تفسير سفر عاموس ٣ للقمص تادرس يعقوب
الباب الثاني
عظات لإسرائيل
ص 3-8
عظة 1: إلى بني إسرائيل [ص 3.]
عظة 2: إلى بقرات باشان [ص 4.]
عظة 3: مرثاة على عذراء إسرائيل [ص 5: 1-17.]
مجموعة الويلات الأولى [ص 5.]
مجموعة الويلات الثانية [ص 6.]
تحوي هذه الأصحاحات الأربعة (3-6) ثلاث عظات ومجموعتين من الويلات، تبدأ كل عظة “اسمعوا هذا القول”، وكل مجموعة ويلات بكلمة “ويل”.
- عظة 1 [ص 3] موجَّهة إلى بني إسرائيل.
- عظة 2 [ص 4] موجَّهة إلى بقرات باشان.
- عظة 3 [ص 5: 1-17] موجَّهة إلى عذراء إسرائيل.
- مجموعة الويلات الأولى [ص 5: 18-27] ضد المشتهين يوم الرب بغير استعداد.
- مجموعة الويلات الثانية [ص 6] موجَّهة ضد السالكين بترف وتدليل في كبرياء وتشامخ.
هذه العظات ومجموعتا الويلات هي في جوهرها دعوة للتوبة، فهي تفضح الكثير من خطايا بني إسرائيل، التي للأسف يرتكبها حتى بعض المؤمنين في العهد الجديد، إنها تكشف ضعفاتنا في حياتنا مع الله وسلوكنا مع اخوتنا بل ومع أنفسنا، كما تعلن تأديب الله الحتمي لنا بسبب خطايانا ليدفعنا للرجوع إليه… لذا تكرَّرت العبارات “ترجعوا إلى الرب” (4: 11)، “اطلبوا الرب فتحيوا” (5: 4، 6)، “اطلبوا الخير لا الشرّ” (5: 14)، “ابغضوا الشرّ واحبُّوا الخير واثبتوا في الحق” (5: 15).
الأصحاح الثالث
العظة الأولى
إلى بني إسرائيل
في هذه العظة يقدِّم الله تبريرًا لمحاكمته شعبه:
- يعاقبهم لأنهم شعبه [1-2.]
- لا يعاقب بلا سبب [3-8.]
- يُشهِّد الأمم عليهم [9-11.]
- ليس من يفلت منهم [12-15.]
1. يعاقبهم لأنهم شعبه:
“اسمعوا هذا القول الذي تكلَّم به الرب عليكم يا بني إسرائيل، على كل القبيلة التي أصعدتها من أرض مصر قائلاً: إيَّاكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم” [1-2.]
كأن الله بهذه المقدِّمة يدعوهم إلى محكمته معلنًا أنه جهة الاختصاص، فإنه يدعو كل الشعب بكونه كل القبيلة أو العائلة التي نزلت إلى مصر، ومن هناك أنقذها، لقد عرفها باسمها واهتم بها ودعاها باسمه دون سائر قبائل الأرض، هذا الحب وهذه الرعاية لا تعني أنه يغمض عينيه عن أخطائهم، وإنما تُحمِّلهم بالأكثر المسؤليَّة، فإنه لا يقبل الشركة مع أناس مذنبين. لقد عرفهم وعرفوه، إذ قيل “الله معروف في يهوذا” (مز 76: 1). لذلك فمسئوليَّتهم أعظم، إذ يقول الرب: “وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيِّده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيُضرب كثيرًا، ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلاًً، فكل من أُعطيَ كثيرًا يطلب منه كثير ومن يودعونه كثيرًا يطالبونه بأكثر” (لو 12: 47-48). كما ازدادت معرفتنا لإرادة الله وأسراره وأعمال محبَّته الفائقة صرنا نُطالب بأكثر، وتكون مسئوليَّتنا أمامه أعظم من غيرنا. وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [الجريمة ليست موضع نقاش في حالة من كان يعرف إرادة سيِّده ويهملها، ولا يعمل بما يليق مع إنه من واجبه أن يعمل[25].]
2. لا يعاقب بلا سبب:
إن كان الله قد قدَّم شعبه للمحاكمة أمامه لأنه موضع الاختصاص، فإنه كأسد يزمجر علامة أنهم مستحقُّون الدينونة، فإن الله لا يطلب محاكمة شعبه بلا سبب، وقد وضع الرب الدليل خلال سبعة أسئلة تكشف أنه لا مجال لله أن يغضب بلا سبب… وأنه في نفس الوقت إذ يحاكم يدخل معهم في حديث مشترك موضِّحًا لهم أسرار محاكمته، إذ “يُعلن سرُّه لعبيده الأنبياء” [7.]
أما الأسئلة السبعة فهي:
“هل يسير اثنان معًا إن لم يتواعدا؟!
هل يزمجر الأسد في الوعر وليس له فريسة؟!
هل يعطي شبل الأسد زئيره من خدره إن لم يخطف؟!
هل يسقط عصفور في فخ الأرض وليس له شرك؟!
هل يُرفع فخ عن الأرض وهو لم يمسك شيئًا؟!
أم يُضرب بالبوق في مدينة والشعب لا يرتعد؟!
هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟! [3-6.]
فإن كانت كل الإجابات على الأسئلة السابقة بالنفي، فإنه يكمل على نفس الوتيرة: “إن السيِّد الرب لا يصنع أمرًا إلاَّ وهو يُعلن سرُّه لعبيده الأنبياء. الأسد قد زمجر فمن لا يخاف؟! السيِّد الرب قد تكلَّم فمن لا يتنبَّأ؟! [7-8.]
إن كان هذا الحديث قد كشف أن المحاكمة التي تتم ليست أمرًا وهميًا، بل هي أمر جاد وخطير، حقيقة واقعة تتحقَّق ليس بدون أسباب، وإنما قد فاض الكيل من جهة ما ارتكبه الشعب ضد القدُّوس، وفي حق نفسه، فإن هذه الأمثلة السبعة كشفت عن جوانب هامة وخطيرة تمس علاقة الله بشعبه التي بسببها تتم المحاكمة، أهمها:
أولاً: الحاجة إلى عهد جديد، إذ يفتتح حديثه بالقول: “هل يسير اثنان معًا أن لم يتواعدا (أو يكون بينهما موعد واتفاق)؟!، حتمًا لا! كيف إذن يسير الله والإنسان معًا، وقد كسر شعب الله العهد ونقض الاتفاق؟! يقول الرب: “وإن لم تتأدّبوا منيّ بذلك، بل سلكتم معي بالخلاف، فإني أنا أسلك معكم بالخلاف وأضربكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم” (لا 26: 23-24). إذا نقض الشعب العهد فكيف يسير الله معه؟! لهذا صارت الضرورة ملحَّة إلى إقامة عهد جديد فيه يتصالح الله مع شعبه.
هذا ما أعلنه الرب بإرميا النبي: “ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب، بل هذا هو العهد… اجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون ليّ شعبًا” (إر 31: 31-33). وقد تحقَّق ذلك في خميس العهد، حيث قدَّم لنا السيِّد المسيح جسده المبذول عهدًا جديدًا، فيه نلتقي مع الآب باتِّحادنا معه في ابنه يسوع المصلوب. ننعم بالجسد المكسور عنَّا والدم المبذول لأجل خلاصنا كعهد جديد، فيه تثبت بنوّتنا للآب، وأبوَّته لنا باتِّحادنا في جسد ابنه وحيد الجنس! حقًا في المسيح يسوع الذبيح نلتقي مع الآب ونسير معًا، إذ قد تواعدنا معًا بفكر ابنه وعهده الأبدي.
ثانيًا: يُعلن الله أنه في المُحاكمة لا يعرف التراخي، ففي عدله يتركنا للشرّ الذي اقتنيناه لأنفسنا بحرِّيتنا، فيكون هو كالأسد الذي يُزمجر في الوعر حيث البشريَّة الوعرة التي بلا ثمر، كالصحراء الجافة، صرنا فريسة تُلتهم. ويكون هو كالشبل الذي يمسك بالفريسة المقدَّمة له ليأخذ منها نصيبًا… صرنا فريسة، ولا هروب من زمجرة الأسد وزئير الشبل إلاَّ بالالتجاء إلى الصليب، لنرى الأسد الخارج من يهوذا مزمجرًا ليس علينا بل على خطايانا، ولا ليفترسنا وإنما ليحطِّم إبليس عدوِّنا! لنهرب من الغضب الإلهي الذي يُزمجر بسبب قبولنا العدو، بالهروب إلى الله مخلِّصنا الذي يفدينا من هذا العدو!
ثالثًا: إذ يقدِّم لنا مثَل العصفور الذي يسقط بسبب وجود فخ، أو الفخ الذي يُرفع لأنه قد اقتنص عصفورًا، إنما يُعلن الرب إننا في المحاكمة أشبه بالعصفور الساقط في فخ، هل نقدر أن نخلص بأنفسنا؟! بالرب فادينا نقول: “لأنه ينجِّيك من فخ الصيَّاد ومن الوبأ الخطر” (مز 91: 3). “انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيَّادين، الفخ انكسر ونحن انفلتنا، عوننا باسم الرب الصانع السماوات والأرض” (مز 123: 7). يقول القدِّيس جيروم: [ما هو الفخ الذي انكسر؟ يقول الرسول: “(الرب) سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعا” (رو 16: 20)، “فتستفيقوا من فخ إبليس” (2 تي 2: 26). ها أنتم ترون الشيطان هو الصيَّاد، يشتاق أن يصطاد نفوسنا للهلاك. الشيطان هو سيِّد فخاخ كثيرة، وخداعات من كل نوع… لكن متى كنَّا في حالة النعمة تكون نفوسنا في أمان، لكن ما أن نلهو بالخطيَّة حتى تضطرب نفوسنا وتصير كسفينة تلطمها الأمواج[26].] ويقول أيضًا: [كما إن الرب يلقي الشبكة ويصطاد عددًا ضخمًا من السمك، وتلاميذه كصيَّادي سمك يجمعون الذين يَقبلون الإيمان به خلالهم ويحضرونهم إليه، هكذا أيضًا إبليس له شيَّاطينه الخاضعة له الذين ينصبون الشباك للناس ويقتادونهم إليه[27].]
ويقدِّم لنا القدِّيس أغسطينوس سرّ انفلاتنا من الفخ: [لأن الرب في النفس ذاتها، لهذا فلتت النفس هكذا كطائر من فخ الصيَّادين… ليكن الرب في داخلك، وهو يخلِّصك من تهديدات أعظم، من فخ الصيَّادين… الفخ سينكسر، تأكَّد من هذا، فإن ملذَّات الحياة الحاضرة لن تدوم عندما يتحقَّق مصيرها النهائي. لذا ليتنا لا نرتبك بها حتى متى أِنكسر الفخ نفرح قائلين: الفخ أِنكسر ونحن نجونا. ولئلاَّ تظن أنك تستطيع ذلك بقوَّتك الذاتيَّة، أُنظر من الذي يعمل على نجاتك وقل: [عوننا باسم الرب الصانع السموات والأرض”[28]…]
رابعًا: يقول: “أم يضرب بالبوق في مدينة والشعب لا يرتعد؟!. إنها حالة حرب روحيِّة دائمة! ما دمنا في العالم فالعدوّ لا يتوقَّف عن مقاومتنا حتى يغتصبنا من ملكوت الله إلى ملكوت ظلمته، لذا فالرب يرسل خدَّامه ليضربوا دومًا ببوق الإنجيل حتى تتحقَّق النصرة النهائيَّة. يقول الرسول بولس: “أخيرًا يا أخوتي تقوُّوا في الرب وفي شدَّة قوَّته، ألبسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيِّة في السماويًّات” (أف 6: 10-12).
يقول القدِّيس أغسطينوس: [لنتطلَّع إلى عدوِّين، العدوّ الذي نراه، والعدوّ الذي لا نراه، والإنسان نراه، والشيطان لا نراه، لنحب الإنسان ولنحذر من الشيطان. لنصلِّي من أجل الإنسان، ولنصلِّي ضد الشيطان، ويقدِّم تعليلاً لذلك: “فإننا إذ نعاني من البشر الذين يضايقوننا، إنما لأنهم آنية للشيطان، هو يستخدمهم ويلهبهم كآنية يحرِّكها لحسابه[29].]
خامسًا: يُعلن الرب أنه هو الذي يسمح بالمحاكمة لأجل التأديب. “هل تحدُث بليَّة (شرّ) في المدينة والرب لم يصنعها”؟!. وقد تحدَّث الآباء كثيرًا عن كلمة “شرّ” الواردة هنا أو في العبارات المماثلة مميِّزين بين نوعين من الشرّ، الشرّ الذي بطبعه شرًا ومضاد للفضيلة أو الصلاح، والشرّ الذي هو ألم أو ضيق نحسبه نحن شرًا. هذا ما أكَّده القدِّيس يوحنا الذهبي الفم[30] في أكثر من موضع، وكما يقول الأب يوحنا الدمشقي: [لا يقصد بهذه الكلمات أن الله هو علَّة الشرّ، بل أن كلمة “شرّ” تستخدم بطريقتين، بمعنيين. أحيانًا تعني ما هو شرّ بطبيعته، هذا هو ضد الفضيلة وضد إرادة الله، وأحيانًا تعني ما هو شرّ وضيق لإحساسنا، أي الأحزان والكوارث. هذه تبدو شرًا لأنها مؤلمة، وإن كانت في الحقيقة هي صالحة، إذ تكون بالنسبة للفاهمين صفَّارة للتحوِّل والخلاص. هذه يقول الكتاب عنها إن “الله هو مصدرها”[31].] كما يقول الأب ثيؤدور: [حينما يتحدَّث الحكم الإلهي مع البشر يتكلَّم معهم حسب لغتهم ومشاعرهم البشريَّة. فالطبيب يقوم بقطع أو كيّ الذين يعانون من القروح لأجل سلامة صحّتهم، ومع هذا يراه غير القادرين على الاحتمال أنه شرّ[32].]
سادسًا: يُعلن الله أنه إن كان هو الذي يسمح بالتأديب، فهو “يُعلن سرّه لعبيده الأنبياء“، هذا ما نراه في كل أسفار الأنبياء، أن الله لا يتعامل بصورة دكتاتوريَّة، ويأمر وينهي، وإنما يُعلن أسراره ويحاجج. لهذا فكثيرًا ما يكرِّر في أحاديثه من أجل ضعف الإنسان حتى يدرك الأسرار غير المدركة، ومقاصد الله العُليا قدر ما يستطيع الإنسان أن يتقبَّل.
الله يحب الإنسان، يتحدَّث معه كمن هو نِدّ لنِدّ، فعندما أراد حرق سدوم وعمورة قال: “هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟!” (تك 18: 17). وأعطى لإبراهيم فرصة الحوار في أمر سدوم وعمورة، حتى قال له إبراهيم: “أفتُهلك البار مع الأثيم؟!… أديَّان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟!” (تك 18: 23-25). ولم يغضب الرب عليه بل أكمل الحوار وكأنه صديقه ونِدُّه!! وفي أكثر من موضع يُعلن “هلم نتحاجج يقول الرب”… أنه يريد الحوار مع الإنسان ليُعلن سرّه للمستقيمين خائفيه. فقد قيل: “أما سرُّه فعند المستقيمين” (أم 3: 32)، “سرّ الرب لخائفيه، وعهده لتعليمهم” (مز 25: 14).
سابعًا: أخيرًا يعاتبهم الرب: “الأسد قد زمجر فمن لا يخاف؟! السيِّد الرب قد تكلَّم فمن لا يتنبَّأ؟!” [8]، إن كان الله في محبَّته يُعلن سرّه لأنبيائه، فكيف لا يُعلنون هم بدورهم للشعب زمجر الأسد الخارج من سبطه فيهابونه وكلماته ليستعد الكل لملاقاته. إن عمل الأنبياء تبليغ الرسالة الإلهيَّة ولو ظهرت كنار محرقة أو زمجر أسد، حتى يخاف الكل ويرجع إلى الله… أما غاية هذا كله فهو أن ينطق الأنبياء بالنبوّات كطريق تمهيدي لمجيء السيِّد.
وللقدِّيس أغسطينوس تعليق لطيف على القول: “الأسد قد زمجر فمن لا يخاف؟!” إذ يقول: [إن الإنسان قد استطاع أن يُروِّض الأسد فلا يخافها متى رُوِّضت، لكنه لا يقدر أن يُروِّض نفسه، فليُسلِّمها لله وحده مُروِّض النفوس. هل أنت أقوى من الأسد؟ لأنك على صورة الله! ماذا؟ هل تستطيع صورة الله (أي الإنسان) أن تروِّض الوحوش المفترسة ولا يقدر الله أن يروض صورته؟![33].] إذن لنسلِّم نفوسنا في يديه، فهو وحده القادر على ترويضها.
3. يُشهد الأمم عليهم:
لقد أراد الله أن يُشهد عليهم جيرانهم الوثنيِّين، أغنياء أشدود بفلسطين (في الترجمة السبعينيّة آشور) وأغنياء مصر، القريبين إليهم والبعيدين ليأتوا ويشهدوا منصًّة الحكم، وكأن الله لم يجد من يُحكم بينه وبين كرمه رجالاً أبرارًا من شعبه، فالتجأ إلى الغرباء ليحكموا إن كان في قضاء الله ظلم نحو شعبه. ولعلَّه أراد بدعوتهم أيضًا أن يتلامسوا معه ويُدركوا قداسته، فيتعظَّوا، لأنه إن كان يُحاكم شعبه على خطاياهم فهل ينحاز لغير شعبه؟! ففي حضورهم فرصة لمراجعتهم لأنفسهم هم أيضًا.
إن بشاعة ذنوب السامرة – عاصمة إسرائيل – في داخلها قد بلغت لا إلى الله القدُّوس فلا يطيقها، وإنما حتى إلى الأمم فتشهد عليهم بشرِّهم… لأن رائحة الشرّ بلغت إليهم. يا للمرارة عِوض أن يشهد أبناء الملكوت ضد الأشرار ويدينوهم، صار الأشرار شهودًا ضد شعب الله، يرون في وسطهم شغبًا عظيمًا وتشويشًا، عِوض الحياة السمائيَّة الفائقة المجد، وفي داخلها مظالم عِوض العدل والبرّ، تحوَّلوا إلى مخازن للظلم والاغتصاب حتى لم يقدروا أن يصنعوا الاستقامة. يقول الرب للأمم عن شعبه “اجتمعوا على جبل السامرة وانظروا شغبًا عظيمًا في وسطها، ومظالم في داخلها، فإنهم لا يعرفون أن يصنعوا الاستقامة… أولئك الذين يُخزِّنون الظلم والاغتصاب في قصورهم” [9-10.] لذلك يُحاصرها بالضيق من كل ناحية وينزع منها عزّها وسلطانها!
لقد صار إسرائيل كالملح الذي كان يجب أن يُصلح الآخرين، لكنه وقد فسد فبماذا يملَّح؟ “لا يصلح لشيء إلاَّ لأن يطرح خارجًا ويداس من الناس” (مت 5: 13). كان إسرائيل في عيني الله أشبه برئيس الكهنة الذي يشفع عن الأمم الوثنيَّة، فإن أخطأ هو من يشفع عنه؟! كأن يليق بإسرائيل أن يكون معلِّم الأمم عن الخلاص، لكنه إذ ترك الإيمان ماذا يكون جزاؤه؟
هذا كله يرعب المسيحي خاصة الكاهن، فإنه قدر ما تتَّسع مسئوليَّتنا يكون العقاب أشدّ متى أخطأنا. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن سقط الآخرون ربَّما يستطيعون أن ينالوا العفو، ولكن إن سقط المعلِّم، فإنه بلا عذر ويسقط تحت انتقام غاية في القسوة[34].]
4. ليس من يفلت منهم:
لقد قدَّم الله تشبيهًا عجيبًا في تأديبه لشعبه، فإنه وإن كان هو الراعي الذي يبحث عن كل خروف ضال، ينتشله من فم الأسد، ولو لم يبق فيه سوى ساقين أو جزءًا حتى من أذنه… هذه الرعاية الفائقة والحب العجيب هو الذي يجعله أيضًا يفتش عن شعبه أينما وُجدوا، ليسمح لهم بالسبي لأجل التأديب.
لقد اهتزَّت مشاعر كثير من الآباء أمام محبَّة الله الفائقة الرعويَّة حتى قال القدِّيس باسيليوس في إحدى رسائله: [جاهد أن تقوم من الأرض، وتذكَّر أن لك الراعي الصالح الذي يقـتـفي أثرك ويخلِّصك حتى وإن لم يبق فيك سوى ساقين أو قطعة من الأذن، يُخرجها من فم الوحش الذي جرحك. تذكَّر مراحم الله، فإنه يشفيك بالزيت والخمر. لا تيأس من الخلاص[35].]
الرب الذي بحبُّه ينتزعنا من فم الأسد، هو ينتزع الإسرائيليِّين من أرضهم أيَّا كانوا، “الجالسون في السامرة في زاوية السرير” [12.] ويقتفي أثرهم حتى إن هربوا إلى دمشق، ولو في فراش فمن هناك يسحبهم إلى أرض السبي.
إنه يُعاقب لا لأجل العقاب في ذاته، وإنما لأمرين: نزع عبادة الأوثان “أُعاقب مذابح بيت إيل، فتُقطع قرون المذبح وتسقط إلى الأرض“، وتحطيم حياة الترف والتدليل، هؤلاء الذين اشتروا بيوتًا خاصة بالصيف وأخرى خاصة بالشتاء، ويقيمون لأنفسهم بيوتًا عظيمة وثمينة من العاج!
تفسير عاموس 2 | عاموس 3 | تفسير سفر عاموس |
تفسير العهد القديم | تفسير عاموس 4 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | ||||
تفاسير عاموس 3 | تفاسير سفر عاموس | تفاسير العهد القديم |