تفسير سفر عاموس ٦ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السادس
مجموعة الويلات الثانية

هذه المجموعة من الويلات تُمثل الجزء الأخير من العظة الثالثة، فيها يُقدِّم الله الويلات لإسرائيل بسبب ما أتَّسم به من:

  1. الطمأنينة الخادعة                 [1-7].
  2. الحياة المتعجرفة                  [8-11].
  3. الفرح بالباطل                     [12-14].

1. الطمأنينة الخادعة:

“ويل للمستريحين في صهيون، والمطمئنيَّن في جبل السامرة، نقباء أول الأمم، يأتي إليهم بيت إسرائيل” [1].

يُقدِّم الويل ربَّما للعظماء والإشراف وكل أصحاب القيادات الدينيَّة والمدنيَّة في يهوذا وإسرائيل، فقد اطمأنُّوا واستكانوا في صهيون والسامرة، في حياة مُترفة ومُدلَّلة، خاصة وأنهم يُحسبون كنقباء أول للأمم أي أنهم مُعظِّمون ومُكرَّمَون أكثر من جميع الأمم أو أنهم باكورة الأمم.

لقد عُرفت صهيون بأبراجها ومتاريسها، كما يقول المرتِّل: “طوفوا بصهيون ودوروا حولها، عِدُّوا أبراجها، ضعوا قلوبكم على متاريسها، تأمَّلوا قصورها لكي تُحدِّثوا بها جيلاً آخر” (مز 48: 12-13)، ضمَّت داخلها كراسي بيت داود (مز 122: 5). أما جبل السامرة فقد صار مركز الحياة الدينيَّة للمملكة الشماليَّة. فقد استرخى العظماء في المنطقتين مطمئنيِّن، إذا صار في يدهم القوَّة المدنيّة والقيادة الدينيّة، يهابهم الأمم وياتي إليهم بيت إسرائيل.

هذا هو حال النفس التي تجد لها ملجأ في غير الله، تطمئن من أجل نجاحها الزمني أو سمعتها الدينيّة، الكل ينظر إليها بإكرام وإعجاب، وفي غباوة استكانت واستراحت مطمئنَّة،  بدلاً من الجهاد المستمر والنمو في الرب.

لكي يُثير الرب أهل صهيون وجبل السامرة للتوبة قدَّم لهم أمثلة لمدن عظمى حملت صيتًا لزمان طويل وقد هلكت، فذكر كلنة التي بناها نمرود في أرض شنعار (تك 10: 10) وقد خُرِّبت تمامًا، وحماة بسوريا التي اِفتخر سنحاريب أنه أباد آلهتها (2 مل 18: 34)، وجت بفلسطين التي خرَّبها حزائيل منذ فترة وجيزة (2 مل 12: 17)… فهل صهيون وجبل السامرة أفضل من هذه المدن، أو تخومها أكثر اِتساعًا من تخومهم؟!

حقًا، يليق أن نتَّعظ ممَّا يحدث للآخرين، فإن كانت الخطيَّة قد حطَّمت جبابرة، والتهاون أفسد الممالك، يليق بنا ألاَّ نقبل الخطيَّة ولا نسلك برخاوة، حتى لا نصير عبرة ومثلاً كالآخرين!

كان إسرائيل لا يتَّعظ بما حلّ بالممالك المحيطة به، ولا يبالي بتهديدات الله له، منهمكًا في ظلمه حتى في مجالس القضاء حاسبًا أن التأديب لن يحل به قريبًا. “أنتم الذين تبعدون يوم البليَّة (التأديب)، وتقرِّبون مقعد الظلم” [3].

هذه الحياة التي اتَّسمت بالاستكانة للشرّ والظلم، وعدم الاكتراث بإنذارات الله قد سندها حياتهم المُترفة المُدلّلة، إذ انسحب قلبهم في الملذَّات والشهوات يقول الله موبخًا إيَّاهم:

“المضطجعون على أسرَّة من العاج، والمتمدِّدون على فرشهم، والآكلون خرافًا من الغنم وعجولاً من وسط الصيرة (المعلف)” [4].

اتَّسمت حياتهم بالنوم والتراخي، يقضون أوقاتهم مضطجعين على أسرَّة مطعَّمة بالعاج ومستلقين على فراشهم، يأكلون الكثير من الخراف والعجول السمينة… أُناس لا يعرفون الجهاد الروحي والجدِّيَّة، فعِوض المُسوح التي كان يلزمهم أن يأتزروا بها بسبب خطاياهم، استلقوا على الأسرَّة متمدِّدين كل أيام حياتهم، وعِوض الصوم والتذلُّل يأكلون بشراهة، وكما يقول الرسول بولس عن بعض المعلِّمين الأشرار: “لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم” (رو 16: 18). وفي موضع آخر يقول: “الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم الذين يفتكرون في الأرضيَّات، فإن سيرتنا نحن في السموات” (في 3: 19-20).

هكذا يعيشون لأجل بطونهم ويسلكون كترابيِّين يطلبون الملذَّات الزمنيَّة، وعِوض التمتُّع بالتسابيح الإلهيَّة السماويَّة يحبُّون حياة المرح الزائد مقدِّمين أغاني مفسدة مرتبطة بموسيقى خليعة هي من عمل أيديهم، كما قدَّم داود مزاميره لكن لسحب قلبه للسماء: “الهاذرون مع صوت الرباب المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود” [5]. ربَّما كانوا في وقت لهوهم يترنّمون ببعض الأغاني الدينيَّة لا للتوبة وإنما للسخرية، كما طلب أهل بابل من شعب إسرائيل أن يترنَّم بتسابيح صهيون في أرض السبي، فأجابوا: “كيف نرنِّم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟!” [4]. أمّا هؤلاء فترنَّموا بترنيمات الرب وسط لهوهم وسكرهم في جو غريب عن الرب!

سيطر التدليل على كل حياتهم، في نومهم وأكلهم ولهْوِهم وأيضًا في سُكرهم وتطيِيبهم بأدهان باهظة الثمن: “الشاربون من كؤوس – طاسات وهي كؤوس كبيرة تُستخدم في أغراض ذبيحيَّة (حز 38: 3، ز 14: 20)- الخمر، والذين يدهنون بأفضل الأدهان” [6].

يُعلّق القدِّيس إكليمنضدس الإسكندري على هذه العبارات النبويَّة، قائلاً: [إذ نطق الروح القدس بصوته خلال عاموس أعلن بؤس الأغنياء من أجل حياتهم المُترفة[49]]. كما يقول العلاَّمة ترتليان: [حقًا لقد وجد (الأغنياء) تعزيتهم ومجدهم وكرامتهم وعلوّ مركزهم في غناهم. وفي المزمور 48 يردِّنا عن الاهتمام بهذه الأمور، قائلاً: “لا تخشى إذا استغنى إنسان، إذا زاد مجد بيته، لأنه عند موته كله لا يأخذ ولا ينزل وراءه مجده” (مز 49: 16-17)، وفي المزمور 62 يقول: “لا تشتهوا الغنى وإن زاد الغني فلا تضعوا عليه قلبًا” (مز 62: 10). أخيرًا نطق بهذا الويل بالنبي ضد الغني الذي يرتبط بالمباهج[50]]. ويقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [اُنظر كيف يلوم الله الترف أيضًا، فإنه لا يدينهم هنا على طمع اقترفوه وإنما لمجرَّد التبذير. ها أنت تأكل بتخمة والمسيح ليس له الضروري. أنت تأكل كعكًا متنوِّعًا والمسيح ليس له الخبز الجاف. أنت تشرب خمرًا من Thasian ولا تمنح المسيح كأس ماء بارد خلال من هو ظمآن. أنت ترقد على فراش ناعم مطرَّز وهو يهلك بردًا![51]].

يكمِّل الرب وصفه لهذه الجماعة المسترخية المُترفِّهة بقوله: “ولا يغتمون على انسحاق يوسف” [6]. هذه الخطيَّة التي يختم بها وصفه لهذه الجماعة ليحكم عليها: “لذلك الآن يُسبون في أول المسبيِّين ويزول صياح المتمدِّدين” [7]. ما هي هذه الخطيَّة التي يختتم بها حتى يحسبهم مستحقِّين أن يكونوا أول المسبيِِّين وتُنزع عنهم ولائمهم التي كانوا يبسطونها ويتمدَّدون عليها؟!.    

غالبًا ما يُشير “يوسف” إلى إسرائيل ككل، وكأن هؤلاء العظماء المسترخين قد انسحب قلبهم إلى الترف واللهو بعيدًا عن الانسحاق الذي يمر به إسرائيل، كالإنسان الذي في ترفه ينسى آلام الكنيسة وأحزانها.

لعلَّ “انسحاق يوسف” يُذكِّرنا برئيس السُقاة الذي عاد إلى عمله ووقف أمام فرعون، فنسى يوسف في السجن (تك 40: 21، 23). هكذا حينما يعيش الإنسان في راحة ووسع ينسى إخوته المتألِّمين والمحرومين… إنها صورة بشعة تكشف عن أنانيَّة الإنسان وبتْره لنفسه عن عضويََّته في الجماعة المقدَّسة.

يربط كثير من الآباء بين هذا التعبير “لا يغتمون على انسحاق يوسف” وما ورد في سفر (مي 1: 11) “الساكنة في صانان لا تخرج لتنوح على الموضع الذي بجوارها” (الترجمة السبعينيَّة)، قائلين بأن ما أصاب إسرائيل (يوسف) وجيران صانان إنما هو بسماح من الله لتأديبهم، ومع ذلك فإنه إذ لا نشترك معهم في حزنهم يُحسب ذلك خطيَّة علينا. وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [وإن كانوا يؤدِّبون بعدل، لكن لا يليق بك أن تفرح لضررهم… فإن الله يُريدك أن تُظهر حُنُوًّا حتى على هؤلاء. فإن كنا ونحن أشرار متى عاقبنا خادمًا ورأينا زميله العبد يضحك نثور بالأكثر ونصب غضبنا على الزميل (لأجل ضحكه) فكم بالأكثر الله يعاقب الذين يتكبَّرون على من يؤدِّبهم؟![52]]. كما يقول أيضًا: [إن كانوا بعدل يعاقبون، لكن الله يُريدنا أن نواسيهم ولا نفرح أو نسبُّهُم. إنه يقول: “إن كنت أُعاقِب فلا أُسرّ بذلك، لا أُسرّ بعقاب الخاطئ، إذ لا أشاء موته (حز  18: 32). هكذا يليق بك أن تمتثل بربِّك، وتحزن لأن الخاطئ سقط تحت عقوبة عادلة، فإن من يقتني حزنًا صالحًا كهذا يجمع نفعًا عظيمًا[53]].

2. الحياة المتعجرفة:

يُقدِّم الله الويل لإسرائيل لأنه سقط في الكبرياء، قائلاً: “إني أكره عظمة يعقوب وأبغض قصوره فأُسلِّم المدينة وملأها” [8]. المدينة التي يحبُّها ودعيَ اسمه عليها يُسلِّمها بقصورها وكل ملئها من أجل عظمتها الباطلة وافتخارها. إنه يكرهها ويُسلِّمها للتأديب بقَسَم حتى يتأكَّد الكل أنه لن يُرد الحكم.

يقول القدِّيس يوحنا الدرجي عن الكبرياء: [الكبرياء جحود لله وصنع الشيَّاطين وازدراء للناس، وأم للإدانة وابنة للمدائح وعلامة العُقم، وتنحِّ عن معونة الله ونذيرة بضلال العقل، ونصيره للسقطات وعلّة للصرع وينبوع للغضب، وباب للرياء وعون للأبالسة وصائنة للخطايا ووليَّة لقساوة القلب وجهل للحنوّ، ومحاسب مرّ وقاض ظالم، وخصم لله وأصل التجديف]، كما يقول: [حيثما حلَّت سقطة فهناك سبقت وسكنت الكبرياء، لأن حضور هذه يؤذن بحلول تلك[54]].

إذ سقطوا في الكبرياء القاتل صار يتعقَّبهم بالتأديبات المتوالية، حتى إذا بقي عشرة رجال فقط في بيت واحد يموتون. وقد قدَّم صورة مرَّة لحالهم، فإن العَمْ يحمل جثمان ابنة أخيه، مع أن المتوقَّع أن الإنسان يحمل جثمان أبيه وعمُّه، ويقدِّم حريقًا للميِّت تكريمًا له (إر 34: 5؛ 2 أي 16: 14؛ 21: 19)، وإذ يسأل عمن في البيت فيجد أن الكل قد مات، حتى تحنق القلوب على الرب (أم 19: 3) ولا  تذكر اسمه. هكذا يبلغ الخراب ببيوت إسرائيل حتى لا يوجد من يذكر اسم الرب، والعجيب أن الرب يضرب البيت الكبير بالهدم والبيت الصغير فيصير شقوقًا، يُحطِّم الكبير قبل الصغير وبصورة أعنف بسبب كبريائه المتزايد!

3. الفرح بالباطل:

أما التعليل الثالث لسقوطهم تحت الويلات فهو: “أنتم الفرحون بالباطل، القائلون: أليس بقوَّتنا اتَّخذنا لأنفسنا قرونا؟!” [13]. إنهم يفرحون وسط تدليلهم وترفُّههم كأنه لا يصيبهم شيء، أو كأن ما يُقال لهم كإنذارت إنما هي كلمات باطلة، مُتَّكلين على ذواتهم وقوَّتهم… وهذا هو سرّ فشلهم، إذا يغلقون على أنفسهم كل طريق للنجاة، إذ يقول: “هل تركض الخيل على الصخر، أو يَحرث عليه بالبقر حتى حوَّلتم الحق سُمًا وثمر البرّ أفسنتينًا؟!” [12]. كأنه يقول لهم قد أرسلت إليكم الأنبياء يحملون الإنذارات لأجل توبتكم ورجوعكم إليّ، فوجدوا قلوبكم صخرًا لا يمكن للخيل أن تركض عليها ولا البقر أن تحرثها. لقد حوَّلتم الحكم إلى سُم ومرارة! أفقدتم طعم الحق والبرّ فائدتهما! لهذا فإنه يختم عظته بإرسال أمّة تُضايقهم من كل جانب من الشمال “مدخل حماة”، ومن الجنوب “وادي العربة”، وهو وادي في جنوب البحر الميِّت حتى خليج العقبة…

تفسير عاموس 5 عاموس 6  تفسير سفر عاموس
تفسير العهد القديم تفسير عاموس 7
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير عاموس 6  تفاسير سفر عاموس تفاسير العهد القديم

 

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى