الكنيسة بيت الحب
العلاقات المتبادلة بين القادة الكنسيين
يتطلع البعض إلى العلاقات المتبادلة بين القادة الكنسيين على كل المستويات أنها عمل تنظيمي إداري هام. إن تحقق بصورة سليمة أمكن للكنيسة أن تقوم بدورها بالنسبة للرعية كما بالنسبة لغير المؤمنين . وإن لم يتحقق كما يليق يتعثر الشعب في الكنيسة، بل وأحياناً في الإيمان حتى بالله نفسه ، كما يتعثر غير المؤمنين ويجدفون على اسم الله . هذا ما لا يمكننا أن نتجاهله مطلقاً، لكن علاقتنا كخدام للكلمة وكهنة الله العلي، وقبولنا للكهنوت من رئيس الكهنة السماوي ربنا يسوع ، وتسلمنا العمل الرعوي من الراعي الصالح الإلهي ، وشهادتنا لله بعمل الكلمة الإلهي فينا ، هذا كله يقوم على أساس إيماني يمس أعماقنا الداخلية كما سلوكنا الظاهر. فمع اهتمامنا أن يكون كل شيء بتدبير حسن بلا تشويش ( 1 کو 14 : 33) ، يليق بنا أن ندرك أننا وكالة السماء ، وسفراء المسيح ، وأيقونة حية للكنيسة السماوية ، والمركبة النارية الحاملة العروس إلى حضن الآب ، بعمل روحه القدوس الناري ، واتحادها بالعريس السماوي.
علاقتنا فيما بيننا تقوم على أساس إيماني عملي حي ، أي تحمل انعكاسا للإيمان بالثالوث القدوس ، وإدراكاً سليماً لمفهوم الكنيسة كعروس المسيح ، وأيقونة رائعة للحياة الكنسية السماوية التي قانونها الحب بجانبية المتكاملین : محبة الله ومحبة القريب . العلاقات بين الخدام والشركة مع الثالوث القدوس.
قدم لنا القديس أغناطيوس النوراني صورة رائعة عن مفهوم العلاقات المتبادلة بين رجال الكهنوت من أساقفة وكهنة وشمامسة ، وبينهم وبين الشعب . لم يقدم لنا حقوق وواجبات تفصيلية عن كل فئة ، لكن ما قدمه بقوة هو شهادة هذه العلاقات للإيمان الثالوثي الحي . إذ يود أن يتجلى الآب والابن والروح القدس خلال هذه العلاقات.
إنجيلنا الذي يحياه الكهنة والشعب هو دعوة للتمتع بسر الثالوث القدوس في حياتنا اليومية وعبادتنا وكرازتنا. نرى في الثالوث القدوس حركة الحب الأزلية الحاضرة الخالدة إلى الأبد . فالله حب ، ولم يكن منذ الأزل كامناً بلا حركة في لحظة ما من اللحظات . ولم يكن في حاجة إلى خليقة سماوية أو أرضية ليتحول الحب الإلهي من الحب بالقوة فقط إلى الحب بالعمل ، إنما منذ الأزل هو الحب القدير الفعال بين الثالوث القدوس .
يعلن لنا إنجيلنا الحي عن كمال الآب المطلق ، الذي يتحقق بكمال الابن والروح القدس ، لأنهما واحد معه في ذات الجوهر الإلهي . فكمال كل أقنوم لا يحطم كمال الآخرين ، بل يثبته ، لأنه ليس من أقنوم منفصل عن الاثنين الآخرين : ” أنا في الآب ، والأب فيَّ ” ( يو 14 : 10) . كمال الأب في كمال كلمته أيضا وكمال روحه القدوس.
بهذه الصورة الرائعة الفريدة الإلهية يجد القائد الكنسي انه لا يمكن للدكتاتورية أن تجد لها موضعاً في قلبه . بل يُسر بكمال إخوته ومرؤوسيه ورؤسائه ، لأن في كمالهم كماله هو أيضاً خلال عمل الثالوث القدوس فيه.
الكرازة والعمل الجماعي
اتسمت الكنيسة في عصر الرسل وما بعد الرسل بالعمل الجماعي ، سواء علي المستوي المحلي للقرية أو الإيبارشية أو الكرسي الرسولي أو الكنيسة الجامعة . هذه الحياة الكنسية الصادقة لها جاذبيتها وقوتها للكرازة . فمن جانب تجتذب نعمة الله التي تشتهي أن تعمل بغنى حيث يوجد الحب والوحدة ، ومن جانب آخر ترى النفوس الصادقة في البحث عن الحق غير المنفصل عن الحب في الكنيسة أيقونة صادقة للسماء ، وصورة عملية واقعية لعمل الثالوث القدوس في البشرية . ففي الحياة الكنسية الجماعية يدرك العالم عقيدة الثالوث ، ويرى فيها صورة حية لمفهوم الكمال ومثالاً فريداً للحياة الديمقراطية المملوءة بالشركة فلا يطلب المؤمن ما لنفسه على حساب الغير ، بل ما للغير كأنه له . فغالبا ما يسند الإيمان بالله الواحد المطلق النظام الفردي الدكتاتوري ، أما المسيحية بإيمانها بالثالوث الكامل ، فتسند الحياة الديمقراطية الصادقة.
الإيمان بالله الواحد المطلق في صفاته ، تكون علامة كماله هو نقص كل الكائنات الأخرى. أما الإيمان بالثالوث الأزلي فيهينا فهماً متسعاً للكمال ، إذ يتساءل البعض : كيف يمكن أن يكون الآب كاملاً في سماته بينما الابن والروح القدس – وهما لا ينفصلان عنه- يشاركانه كماله ؟ ونفس الأمر بالنسبة للابن والروح القدس . نجيب على هذا التساؤلات بأن الكمال الحقيقي لا يستعلن خلال الاكتفاء الذاتي والانعزالية ، وإنما خلال حركة الحب الأزلية في الله والعلاقات المتبادلة اللانهائية . ففيه كمال الأب المطلق يشاركه فيه الابن والروح القدس ، لأنهما واحد معه في ذات الجوهر . وهكذا الإيمان بالثالوث يوحي لنا بروح الشركة والحب . فالكامل يعلن عن كماله خلال كمال الآخرين . كل مؤمن يشتهي أن يتمثل بالله إلهه ، إذ يبلغ الإنسان الكمال لا بتمجيد الإنسان ذاته ولا باكتفائه بذاته ، وإنما خلال الوحدة مع الغير ، القائمة على الحب . الإنسان الكامل ليس هو من يغذى الذات ego من أجل اقتناء مجد باطل ونفع لحسابه ، بل هوذاك الذي يحب الغير ويقبل حبهم له . من خلال هذا المنظور إن صح التعبير- أرسل السيد المسيح رسله للخدمة والكرازة بعمل الله الخلاصي اثنين اثنين أمام وجهه ( لو ۱۰ : ۱ ) . يعمل الاثنان معا في الرب الواحد ، أمام وجهه ، فيجد كل منهما كمال حياته وخدمته وكرازته ونجاحه في كمال أخيه . عمل الخادم – كإنسان مسيحي حقيقي – أن يرتمي على صدر مسيحه لكي يحمله روحه القدوس ، ويرتفع به من مجد إلى مجد ، مجددا كل يوم شبابه ، ومقدسا على الدوام حياته ، وينطلق به إلى حضن الأب . هناك تستقر نفسه وتترنم قائلة مع أيوب البار : ” كساني ببره ” ( راجع أي 29: 14 ) . يراه الآب کاملا ، إذ هو مختف في المسيح القدوس.
شهوة قلب الخادم أن يتبرر كل يوم من خطاياه وضعفاته بعمل الثالوث القدوس ، بهذا ينفتح الطريق أمام الغير لكي ينطلقوا معه ، مشتركين معه في غنى نعمة الله الفائقة . فالخادم الذي يجد مسرته بل وكماله في كمال كل إنسان إن أمكن ، كيف لا تفرح نفسه وتتهلل عندما يجد زميله الخادم يسلك طريق الكمال ، وكل ما يعمله ينجح فيه ؟؟
يقول الرسول بولس لشعبه : ” أنتم فرحي ” ” أنتم إكليلي ” ، ليس لأنه سيكافأ على خدمته لهم فحسب ، وإنما إذ يفرحون يحسب فرحهم فرحه ، وإكليلهم السماوي إكليله ، كما يحسب آلامهم الامه ، وقيودهم قيوده . فالخادم الذي لا تتهلل نفسه بنجاح زميله وكماله في حياته وخدمته ، حتما هو خارج المسيح الذي يريد خلاص العالم كله ومجد كل نفس بشرية.
اشتهي أن يموت مسيحنا لنحيا نحن ، ويتألم لكي يعطي آلامنا عذوبة ، فكيف لا نشتهي أن ننقص نحن ويزيد هو فينا كما في زملائنا الخدام وفي الرعية ، بل وفي غير المؤمنين . هكذا إذ يتجلى عمل الثالوث القدوس فينا لا نطلب ما الأنفسنا بل ما هو الله في داخلنا كما في إخوتنا الخدام والشعب .
الكنيسة بيت الحب!
إن كانت الخدمة هي دعوة للتمتع بالحياة الكنسية كعلاقة شخصية مع الله ، وعلاقة جماعية ملتهبة بالحب مع الله ، فإن علاقة الخدام معا حسب ترجمة عملية ، وعظة واقعية للحياة الكنيسة الصادقة .
كثيرا ما يصور القديس بولس بملامح الحزم الشديد ، ربما من أجل خدمته الفائقة وجديته وتكريسه لكل لحظة من لحظات عمره . فهو يخدم بقوة سواء في المجامع اليهودية ، أو الأسواق ، أو على ظهر السفينة ، أو داخل السجن ، أو داخل محاكمته الخ . لكنني إذ قرأت الأصحاح 16 من رسالته لأهل رومية ، أراه إنسانا عاطفيا مملوء بالعواطف المقدسة ، خاصة مع القيادات الكنسية وعائلاتهم ، فمن كلماته : ” سلموا على بريسكلا وأكيلا العاملين معه في المسيح يسوع ، اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياتي ” ( رو 16 : 3-4 ) . ” سلموا على أمبلیاس حبيبي في الرب ” ( رو 16 : 8 ) . ” سلموا على روفس المختار في الرب ، وعلى أمه أمي ” ( رو 16 : 13) .
لكن ما هو عجيب أن صاحب القلب الناري في خدمته يقول بغير خجل : ” ولكن لما جئت إلي ترواس ، لأجل إنجيل المسيح ، وانفتح لي باب في الرب ، لم تكن لي راحة في روحي ، لأني لم أجد تيطس أخي ، لكن ودعتهم فخرجت إلى مكدونية ” ( 2 کو 2 : 12-13) . كيف ينفتح له باب للكرازة ومع هذا لم تسترح نفسه ، لأنه لم يجد أخاه تيطس ، ويضطر أن يترك ترواس ويخرج إلى مكدونية . إنه رجل كنسي مملوء بالعاطفة ، لم يحتمل غياب أخيه تيطس ، بالرغم من قوة شخصية بولس ومعاملات الله العجيبة في حياته وخدمته ! هكذا يليق بالخادم ليس فقط أن يتعاون مع إخوته الخدام ، وإنما لا يطيق أن يعمل بدونهم !
أبوة!
أذكر مثالاً واقعياً من خلال ممارسة أبينا بيشوي كامل في خدمته . اختلف مع أحد الشمامسة البارزين في الكنيسة ، وكان الشماس صغير السن ويمثل قدوة للشمامسة زملائه . وإذ أصر على رأيه ولم يقبل إرشاد أب اعترافه ( القمص بيشوي كامل ) طلب منه أن يغير أب اعترافه ورشح اسمي له . في نفس اليوم قرب منتصف الليل جاءني وأخبرني أن ألاطف هذا الشماس ، فيأخذ هو الدور الحازم وبحب ، وأنا أقدم جانب اللطف والحنو ، قائلا لي : ” لا تتشدد معه حتى لا يتعثر في الكنيسة ليعترف عندك لمدة سنة أو أكثر ، وعندما تستريح نفسه من جهتي رده إلي ” . صورة رائعة نادرة ، إذ كثيرا ما أسمع شكاوى بعض الكهنة أنهم يتضايقون من زملائهم حين يكونوا لطفاء مع من هم أخذوا منهم موقف الشدة والحزم . ما كان يشغل قلب أبونا بيشوي هو أن يحمل كل نفس إلى الله بالروح القدس ليتمتع بغنى النعمة الإلهية .
طوال فترة الربع قرن من خدمته الكهنوتية لم أشعر يوماً ما أنه يتضايق أن يتركه أحد في الاعتراف ليعترف لدي كاهن آخر . وعندما كان يفتتح كنيسة جديدة ، كان يختار خداماً من أفضل من لدينا ويأمرهم أن يقوموا بالخدمة في الكنيسة الجديدة ، ويقول لهم : ” لا أريد أن أراكم هنا ، لا في العشيات ولا في القداسات ولا خدمة التربية الكنسية ، فإننا قد أنشأنا هذه الكنيسة لكي نرى عمل الله فيها : ” يشتهي كل كنيسة أن تنمو وينجح فيها العمل الإلهي أكثر من الكنيسة التي يخدم هو فيها .
القمص تادرس يعقوب ملطي
يناير ۲۰۲۱