقد عيّن الله زمن التتويج، واحد للجميع، لمن إنتظر منذ سنوات طويلة أن ينال إكليله معك أنت.
أرأيت مقدار العناية؟ وهو لم يقل لكي لا يُكللوا بدوننا، بل قال “لكي لا يكملوا بدوننا حتى أنهم في ذلك الوقت سيظهرون كاملين. لقد سبقونا في الجهاد، لكنهم لن يسبقوننا في التتويج. لم يظلم هؤلاء، لكنه كرمنا نحن، لأن هؤلاء (شهود (الإيمان أيضًا ينتظرون أخوتهم. مادمنا جميعًا جسد واحد. إن التنعم في الجسد يصير أعظم، عندما يكون التتويج مشتركاً ، وليس بشكل فردي. حقاً إن الأبرار من جهة هذا الأمر يستحقون المديح لأنهم يفرحون للخيرات التي سينالها أخوتهم، كما لو كانت لهم حتى أن هذا هو بحسب رغبة هؤلاء الأبرار، أي أن يتوجوا مع كل أعضاء جسدهم الواحد جسد المسيح ، لأنه أن يُمجدوا معا ، فهذا تنعم عظيم.
تفسير رسالة العبرانيين 10 | رسالة العبرانيين 11 | تفسير رسالة العبرانيين | تفسير العهد الجديد | تفسير رسالة العبرانيين 12 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | ||||
تفاسير عبرانيين 11 | تفاسير رسالة العبرانيين | تفاسير العهد الجديد |