تفسير سفر أيوب أصحاح 2 للقديس يوحنا ذهبي الفم
الإصحاح الثاني
تجارب جديدة
تدخل جديد للشيطان
١- وكان ذات يوم أنه جاء ملائكة الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضاً في وسطهم ليمثل أمام الرب” (٢: ١).
لماذا يُظهرهم الكاتب على أنهم يتراءون هكذا أمام الرب كل يوم ؟ هذا لكي نعلم أن الأحداث الجارية لا تغيب عن العناية الإلهية، ولنعلم أيضاً أن الملائكة يقدمون تقريراً عما يحدث كل يوم وأنه يتم إرسالهم كل يوم لترتيب بعض الأمور ولو أننا نجهلها، لأنهم لأجل هذا قد خُلقوا ، وهذا هو واجبهم كما يقول الطوباوى بولس «أليس جميعهم أرواح خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب ١٤: ١).
«وجاء الشيطان في وسطهم»
ها أنت ترى لأى غرض تراءت الملائكة، لكن لأي غرض تراءى هو ؟! هذا لكي يجرب فلخدمة أمور خلاصنا. أيوب، أما . هم
لماذا سأله الله مرة أخرى أمام الملائكة بالذات ؟ حتماً لأن الشيطان قال أمامهم أيضاً «بالتأكيد إنه في وجهك يجدف» (۱ : ۱۱).
أية طبيعة وقحة هذه إنه تجاسر على العودة مرة ثانية
٢- فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في
الأرض ومن التمشى فيها (٤:٢).
لاحظ أيضاً أنه يجول فى الكون كل لحظة. كون الملائكة يجولون فيها أيضاً، فهذا أمر أعلمنا به زكريا انظر زك (۱ : ۱۰ ، ۱۱). لكن هذا التعيس لم يكتف بمجرد الجولان والجولان كل يوم هو فى الواقع عمل من أعمال العناية الإلهية، لكي يكون الشيطان – في نفس الوقت – مداناً بأكثر شدة، ونحن أيضاً نكون أكثر يقظة. لهذا السبب هو يُدعى «رئيس الظلمة الأبدية (أف ٦: ١٢ بحسب النص)، أى رئيس الشر.
تكلم أيها الشيطان ما الذي أنجزته؟
فيقول: إننى جلت في الأرض كلها ودرت.
أي عمل أديته؟
لا شيء مفيد أو صالح.
وهو لم يجرؤ على أن يقول شيئاً سوى أ أنه جال وحسب.
تقريظ جديد لأيوب
۳- فقال الرب للشيطان هل جعلت قلبك على عبدى أيوب، لأن ليس مثله في الأرض، رجل كامل ومستقيم يتقى الله ويحيد عن الشر
الرب من جديد يثيره لجولة ثانية من القتال ويواصل كلامه له بقوله «وإلى الآن هو متمسك بكماله وقد هيجتنى عليه لإهلاك أملاكه بلا سبب» (تابع ۲: ۳)
ألم تكتف أيها الوقح بالثقة في تقرير الله عنه ؟ أما كان ينبغي لك بعد هذه التجربة أن تثق فيه بعد الآن؟ ألم يقل لك أنه كان بلا لوم (كامل) ؟ ألم تبرهن لك تلك التجربة على ذلك؟ فكيف عدت من جديد للهجوم ؟ وماذا نتعلم من هذا ؟ نتعلم أنه حتى لو أخفق الشيطان ألف مرة، فإنه لا يكف على الإطلاق، بل يواصل حملاته بدون حياء.
«إنك هيجتني عليه باطلاً لإهلاك أملاكه».
هل كل ما حدث لأيوب كان اعتباطاً وبلا سبب؟
في الحقيقة إنه لم يكن بلا سبب» بل كان لأجل منفعته.
لكن أنت هيجتني عليه لإهلاك أمواله بلا سبب»
إن الله لم يقل أن أملاكه قد ضاعت سُدى، بل قال «أنت هيجتني عليه لإهلاك أمواله لأن أيوب قد نال مجازاة تفوق المعتاد لأجل فقد ممتلكاته. فهل سعى أيوب بلا سبب». لأن يُعاد له ما قد فقده؟
ولو أن الله قال للشيطان: إنه أنت الذى بلا سبب واعتباطاً قد وشيت بهذا الإنسان، إلا أن هذا المرذول لم يخر (يأساً) أو يندم بل سعى إلى تجربة ثانية ليلقى به مرة أخرى في (حلبة) المصارعة لكى تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة (مت ۱۸: ١٦). لكن لاحظ غباء الشيطان الشديد. إنه الله قد قال إن أيوب متمسك بكماله»، و(كأنه) يقول له: ما الذى تأمله من ضربك لجسده ؟ إن الشيطان وجد أيوب غير متمرس على المحن والأتعاب) ووضع عليه مثل هذا الحمل الثقيل من البلايا دون أن يقوى عليه أبداً، (بل) وجده أكثر قوة منه أى من الشيطان)، إذ حتى فى هذه الظروف لم يتقهقر إلى الخلف.
لاحظ بأى أتضاع يجيب الله الشيطان معلّماً إيانا ( بذلك) ألا نتباهى بنجاحنا، لأنه مهم جداً أن يكون الإنسان متضعاً حتى في الانتصار.
فماذا سيفعل الشيطان، ذاك الكائن الشره الذى لا يكف أبداً عن أذيتنا كل يوم ؟
طلب جديد للشيطان: أضربه في جسده
٤- فأجاب الشيطان الرب وقال: جلد بجلد، وكل ما للإنسان يعطيه لأجل نفسه” (٤:٢).
حتى لو كان على أيوب أن يبذل حياة أخرى، فلن يرفض هذا. أى حتى لو ضحى في السابق بأولاده، فهذا أمر معتاد عند البشر، فلا شيء أغلى عند الإنسان من نفسه.
إنه لم يكن قد مس بعد ممتلكاته الأساسية. ومع ذلك أنت قلت إن نزعت عنه أملاكه سيجدف عليك».
لكن لماذا لم يطالب الشيطان بهذا منذ البدء ؟
هذا ما حسبه الشيطان وقاله : لو حدث أن أيوب سينهزم ، فمن الأفضل إحراز النصر عليه على أرضية أكثر ضعة، ولكن لو – على العكس – لم أحرز النصر عليه من جهة ممتلكاته، فعلى الأقل سأحرزه من جهة جسده، وستكون هزيمته مخزية لو أنه جدف لأجل ممتلكاته. لكن لو لم يجدف ، يتبقى لى أن أهاجمه على الأرضية الثانية (أى جسده. لأجل هذا قد أبقاه الشيطان لجولة ثانية).
إن الشيطان قال كل ما للإنسان يعطيه لأجل نفسه فهل أيوب هو الذي أعطى (قدم) ممتلكاته ؟ إنك أنت الذى انتزعتها. هل عُرض عليه حقاً الخيار بين هلاكه أو هلاك ممتلكاته؟ وهل اختار هو الشق الثاني ؟ فكيف صار أنه لم يجدف أيها المرذول؟ إن ما يريد الشيطان قوله أن الشيء الأكثر أهمية عن كل ما عداه بالنسبة للإنسان هو نفسه وكل شيء آخر هو ثانوى.
أنظر مرة أخرى كيف أن الشيطان قد وقع فى مصيدة ردوده ذاتها. ولكي لا يتبقى له بعد أية حجة أو دافع لأن يقول أنه لم يضر ممتلكاته الأساسية وأنه ولا حتى استولى على الأساس منها، فإنه أخذ قصب السباق أى) بادر ليعلن أن كل ما للإنسان يأتي (في المرتبة الثانية بعد حياته ذاتها، وأنه سيجحد بسهولة كل شيء ليحفظ ويقى نفسه، وأن لا شيء على الإطلاق أكثر أهمية له من نفسه. وما أريد أن أركز عليه هو أن الغنى ليس له قيمة عظيمة في عين البشر.
فلنتعلم أيها الأحباء حتى ولو خجلنا من التعلم من الشيطان، أنه ينبغي ترك كل شيء لإنقاذ النفس.
وهذا أمر طبيعي للبشر، ولو أننا لن نمنح أى غفران عندما يجعلنا الغنى نجدف، وهو (أى الشيطان) قال إن الغنى لا يمثل أية أهمية لأننا نبذل كل شيء لإنقاذ نفسنا ذاتها ( فليتنا نتصرف هكذا على المستوى الروحي).
موافقة جديدة من الله
٥- ومن جديد طلب الشيطان قائلاً ” ولكن ابسط الآن يدك ومس عظمه ولحمه فإنه في وجهك يجدف عليك (٢: ٥).
لقد تكلم الشيطان بخبث، فهو لم يقل لحمه وحسب، بل عظمه (أيضاً) لكي تتولد البلية في داخله. فماذا قال الله من جهته؟ «فقال الرب للشيطان ها هو في يدك ولكن احفظ نفسه» (۲: ٦) ، أى بمعنى لا تميته، وعلى ذلك فالشيطان لا يستطيع أن يعمل شيئاً، ما لم يأخذ الإذن به فإن جعلته يموت، فلن يمكننا بعد أن نهلل للمشهد. وهكذا يمكن للشيطان أن يميت الإنسان لكن لا يمكنه أن يؤذيه. انظر هذا، نحن نتعلم من هنا أن الشيطان يغير من الناس الأتقياء، لكن على الرغم من غيرته لا يستطيع أن يؤذيهم من ذاته قبل أن يأخذ الإذن من الله الإذن الذى يمنحه الله أحياناً، لكن بدلاً من أن يعطيه حرية التصرف يُقصر. أحياناً على الممتلكات وأحياناً على الممتلكات وأحياناً على الأشخاص (أي أجسادهم). وهذا في الواقع ما تلمح إليه واقعة أنه أخذ الإذن للمرة الثانية. ولنتعلم من هذا أن كل قوة الشيطان مشروطة بالإذن له، وأنه حتى لو انهزم فإنه لا يستسلم، بل يمضى قدماً في مخططاته، لكن أن يُمنح الموافقة أو الرفض فهذا أمر يختص بالله. لماذا لم يقل: فقط لا تمس حياته، بل قال لكن احفظ نفسه ؟ إنه بذلك) غمره بخوف عظيم. لا تقل لي: لن ألمسه، بينما تميته بطريقة ما. إننى أطلب منك حفظ حياته، وكلمة «احفظ» هي تعبير أقوى من كلمة «لا تمس». وهو فى الوضع الراهن يخيف خصمه، حتى إذا نظر قوته العظيمة لا يمس حياة أيوب. وهذا حدث لأنه كان من المحتمل أن يرسل له الشيطان مرضاً يهلك جسده ويقول : إننى لم أمس حياته لهذا السبب قال له الله «احفظ نفسه». إنني لم أقل هذا وحسب احترس ألا تمس نفسه، بل أيضاً أقول «احفظ نفسه لكي لا تعانى (نفسه) أى ضرر ، وأنا أقول هذا من جهة حياته.
تجارب جديدة لأيوب
– فخرج الشيطان من حضرة الرب وضرب أيوب بقرح ردئ من باطن قدمه إلى هامته (۷:2)
من جديد يخرج الشيطان وفى كل مرة يلتفت إلى عمله بعد أن ينال الإذن. لاحظ جيداً كيف أنه لا يسوّف بل يتجه بسرعة إلى التنفيذ في الحال. نحن نتعلم من هذا أن ترخيصاً ما، ينظم ما يجيزه الله للشيطان، ونتعلم أن الشيطان يطالب بتجارب ويتكالب عليها ليس بناء على أمر من الله، إنما لأنه يجد لذّته فيها ويلتمسها منه. وأنت ترى أن «الله لا يجرب أحداً» (يع (۱: ۱۳) ، لكن فى كل مرة يبدأ الشيطان الهجوم فيُسمح له ببعض الأمور، وأمور غيرها لا يُسمح (له بها). وإن قيل بخصوص من يسقطون : لماذا سمح الله بهذا ؟ (إنهم سقطوا) حتى يقتنعوا فى كثير من الأحوال بمظهريتهم وريائهم.
فمثلاً في حالة يهوذا سمح الله للشيطان بأن يهاجمه ليقنعه بأنه قد ضل سواء السبيل بينما لم يسمح بهذا في حالة سمعان، حيث على العكس جاء لمساعدته، وهكذا يعطى الله أحياناً الإذن لإسقاط الإنسان وزعزعته وأحياناً يرفض إعطائه. ويعطى أيضاً الإذن لتجربة إنسان وأحياناً يرفض إعطاء الإذن حتى لا يسقط الإنسان.
لهذا أيضاً نحن مدعوون إلى الصلاة بقولنا لا تدعنا نسقط فى التجربة التي لا نستطيع احتمالها» (انظر مت ٦: ١٣)
هل تلاحظ أيوب عندما سقط مريضاً وصار عليلاً؟ فى اللحظة التي حرم فيها من عبيده، لأن الفقر أمر مؤلم حتى عندما يكون الإنسان في صحة جيدة، لكن عندما يُضاف إليه علة تستدعى عدد كبير من العبيد، فإن المرض يصير أيضاً أمراً صعب احتماله. انظر لجنون الشيطان إنه لم يعفِ أى جزء من الجسد، بل أ يختص بمصارع قدير يحارب في جسده ضد الشيطان الفاسد، وكمثل من هو محروم من كل أسلحته، فإما أنه يُجبر على ضرب رأس خصمه بيده التي بلا سلاح أو لا يحرز النصر إلا بعد تلقى ضربات (كثيرة) . إن الله قد ربط يدى أيوب في اللحظة التي استعد تماماً. وكما أفسد كل جسده
فيها لإطلاق خصمه عليه.
قال الرب للشيطان ها هو في يدك»
إنه لم يتحدث عن مبارزة فيها مواجهة (متكافئة)، بل بعد أن قيّده قال «ها هو في يدك»، ولكن بالرغم من هذا فلن تهزمه.
أنظر أية قوة لخدام الله، وما هو ضعف الشيطان، فإنه لا يستطيع هزيمة الأبرار حتى لو كانوا مقيدين وبلا حركة
7- ربما تظن أن علّته خفيفة إذ أنك تسمع كلام عن قرحٍ، لكن اسمع التالي ” وأخذ أيوب شقفة ليحك بها الصديد (۲: ۸) ་་
كيف يمكن بالكلام وصف هذه البلية ؟ ماذا نقول ؟! حتى رؤيتنا عياناً للمريض لن تجعلنا ندرك قسوة المرض، فقط الخبرة (العملية) هى التى تتيح لنا معرفته حسناً. لماذا كان يحك أيوب نفسه بنفسه؟ إنه كان وحيداً ولم يكن له إنسان يخدمه، لأن هذا الأمر كان أيضاً من نتاج عمل الشيطان بأن جعله محل بغضة وكره من الكل. والذين كان ينبغي عليهم أن يعينوه بالأكثر فى بليته، فإن الشيطان قد حرمه من معونتهم مقدماً، والعزاء الوحيد الذي بقى له – أقصد زوجته – ليس فقط لم يتركها لتعزية زوجها بل أيضاً جندها ضده.
لماذا من ناحية أخرى لم يستخدم يديه وأصابعه ليحك بها نفسه؟ لكي يتحاشى أن يصير الاهتمام بقروحه فرصة لأن يشمئز من نفسه جداً، فعندما لا يستطيع احتمال الاعتناء بنفسه فكيف يستطيع أن يجد آخرين يقومون له بهذا العمل؟! لقد كان هو ذاته جلاداً لنفسه ليس بوخز جنبيه، بل بحكه لقروحه المتقيحة. لأنه حتى لو كان لديه عبيده بعد فهذا المنظر لم يكن ليثير الشفقة من جانب العبيد لأنهم سيعافون منه) لكن واقعياً كان هو نفسه يعتنى بنفسه. إنه قد ظهر كمنظر عام لكل الأنظار (انظر ١ كو ٤ : ٩). إن المصارع قد تجرد من ملابسه وانهمك فى الصراع. فماذا نستحق نحن الذين لا نحتمل حتى مجرد سماعها النص؟ أى تعذيب يوجد أكثر إيلاماً من هذا؟ ليرجع كل شخص إلى خبرته ليفهم (ليدرك) الأمر دون أن يكتفى بالالتزام بالتوقف عند) بكلمات النص. إنه رأى نفسه يفنى ببطء بطريقة مخزية وبغيضة، إلا أنه عرف كيف يحتمل نفسه. إنه طرد خارج بلدته. يا للخزي وكان جالساً في وسط الرماد.
۸ – يقول النص وكان جالساً فى وسط الرماد خارج البلدة» (۲: ۸). لماذا؟ لأن أهل مدينته لم يحتملوا رؤية هذا المنظر الرهيب رغم أنه كان مثيراً للشفقة، وكأنه نوع من الوحوش غريب المنظر . هل رأيت البلية فى كمالها؟ هل رأيت هذا الإنسان الفولاذي هذا الإنسان الحديدي؟ لماذا لم يحبس نفسه فى حجرته بل جلس في العراء ظاهراً أمام كل الأعين؟ فى ظني أن هذا كان لإثارة الشفقة بالأكثر ويمكن من جهة أيوب القول إن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يوماً فيوماً» (۲کو ٤: ١٦)، وليتفكر فى طبيعته (البالية) كل من يتباهى بجمال جسده. كان جسد أيوب مملوءاً صديداً ويعمل كغذاء وطعام للدود. إن كانت أية رائحة كريهة أو تشوه يدفع البعض منا إلى الاختباء، فليتأملوا هذا البطل. أي شيء كان مثيراً للغثيان أكثر منه ؟ أى شيء أبشع منه؟ أى شيء منفّراً أكثر منه؟ لكن لا شيء كان عطراً أكثر من نفسه إن طبيعته الجسدية كانت تنحل، بينما نفسه بقيت غير فاسدة. لماذا كان يجلس على الرماد؟ لكى يوارى فى كومة القذارة ما يسقط منه من صديد). لماذا جلس فى العراء ؟ لكي يكون له بعض الراحة لو كان حابساً نفسه في غرفة لكان هواء الغرفة على قلته قد فسد ، ولكان هو نفسه قد اختنق من رائحته الكريهة. لذلك اعتقد أنه كان من الأفضل له احتمال الضيق الذي يسببه تعرضه على الملأ عن أن يعانى من الرائحة الكريهة التي يثيرها الهواء الفاسد وهو في حمى سقف. وفضلاً عن ذلك، فأنا اعتقد أن وجعه لم يكن إنسانياً (أى يفوق قامة البشر) : كمثل من فهم أن الله هو الذى ذل الشيطان على هذا الأمر، فلم يخز أو يخجل، بل عرّض نفسه لسخرية الجميع.
ضلال امرأة أيوب
– فلما مضى وقت طويل قالت له امرأته حتى متى تصمد قائلاً هوذا أنا صابر قليلاً منتظراً رجاء خلاصی (۹:۲)
من بين المكائد السابقة فهذه أقوى المكائد التى جعلها الشيطان في آخر الأمر.
آه لو كنت أخذت أيضاً هذه المرأة
آه لو كنت أخذتها كما حدث هذا مع أولادها أيضاً!
إن البعض يظن أن هنا أيضاً لم تكن المرأة هى التى فاهت بهذه الكلمات، بل الشيطان هو الذي قالها متخفياً فيها لأنه ما كان ممكناً أن تصير امرأته هكذا، وعلى الأقل يمكن القول أن البلية هي التي قلبت تفكيرها ( واتزانها) وجعلتها هكذا.
يقول النص «فلما مضى وقت طويل..»
انظر كيف أنها تحاول هدمه بفصاحتها. إنها – فى الواقع – تمتلك حججاً كثيرة لإقناعه فالمدة فوق كل شيء آخر قد طالت، لأنه لم ينقض يوم أو اثنان أو ثلاثة، بل مر عدد كبير من الشهور. وهي قالت حتى تصمد قائلاً..». إن الكلمات التى كان ينبغي أن يسمعها من آخرين غيرها لم تتوقف هى عن توجيهها له، لأنها ارتأت بما قالته أنه من المحتمل أن هذه النصيحة لم تكن الأولى بل إنه سمع كثيراً من فم زوجته بل أكثر إيلاماً من هذا.
حواء المغوية
انظر للخبث الشيطاني: إنه تفكر فى حواء قال الشيطان هوذا حواء هي التي أسقطت الإنسان الأول (آدم) ، وهى التى يمكنها أن تُسقط أيوب.
لكن أيها الأحمق المسكين، هذا (حدث) لأنها وجدت آدم عاجزاً عن كبح شراهته لذلك استطاعت أن تبث فيه سُمّها. ها أنت ترى أيوب على العكس، فهو كان عاقلاً وانتصر على طبيعته أيضاً. فهو لم ينثن أمام فقدان أملاكه أو أمام الموت المبكر لأولاده أو أمام الآلام الجسدية القاسية أو أمام طول مدة التجربة. ومن لم تنجح الأحداث (المرعبة) في إخضاعه، هل تظن أن الكلمات ستخضعه؟
فيجيب الشيطان: نعم لأنه يحدث أحياناً أن يصمد كثير من الناس في الأحداث (المرعبة) بينما تصرعهم الكلمات، خاصة عندما تكون آتية من الزوجة. ولا يمكن القول (حينئذ) أن الحسد أو الغيرة هو الذي أملى هذه الكلمات لأنها زوجته إن الأحداث نفسها هي التي ألهمت محادثتها معك ) على هذا النحو)، ونصيحتها لك ليست محل شك فهي تعينك، إذ لأجل هذا قد أعطيت المرأة للرجل. نعم لكنها كانت أيضاً مثل المرأة الأولى (حواء).
يقول بولس الرسول «لست أذن للمرأة أن تعلّم ولا تتسلط على الرجل» (۱تي ۲ : ۱۲) وهذا لم يقبله أيوب (كذلك) . وانظر إلى ضلال هذه المرأة، فهى انتظرت مرور وقت طويل قبل أن تهاجم، لأنه آنذاك على الأخص يتم لفظ دواعى الرجاء، وآنذاك على الخصوص تكون كل قوى المقاومة قد نفذت تماماً. وضعفه كان مضاعفاً، لأن العليل ليس فقط قد وهن بسبب طول مدة التجربة، بل أيضاً بسبب أنه لفظ الرجاء بالأولى.
هل ترى أنه لم يكن لها في السابق مثل هذه الجرأة فى الحديث ؟ بهذا القدر قد شكلها أيوب حسناً!
ولو أن وجهها كان يعبّر عن الشفقة، فإن كلماتها كانت قاسية وغير إنسانية. ولو أن أحاسيسها ودوافعها كانت لامرأة شفوقة، فإن نصائحها كانت لامرأة أرادت دفعه إلى الهاوية. إذاً فلا ننظر لأى غرض قالت هي هذا، بل لننظر إلى ما دبرّته. وفي الحقيقة لو تم تهديدي بخنجر أو بسّم قتال فأنا لا أبحث عن نية الفاعل لأن شهوة الأذية لديه واضحة. فليس لنا أن ننظر إليها من حيث كونها امرأة أى زوجته)، بل لننظر لما تنصح به. وأنا (بالمناسبة) استحث أناس عصرنا أيضاً ألا ينظروا إلى مراكز الأشخاص، بل ينظروا إلى صفة المشورة (ذاتها) . إنها امرأة قد خُلقت لتعين الرجل، لا لتجعله يزل.
«حتى متى تصمد قائلاً..»
لماذا توهنين المجاهد ؟ لماذا تجعلينه يرخى يديه (أى يستسلم)؟ آنذاك كان ينبغى القول كما قال الرب «بعد قليل أيضاً ..» (يو ١٦: ١٦) ، وهذا ما كان من المحتمل أن أيوب قد قاله لمن يلومون الله، متخذاً جانب الدفاع وعالماً أن للتجارب نهاية. إنه كان ينتظر تغييراً ما، الأمر الذي كان علامة على إيمان عميق ورجاء نبيل، إذ كان يعرف جيداً) صلاح الله (وخيريته). وحيث أن أيوب كان يعطى أهمية كبرى لآلام الآخرين أكثر من ألمه الشخصي فإنه كان يعزى ضعفهم. لكن زوجته سعت إلى حرمانه من هذه التعزية فقطعت الطريق على أن يقول أى شخص هذه الكلمات ليقوى عزيمته.
10 – وهى أضافت قولها “هوذا ذكرك قد مُحي من الأرض (مات) أبناؤك وبناتك، آلام ووجع أحشائي الذين ولدتهم باطلاً فى التعب والآلام (تابع ٩:٢)
انظر إلى المرأة المشاكسة في ضلالها وخبثها إنها لم تستحضر تذكار الغنى ولم تحشر في الكلام) فقدان الماشية، لكنها ذكرت فى المقام الأول ما يمكن أن يؤثر فيه بالأكثر فهي كانت تعلم أن أيوب كان سخياً وأنه يعد خسارتهما (المادية) كلا شيء. لذلك لكي لا تضعف من (حدة) الألم، ولكى تثير الموقف الدرامى (بالأكثر) ، فهي وضعت في المقدمة الأمر الذي لا يُطاق بالأكثر فوق كل شيء والذى يجعله يتألم بالأكثر ، والذي يجعل الأحزان العميقة تعتمل في صدره بالأكثر . ولاحظ بأى لهجة مزعجة ومثيرة للشفقة قالت «هوذا ذكرك قد محى من الأرض». إنها لا تزل بعيدة عن إظهار البلية من جديد، وتجديد تذكار الأحداث التي قد أسلمها هو إلى النسيان فهى لم تتحدث عن الحاضر، بل عن الماضي إلى درجة أثارت ارتباكاً (شوشرة) عظيماً في ذهنه.
وبنفس مقدار الخبث الذي يرهن به الشيطان على براعته فى استخدامها، قدمت هي نصيحتها مزعجة إياه بتذكر أولاده، وآملة بهذا أن تغير أفكاره.
ثم انظر كيف أنها تلقى الضوء على أهم بلاياها فهى لم تقل «إنهم قد ماتوا تلك العبارة التي هي تعبير شائع يشير إلى بلية مشتركة لكل البشر ، وهي لم تستخدم التعبير المعتاد، لكن ما الذي قالته؟ «ذكرك قد محى».
في اعتقادي أنها أرادت باستخدامها هذا التعبير أن يدرك بالأكثر بشاعة البلية. وهذا هو ما أرادت قوله: أى تغيير تأمل في أن تراه يحدث؟ هل ممكن للأموات أن يقوموا الآن؟ هل الذين اختفوا من مسرح الحياة يعودون إليها؟ إن كنا نريد أولاداً، فهذا على الأخص لكي نطيل تذكارنا بطريقة لا تفنى. وهذا على الأخص ما يسعى إليه البشر، وهو أن يتركوا تذكاراً بعدهم وهى هنا تقول: ها أنت نفسك تموت وأنت فاقد لأولادك، قد استؤصلت وصرت بدون نسل وبدون أولاد.
لاحظ أنها تعطى له هذه النصيحة المشئومة بالقدر الذى لا يدفعه إلى الغضب بل لتستمله إلى الشفقة. إنها لم تقل: إن الله هو الذى أخذهم أو أهلكهم، لكنها استخدمت تعبيراً محايداً.
هي تقول «أبناؤك وبناتك» وقد ذكرت كلا الجنسين. ثم أنه تعبير مثير للأشجان أن تقول «آلام ووجع أحشائى»، وذكر كلا الجنسين هو علامة على أم ولودة ومحبّة.
هي تقول: إنك تحتمل بلاياك بنفس عظيمة لكن أشفق على تعبى وعلي. هي لم تضع أملها في بلايا أيوب لتجعله ينثنى بل سردت بؤسها بانفعال عظيم قائلة «آلام ووجع أحشائي وجع الولادة وآلام (أتعاب) التربية. إننى أنا (أمهم) الضحية الأكثر إثارة للشفقة من غيري فأنا قد ولدتهم في التعب والآلام باطلاً».
لاحظ كيف أن رثائها لأبنائها خرج عن الحدود اللائقة وهى إن تكلمت هكذا، فلكي تُظهر أنها أيضاً تشاركه بليته. عندما يستعد المرء لنصح ووعظ من هو مُبتلى، لا ينبغي للناصح أن يبقى غريباً عن بلاياه، لأن الذين يتبرعون بإسداء النصح، لن يقنعوا المتألمين كثيراً، حتى إن ارتدوا عباءة الحكماء. ولأنها مزمعة أن تنصحه بالموت، فلكي لا يبدو أن الكراهية هي التي أملتها هذه النصيحة، فهى تُظهر أنها لم تزل تحتمل بلايا أكثر رعبة وهى رفعت من قدر بلاياها في كلماتها.
زوجة أيوب تستحضر بؤسها
١١ – إنها تقول أنت نفسك جالس على المزبلة (حرفياً العفونة) وسط الدود وتمضى كل الليالي في العراء، أما أنا فتائهة وأجيرة (تابع ۲: ۹)
لاحظ كيف أنها تخلط سيرتها بسيرة أيوب
هــــــوذا ذكـــــرك قــــد زال آلام ووجع أحشائي
أنت جالس على المزبلة وسط الدود وأنا تائهة وأجيرة
هي لم تكف عن إقامة موازنة في حديثها بين موقف زوجها وموقفها لكي تستدر عطف من يسمعها.
( وقالت) : فما لم تستطعه بلاياك نالته بلایای
«بالنسبة لك…» إنها قالت بتشديد أكثر.. «بالنسبة لك» فأنت البار والمثير للإعجاب والقوى والمتزن الذى يجسم في أعيننا كل الفضائل أنت نفسك جالس على المزيلة وسط الدود وتمضى كل الليالى فى العراء، وعلى مدى الليل والنهار لا تجد من يأويك تحت سقفه ولا شخص يشاركك آلامك ويشفق عليك، ولا من يتضامن معك في آلامك.
«وأنا نفسى تائهة وأجيرة».
آه يا للبؤس! لا يوجد من يشفق على زوجته ولا يخفف من عوزها, وربيبة القصور صارت خادمة وتحيا في العراء !!
في ظني أن بليتها جعلتها تعيش عيشة الخارجين على القانون بلا مأوى، بلا مدينة بلا بيت وهى تقول: أنا تائهة عبر المدينة دون أن أجد حتى بيتاً كعبدة، دون أن تؤهلني طباعي الحميدة لتلقى حتى مجرد أجر فاعل أجير وأظل واقفة على أبواب الآخرين كما لو كان يلذ لى أن أُعرّف كل الناس ببلاياي ولم يكن ممكناً ولو في منزل واحد أن أخفف خزی عوزى، وينبغى فى كل موضع أن أسلّم نفسى للاستهزاء والمهانة علانية. كم أن هذه البلية أكثر إيلاماً من موت أولادي إننى أطوف في كل موضع لأحكى بلاياي.
كما قلت في البداية إن كان الله قد سمح لتجربة أيوب بأن تطول فلكى لا يتشكك أ أحد فيما بعد في (عظم) البلية التى أصابته بعد تبدل الأحوال، وإن كان قد عاش في العراء فهذا لكي يراه الجميع. ويمكن أيضاً قول هذا من جهة امرأته، لكى عندما يرى الناس التبدل والتحسن في موقفها وأنه قد صار لها أبناء كثيرون وبنات جميلات، فلا يتشكك – من جهة بليتها الأولى – الناس الذين أعطوها أجراً لأتعابها.
زوجته تدعوه إلى الثورة
١٢- وتكمل حديثها قائلة “تائهة من موضع لآخر، منتظرة اللحظة التي فيها تغرب الشمس (تابع ۲: ۹)
كان هذا أمراً طبيعياً، لأن هذه المرأة تلقت تعليماً يليق بإنسان حرة لكى أستريح من أتعابى وأوجاعى التي طوقت علي وضغطتنى بالفعل» (تابع ۲: ۹). إنها أرادت التحدث عن تعبها الطويل وحياتها التائهة والأجيرة.
«إذا قل كلمة على الرب ومت!»
لاحظ أنها بعد أن سردت المأساة بتدقيق، قدمت مشورتها الوقحة. إنها لم تجرؤ على قول هذا من قبل، لكنها، وفى حرص شديد على إخفائه، أطلقت سُمّها فقط بعد أن أظهرت قوة إقناع كافية في حديثها معه. وهى لم تقل «جدف» بل قالت «قل كلمة على الرب ومت».
لماذا؟ إذاً فأنت تعلمين أن من يعمل هذا يموت، لكن أية تعزية سيجلبها لك موتى؟ أية راحة ستحصلين عليها ؟ لأن الذين يعطون نصائح رديئة لا يجرؤون على إزالة النقاب عنها بل يسعون إلى أن يُغلَّفوا بالغموض نصائحهم الملتوية. فهذا الذي لا تجرئين على النصح به (علانية) كيف تحثيننى على قبوله ؟ لماذا لا تفصحين عما تقصدين ؟
ها أنت يا (أيوب أن كل المنافذ مسدودة من كل جانب، أولادك ماتوا و(أنا) زوجتك في أسوأ المواقف المثيرة للشفقة، وأنت جسدياً في حالة تستطيع أنت نفسك أن تتيقن من سوئها. ولم يعد يتبقى إلا تعزية وحيدة وطريقة وحيدة تنجو بها (من هذا العذاب) وهى أن تقول شيئاً ضد الله».
ما الذي تقولينه يا امرأة؟ فبينما ينبغى أن نسترضى الله ونجعله في صفنا، تُثيرينى أنتِ لكي نغضبه بالأكثر! فإن كان الله هو الذي سبب هذه البلايا، ينبغي أن ندعوه (ليفرج عنا لا أن نجدف عليه، وبالمقابل إن لم يكن هو الذي سببها فلا ينبغى حينئذ أن نجدف عليه. لماذا تزيدين حمل بلاياي بحجة أنك تريدين إنقاذى ؟ كيف يمكنك أن تظني وتفكرى هكذا؟ كيف يتأكد لك أننى سأقول هذا وأموت؟ وإن حدث وقلت هذا، أما كنت سأندفع إلى أسوأ أنواع البلايا..؟ وكيف لم تقل له: انتحر ؟ لكن هذا ما كان يرغبه الشيطان بالأكثر أن تنصحه به وتحثه عليه. إنه سابقاً استخدم الحية، بينما الآن يستخدم المرأة.
لكنها لم تذكر شيئاً عن هذا ( أى لم تفكر في عواقب كلامها).
قالت حواء: إن قمت بملامة الله، فأيوب لن يقبل مشورتي. سأعمل على تضخيم بلايانا (مستعطفة إياه قائلة: أشفق علي.
وأية تعزية عن بلاياك ستحصلين عليها لو مات أيوب ؟ أية راحة (ستكون لك)؟ ألن يزداد شقاؤك بالأكثر ؟ لأنه لا تزال للآن هناك إمكانية فى الرجاء بحل أفضل، أما لو مات لن تعد هناك أية إمكانية وستصيرين أرملة بلا عزاء. وأنا اعتقد أنها خجلت وخزت لما قالته)
١٣- من لا يضطرب لهذه النصائح ؟ من لا تجعله هذه النصائح يُصاب بالدوار ؟ فماذا سيفعل بطلنا التقى والنبيل ؟
إنه ألقى عليها نظرة (١٠:٢).
إن الكتاب مُحق فى قوله « أنه ألقى عليها نظرة لأنه بهذا أظهر غضبه، إذ أن الكلمات لم تكن كافية لتؤثر فيها. ثم لاحظ بأى لطف تصرف إنه لم ينطق بأية كلمة تفصح عن غضب أو استياء. إنه سلّم بها كزوجة له، لكنه لم يقبل مشورتها ولم يقل لها: أنت حمقاء
وجاهلة. لكن ماذا قال؟
نصر جديد لأيوب
١٤ – لماذا تتكلمين كإحدى الجاهلات (تابع ۲ :۱۰)
أى أنت لم تقولى شيئاً يليق بك أو بتعليمك وتهذيبك الذى نلتيه مني، وهذه الكلمات لا تليق بك. فهو لم يسعى لمجرد تبكيتها بشدة، بل أيضاً لردها عن هذه الأفكار الخاطئة.
١٥- قال أيوب لها «هل الخير نقبل من الله والشر لا نقبل؟» (تابع ۱۰:۲)، أي إن كان لا يوجد إلا شرور فينبغي أن نحتملها. إنه رب وسيد أليس له سلطان على كل ما يرسله لنا؟ لماذا أعطانا خيراتنا؟ ليس هذا لأننا نستحقها. فلا ينبغي لنا بعد اليوم أن نتضايق لفكرة أننا نعاني دون أن نكون مستحقين. إنه حر تماماً حتى لو لم يعطنا إلا الشرور أى) البلايا). لو أنه أعطانا الخيرات، فمما كنا نشتكي؟
لاحظ أنه لم يذكر فى أى موضع لا خطايا ولا أعمال صالحة، بل فقط قال أن الله له السلطان على عمل ما يريده
ذكر نفسك بسعادتك فى الماضى وأنت لن تتعب في احتمال الصعاب الحالية. يكفى لتعزيتنا أن الله هو الذي أرسلها لنا، فلا نتحدث عن عدل أو ظلم.
٦١ – ولاحظ أن الكتاب يعلن مرة أخرى نصرة المجاهد إذ يقول في كل هذا لم يخطئ أيوب، ولا حتى (فرّط) بشفتيه أمام الرب» (تابع۱۰:۲) ولا نستطيع القول «أنه بدون شك قد تكلم هكذا إلى زوجته، لكن عمق قلبه كان ممتلئاً (بالغضب) بالسخط والإحباط.
ولوا فإن شفتيه لم تنطق بشيء!
وصول أصحاب أيوب الثلاثة
۱۷ – فلما سمع أصحاب أيوب الثلاثة بكل الشر الذى أتى عليه، جاءوا كل واحد من مكانه أليفاز ملك تيمان وبلدد حاكم شوح، وصوفر ملك نعمان، وتواعدوا أن يأتوا ليرثوا له ويعزوه (١١:٢).
وكما كان أيوب يأمل في أن يجد تعزية وتشديداً حناً من زوجته فلم يجد إلا الخراب ( وهدم المعنويات)، فنفس الشيء وجده عند أصحابه. إنهم جاءوا لتعزيته وما عملوه كان العكس، وحتى قبل أن يسمعهم كان يكفى البار أن يراهم لكي ينكسر قلبه لأن رؤيتنا لسعادة الآخرين هى التى تجعلنا على الأخص نلاحظ بلايانا بوضوح أكثر. تفكر كيف أنه كان شيء متعب أن يرى نفسه وسط هذه البلايا، بينما يرى أصحابه ومعارفه محتفظين بسعادتهم السابقة. وفى رؤيته لهم لا يمكنه إلا أن يتذكر سعادته الماضية ويتفكر في الموقف الذي وجد فيه نفسه، وفى تلك الفكرة الرهيبة أن أخبار بليته قد انتشرت في كل موضع لأنه إن كان أصدقاؤه الذين يعيشون بعيداً قد سمعوا عنها فكم بالأولى الذين كانوا قريبين. لكن الذى أحزنه بالأكثر لم يكن عظم بلاياه بقدر كونه بدا أنه يعاني هذه البلايا إثمه وظلمه ومعارضته ومعاداته لله وللرياء الذي قد عاشه في السابق. إنه لم يشغل نفسه بأن يرى جسده يتحلل، بل لرؤيته سمعته قد صارت مثار للشك، ليس أن الرجل كان يعتز بذاته ولا أنه كان يعيش لينال رضا الجموع، بل لأنه رأى أن كثيراً من الناس قد تعثر بسبب هذه الأحداث. فهكذا كان موسى يغار أيضاً لمجد الله وكذلك القديس بولس الرسول وآخرون غيرهم. واسمع ما قاله «لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرجهم بخبث ليقتلهم فى هذا الموضع (خر ۱۲:۳۲). :موسی
ففيما تفكر أيوب ؟ إنه تفكر فى هذا أن جموع الذين تلقوا منه إحسانات، والذين انتزعهم من الفقر وأولئك اللاتى ساعدهن على احتمال الترمل، والأيتام الذين عالهم والذين كان هو لهم ملجأ وملاذاً، فإن سمعوا عنه أن أمواج النكبات تتقاذفه دون أن يستطيع أن يجد أية تعزية، فأية عاصفة من الاعتراضات لن تجتاحهم بالضرورة؟ لذلك فإن بلايا أيوب قد قلبت (وأزعجت) أفكار الآخرين. لننتظر قليلاً وسنعرف من فم الواقفين لديه (أى أصحابه) أن الأمر هو هكذا.
۱۸- ورفعوا أعينهم من بعيد ولم يعرفوه فرفعوا أصواتهم وبكوا ومزق كل واحد جبته وذروا ترابا فوق رؤوسهم. وجلسوا معه على الأرض سبعة أيام وسبع ليال ولم يكلمه أحد بكلمة لأنهم رأوا أن كابته كانت عظيمة جدا (۱۲:۲، ۱۳).
إن كل هذه إشارات جميلة وتليق بأصدقاء برهنوا على تعاطفهم معه لكن ما تلا ذلك – على العكس – لم يكن أبداً مشابه لهذا، بل على النقيض تماماً بل وأسوأ جداً. انظر إلى ما حدث. فلكي لا تظن أنهم تكلموا بعد ذلك لكى يقاوموه عن سوء نية، فأول كل شيء فإنه من كل هذه الأحداث قد قطعوا الشك فى ذلك في أنهم كانوا مبيتين النيئة السيئة ضده) إذ أن من يحكم على كلماتهم فيما بعد لا يدع مجالاً للشك أنهم كانوا أعداء. يقول النص ولم يكلمه أحدهم بكلمة»
لاحظ أن بليته تجاوزت التعزية التي يمكن أن تجلبها الكلمات، وهم أيضاً برهنوا على ذكائهم بتعزيته بتصرفهم فى جلوسهم معه على الأرض وتمزيقهم لملابسهم.
تفسير أيوب 1 | سفر أيوب 2 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم | تفسير أيوب 3 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | ||||
تفاسير سفر أيوب 2 | تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |