تفسير إنجيل القديس يوحنا 15 للقمص أنطونيوس فكري

الأصحاح الخامس عشر

 

آية (1): “أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام.”

إبتداء من هذا الإصحاح يتكلم المسيح وحده والتلاميذ يسمعون. الكرمة الحقيقية= هذه في مقابل الكرمة التي لم تثبت وهي إسرائيل (مز8:80-13+ أش1:5-7). والكرمة هي تعبير عن الكنيسة جسد المسيح (أش2:27-5). وحقيقية تعنى لغويا الثابتة التي لاتتغير و لا تفسد ولا تزول. لكن إسرائيل ليست حقيقية لأنها فسدت وإنتهت وتشبيه الكنيسة بالكرمة، لأن الكرمة تعطي الخمر رمز الفرح والكنيسة بثمرها تفرح الله. والمسيح تجسد ليوحدنا فيه ليقدمنا للآب كجسده الحي وهذا ما يفرح الآب الكرام صاحب الكرمة. الآب أراد أن تكون الكنيسة كرمة تفرحه، فأرسل ابنه متجسدا ليؤسس هذه الكرمة.

المسيح هنا يتحدث عن إتحاده بتلاميذه وكنيسته وأنه كإتحاد الكرمة بالأغصان. فهو إتحاد وثيق، فالإبن صار يحمل المؤمنين الذين ثبتوا فيه يعطيهم جسده ودمه طعاماً وشراباً كعصارة تجعل الكرمة حية. ورفع عنهم خطاياهم التي كانت سببا في موتهم الذي أحزن قلب الآب، جاء الابن ليعيد لهم الحياة و ليقدمهم لله الآب الكرام ليفرح بهم. هذه الكرمة قال عنها داود.. (مز14:80-19) (نبوة ربطت بين الكرمة وإصلاحها والابن) وقال عنها بولس الرسول.. (أف17:1-23). فالله الآب هو الذي يدعونا لمعرفته وإلى ميراثه وقدرته وقوته وهو الذي أقام المسيح رأساً لهذه الكرمة وهو يثبت الأعضاء حسب عمل شدة قوته في المسيح (يو12:17+ يو37:6، 44). والعمل قطعاً هو عمل مشترك بين الآب والابن (يو4:17). فهنا الإنسان يتحد بالمسيح بسر إلهي هو المعمودية ليصير عضواً حياً في المسيح على مستوى الغصن في الكرمة. والآب هو الذي أرسل ابنه ليكون سبب حياة للمؤمنين= أبي الكرام= المسيح بسبب إنسانيته اتحد بالكرمة أما الآب فهو متميز عنها. الآب هو حارس هذا الإتحاد والثبوت، فهو الذي يريده ليكون هناك حياة للكنيسة الكرمة. وهذه الكرمة حقيقية لها صفة البقاء والخلود وعدم التغيير والفساد كما حدث للكرمة اليهودية. هذه الكرمة الجديدة (الكنيسة) بدأت بغصن (المسيح) (أش1:11) ويتفرع منه أغصان كثيرة (المؤمنين المعمدين) ليكونوا الكرمة.

 

آية (2): “كل غصن في لا يأتي بثمر ينزعه وكل ما يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر أكثر.”

الثمار هي الإيمان والرجاء والمحبة والشهادة للمسيح وثمار الروح القدس فينا (غل22:5-23) وأعمال حسنة تمجد الله وتنفع الآخرين. والآب ينزع الغصن عديم الثمر (أش1:5-6). فالآب يطلب الثمر وعلى أساس الثمر يتعامل مع الأغصان. وهو ينزع الغصن عديم الثمر لأنه يعطل نمو الكرمة فهو يأخذ من عصير الكرمة دون فائدة بل يحرم الغصن المثمر، وهذا كما قال الرب “ان كل من له يعطى فيزداد ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه” (مت25 : 29). وما يأتي بثمر ينقيه على المستوى الروحي من كل نجاسة وشهوة بالتجارب. فالتنقية تأديب. أو ينقيه بالكلمة فهي سيف ذو حدين. وهذا ما نراه في شوكة بولس الرسول. إذًا فالله لا يريد ثمرًا وكفى بل يريد ثمر كثير. كل غضن فيّ= فلا يمكن فصل المؤمنين عن المسيح (أف30:5). بل إن شرط حياتنا هو إتحادنا بالمسيح. وطاعة الوصية تثبتنا في الكرمة فنستمر أحياء.

آية (3): “أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به.”

حتى لا يتساءل التلاميذ هل نحن من الأغصان التي تقطع أو التي تنقى قال لهم الرب= أنتم الآن أنقياء= أي أن المسيح يراهم مثمرين، فهو أتم عمله معهم بتعاليمه وكلمته الحية الفاحصة والبانية والمبكتة والمعزية والتي تستعلن الحق الإلهي. وهذا الكلام قيل بعد خروج يهوذا. ونلاحظ أن المسيح بكلامه ينقي وفي الآية السابقة نجد الآب ينقي بالتجارب النافعة. وكلمة المسيح سيف ذو حدين، بحدها الأول تنقي وتقدس فتحيي وكأنها تَلِدْ الإنسان من جديد (1بط23:1) وبحدها الثاني تدين (يو22:5+ 48:12) فإن لم تأتي كلمة الله بثمر تكون هذه الكلمة للدينونة (رؤ12:2، 16+ عب12:4) وكلما نهتم بكلمة الله في حياتنا نزداد نقاوة. فكلمة الله حيَّة وفعالة ولها قوة على التنقية. لذلك فالكنيسة تنصح الشعب بعدم التناول لمن لم يسمع الإنجيل. فكلمات الإنجيل تعطي نقاوة يحتاجها المتناول. بسبب الكلام= كل تعاليم الرب لهم لكن استمرار النقاوة متوقف على شركتهم معه أي استمرار ثباتهم في المسيح.

آية (4): “اثبتوا في وأنا فيكم كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته أن لم يثبت في الكرمة كذلك أنتم أيضًا أن لم تثبتوا في.”

اثبتوا فيَّ وأنا فيكم

اثبتوا فيّ= الله خلق آدم. ومن جنب آدم خلقت حواء. والأولاد هم جزء من آدم وجزء من حواء. لذلك فالخليقة كلها الآن هي أجزاء من آدم ولكنها خليقة ميتة فآدم رأسها ميت.

جاء المسيح ليكون جسد ثانٍ حي.

هو رأسه وكلنا ينتمي لهذا الجسد بالمعمودية. ويكون في المسيح.

وأنا فيكم= المسيح مات وقام. وأنا أموت مع المسيح وأقوم متحدًا به في المعمودية (رو3:6-5) وحين أتحد به تكون لي حياته “لي الحياة هي المسيح” (في23:1) “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غل20:2) وحين تكون لي الحياة هي المسيح فهو يستخدم أعضائي كآلات بر (رو13:6) وإذا كنت ثابتًا في المسيح. ولي حياة المسيح فأنا غصن مثمر.

 

وحياة المسيح فيَّ تعطيني قوة لأثبت في المسيح وأثمر وهذا ينطبق على مثال الكرمة

فكل

غصن هو في الكرمة = اثبتوا فيّ.

والعصارة الحياة تسرى في كل غصن= وأنا فيكم.

المسيح أعطانا جسده ودمه لنثبت فيه، ومن يتناول باستحقاق (في حالة توبة صادقة) يثبت فيه. ومن يثبت فيه يقدسه ويعطيه حياة ويكون له ثمر. فالغصن لا يمكن أن يأتي بثمر إن لم يكن ثابتاً في الكرمة. إذاً فلنلتصق بالله كل أيام حياتنا. والمسيح هو منبع الثمر والروح القدس هو الذي يوصِّل ثمر بر المسيح (1يو27:2) أي أن الروح القدس (المسحة) يعلمنا أن نثبت في المسيحاثبتوا فيَّ= وصية من المسيح لنا وهو يعطي مع وصاياه قوة للتنفيذ. وأنا فيكم= هذه تعني إقبلوا ثبوتي فيكم، أي علينا أن نفتح قلوبنا ليدخلها المسيح ليعمل (أف14:3-17). وثبوت المؤمن في المسيح شرط لازم لثبوت المسيح في المؤمن. وثبوت المسيح في المؤمن هو نتيجة طبيعية لثبوت المؤمن في المسيح. من يثبت في المسيح بأعماله وتوبته ومحبته يثبت فيه المسيح، بأن يمنحه نعمته ويملأه من روحه. ومعنى الآية أن المسيح يقول إعطوني الفرصة لأثبت فيكم. فالثبات في المسيح يستلزم [1] عمل المسيح [2] إرادة الإنسان.

 

آية (5): “أنا الكرمة وأنتم الأغصان الذي يثبت في وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا.”

الرب يشير أنه مصدر الحياة الحقيقية، نستمدها منه بصفة ثابتة ونستمد منه كياننا، وبذلك نحقق تدبير الله فيكون لنا ثمار. ولنلاحظ أننا لا يمكن بدونه أن نفعل شيء فالثمر هو من سخاء الكرمة وليس من صنع الغصن= بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا وأيضًا علينا ألاّ نظن أننا ضعفاء غير قادرين فمن يثبت فيه لا يعود ضعيفًا “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” وكل عمل خارج الثبات فيه لا قيمه له. كيف نثبت في المسيح [1] النقاوة (فبدون القداسة لا يرى أحد الرب عب14:12) [2] ممارسة الأسرار [3] دراسة كلمة الله باستمرار [4] جهادي (أ) سلبي (نموت عن الخطية رو11:6) (ب) إيجابي (صلاة / صيام..) [5] قبول الصليب. بهذا نثبت في الكرمة ونصير أغصانًا حيَّة تسرى فيها عصارة الكرمة (حياة المسيح). والغصن الحي يكون له ثمار.

 

آية (6): “إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجًا كالغصن فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق.”

هنا إنذار مخيف لمن هو غير ثابت في الكرمة، فهذا سينفصل عنها فيجف. من ليس له ثمار سيقطع ويحرق (ربما أشار المسيح إلى بعض الأغصان التي قطعوها استعدادًا لحرقها) (الغصن الذي يقطع من الكرمة لا فائدة له إطلاقًا لذلك يحرقونه، فغصن الكرمة ضعيف جدًا لا يصلح لشيء. والغصن مهما كان جمال أوراقه، إن لم يكن له ثمار يقطعونه (الأوراق هنا إشارة للبر الذاتي مثل شجرة التين التي لعنها المسيح). ولكن متى يجف الغصن؟ هذا يحدث إن وُجِدَ حاجز فليني يمنع وصول العصارة، وهذا الحاجز هو الخطية التي تعيش فينا أو من حوّل نعمة الله التي فيه إلى مجد دنيوي. والملائكة هم الذين يجمعون ويطرحون في النار.

 

آية (7): “إن ثبتم في وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم.”

هذه عكس الآية السابقة، هنا نرى بركات الثبات في المسيح أي استجابة الصلاة. هنا نرى الوعد الثمين لمن يثبت في الكرمة. وثبت كلامي فيكم= هنا نرى المسيح يضع كلامه مكان شخصه. فنرى كيف نثبت في المسيح وهذا بأن نثبت في كلامه. وهذا يعني تصديق وعد المسيح بكل ما أوتينا من إرادة وفكر وقلب. وطاعة المسيح مهما حدث حتى الاستشهاد. هنا فالله يستجيب لنا مهما طلبنا. والله يستجيب بثلاث طرق [1] فورًا [2] في ملء الزمان (بعد مدة أي في الوقت المناسب) [3] لا يستجيب لو طلبي ليس لمصلحتي فهو لم يستجب لبولس ورفض شفاءه ولكنه لا بُد وأن يستجيب. وأن يكون لنا الحاسة السمعية الروحية فنستطيع أن نميز صوته. والمسيح يخاطبنا وسط كل أحداث اليوم من خلال كل ما نسمع ونرى. تطلبون= إذا كنا نستطيع أن نميز صوته فحينئذ لن نطلب إلاّ ما هو حسب إرادته ومشيئته (1يو14:5) “اطلبوا أولًا ملكوت الله” (لو31:12). ما تريدون= من ثبت في المسيح تصبح إرادته الحرة حسب حرية البنين لا العبيد والابن لا يطلب سوى ما يَسُّرْ أباه. بل سيكون لمن يثبت في المسيح تَماثل في الإرادة والمسرة معه (أف20:3). ولنلاحظ أن خلاصة المسيحية هي الحياة مع المسيح وفي المسيح وحياة المسيح فيَّ. ثبت كلامي فيكم= وصايا المسيح تصبح مكتوبة داخل القلب، فلا نحتاج لمن يعلمها لنا أو يوصينا بها أو يقنعنا بتنفيذها، بل ننفذها عن حب في المسيح، وهذا عمل الروح القدس الذي يعلمنا ويذكرنا ويسكب محبة الله في قلوبنا. لكن يكون هذا لمن يتجاوب إيجابيًا مع صوت الروح القدس ولا يقاومه.

 

آية (8): “بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي.”

بهذا= بثبوتي فيكم وثبوتكم فيَّ وثبوتكم في كلامي، هذا ينشئ استجابة لصلواتكم كونها تتفق مع إرادة الآب السماوي. أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي= لقد صلب المسيح ليأتي بثمر هو إيمان البشر (يو24:12) وعمل التلاميذ أن يكملوا عمل المسيح (مت19:28). والثمار الكثيرة تمجد الآب (1بط9:1 + مت16:5) وكل هذا يحدث إن ثبتنا في كلام المسيح أي صدقناه وعشنا به كلمة كلمة، فيرى الناس فينا صورة للمسيح الثابت فينا.

في الآية السابقة رأينا أن طاعة كلام المسيح شرط للثبات فيه، وفي الآية الآتية وما بعدها نرى أن المحبة هي الشرط الآخر.

 

آية (9): “كما احبني الآب كذلك أحببتكم أنا اثبتوا في محبتي.”

المحبة التي يطلبها المسيح أن تكون فينا ليست محبة إنتقائية، أي نحب من يروق لنا ونكره من يكرهنا، فهذا النوع من الحب ينتمي للخليقة العتيقة.. “فالعشارون أيضًا يفعلون هكذا” (مت43:5-48). أما المحبة التي يطلبها المسيح أن تكون فينا هي محبة مطلقة أي للكل.. لله أولًا ولكل إنسان، لمن يحبني ولمن يكرهني.. لذلك قال السيد “أحبوا أعداءكم..” المحبة هي للخالق وللمخلوق (1يو20:4-2:5)

والطبيعة الجديدة، طبيعة المحبة حصلنا عليها بالمعمودية، وفيها صرنا خليقة جديدة (رو3:6-6 + 2كو17:5). والرب يطلب هنا قائلًا اثبتوا في محبتي= أي ما حصلتم عليه من طبيعة جديدة اثبتوا فيها. وأهمية ذلك أن نثبت فيه هو، وهو الذي قال عن نفسه “أنا هو القيامة والحياة” (يو25:11). إذًا من يثبت في المحبة تثبت فيه الحياة الأبدية التي حصل عليها في المعمودية. وذلك لأن المسيح حياة وهو أيضًا محبة.

المسيح حين أراد أن يشرح مقدار محبته للبشر شبهها بمحبة الآب له وهذه محبة أزلية أبدية لا نهائية لأن الله محبة والله غير متناهي فالأصل في المحبة هو محبة الآب للإبن. ومحبة الآب للإبن تعني وحدة الآب مع الابن، محبة الآب تصب في الابن المحبوب. إذاً محبة الآب للإبن هي تعبير آخر لقول المسيح “أنا في الآب والآب فيَّ ولكن بلغة المحبة فالله محبة. فالآب والابن واحد بالمحبة. وعلى نفس النمط أحبنا المسيح فصار فينا وصرنا فيه بالمحبة، ولذلك قال “اثبتوا فيَّ وأنا فيكم” أي نحن صرنا فيه وصارت حياته فينا. ولكن شرط هذا الثبات أن نحيا في محبة لذلك يقول هنا اثبتوا في محبتي. هو مساو لقوله اثبتوا فيَّ لكن بلغة المحبة، وتعني أن من يثبت به يتذوق ويتلذذ بمحبته. وأن المحبة هي شرط لثبات المسيح فينا. والمسيح أوصل لنا بمجيئه في الجسد محبة الآب. هنا يشرح المسيح سر ثبات الغصن (المؤمن) في الكرمة (المسيح) وهذا السر هو الحب. فالآب يحب الابن، حب يتوحد فيه المحب بالمحبوب فيكونان ذاتاً واحدة وكياناً واحداً، الحب هو سر الوحدة القائمة بين الآب والابن. وهكذا أحبنا المسيح حباً بلغ من قوته أن يجعلنا معه في إتحاد كامل يحيا فينا ونحيا فيه ومعه وبه وله. فحب المسيح لنا هو سر الإلتحام أو الوحدة التي جاء ابن الإنسان ليؤسسها مع بني الإنسان لحساب الله (يو23:17) ومحبته لنا قائمة على أن هذا هو طبعه فهو يحب الآب، والآب يحبه فالله محبة. والرب يوصينا بالمحبة، محبتنا له ومحبتنا لبعضنا البعض (آية12) فالمحبة هي وسيلة إتحادنا به. لكن السؤال الموجه لنا هو هل نقبل هذه المحبة ونبادله حباً بحب وهل نثبت في هذه المحبة. وفي (15:15) “لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي”. هنا أعلمتكم لا تعني المعرفة والفلسفة بل هي توصيل أسرار الآب ومحبته لنا. فالإبن الضال حين عاد لم يتعرف على أبيه على مستوى الفكر إنما على مستوى الأحضان والقبلات (يو26:17). محبة المسيح للآب هي محبة فائقة للطبيعة ولأفكارنا ولكن المسيح يعطينا أن نتذوقها فنفرح بأبوة الآب لنا. كذلك أحببتكم أنا= المسيح ظهرت محبته لنا في بذله نفسه على الصليب. ولولا هذه المحبة ما كنا قد فهمنا محبة الآب للإبن ولا محبة الابن لنا. والمسيح بمحبته لنا ضمَّنا في بنوته الرفيعة القدر والمجد (1يو1:3-2) وهنا نرى ما سنحصل عليه لذلك يشجعنا أن اثبتوا في محبتي بأن نصدق دعوته ونقبلها ونستمر فيها ونقيم في محبة له ولكل أحد (وهنا نرى خطورة أن لا نحب أعداءنا) ونبادله حباً بحب ويكون هذا بأن نحفظ وصاياه. وكلما نكتشف محبته نحبه. وهذا ما قاله بولس الرسول “محبة المسيح تحصرنا” + “من يفصلني عن محبة المسيح”. ومن يحفظ وصاياه يكتشف أعماقها. الوصية لا تشرح ولا تفلسف بل تنفذ بلا فحص ومن ينفذها يكتشف معناها. ولنلاحظ أن الآب والابن هما واحد بسبب المحبة، والابن محبة، فكيف يتحد الابن بنا لو عشنا في كراهية. والابن حياة، فإن عشنا في كراهية نموت، لذلك قيل “بهذا نعلم أننا إنتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة… كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس” (1يو14:3-15). ومن يحب الله يحب الإخوة (1يو21:4).

مما سبق رأينا أن المحبة هي تعبير عن الوحدة بين الآب والابن، وبين الابن وبيننا. وأيضا كلمة المعرفة تشير للإتحاد راجع تفسير الآيات (في3: 8) + (مت11: 27) + (يو5: 20) لترى أن كلمة يعرف في الكتاب المقدس تعنى الوحدة.

ونرى أن الوحدة بين الآب والابن تم التعبير عنها بعدة طرق في الكتاب المقدس:

  1. الآب يحب الابن (يو5: 20). والابن يحب الآب (يو14: 31).
  2. لا أحد يعرف الآب إلا الابن ولا أحد يعرف الابن إلا الآب (مت 11: 27).
  3. انا في الآب والآب فيَّ (يو14: 10).
  4. أنا والآب واحد (يو10: 30).
  5. من رآني فقد رأى الآب (يو14: 9)

راجع تفسير الآيات (في3: 8) + ( مت11: 27) + (يو5: 20) لترى أن كلمة يعرف في الكتاب المقدس تعني الوحدة. والمعرفة بهذا المعنى أي الإتحاد لها ثلاثة أنواع:-

  1. وحدة لاهوتية: (مت11: 27) + (يو10: 15)

  فالآب يعرف الابن والابن يعرف الآب = الآب فيَّ وأنا في الآب (يو10: 38)    

  1. وحدة جسدية: وعرف آدم أمرأته فحبلت وولدت قايين (تك4: 1) وهي وحدة مثمرة فلقد أثمرت أبنًا.
  2. وحدة بين المسيح والإنسان: (يو17: 3) + (مت11: 27) “ومن أراد الابن أن يعلن له”

   + (في3: 8). وهذه الوحدة أثمرت حياة لجسدنا المائت (يو17: 3)+ هذه الاية وفيها نتحد بالمسيح بالمحبة

إذًا المحبة والمعرفة كلاهما تعبير عن الوحدة. وراجع تفسير آية (يو5: 20) في الجزء الثالث من كتب الاناجيل + (يو17: 3)

عمل الروح القدس لتتم هذه الوحدة في المسيح

حين نمتلئ من الروح القدس فهو يحكي لنا عن المسيح (يو 16: 14) وحينئذ سنعرفه وحين نعرفه سنحبه، لأنه يستحق المحبة. لذلك فالمعرفة والمحبة مرتبطان، ونلاحظ أن كلاهما عمل الروح القدس فينا:-

يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5)

يعطينا أن نعرف المسيح Know him

ومن يعرف المسيح ويحبه سيعرفه بمعنى الإتحاد به، فالإتحاد يكون بالمحبة. فالروح القدس هو الذي يثبتنا في المسيح. وأيضا الروح القدس يبكت (يو16: 8) ويعين (رو8: 26) فنتنقى لنظل ثابتين في المسيح، وهذا معنى قول الكتاب “توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي” (أر31: 18) وكل هذا يبدأ بالأسرار السبعة التي هي عمل الروح القدس. والروح القدس يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5: 5). ومن ثمار الروح المحبة (غل5: 22). وبالمحبة نثبت في المسيح.

ولذلك يسمى الميرون سر التثبيت. فالروح القدس يثبتنا في المسيح (2كو1: 21، 22).

 

آية (10): “أن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي واثبت في محبته.”

هنا نرى كيف نثبت في محبته (آية9) حفظتم= سهرتم على تنفيذها متشبثين بالوعد. حفظت وصايا أبي= بالتجسد والفداء (في5:2-8). وبولس هنا يطلب أن نتعلم الطاعة كما أطاع المسيح نفسه الآب. وهكذا أطاع بولس نفسه وإحتمل الآلام (2كو23:11-26). بل إحتمل شوكة الجسد التي كان الله ينقيه بها ليأتي بثمر أكثر. إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي هذه خبرة عملية يختبرها من يحفظ الوصية، فمن يحفظ الوصية سيعرف حقيقة المسيح فيكون كمن بنى بيته على الصخر (مت7: 24 – 27)، ومن عرف المسيح حقيقة سيحبه، ومن يحبه يثبت فيه (آية 9). ومن أحب الابن بحفظ وصاياه يشعر بمحبة الآب وهذه المحبة لا توصف (27:16) وأهم وصية للمسيح هي المحبة (آية12). عموماً من يحفظ وصايا المسيح حتى ولو بالتغصب (فهذا هو الجهاد) يبدأ في الحب. وبالإصرار على حفظ الوصايا يشتعل الحب في داخل القلب فيثبت الإنسان في المحبة لدرجة أن يضحي ويبذل. وهذه هي المحبة الكاملة التي تطرح الخوف إلى خارج. ومن يحب محبة كاملة يكون مستعداً لقبول أي ألم من أجل الذي مات لأجلنا. حفظ الوصية هو سلوك في النور، إذاً مخالفة الوصية هو سلوك في الظلمة. والمسيح نور. ولا شركة للنور مع الظلمة. ومن يغصب نفسه على حفظ الوصية يثبت في المسيح. ومن يثبت في المسيح يكتشف محبته. ومن يكتشف محبته يبدأ يطيع الوصية عن حب وليس عن تغصب. وهكذا يتنامي داخل الإنسان حفظ الوصية والثبوت في محبة المسيح. أما عن العلاقة بين المسيح والآب، فلأنهما واحد ومشيئتهما واحدة. فإنه من المستحيل أن يخالف المسيح إرادة الآب، وبالتالي فهو ثابت في محبته وبولس الذي نفذ وصايا المسيح شعر بهذا الثبات في محبته فقال “محبة المسيح تحصرنا” (2كو14:5) إن حفظتم وصاياي= التي يسمعكم إياها الروح القدستثبتون في محبتي= يزداد انسكاب المحبة لله في داخلنا من الروح القدس (رو5:5).

حفظت وصايا ابي = الآب والابن واحد بالمحبة، ومشيئتهما وإرادتهما واحدة. ولكن الآب يريد والابن والروح هما أقنومى التنفيذ. فتصبح طاعة الابن للآب هي تنفيذ ما يريده الآب، أي ما يريده الابن أيضا. فالإبن يطيع لأنه واحد مع الآب وإرادتهما واحدة، أما نحن بطاعتنا نثبت في الابن، والابن يحملنا إلى حضن الآب.

 

آية (11): “كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم.”

كلمتكم بهذا = بهذا= هو سر الكرمة الذي شرحه، وثباتنا فيه بالمحبة وطاعة وصاياه يجعله يفرح ويعطينا أن نفرح بأن يدخل فرحه هو فينا. حتى لا نتصور أن حفظنا للوصايا حتى تثبت فينا محبة الله فيه إرهاق وتضحية منا وتثقيلاً علينا يشرح الرب هنا أن الثبوت في المحبة هو سر الفرح الكامل. والطريق للفرح الكامل إذن هو أن نثبت في الإيمان وفي كلام الرب، بأن نصدقه وننفذه، فنثبت في محبته أي نكتشفه هو ونحبه وهنا يكون الفرح (1يو3:2-6). يثبت فرحي فيكم= فرح المسيح كامل. ويكمل فرحكم= فرح التلاميذ والمؤمنين يحتاج إلى تكميل. فالمسيح يسكب فرحه في القلب ونحن نأخذ ليكمل فرحنا. فرحه وجد موضعاً فينا. وهذا هو طلب المسيح أن نفرح فهو يطلب أن نثبت فيه ونطيع وصاياه لنفرح. وكلما نطيع نثبت وكلما نثبت يزداد فرحنا ويكمل (ولاحظ أنه سبق وأعطاهم السلام والآن الفرح) وأهم فرح يفرح به الإنسان الخلاص الذي قدمه المسيح، هو حياة جديدة نرى فيها الرب من هنا على الأرض. ولنلاحظ العلاقة المباشرة بين المحبة والفرح. فالفرح هو نتيجة وجود المحبة. وهذا ما عمله الروح القدس، فهو يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5). لذلك فأول ثمار الروح المحبة وثاني الثمار مباشرة هو الفرح (غل22:5).

 

آية (12): “هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم.”

راينا في آية (9) أننا نتحد بالمسيح ونثبت فيه بالمحبة، وهنا نرى أننا نكون جسد واحد إذا ترابطنا بالمحبة.

فالكنيسة جسد المسيح تترابط ببعضها بمفاصل هي المحبة وهذه يعملها الروح القدس لمن يريد ويقبل عمله.

(اف 4: 16 + نش 7: 1). ما سبق كان عن محبتنا لله وهذه تناظر وصايا اللوح الأول. وابتداء من هنا نجد المحبة للإنسان وهذه تناظر وصايا اللوح الثاني. ووصية المسيح أن نحب بعضنا كما أحبنا هو فالمحبة هي التي تجعل فرحنا كاملًا.

ونلاحظ أن المحبة شرط لأن يتحد بنا المسيح، وإتحاد المسيح بنا هو حياة وبالتالي فرح. والمسيح لا يسكن حيث تكون هناك كراهية.

ومحبته هي:-

1- كما أحبه الآب= أي محبة إلهية وليست محبة جسدانية أو عاطفية. هي وحدة بين الآب والابن.

2- أحبنا ونحن خطاة= هكذا ينبغي أن نحب من هم أضعف منا.

3- أحبنا ونحن أعداء= هكذا ينبغي أن نحب أعدائنا.

4- أحبنا حتى الصليب= هكذا ينبغي أن نحب حتى الموت.

5- محبة باذلة= هكذا ينبغي أن نحب بلا أنانية، لا نطلب شيئًا في مقابل محبتنا لإخوتنا، محبة الله أنه يعطي بسخاء ولا يعير، هكذا علينا أن نعمل فالمحبة روح كل الوصايا فأنا لا أسرق ولا أقتل.. إلخ لأنني أحب.

هي محبة من نوع غير محبة الأرضيين النفعية.

ومن يحب فقد وُلِدَ من الله (1يو7:4). ومن يحب فقد فهم سر ذبيحة الصليب، وهذا هو أساس ميلاد الخليقة الجديدة. والمسيح إحتمل كل الآلام ليستعلن لنا محبة الآب (يو16:3). ومحبة الآب هذه لا تسكن في قلوب، ولا تعمل في قلوب ليس لها صفة المحبة. فالمحبة الإلهية لا تعمل إلاّ في مجال المحبة. هذه المحبة تحمي الكنيسة من الشر والفساد. وصيتي= هي وصية المسيح في حديث الوداع الأخير قبل الفراق (مت44:5) ووصية المسيح أن نحب أعدائنا لا مثيل لها في أي مكان في الدنيا ولا في أي دين، هي وصية مستمدة من صليب المسيح فهو أحبنا ومات لأجلنا ونحن أعداء (رو10:5). والمسيح حين يعطي أمراً أو وصية يعطي معها الإمكانية على التنفيذ فهو يبني أوامره بناءً على ما عمله هو وما سيعمله فينا وما هو مستعد أن يفعله في كل من يؤمن به فبدونه لا نقدر أن نفعل شيئاً (آية5). فالمسيح أرسل لنا الروح القدس لأجل هذا، أن يؤسس ويبنى الكنيسة رابطا أعضاءها بالمحبة. ونلاحظ أن المصدر الوحيد للمحبة هو الله، فهذه هي طبيعته. وهو مستعد أن يعطينا أن نحب أعدائنا، لكن هل نجاهد لأجل ذلك. لنراجع قول الرب “أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا.. صلوا..” (مت44:5). فمن يغصب نفسه على أن يتكلم بالخير على عدوه ويحسن إليه ويصلي لأجله، يسكب الله محبة داخل قلبه لعدوه هذا.هذه المحبة يسكبها الروح القدس لمن يجاهد. ومن يحب سيفرح ، فهذه هي ثمار الروح (غل 5: 21، 22). محبة…….فرح.أي حينما توجد المحبة يوجد الفرح.

 

آية (13): “ليس لأحد حب اعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه.”

هنا نرى غاية المحبة أن يضع الإنسان نفسه عن الآخرين. هي محبة مضحية، وهذا ما عمله المسيح هذه الليلة (1يو16:3). لأجل أحبائه= لم يقل لأجل من يحبونه فهو لا يقصد القديسين. فالمسيح وضع نفسه لأجل كل الناس لأنه هو الذي يحبهم. فهو أتى لأجل الخطاة الذين كانوا أعدائه (رو10:5 + غل20:2) فالمسيح مات عن شاول الطرسوسي الذي كان عدوًا له وحوَّله إلى إنسان يحبه حقًا. وهكذا ينبغي أن نفعل مع كل إنسان حتى لو لم نكن نحبه أو لم يكن يحبنا.

 

آية (14): “أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به.”

هنا المسيح يرفع درجة المؤمن الذي يحفظ الوصايا لدرجة إبراهيم (يع23:2 + إش8:41) أحبائي= هنا جاءت في اليونانية “خلاني” “من خل” وهذه قيلت عن إبراهيم. والخل كل شيء مكشوف أمامه.

 

آية (15): “لا أعود اسميكم عبيدًا لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي.”

السيد يكشف أسراره لأحبائه لا لعبيده. والمسيح كشف لنا تدابير الآب التي هي أيضًا تدابيره ولا أحد يعرف قلب الآب سوى الابن. ولذلك لم يخفي الله عن إبراهيم ما هو فاعله (تك17:18) وما الذي أعلنه المسيح لأحبائه؟ هو أعلن لهم محبة الآب وأعلن لهم الآب فهو وحده الذي يعرف الآب (يو18:1). والذي رأي المسيح فقد رأى الآب، هو يعلن ما يمكن أن ندركه والعبد يطيع إما عن خوف أو طلبًا في أجرة أو فائدة. أما الابن فيطيع عن حب. ما سمعته من أبي= هو قبلات وأحضان الآب للإبن الضال. هو اشتياق الآب لعودة أبنائه لحضنه. وهي نفس اشتياقات الابن لنا. فقوله ما سمعته هو تعبير عن تطابق فكر الآب والابن. لكن الآب ما يريده يعلنه الابن.

ولكن في (لو17: 10) يدعونا الرب أن نقول أننا عبيد بطالون ، ولكن كان هذا حتى لا نسقط في الكبرياء. فالله يسكن عند المتواضعين (إش57: 15). فالله نفسه متواضع.

 

آية (16): “ليس انتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي.”

ليس أنتم اخترتموني= دعوتهم هي دعوة إلهية لأجل محبته لهم. وهذا ما يعطيهم الحافز لاحتمال الآلام في خدمتهم أن الله يحبهم ويثق فيهم (هذه الآية موجهة للخدام). ولنلاحظ أن الله دائمًا هو صاحب المبادرة في كل ما يمت للإنسان من الخيرات السماوية. فهو الذي بادر وأتى ليجعلهم أبناءً بدلًا من عبيد ويعطيهم المجد الذي له (22:17) ويعطيهم الفرح هنا. والله يختارني وأنا أقبل هذا الاختيار وأختار الله تاركا العالم. ولكن لنلاحظ أن قول الرب اخترتكم= هذه لا تخص الخلاص بل اخترتكم للرسولية(فهو اختار يهوذا)= لتأتوا بثمر لهذا اختارهم رسلا ليرسلهم لكل العالمإذًا ليس لهم فضل في أن يكونوا رسلًا بل الفضل للمسيح في اختيارهم، فهو صاحب المبادرة. هو الذي يعرف ظروفهم ومواهبهم وضعفاتهم. ولكن هذا لا يمنع أنهم هم لا بُد أن يقبلوا الدعوة. أما بالنسبة لكل إنسان فهو يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2) إذًا هو يدعو الجميع ولكن كل واحد حر في أن يقبل أو يرفض. أما لو قيل أن الله قد اختار إنسانًا للخلاص، فهذا يعني سبق معرفة الله لقبول هذا الإنسان دعوة الله له للإيمان (رو29:8).

لتذهبوا= الله اختارهم كتلاميذ لا كشرف لهم فقط بل ليدعوا العالم بكرازتهم. ويكونوا سفراء له. فالكنيسة ستبنى على أساس الإيمان الذي سيكرزوا به. فالثمر المطلوب هو إيمان كل العالم بالمسيح فيكون لهم حياة. يدوم ثمركم= الإثمار مستمر في الكنيسة وخدامها وخدمتها للعالم كله حتى نهاية الدهر. يعطيكم الآب كل ما طلبتم بإسمي= المسيح هو المتكفل بأن يعطيهم الآب كل ما يطلبونه ويحميهم من مخاطر الكرازة ويضمن لهم الثمر الكثير. ولنلاحظ أن الثمر الكثير واستجابة الصلاة نتيجتان لثباتنا في المسيح. ولاحظ أنهم حينما يجاهدون ويكرزون بالمسيح يستجيب الله لصلواتهم إذ هم أمناء. فيعطيهم ما يطلبونه فيزداد ثمرهم. فلا ثمر بدون صلاة ولا ثبات بدون صلاة وبدون محبة (آية17). ولاحظ أن هذه هي إرادة الله أنه اختارهم وأرسلهم ليأتوا بثمر ليتمجد، لكن لا نجاح لخدمتهم إلاّ [1] بالصلاة [2] بثباتهم في المسيح.

كل ما طلبتم بإسمي= فمع أن إرادة الآب أن يتمجد بزيادة المؤمنين إلاّ أنه ينبغي أن نصلي لأجل ذلك.

 

الآيات (17-18): “بهذا أوصيكم حتى تحبوا بعضكم بعضًا. أن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد ابغضني قبلكم.”

في الآيات (18-27) نرى المواجهة مع العالم الذي يجهل الآب والابن وعداوة العالم لكنيسة المسيح والمسيح نفسه. وعلى التلاميذ أن يكملوا الصراع الذي بدأه العالم مع المسيحأبغضني قبلكم= أي سيبغضكم العالم، بسبب إيمانكم بي. والمقصود بالعالم، روح الشر الذي في العالم. أما العالم الذي خلقه الله فقيل عنه “هكذا أحب الله العالم”. ولكن الروح القدس سوف يؤازرهم ويقدم المعونة في وقتها (1يو3:1 + 1بط12:4-19). ولكن المسيح يؤكد ويكرر على ضرورة المحبة بيننا لنستطيع أن نواجه العالم. والعالم يكره المسيح لأن قداسته ونوره يفضحان شرورهم. وهكذا الكنيسة التي فيها الحب يكرهها العالم. محبتنا لبعضنا البعض درع نواجه به كراهية العالم لنا. فمن خلال محبتنا يعمل الله فينا ويعطينا قوة ومعونة وتعزية. ولو كرهنا العالم فنحن لا نكره أحد ولا نعادي أحد. بل نصلي لأجل الجميع ونحب الجميع. ومحبتنا تجعل المسيح يسكن فينا وهذا هو الدرع الذي يجعلنا نحتمل اضطهاد العالم. لكن لنعلم أن الشيطان الذي يسود العالم سيجعل العالم يكرهنا.

ومعنى كلام السيد هنا أنه ينبغي أن نعمل وسط عالم يبغضنا ويكرهنا، ونحب هؤلاء ونكرز لهم ونخدمهم، وهذا ما عمله هو تمامًا. فلا نقول أنه طالما أن العالم يبغضنا فهذا مبرر لنا أن نكره من يبغضنا.

 

آية (19): “لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم.”

(قارن مع 2تي12:3). الشيطان رئيس العالم لا يحتمل أن يهرب أحد من تحت سلطانه ويتركه. وحينما يحدث هذا ويدخل أي مؤمن في الكرمة سواء بالإيمان أو بالتوبة يٌهَيِّج الشيطان العالم ضده. وهذا ما حدث في بدء الكنيسة وما يحدث لكل تائب حتى الآن. ولكن هذا الهيجان وهذه البغضة ضد المؤمنين هي علامة ثبات في المسيح ورجاء لنا أننا على الطريق الصحيح. على شرط أن لا نكون نحن سبباً في هذه البغضة. العالم يحب خاصته= الذين أصبحوا عبيداً له يعملون لحسابه (44:8). فلا أحد يحارب الذين له وهذا غير محبة المسيح الباذلة. فمحبة العالم لخاصته هي محبة أنانية فيها يستعبد العالم خاصته كما يستعبد المال الناس. ولاحظ أن المسيح يكرر كلمة العالم في هذه الآية 5 مرات للتنبيه على خطورة هذا العدو. فالعالم يرفضنا لكن هذا لا يهم فنحن لسنا من العالم بل من فوق بعد أن إختارنا المسيحأنا إخترتكم= كون أن المسيح اختارهم ليكونوا تلاميذه فهذا لأنه وجدهم ليسوا من العالم، ولأنهم أنقياء وصاروا من تلاميذ المسيح سوف يكرههم العالم، فالعالم يكره المسيح، لأن رئيس هذا العالم أي الشيطان يكره المسيح، وبالتالي يكره من هم للمسيح.

 

آية (20): “اذكروا الكلام الذي قلته لكم ليس عبد اعظم من سيده إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم وأن كانوا قد حفظوا كلامي فسيحفظون كلامكم.”

حفظوا كلامي= احترموا كلامي. وهذا لم يحدث. وسفر الأعمال شاهد كيف قاوم اليهود كرازة الرسل وكلام المسيح. هذا النص وارد في (يو16:13). والمسيح أسمانا بنين وأحباء فلماذا يعود ويسمينا عبيد؟! المسيح يسمينا أبناء ولكن علينا أن نسمى أنفسنا عبيد، علينا أن ندرك في أنفسنا أننا عبيد.. “متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون” (لو10:17). ولذلك كان التلاميذ يفتخرون بأنهم عبيد ومنهم من كان قريبًا للمسيح بالجسد وحتى بهذا لم يفتخر بل افتخر بأنه عبد للمسيح (رو1:1 + 2بط1:1 + يع1:1 + يه1). فالمسيح وهو الله فعل هذا وغسل أرجل تلاميذه وقبل الشتائم والإهانات فهل نطلب نحن الأكاليل، هو تواضع فهل نرتفع. هو وضع نفسه في المقدمة كنموذج لنا، فقيل عنه أنه اخذ صورة عبد (في 2: 7 + اش 52: 13). ومن يظن في نفسه أنه عبد لن ينتفخ ويتكبر بل وسيشعر في نفسه أنه لا شيء ولا يستحق شيء ولن يختلف مع الله إذا لم يعطه شيء، لسان حاله يقول “اللهم ارحمني أنا الخاطئ” “وخطيتي أمامي في كل حين” وكل ما تعطيه لي يا رب أنا لا أستحقه بل هو من رحمتك وحنانك. ومن يحب الله محبة حقيقية يشتهي أن يكون له عبدًا أي أن يسود الله علي حياته ويكون هو وكل ما يملك ملكًا له (خر5:21-6) وهذا ما قيل عن المسيح نفسه (مز6:40 + عب5:10) ومعنى كلام السيد أننا سنتألم لأجله، وهذا جزء من معركة النور مع الظلمة. آلامنا هي شركة في آلام المسيح ونحن لسنا أفضل منه حتى لا نتألم. بل أن آلامنا حقيقة هي موجهة ضده. فالاضطهاد الواقع علينا هو بسببه. وإن كان هو قد تألم فهذا سيحدث لنا. إحساسنا أننا عبيد يحمينا من مخاطر الشعور بالكبرياء،” فمن يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط” (1 كو 10: 12) أما من هو تحت فلن يسقط لأسفل، فهو أصلًا تحت لذلك قال الرب “قولوا إننا عبيد بطالون” (لو10:17). لكن هو في محبته يسمينا أبناء.

 

آية (21): “لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني.”

سبب الاضطهاد ضد الكنيسة هو ارتباطها بالمسيح (أع40:5-41 + 1بط14:4). لأجل إسمي= طوبى لمن يضطهد لأجل اسم المسيح، فالآلام مع المسيح هي شركة مجد. هم يضطهدونكم لأن إسمي فيكم. فالمسيح فتح الباب لكل إنسان ليعود إلى أحضان الآب ويخرج من سلطان الشيطان والظلمة. لذلك يكره العالم اسم المسيح، أمّا أبناء الله فيدركون أنه سر قوتهم. لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني= هم يتصورون أنهم يعرفون الله ولكنهم حقيقة لا يعرفوه ولا يعرفون أن الآب هو الذي أرسل الابن ليجمع فيه أبناء الله. ومعرفة الله الآب مقصورة على من يقبل الابن وفدائه فتكون له حياة. والذي لا يعرف الابن يستحيل عليه معرفة الآب ومن لا يعرف الآب حقيقة لا يعرف الابن فهو ابنه. وبالتالي فهو يجدف على الآب والابن دون أن يدري. ودون أن يدري يسئ إلى نفسه (لو34:23). هذا كله= الاضطهاد حتى القتل والتعيير والاحتقار.

ملحوظةهناك من يتصور أنه يعرف الآب ولكنه لا يعرفه حقيقة إذ قد صور هو لنفسه صورة غير حقيقية للآب تتفق مع ميوله، مثل هؤلاء اليهود. لكنهم لم يعرفوا الآب الحقيقي، ولذلك لم يعرفوا ابنه الذي هو صورته.

 

آية (22): “لو لم اكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم.”

العالم ليس له عذر في اضطهاده للمسيح ولكنيسته، فهو قد جاء وجعل معرفة الآب ظاهرة لكل إنسان. هو جعل معرفة الآب ظاهرة بأقواله وأعماله. واليهود كان يجب أن يدركوا قبل غيرهم أن المسيح فيه تحقيق كل النبوات، ولذلك آمن الكثيرون وسيكونون سبب دينونة لمن لم يؤمن، فمن لم يؤمن أثبت أنه قد أسلم نفسه للشيطان وقد انحاز لشهواته. لم تكن لهم خطية= لذلك برفضهم المسيح وصلبهم له بدون وجه حق كانوا بلا عذر بل صلبوه بحقد مجنون. فهو جاء بنفسه وأظهر حبه واظهر لهم الآب. فلماذا الرفض؟ والإنسان مسئول على قدر ما يعرف، وهم رأوه وعرفوه فصارت لهم خطية إذ رفضوه وهي = أبغضوني أنا وأبي.

 

آية (23): “الذي يبغضني يبغض أبي أيضًا.”

قارن مع (1يو23:2) هنا نرى ببساطة أن الآب والابن هم واحد. فما يصيب الابن يصيب الآب، ومن أبغض الابن فقد أبغض الآب، فالإبن هو صورة الآب.

 

آية (24): “لو لم اكن قد عملت بينهم أعمالًا لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية وأما الآن فقد رأوا وابغضوني أنا وأبي.”

أعمال المسيح المملوءة حباً وقوة إعجازية كانت تنطق بأن الآب الحال فيه هو يعمل الأعمال (يو10:14). فالآب عن طريق أعمال المسيح يقترب للإنسان لذلك فلا عذر لمن لا يؤمن وقارن مع (1يو1:1-4). فأعمال المسيح كانت كلها محبة وعفة وقداسة ووداعة، وكان فيها خلقة وبسلطانه الشخصي. وياليتنا نضع أمام أعيننا كم صنع المسيح معنا في حياتنا، كم ستر علينا وأعاننا في حياتنا المادية، فلا نشك أبداً في محبته.

 

آية (25): “لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني بلا سبب.”

أبغضوني بلا سبب= فالمسيح لم يؤذ أحد ولا أساء لأحد. (مز19:35 + 4:69). وكون أن الناموس يتنبأ عماّ حدث للمسيح بالتفصيل فهذا فيه إعلان بأن خطة الفداء أزلية. (لاحظ أن بيلاطس لم يجد فيه علة تستوجب الموت).

 

الآيات (26-27): “ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الابتداء.”

إزاء اضطهاد العالم للكنيسة نجد الله يُرسل الروح القدس للكنيسة كقوة إلهية جبارة تشهد وتدعو سرًا القلوب الأمينة التي تقبل الله (1كو3:12) وهو يقنع ويشجع ويعزي ويعطي كلمة للإقناع بقوة وسط هذه الضيقات. وبدونه لا نقدر على مواجهتها. أرسلهُ أنا= أي حينما أتمم عملي بالصليب ثم بالانطلاق إلى الآب لأتمجد أُرْسِلْ الروح القدس للكنيسة. وكون المسيح يُرسل الروح القدس ليعطينا الولادة الجديدة ويعيد تشكيلنا فهذا العمل هو تكميل نهائي لعمل الخلقة الأولى التي إضطلع بها الكلمة سابقًا. وكون أن المسيح يُرسل الروح القدس فهذا يثبت ألوهية المسيح (يو7:16) فقد قال سابقًا “الذي سيرسله الآب بإسمي” (يو26:14) فكما يرسل الآب الروح القدس يرسله الابن أيضًا. روح الحق= الذي يشهد فينا للمسيح الحق (عكس الباطل الذي في العالم). الروح يشهد للناس بالحقيقة الغائبة عنهم. والعكس نجده في (1يو3:4). من عند الآب ينبثق= الانبثاق يعني أن الروح القدس يخرج من الآب بالطبيعة. كذلك المسيح يخرج من عند الآب (27:16-28) فالآب هو المنبع. وتعبير الانبثاق هو تعبير خاص بالروح القدس. والفرق بين الولادة (للمسيح) والانبثاق (للروح القدس) هو الفرق بين خروج النور من الشمس وإنبعاث الحرارة منها. ونلاحظ أنه لا توجد فوارق زمنية بين الآب المصدر والابن المولود والروح المنبثق. فالحرارة والضوء كائنين مع الشمس منذ وجودها. والآية صريحة أن الروح القدس ينبثق من الآب وليس من الآب والابن. ولكن نقول أن الابن يرسل الروح لنا بعد أن أتم فدائه. هو يرسله من عند الآب باسمه. يشهد لي= من خلال التلاميذ وكرازتهم وفي قلوب من يسمعهم وبتوجيه المؤمنين للقيام بأعمال هي بحد ذاتها تصير شهادة للمسيح. فالروح القدس هو روح مناداة وإعلان ينطق بالكلمة في الأفواه وفي القلوب، أفواه الكارزين وقلوب المستمعين. والروح القدس أوحي للتلاميذ ليكتبوا الكتاب المقدس ليكون شاهدًا للمسيح. يشهد لي= فالآب يشهد للمسيح والمسيح يشهد للآب والروح يشهد للمسيح. وتشهدون= أي أن الروح القدس يعطينا قوة لنشهد للمسيح الذي شهد له الروح داخلنا. ويعطينا قوة أن نحيا بحسب الحق. (ولاحظ التغيير الذي حدث لبطرس والتلاميذ يوم الخمسين). وتشهدون أنتم أيضًا= كثمر لحلول الروح القدس فيهم يشهدوا لعمل المسيح فيهم. ويشهدوا أنهم مسيحيين حتى سفك الدم. والشهادة تكون بسيرتنا فيظهر المسيح الذي يحيا فينا. لأنكم معي من الأبتداء= فالتلاميذ عاشوا مع المسيح منذ بداية عمله وخدمته وتعليمه وكانوا شهودًا على كل كلمة وكل عمل. والمسيح هنا يتكلم عن رحلة الكرازة منذ يومها الأول. والقديس متى والقديس لوقا تتبعا الأمور منذ بدايتها. والروح القدس علمهم ما يكتبونه عن كل القصة منذ ولادة المسيح بل والبشارة به. ومرقس شهد بالروح القدس عن كل القصة من بدء عمل الروح القدس في المعمدان. أمّا يوحنا فكشف له الروح القدس سر البدء الأزلي، بل وكشف ليوحنا عن تفاصيل سرية جدًا (راجع أع32:5، 21:1-22) + (1يو1:1). ولنلاحظ أن الخادم الذي لم يعش مع المسيح ويختبره ويراه لا يستطيع أن يشهد له وعنه. والروح القدس يعمل في الخادم المتكلم ليشهد للمسيح ويعمل في السامع ليقبل الكلام.

ملحوظةهناك من غَيَّرَ في قانون الإيمان وقال عن الروح القدس أنه منبثق من الآب والابن بزعم الوحدة والتساوي بين الآب والابن. ولكن الوحدة لا تمنع الأقنومية والتميز في الفعل. فالابن مولود من الآب والروح القدس منبثق من الآب. ولو كانت الوحدة تلغي الأقنومية لكنا نقول أن الابن مولود من الآب ومن الروح القدس. ولكن علينا أن لا نرتئي فوق ما ينبغي أن نرتئي!! فالله أعلن في هذه الآية أن الروح القدس ينبثق من الآب فهل نترك لعقولنا المحدودة فحص طبيعة الله بل وتغيير الآيات!! ربما فهم من قال هذا (أن الروح القدس منبثق من الابن) لأنه إلتبس عليه الأمر، إذ سمع أن الابن يُرسل الروح القدس ففهم أن الروح القدس منبثق من الابن. لكن هناك فرق كبير بين الانبثاق والإرسال. فالانبثاق هذا من طبيعة الله. والآب بعد فداء المسيح أرسل الروح القدس للكنيسة يسكن فيها ليقدسها. وحين يقول الكتاب الآب يُرسل الروح فهذا إعلان أن هذه هي إرادة الآب. وحين يقول الابن أنه سيرسل الروح فهذا يعني أن الروح سيحل على الكنيسة بناء على فداء المسيح بعد أن يتمم المسيح فدائه ويجلس عن يمين الآب.

المعزي= باراكليتوس

بارا= بجوار أي ملازم لشخص/ حاضر معه/ قريب منه (ومنها PARALLEL)

كليتوس= المدعو

فهو يطلب ليساعد، هو حاضر بالقرب من الإنسان ليعينه ويعزيه ويسنده ويشهد للمسيح.

ولكن لماذا ذكر السيد المسيح هذه الحقيقة أن الروح القدس منبثق من الآب؟

لماذا يدخلنا السيد المسيح في تفاصيل هي أسمى من عقولنا كعلو السماء عن الأرض؟بل إن تكلمنا عن طبيعة الله ذاته فهذا أسمى من السموات بما لا يقاس.

الإجابة ببساطة هي أن الله يحترم عقولنا.

لقد رأس التلاميذ المسيح وعرفوه، ثم رأوه يصلب ويقوم ثم فهموا أن هذا هو الفداء، وأن المسيح تمم عمله الفدائي وجلس عن يمين الآب.

ولكن كيف يكمل الخلاص؟

الآب يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2)

المسيح بذل ذاته وتمم الفداء.

ولكن هناك مشكلة كبيرة هي أن الإنسان الساقط صارت له طبيعة عاصية متمردة تحب الخطية.. فكيف نستفيد من الفداء لكي نخلص؟     هذا هو عمل الروح القدس.

الإنسان بسقوطه صار له طبيعة خاطئة تشتهي الخطية، وبسبب هذه الطبيعة سيموت ويهلك. والخلاص هو أن تتجدد طبيعتنا ونصير خليقة جديدة. (2كو17:5) بل شكل المسيح (غل19:4)

لكن هناك قانون اسمه ناموس الخطية يعمل في أعضائنا (رو7) ولذلك أرسل لنا الله ناموس جديد اسمه ناموس روح الحياة (رو8) وهو قوة الروح القدس تميت ناموس الخطية فينا بشرط أن نحاول تنفيذ الوصايا (رو13:8).

والله الذي يحترم عقول البشر، في محبته شرح لنا شيئًا من طبيعته لا لنتفلسف بها كمعلومات ولكن لندري ماذا سيحدث فينا فالمؤمن سيشعر بتبكيت لو عمل خطية فما مصدر هذا التبكيت؟ والمؤمن سيشعر بإضمحلال قوة الخطية فيه وأنه قد صارت له قوة جديدة. فما مصدر كل هذا؟

وإذا قام اضطهاد وقرروا قتله سيجد قوة داخله ويقبل على الموت بلا خوف. فما مصدر هذه القوة؟

والكنيسة ستمارس أسرار، فما القوة الخفية وراء الأسرار؟

والمؤمن سيشعر بثمار جديدة (محبة/ فرح/ سلام..) فما مصدرها؟ والمؤمن سيجد مواهب ما كانت فيه فما مصدرها؟

مصدرها قوة خفية غير مرئية هي قوة أقنوم الروح القدس. والمسيح سبق وشرح هذا لنيقوديموس (يو8:3) هنا السيد المسيح يقول مصدر كل هذا هو الروح القدس الذي سيتمم عمل الخلاص فيكم. فما كان مناسبًا أن نرى كل هذا التغييرات فينا والقوى التي تعمل فينا وفي كل الكنيسة، دون أن ندري مصدرها. لقد تعود التلاميذ رؤية المسيح وشاهدوا قوته، والمسيح هنا يقول سيبدأ من الآن عصر قوة غير مرئية.

والآن نقول الآب يريد الخلاص للبشر.

           والابن تمم الفداء.

          والروح القدس أعطى الكنيسة أن تستفيد من الفداء.

فالآب يريد والابن والروح القدس ينفذان إرادة الآب. وهذا ما رآه زكريا النبي في رؤياه (14:4)

وما معنى قول الرسول ناموس روح الحياة (رو2:8)؟

هو قانون أن الروح القدس الساكن فينا يتمم الخلاص لمن يتجاوب معه فيثبته في المسيح، والمسيح هو القيامة والحياة، فيكون له حياة. ولكن كيف يعمل الروح القدس هذا؟

هذا موضوع الإصحاح القادم.

وملخص ما أراد المسيح أن يقوله هنا للتلاميذ…. لا تخافوا من إختفائي عنكم. فإن كنت أنا ابن الله المولود من الله، فالروح القدس الذي سيكون كرفيق دائم لكم وفيكم هو أيضًا منبثق من الله. هذه رسالة للتعزية وليست للفلسفة والمناقشات. لذلك كان من غير المناسب أن نغير آية يحدثنا فيها السيد المسيح كأحبائه، في حديث كله محبة، عن طبيعة الله، فنعمل عقولنا العاجزة ونغير فيما قاله عن طبيعة الله. وإذا كان الإنسان عاجزًا عن أن يفهم كل أسرار الأرض، وقطعًا هو عاجز عن فهم أسرار السماء (سفر التكوين بدأ بقوله في البدء خلق الله السموات والأرض، ثم في بقية الكتاب المقدس يكلمنا عن الأرض فقط) فهل نتجاسر ونتكلم عن طبيعة الله نفسه ونغير فيما قاله !!

 

فكرة هذا الأصحاح:

      الابن تجسد ليُعيد لنا الحياة الأبدية والفرح الذي فقدناه بالخطية (يو1+ يو2) وكان هذا عن طريق الصليب والمعمودية (يو3). وكيف تعود لنا الحياة؟، ذلك بأن يثبت فينا ونثبت فيه وهو الحياة (يو25:11)، وهو المحبة (يو16:4)، فلكي نثبت في الحياة يجب أن نثبت في المحبة (1يو16:4).

 

1.  يو9:15 الثبات في المسيح بالمحبة

 كما أحبني الآب = الآب يُحب الابن (هذه الآية + يو20:5) = الآب في الابن.

               الابن يُحب الآب (يو31:14) = الابن في الآب  “يو38:10”

               فالآب واحد مع الابن بالمحبة التي هي طبيعة الله (يو30:10).

كذلك أحببتكم أنا = على نفس القياس نجد أننا نتحد بالمسيح عن طريق المحبة، وبهذه المحبة يتحقق طلب السيد المسيح “اثبتوا فيَّ وأنا فيكم” (يو4:15).

اثبتوا في محبتي = طريقة الثبات في المسيح هي أن نُحب الله والناس.

إذاَ آية (9) تتفق مع نشيد 6:8 “إجعلني كخاتم على قلبك“، والخاتم هو شمع أحمر يتشكل بحسب الختم حين يُسخّن بالحرارة. والمعنى أن الروح القدس الذي يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5) يُشعل حرارة المحبة في قلوبنا لله وبهذا كأننا نذوب في الله بالمحبة ونتحد به. والروح القدس قيل عنه أنه ختم (أف13:1)، أمّا عدم المحبة أو الكراهية تجعل ثباتنا في الله مستحيل ونموت (1يو14:3 و15).

 

2.  يو10:15  الثبات في المسيح بحفظ الوصايا

إن ثبتم في وصاياي تثبتون في محبتي“، ويعطينا المسيح مثال لذلك بأنه يحفظ وصايا الآب فيثبت فيه = كما إني قد حفظت وصايا ابى وأثبت في محبته.

مرة ثانية نقول أن الآب والابن واحد فمشيئتهما واحدة، ومعنى أن المسيح يحفظ وصية الآب معناها أنه واحد مع الآب لهما نفس الإرادة والمشيئة. وليس من الممكن أن يختلف الابن مع الآب فهما واحد بالمحبة. ولا معنى بالتالي أن نقول أن المسيح يغصب نفسه على حفظ الوصية. ولكنه يقول هنا لنا… حتى تثبتوا فيَّ. يكون هذا على نفس النمط أي بحفظ الوصية بأن نحب الله ومن أجل المحبة سنحفظ وصيته. ونحن نبدأ بأن نغصب أنفسنا لنحفظ الوصية. ولكن كلما إمتلأنا من الروح القدس تزداد محبتنا لله ويصير لنا مشيئة الله فننفذ الوصية بسهولة عن حب. وهذا معنى “من يحبني يحفظ وصاياي”  (يو21:14, 23). وكلما نفذنا الوصية نختبر المسيح ونعرفه فنثبت في محبته (مت7: 24-27). وهذا هو تفسير قلوب اللحم بدلًا من القلوب الحجر (خروج19:11). وأيضًا بنفس المعنى يقول إرميا “أكتب شريعتى على قلوبهم” (ارميا33:31)، ومرة أخرى بهذا يتفق مع (نش6:8) “إجعلني كخاتم على ساعدك“. “لأن المحبة قوية كالموت.. لهيبها لهيب نار لظى الرب“. فالروح القدس يشعل محبة الله في قلوبنا،/ فنعمل ونحفظ الوصية نتيجة ثباتنا في المسيح وهذا معنى “لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو5:15).

 

3.  يو26:15 إذا طريق الثبات في المسيح هو الروح القدس الذي يُعطينا:

1)  المحبة لله وللناس (رو5:15 + غل22:5) وقارن مع يو9:15.

2)  إمكانية تنفيذ الوصية: أ- هو يثبتنا في المسيح (2كو21:1)

      ب-  يبكت (يو8:16)، ويُعين على كل شيء لنخلص (رو26:8)

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 14 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص أنطونيوس فكري
تفسير يوحنا 16
تفسير العهد الجديد

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى