خلقتنا الجديدة في المسيح
إن كل صعوبة قائمة أمامنا تمنعنا من الإتحاد بالمسيح وقبول وجودنا فيه وأخذ خلقتنا الجديدة منه لحياة جديدة، هي صعوبة وهمية قائمة على تشبث الذات بوجـودهـا الـقـديم متعلّلة بعلل الخطية. أي أن الذات تتهرب من الموت الإرادي حتى لا تقبل المسيح كوجود آخر بديل لها، لذلك تتمسك بالخطية بإعتبارها فرصة وعلة كافية لتبعد الإنسان عن المسيح، وعلة كافية حسب المنطق العتيق أن تحرم الإنسان من الحياة الأخرى ، وبذلك تتحاشى الموت الإرادي لتبقى هي بدل المسيح !!
وهنا يلزمنا أن ننتبه إلى هذه الحقائق :
أ- إن موت المسيح رفع عنا حكم الموت. إذن، مجرد وجود المسيح فينا (بالمعمودية والتناول) هو عملية تبرير وفداء ،ومصالحة، حيث تفقد الخطيئة سلطانها المـمـيـت ( نـامـوس الخطية القتال والفعّال في الأعضاء)، وتصبح الخطية بمثابة تأديب وتوبيخ مستمر تعمل لحساب الإنتقال من حياة حسب الجسد لحياة حسب الروح ، يُرفع أثرها بالتوبة والندم مع العقوبة المناسبة حسب رأي الكنيسة. ولكن لا ترقى الخطية قط إلى حكم الإعدام !!
ب ـ إن جسد الخطية الذي تركزت فيه اللعنة والموت والذي تمثله الآن الذات البشرية المنعطفة نحوه، قد صُلب فعلاً مع المسيح ومات وتم فيه حكم الموت واللعنة على الصليب: “عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد طلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية” (رو 6: 6) ، فأصبح لا أثر لوجود اللعنة فيه بالنسبة للإنسان الجديد . بل لو توخينا الدقة الروحية، لاستطعنا أن نقول إنه بمجرد حصول الإنسان على الخليقة الجديدة بوجود المسيح فينا، يصبح الإنسان العتيق ليس إلا جسداً ميتاً بالنسبة للمجال الروحي الجديد، لأن ناموس لعنة الموت قد توقف عن التأثير الفعال فيه بل وصار الجسد ميتاً أيضاً؛ أي أنه قد استكمل عقوبة الموت فعلاً وصار بلا قيمة من جهة تهديد الشيطان. فالخطية التي وإن كانت لا تزال تعمل فيه فهي لا تملك أن تهدده بالموت الأبدي : « أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ. » (غل 2: 20).
أي أن الإنسان العتيق لم يعد له الوجود الفعّال بالنسبة لفقدان سلطان الخطية القاتل فيه، «لأن الذي مات (مع المسيح) قد تبرأ من الخطية» (رو 6: 7)، وعوضاً عنه يحيا الإنسان الجديد في المسيح وبالمسيح . والقبر هو نهاية هذا الجسد، فالقبر هو معموديته الأخيرة الحتمية التي يموت فيها بالفعل بكل ما فيه وما له، حيث يفقد آخر ما تبقى منه من عـيـوب وخـطـايا بعد فداء الصليب، وفي النهاية يقوم ليأخذ كيانه الجديد بالقيامة، لكي يكون على صورة جسد المسيح .
ج ـ نحن الآن لا ننتظر أي حكم بالموت بعد أن ولدنا الله ثانية بقيامة المسيح من الأموات، وأخذنا خلقتنا الجديدة بالمسيح وفي المسيح بالإيمان في المعمودية والإفخارستيا. لقد تم فينا حكم الموت كعقوبة كاملة عن كل الخطايا بأثر رجعي ومستقبلي أيضاً : «لأنه إن كان واحد (المسيح) قد مات من أجل الجميع فالجميع إذن ماتوا» (2كو 5: 14) ، وإلا ما كنا أخذنا ميلاداً ثانياً أو خلقة جديدة سمائية أو طبيعة جديدة لا تموت بعد !! و يستحيل بعد أن جُزنا حكم الموت مع المسيح على الصليب أن يـتـكـرر علينا مرة ثانية بأي حال من الأحوال أي نوع من الجزاء «لأن الموت الذي ماته المسيح قد ماته للخطية مرة واحدة والحياة التي يحياها فيحياها الله . عالمين أن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضاً. لا يسود عليه الموت بعد.» (رو 6: 9 و 10)
د ــ ولكن ليس معنى أن الله لما ولد البشرية ثانية بقيامة المسيح من الأموات، وأن المسيح لما تقبَّل حكم الموت عن كل إنسان؛ أن كل إنسان أكمل خلاصه تلقائياً دون أن يتحد بالمسيح الذي مات وقام. ولكن معناه أننا أخذنا كل المبررات والوسائل والحقوق العامة التي نكمل بها اتحادنا بالمسيح بالموت والحياة، فإذا أهملنا خلاصاً هذا مقداره» (عب 2: 3) المدفوع ثمنه غالياً ، فإنه لن يصبح من نصيبنا ولن ننتفع به، بل ونسقط دونه . فالمسيح حمل خطايا كل إنسان في العالم أجمع في جسده على الخشبة ودفع ثمن فداء كل إنسان بدمه ، ولكن لن ينتفع من هذا إلا الذي يأخذ المسيح في نفسه ولنفسه ليستمد منه حكم البراءة وحق الحياة والخلود. إذا أخذنا المسيح بوسائط النعمة المتاحة مجاناً في أنفسنا لأنفسنا وأصبح هو حياتنا، فهنا فقط ننتفع من حكم الموت الذي جازه عنا، بل فينا مع المسيح صلبتُ » (غل 2: 20)، وقوة القيامة من الأموات التي حققها عنا وفينا « أقامنا معه.» (أف 2: 6).
وإذا أنا أكلتُ جسده الحي القائم من الأموات، فهذا يعني أن خطاياي التي حملها في جسده ومات بها فبرأني منها وقام ببشرية جديدة لي كل خطاياي تصبح غير موجودة أو محسوبة علي إلى الأبد ؛ وإذا شربت دمه ، فهذا يعني أن دمه الطاهر القدوس الذي دخل به إلى الآب كذبيحة وفداء ومصالحة ، يصبح هذا الدم في غسيلاً إلهياً للقداسة والتطهير والفداء والمصالحة الدائمة مع الآب. «لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع و بروح إلهنا.» (1كو 6: 11).
أي أن وجود المسيح فينا بكلمته وبروحه وجسده ودمه هوا الضمان المستمر لتكميل خلقتنا الجديدة وخلاصنا. أما نحن فبدون المسيح و بدون جسده ودمه. فأعمال المسيح بالنسبة لنا تصبح بلا أي قيمة ولا فاعلية لأنها تظل خارجة عنا لا تعمل فينا.
لذلك ينبغي أن لا ننسى أبداً أننا بدون المسيح نبق مرفوضين. غير أن قبولنا المسيح لا يعني مجرد إيمان لفظي أو فكري، ولكن يعني قبول حياة جديدة في المسيح بسلوك جديد ووجود آخر فعال بالروح القدس غير وجودنا الذاتى لأنه يشمل قبول موت حقيقي وقيامة حقيقية عن ذواتنا والعالم، وكل هذه الأمور ليست صعبة أو بعيدة عن الإنسان بل هي موهوبة له مجاناً بالإيمان، فإن قبلها حازها في الحال ، وإن استصعبها ولم يصدقها تظل بعيدة عنه و يظل محروماً منها .
هـ – إن قيامة المسيح من الأموات بحياة جديدة في جسده الذي أخذه منا، لم تبق مكتومة ولا مخفية، بل أعلنها الله بقوة وبشهادة الروح القدس، حتى نعلم أنها هي قيامتنا وحياتنا كلنا ، وحتى تصير لنا كفعل إيجابي منظور يعمل في حياتنا الآن لـيــجـددها كل يوم وكل لحظة، كفعل نحياه الآن بكل تحقيق و يقين، لأن قيامة المسيح بجسدنا هي هي قيامتنا التي نلنا بها دخولاً إلى دائرة وجود الله وحياته . ونحن لا نجاهد لكي ننال قيامتنا مع المسيح بالروح الآن بل هي هبة وفعل سري، مناسب لكل واحد فينا ، يهبه لنا بالإيمان : «فنفخ فيهم وقال اقبلوا الروح القدس» (يو 20: 22) !!
فإذا قبلنا قيامة المسيح كقوة فعّالة إيجابية في صميم وجودنا الروحي الذي نستزيده بالكلمة والأسرار، فهذا معناه أننا قبلنا الموت – أيضاً – كفعل، له عمله وأثره بالنسبة لحياتنا اليومية من جهة جسد الخطية من أجلك نمات كل النهار» (رو 8: 36)، أي أننا نعتبر أنفسنا كل يوم أحياء من بين الأموات مع المسيح، بإيمان، ورجاء حي أننا نعيش كل يوم ملء فرح القيامة بشعور من هم متبررون بدم المسيح.
إن قوة الـقـيامة التي تسري فينا بسبب فرحة الشركة في قيامة المسيح المجانية تزكي بالتالي قوة الموت أو الإماتة عن الخطية؛ حيث الخطية لا تستطيع بعدئذ أن تحجزنا عن المسيح، ولا أن تحرمنا قط من دم المسيح، ولا تقوى أن تحجب عنا مجد القيامة، لأننا لن نخطىء بـعـد خـطـيـة للموت، بل إن أخطأنا ، فسنخطىء للتأديب والتوبيخ والتعليم والإنذار خطية قابلة للتوبة والغفران، لأننا نحيا مع المسيح.
و إن الحظوة المجيدة التي نالها المسيح لدى الآب بعد طاعة الموت حتى الصليب وقيامته بمجد الآب وجلوسه عن يمين العظمة في السموات، هي في الحقيقة وفي الأساس حظوة لنا نحن، إنما أخذناها في شخص المسيح لتبق دائمة إلى الأبد : «وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني … وأنا ممجّد فيهم» (يو 17: 22 و 10). ولما جاء المسيح صوت من السماء : «مجَّدتُ وأمجد أيضاً » ، ردًّا على طلبته أن الآب يمجد ذاته في المسيح، نبه المسيح فكرنا أن هذا الرد الذي جاءه من السماء هو من أجلنا :« ليس من أجلى صار هذا الصوت بل من أجلكم . » (يو 12: 28 – 30)
إذن، فطالما نحن قائمون وثابتون مع المسيح، فنحن في حالة صلح وسلام دائم مع الله وفي حالة نعمة مقيمة فإذ قد تبرّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون ونفتخر على رجاء مجد الله . » (رو 5: 1-2)
لذلك إذا أخطأنا فلنا شفيع قائم دائم أمام الآب يشفع في المذنبين، لقد صار الديان (المسيح) شفيعاً، فمن يستطيع أن يشتكي علينا وشفاعة المسيح ليست جزافاً، بل هو دفع ثمن خطايانا بنفسه، ودفعها عنا لأنه رأى أننا مظلومون !!
ز- إن إقامة الله لنا من الموت الأبدي وهبة الحياة الجديدة التي أعطانا إياها بقيامة المسيح من الأموات، تحمل في معناها صفحاً كلياً غير مشروط ومصالحة نهائية بلا رجعة أو ندم. لأن الله لم يعطها لنا كوعد أو قسم بل أعطاها لنا في شخص أبنه الوحيد المحبوب الذي تبنى قضيتنا وتبنّى طبيعتنا وتبنّى ضعفنا ، فالعطية مضمونة بضمان تجسد أبن الله في جسدنا وقائمة بقيام أبنه بجسدنا الآن في السماء وثابتة بثبوت شخص يسوع المسيح كشفيع عنا .
الله هو الذي أخذ المبادرة بنفسه نزولاً وتنازلاً إلينا ، وهو الذي تكلم ووعد وتجسد وأكمل كل ما يلزم الخلاصنا وتجديدنا وتبريرنا وتقديسنا ، ووهب كل ذلك من طرف واحد هو طرفه هو دون أن يسبق و يشترط علينا ولا شرطاً واحد، ونحن أموات بالذنوب والخطايا… أحيانا مع المسيح» (أف ٢ : ١ و٥)، ولا طالبنا بطلب أياً كان، فالعطية فائقة التأكيد فائقة المجانية فائقة السخاء، فائقة اللطف ، فائقة الرحمة !!
ح ـ إن خلقتنا الجديدة بميلادنا الجديد وبطبيعتنا الجديدة وحياتنا الجديدة عمل كامل أكمله الله لنا في شخص آبنه الوحيد والمحبوب يسوع المسيح، ليكون لنا حقيقة حية وموضوع إيمان منظور ورجاء حي نعيشه بالرغم من كل ضعفنا وخطيتنا ومسكنتنا وذلنا في الحاضر. فالإنسان الجديد ليس أمل الإنسانية الذي تسعى إليه من وراء السراب والذي تنشده في حاضرها المظلم – كما يظن بعض الناس بل هو رجاؤها الحي الذي تعيشه بمنتهى الثقة واليقين؛ وهي تُحقق وجوده وكيانه بالإيمان والجهاد والسلوك في صميم الحاضر، حيث يُبتلع الضعف والخوف والموت والخطية إلى غلبة ونصرة في شخص يسوع المسيح الغالب الذي أكمل ذلك كله علناً وجهاراً ليكون نصيبنا الدائم، إن تمسكنا به ثابتين حتى النهاية .
فنحن غالبون ومنتصرون في شخص يسوع المسيح، بالرغم من عجزنا وقصورنا وضعفنا الذي يحمله عنا المسيح بحبه العجيب وإنكاره لذاته وإخلائه لنفسه، الذي لا يزال يباشر به حمل كل أثقالنا!! لذلك كل من يؤمن به لا يخزى أبداً!!
لقد ضمن لنا المسيح خلاصنا وحياتنا وقيامتنا إن تمسكنا به وحفظنا وصاياه وســرنـا في نـوره ، وهو ضامن ذلك بحياته هو وقيامته هو « إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو 14: 19) !! وحياتنا وقيامتنا فيه قوية وفعّالة وقادرة فعلاً أن تغلب ضعفنا وخطيتنا وأن تحيي وتقيم من الموت !
كذلك فإن ضمان خلاصنا وحياتنا الأبدية أمر يتعلق أيضاً بكرامة الله الآب نفسه الذي بذل أبـنـه «حتى لا يهلك كل من يؤمن به » ( يو 3: 16)، والإبن من جهته أطاع بالفعل حتى الصليب وذاق بنعمة الله الموت عن كل واحد (عب 2: 9)، فكيف بعد ذلك يحنث الله أو يعجز عن أن يهبنا معه كل شيء يلزم لخلاصنا ؟؟
ط- إن كل التوكيدات والضمانات التي قدمها لنا الله الآب لميلادنا الجديد وخلقتنا الجديدة للحياة الجديدة، والتي أكملها لنا في آبنه بكل حكمة وفطنة لتبقى حية وثابتة أمام أعيننا، والتي دفع ثمنها المسيح بذبيحة نفسه على الصليب وبذوقه الموت عن كل واحد بكمل طاعة وخضوع للآب وكل انسحاق وتذلل إزاء البشر حتى الفضيحة والعار دون أي تردد أو تململ ؛ كل هذا من جهة الله ــ يحتم علينا أن نلتفت لأنفسنا كيف نرد على هذا من جهتنا نحن؟
إنه لولا حالة البؤس والشقاء الذي نحن فيه، ولولا وقوعنا تحت الرفض والقصاص وحكم الموت بإكتساب الخطية مجاناً كجزء من ميراثنا المشئوم من آدم، ولولا أننا في ذلك کله شبه مظلومين ومغويون من قبل سلطان الشر العامل في طبيعتنا بقوة تفوق إرادتنا وإمكانياتنا ؛ لولا كل ذلك لما أظهر لنا الله كل هذه الرحمة وكل هذا البذل وكل هذه التنازلات في نفسه ليخلقنا خليقة جديدة لنفسه، ولما أكدها لنا في أبنه المذبوح على الصليب والقائم من الأموات، لتقوم كشاهد دائم أبدي على تفوق رحمته فوق الظلم الذي حيك لنا، وعلى تفوق نعمته فوق ضعف طبيعتنا الذي ورثناه دون إرادتنا، وعلى تفوق تنازله فوق انسحاقنا وذلنا وشقائنا الذي نكابده بلا أمل في أنفسنا.
ي – إذن فالظلم الذي نعانيه من عدو ،مقاوم، ومن ضعفنا وخطيئتنا التي ورثناها في جسد التراب هذا كل هذا منظور لدى الله بنظرة فاحصة وازنة وعميقة، مُجاب عليه بإشفاق يفوق الوصف ومردود عليه ببذل كبير يفوق العقل ورحمة كثيرة ونعمة فائضة بقوته الخاصة الذاتية الحاضرة معنا كل حين، لضمان أن لا يختل ميزان القوى قط الحساب بعدوبي حياتنا وخلقتنا الجديدة !! “أحبني وأسلم نفسه من أجلي.” ( غل 2: 20)
فكما تبتلع النار المتأججة قطرة الماء في لحظة، هكذا يبتلع الله خطايانا بروحه القدوس وفعل دم إبنه، بغيرة أشد تأججاً من لظى النار المتقدة. وكما تعترض الشمس المشرقة الظلمة فتبددها وتحولها إلى نور ورؤ يا صافية، هكذا أرسل الله لنا أبنه ليبدد حزننا وشكوكنا وانسحاقنا وظلمنا حتى لا يبقى في ذهننا تجاه الله إلا يتين الرحمة الساقية والمحيية الواضحة المحتضنة لحياة الإنسان الذي خلقه على صورته، أي إن كل ما فينا من خـطـيـة وعجز و يأس وظلم وضعف يفوق إرادتنا؛ هذا كله قابله الله برحمة وحب ولطف وقوة وبذل يفوق الوصف.
لذلك أصبح بقدر ما ملكت خطيتنا فينا وبقدر ما يرعبنا ضعفنا و يذلنا يأسنا أحياناً من جهة إنساننا العتيق رفيق شقائنا ومثير تعاستنا، بقدر ما أصبح لنا من جهة الله رجاء حي بقيامة يسوع المسيح في حياة جديدة، بسلام ونصرة تفوق العقل، بل أصبح لنا نعمة نلقي عليها كل رجائنا ، وصار لنا فيه صلح و بر وقداسة وفداء كحق أبدي لإنسان جديد مؤمن عليه لا يمكن أن يتراجع : عنه الله أو يسقط مرة أخرى من رحمته كما سقط آدم قدماً!!
ك ـ ولكن إذا وضعنا هذين الموقفين أو هاتين الحالتين معاً : موقفنا أو حالتنا بما فيها من ضعف وخطية وإحساس بالظلم واليأس من جهة أنفسنا الذي هو إحساسنا بإنساننا العتيق، ثم موقف الله نحونا بضمان ابنه يسوع المسيح من أجلنا، الذي هو مصدر مؤهلات الإنسان الجديد بما فيها من رحمة متعاظمة جداً وحب ولطف وإشفاق وبذل حتى الدم وفداء معروض مجاناً ؛ نقول : إذا وضعنا هذين الموقفين معاً ماذا ينبغي أن ينتج من ذلك ؟
أ- إيمان برحمة الله في حياتنا الجديدة يفوق ضعفنا ، إيماناً بيقين وثقة يتناسبان مع قوة تناهي رحمة الله فوق شدة ضعفنا .
ب- إيمان بمحبة الله الآب و بذل دم أبنه يسوع يفوق خطايانا كلها ، إيماناً بيقين وثقة تتناسب مع منتهي فعل محبة الله الخالقة والمجددة لخلقتنا، ومنتهى أثر دم المسيح في الغفران والتطهير والتقديس فوق كثرة خطايانا ونجاسات أفكارنا وقلوبنا مهما بلغت …
ج – إيمان بقوة الله الآب التي أظهرها الله علانية في قيامة أبنه من الأموات من أجلنا أي بجسدنا، إيماناً يفوق موتنا الذي يهد كياننا بكل نوع ، إيماناً بيقين وثقة يـتـنـاسـبـان مع تناهي قوة حياة الله فوق شدة مفاعيل الموت وأمراض الموت التي تعمل فينا …
ل ـــ فإذا وصلنا إلى يقين الإيمان والثقة الكاملة بتناهي رحمة الله وحبه في حياتنا الجديدة وبذله الدم لتقديسنا وشدة قوته التي تعمل فينا لتجديدنا على الدوام فوق ضعفنا وخطايانا وموتنا الذي نحسه في إنساننا العتيق، فماذا ينبغي أن ينتج عن ذلك ؟
1 – طاعة الله، وتوقير لكرامته ، وخضوع شديد له ينبغي أن يبلغ إلى درجة التشبث الكامل، تشبث الغريق وقد قبض بجنون على حبل النجاة، حتى يزداد تناهي الله في عمله باستمرار تجاه شدة ضعفنا .
2 ـ تسليم لمشيئة الله ، تسليماً كلياً بلا أي خوف أو تحفظ أو خجل، مع شكر مـتـواصـل يـعـطـي الله كل المجد والكرامة التي تنازل بها نحونا ، تسليماً يقودنا في حياتنا الجديدة ضد مشيئتنا وأهوائنا القديمة، مع إحساس دائم بأن أي ميل نحو تكميل مشيئة الذات في الطريق هو ضياع لهيبة الله وبالتالي إضعاف ليقين الإيمان الذي من شأنه أن ينقص من قوة عمل الله فينا، فيزيد مرة أخرى من ضعفنا ؛ حتى نضطر بدون أي وجه حق أن نسلم مرة أخرى لبد أنفسنا ولأهواء شهواتنا وغرورنا .
3ـ عدم اعتبار لأي بر شخصي أو استحقاق، مهما بلغت أعمالنا في صورة التقوى والعبادة، بل يبقى تمسكنا بعمل الله الذي عمله من أجلنا في شخص أبنه وحده تمسكاً ثابتاً شديداً، سواء من داخل ضمائرنا أو من خلال الأعمال التي نمارسها بإيمان ثابت لا يتزعزع برحمته المجانية الخالصة كنعمة بلا مقابل ؛ بحيث يصبح عمل الله المستعلن في المسيح من أجلنا خصوصاً في القيامة من الأموات صورة كاملة ونموذجاً لا يغيب عن ذهننا قط لما يشاء الله أن يخلقه جديداً و يكمله فينا دائماً… لأن المسيح هو عينه نصرتنا و بكر القيامة من الأموات، وهو النموذج الحي لغلبتنا على الخطية والموت والهاوية، وهو رأسنا ورأس الكنيسة الإلهي الذي سيقيم كل الجسد بكل الأعضاء بمجد الآب وكرامه.
4 ـ لا بد أن نحس أن الله ألقى بكل ثقله الإلهي، بكل مجده وكرامته ، بكل حبه وتنازله الخلاصنا وتبريرنا وفدائنا وقيامتنا من الموت لإعدادنا وتقديسنا لحياة الشركة معه، إن هذا الإحساس ينبغي أن يتحدى كل نظرة متشائمة من نحو واقع الإنسان العتيق الذي لا يزال يرزح تحت ثقل الأهواء والشهوات والضعفات و يتصرف في خداع الغرور ومكر الشهوة.
إن مثل هذا التحدي يجعلنا دائماً نلقي بكل ثقلنا وبكل ضعفنا على النعمة، لنكون منحازين لعمل الله ، منحازين لمشورة الله ، منحازين في أعماق ضميرنا لنصيب الله مهما كان حالنا .
إن مثل هذا التحدي نافع جداً للتقليل من شأن الخطية وسلطانها وغرورها . إن مثل هذا التحدي ينقلنا سريعاً من الإحساس بالإنسان العتيق المكروه وماضيه المظلم ، إلى الإحساس بالإنسان الجديد المحبوب ومستقبله السعيد المشرق ! هذا الشعور المفرح استطاع واضع الأبصلمودية المقدسة أن يعبر عنه بقوله : « هو أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له ، فلنسبِّحه ونمجده ونزيده علواً !! (ثيئوتوكية الجمعة). وهذا بعينه هو الشعور الإلهي الذي أملى على القديس بولس الرسول قوله لأهل كورنثوس :”لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه” (2كو 5: 21)، وقول هوشع النبي قديماً « سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والتي ليست محبوبة محبوبة . » ( هو 2: 23 ، رو 9: 25).
م ـ فإذا استطاع الإنسان بيقين الإيمان وبثقته الشديدة في الله أن يقدم الطاعة والتسليم الله متمسكاً بعمل الله الذي أكمله لنا في شخص يسوع المسيح، ثم إذا استطاع أن يواجه ضعف الإنسان العتيق بتحدي تصميم الله نفسه على خلاصنا وتقديسنا، الذي عزم عليه الله وحدده بكل ثقل مجده وكرامته، نعم، إذا استطاع الإنسان ذلك ؛ فإنه حتماً يأخذ قوة للعمل، قوة للجهاد، قوة للصراع، بلا هوادة ضد الإنسان العتيق .
فما هو هذا العمل والجهاد والصراع الدائم ضد الإنسان العتيق وما هي قوته ؟
+ إن أهم عمل لازم لخلاصنا ومحتم علينا كأولاد الله ، وفي نفس الوقت هو أول عمل الله نفسه وقد وعد بتقديم كل المساعدة اللازمة له ، هو حصولنا على الحرية الروحية، لأنه يستحيل أن نصير أولاداً الله ونحن عبيد للخطية ولشهوات الغرور.
هنا يلزمنا جداً أن نثق بأننا نعمل ونجاهد ونصارع ، لا كعبيد يريدون الحرية، بل كأولاد صاروا أحراراً ونالوا صك حريتهم بضمان موت المسيح وقيامته، فهم إنما يحاربون ويدافعون ويصارعون ليملكوا ما هو لهم، ما هو حقهم الإلهي، أي حرية البنين، التي أصبحت من صميم طبيعتهم الجديدة التي حصلوا عليها بروح الله القدوس !
“الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله.” (رو 8: 16)
+ وكأولاد الله حينما نعمل ونجاهد، فنحن أمام الله الآب وبإسمه ولأجل آسمه نصارع. لذلك لن يغيب عن ذهننا أننا مُعانون في جهادنا ضد الخطية وضد شهوات الغرور بروح الله الآب الذي ننقاد له بكل طاعة وخضوع وتسليم . لأننا نعلم أن «كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله . » (رو 8: 14).
لذلك فبسبب ضمان مجد الله وكرامته لبنويتنا التي أخذناها حقاً أبدياً في شخص يسوع المسيح، يلزم أن نثق أننا حتماً منتصرون في كل جهادنا إن كان جهادنا حقاً هو لحساب الآب و باسمه ولأجل اسمه . فنحن منذ البدء نعلم أن «الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون . » (خر 14: 14)
+ إن مـعـونـة الله الآب لنا التي يقدمها لنا في جهادنا وصراعنا الدائم مع الإنسان العتيق، نعلم تماماً أنها مقدمة بواسطة الروح القدس الذي إذ يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله ، يعمل معنا حتماً لكي نكون في ملء حرية أولاد الله أيضاً، فهو إنما يؤازرنا بكل وسيلة ليقدمنا فعلاً لله حسب شهادته» كأولاد الله ، كخليقة جديدة « كذلك الروح أيضاً يعين ضعفاتنا » ، « لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنَّات لا ينطق بها . » (رو 8: 26)
+ فإن كان روح الله هو المعين والمؤازر في جهادنا وصراعنا ضد الخطية وشهوات الغرور، فهذا يستلزم أن تكون أسلحتنا ليست جسدية ـ كما يقول بولس الرسول : «لأننا وإن كنا نسلك في الجسد لسنا حسب الجسد نحارب ، إذ أسلحة محاربتنا ليست جـسـديـة بـل قـادرة بالله على هدم حصون ، هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسر ين كل فكر إلى طاعة المسيح . » ( 2كو 10: 3-5)
هنا بولس الرسول يشير إلى أنه بالرغم من كوننا لا نزال نعيش في الجسد العتيق إلا أن الله أعطانا أسلحة روحانية ، هي مواهب الإنسان الجديد. وهذا ينبه ذهننا أن إخضاع الجسد العتيق وغلبة أوجاعه وشهواته وضعفاته الكثيرة إنما تحتاج إلى أعمال معمولـة بـالـروح ـ أي بحرارة الروح وغيرة الروح ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون» (رو 8: 13) ، حتى وإن كانت هذه الأعمال في صورة أعمال جسدية.
فالصوم مثلاً ممكن أن يكون عملاً جسدياً ميتاً وممكن أن يكون عملاً روحانياً فعالاً وقوياً. فإذا كـان مـقـدمـاً بالجسد فقط فهو عمل جسداني لا يمكن أن يرقى إلى محاربة الخطية، ولكن إن كان مقدَّماً بالروح كذبيحة وانسكاب بصلاة منسحقة وبحرارة وغيرة و بتوسل مع التمسك بكلمة الإنجيل ومواعيد الله ، فهنا يصبح الصوم عملاً روحانياً قادراً فعلاً على هدم الخطية المتحصنة بالجسد حيث يكون الروح هو قوة الصوم ، و يصبح الصوم أداة فعالة في يد الله . هنا تكون أسلحة محاربتنا روحية فعلاً و «قادرة بالله على هدم حصون.» ( 2کو 10: 4)
وليلاحظ القارىء كلمة “قادرة بالله”، فأعمالنا كلها مهما قدمناها بنشاط وغيرة لا يمكن أن ترقى إلى مستوى السلاح القهار الذي يغلب الخطية إلا بالله !!!
وهذا المثل ينبهنا إلى خطر اعتيادنا على تأدية الأعمال الروحية، المعتبرة أنها أعمال إلهية بحد ذاتها، بصورة روتينية يجعلنا نؤديها بطريقة جسدية كالإعتراف والصلاة والتناول، والسجود، وحتى قراءة الإنجيل.
فبالرغم من أن هذه الأعمال قد هيأها لنا الله كوسائط نعمة قوية وأسلحة روحانية فعالة نحارب بها كل أنواع الخطايا وانحرافات الجسد العتيق، ولكن بسبب كوننا لا نرفعها إلى مستوى الحرارة اللائقة بالعمل الروحاني المعمول باسم الآب ولمجد الآب، ولا ترفعها إلى مستوى سلاح الروح المشهور ضد الخطية ، بسبب ذلك يضعف عملها و يضيع الجهد المبذول فيها بلا ثمرة واضحة .
الدعوة هنا إلى رفع العمل الروحي إلى مستوى السلاح الروحي بكل جدية وحرارة وإخلاص، مستلهمين من الله القدرة على الإستخدام والإستمرار والمثابرة والفعالية.