تفسير إنجيل متى 3 للقمص أنطونيوس فكري
الأصحاح الثالث
معمودية يوحنا المعمدان
يوم العماد (الغطاس) يسمى عيد الظهور الإلهي، ففيه ظهر الثالوث القدوس، صوت الآب من السماء، والابن في الماء، والروح القدس على شكل حمامة يحل على المسيح. وهناك سؤال.. لماذا ظهر الثالوث يوم عماد المسيح بالذات، ولم يظهر مثلًا يوم التجلي؟
قال الله لنخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا، إذًا.. الخلق هو عمل الثالوث إذ يقول نخلق.. صورتنا.. كشبهنا.. أي بصيغة الجمع. هذا قول الآب الذي يريد (تك1: 26).
فالثالوث القدوس يشترك في عمل الخلق، والخلق يُنسب للثلاثة أقانيم.
* الخليقة الأولى:- آدم وحواء (تك1).
في البدء خلق الله (الآب يخلق)… وروح الله (الروح يخلق) يرف على وجه المياه… وقال الله (الابن الكلمة يخلق) ليكن نور (تك1:1-3).
والابن جبل ترابًا من الجنة ليكون منه آدم، والروح نفخ في أنفه نسمة حياة (تك2 :7).
لذلك جاءت كلمة الله في هذه الآية “إلوهيم” أي آلهة نسبة للثلاثة أقانيم.
* الخليقة الجديدة:- (حز37)
نرى هنا إعادة الخلق للإنسان الذي مات بسبب الخطية وتحوَّل إلى عظام يابسة.
فالله يتكلم مع النبي قائلًا (الآب)… تنبأ على هذه العظام وقُلْ لها اسمعي كلمة الرب (الابن)… وقُلْ هَلُمَّ يا روح (الروح القدس) وهِبْ على هؤلاء القتلى ليحيوا (حز4:37و9).
وهنا نرى عمل الثالوث في إعادة الخلق للعظام اليابسة إشارة للخليقة الجديدة
ونرى الخليقتين معاً في هذه الآية “نحن عَمَله (الخليقة الأولى في آدم) مخلوقين في المسيح يسوع (الخليقة الثانية في آدم الأخير).(اف 2: 10)
* مهما عمل ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك (يو19:5).
* تُرسِل روحك فتخلِقْ، وتُجدِّد وجه الأرض (مز30:104).
* روح الله صنعني ونسمة القدير أحيتني (أى4:33).
* بكلمة الرب صنعت السماوات، وبنسمة فمه كل جنودها (مز6:33).
* كل شيء به كان (الابن الكلمة) وبغيره لم يكن شيء مما كان (يو3:1).
نرى فيما سبق أن الخِلقة هي عمل الثالوث، وتُنسب للثلاثة الأقانيم ولكن كل أقنوم يؤدى دور مُعيَّن. فالآب يريد والأبن والروح القدس أقنومى التنفيذ.
يقول الآباء:
* كل شيء في الوجود بما فيه الحياة هو من الآب بالابن في الروح القدس.
* كل عطية أصلها في الآب وتتحقق من خلال الابن بواسطة الروح القدس.
* كل عطية لها أصلها في الآب وتُنقل بواسطة الابن وتتحقق بالروح القدس.
* الآب خلق العالم بكلمته وبروحه، فكل عطية من الآب هي من خلال الابن بالروح القدس.
* لذلك شبه الكتاب المقدس الابن بذراع الله (إش9:51). وشبه الروح القدس بإصبع الله، قارن (مت28:12 مع لو20:11).
* وكما كان روح الله يرف على وجه المياه والأرض خربة وخالية (تك2:1).
فاليوم ها هو روح الله يرف على مياه المعمودية على الأرض الخربة بسبب الخطية ليُعيد الله خلقها.
* وكان تجديد الخليقة (أو الخليقة الثانية) مُحتاجا للثالوث القدوس، وهذا هو سر الظهور الإلهي يوم المعمودية.
وكان هذا التجديد هو خلاص للإنسان، ولذلك ينسب بولس الرسول الخلاص للثالوث القدوس “لكن حين ظهر لُطف مخلصنا الله… خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا (تى4:3-6).
فالآب يريد والابن يخلق، فبه كان كل شيء، والروح يعطي حياة لهذا المخلوق (حز10:37).
ويوم العماد هو يوم تأسيس سر المعمودية الذي به نُخلق خليقة جديدة بعد أن فسدت خليقتنا الأولى بالخطية. وكما كانت الخلقة الأولى هي عمل الثالوث القدوس، هكذا الخليقة الثانية هي عمل الثالوث القدوس، لذلك ظهر الثالوث القدوس يوم المعمودية. فالآب يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2). والابن يغطس في الماء إعلاناً لقبوله الموت عن البشر، وهذا هو الفداء المزمع أن يقدمه على الصليب. ثم يخرج من الماء إعلاناً عن أنه لن يظل ميتاً في القبر، بل سيقوم ويقيمنا معه متحدين به (رو3:6-5). والروح القدس يحل على جسد المسيح. وجسد المسيح هو كنيسته. والروح القدس سيقوم بعد ذلك مع كل معمد بجعله يموت مع المسيح (حين يغطس أو يدفن في الماء) ويقوم مع المسيح من موت الخطية (حين يخرج من الماء). نقوم مع المسيح ثابتين في المسيح كخليقة جديدة (2كو17:5) وهذه الخليقة الجديدة يفرح بها الآب. وفرحة الآب هذه ظهرت في قوله “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”. قال هذا يوم العماد ولم يكمل “له اسمعوا” كما قال يوم التجلي فاليوم هو يوم فرحة الآب برجوع ابنه الضال (أي الكنيسة) إلى أحضانه. أما في التجلى فكان الآب يلفت نظر التلاميذ إلى من هو شخص هذا المعلم، وأنه ليس كمعلمى اليهود بل هو ابن الله وعليهم أن يسمعوا كلامه وتعاليمه ووصاياه، فهي وصايا الله نفسه.
حقاً الآب فرح بطاعة المسيح الذي أطاع حتى الموت موت الصليب، لكنه فرح أيضاً برجوعنا إليه. لذلك قال المسيح ينبغي لنا أن نكمل كل بر. وهذا يعني أن آدم يوم خلق كان هناك شيئاً ينقصه.. وما هو؟ لو أخطأ آدم يموت وينتهي بالانفصال عن الله، فلا شركة للنور مع الظلمة. لكن اليوم رسم السيد المسيح طريقة غفران الخطية وتبرير آدم ليعود للأحضان الإلهية، وبهذا فرح الآب، فلقد أصبح هناك حل لمشكلة الموت الناتج عن الخطية. ولقد أصبح طريق تبرير الإنسان كاملاً، لذلك قال المسيح على الصليب “قد أكمل” فنحن كنا عاجزين عن البر، فجاء المسيح ليعطينا فيه أن نتبرر فنعود إلى حضن الآب كأبناء بثباتنا في ابنه.
ما حدث يمكن تشبيهه بأنه بدون اختراع الأستيكة كان إذا حدث أي خطأ في ورقة نقوم بتمزيقها وإلقائها، وهذا ما حدث لآدم إذ أخطأ فمات. أما بعد اختراع الأستيكة صرنا نمحو الخطأ، ويمكن استخدام الورقة ثانية.
والتشبيه الأدق من الأستيكة هو الـ corrector الذي يُغطى الخطأ فتعود الورقة بيضاء، فعمل المسيح الكفَّارى هو تغطيتنا. كفَّارة = غطاء من cover. فلا يعود الآب يرى خطيتنا بل يرى بر ابنه، هذا إن كُنَّا ثابتين في ابنه. لذلك يقول الرب “اثبتوا في” (يو4:15). ولذلك فقول المسيح على الصليب “يا أبتاه اغفر لهم” – والرب قالها وجسده كله مغطى بالدم – كان كأنه يقول للآب فلتبدأ شفاعتى الكفارية عن جسدي الذي هو كنيستى من الآن. وهذا معنى ما كان يحدث يوم الكفارة اليهودي، إن هرون رئيس الكهنة ينضح من دم تيس الخطية على غطاء التابوت “الكافورت” فيغفر الله. وكان المسيح رئيس كهنتنا على الصليب ودمه يغطى جسده هو شرح لما كان هرون يعمله يوم الكفارة (لا16: 15، 16) “يكفر عنكم لتطهيركم . من جميع خطاياكم تطهرون” (لا16: 30).
إذًا المعمودية هي:
1- موت مع المسيح: ومن مات معه تغفر جميع خطاياه السابقة. فبموتنا في المسيح في المعمودية ينفذ فينا حكم الناموس…. أن من يخطئ يموت.
2- قيامة مع المسيح: نقوم متحدين به، وهذا يعطينا أن نحيا بحياته وهي حياة أبدية فالمسيح بعد أن قام من الاموات لن يموت ثانية (رو6: 9). ويقول بولس الرسول ايضاً “لي الحياة هي المسيح” (في21:1) + “المسيح يحيا فيَّ” (غل20:2) . ولأن المسيح يحيا فينا كمل كل بر.
3- تبني : فمن اتحد بالمسيح الابن يصير ابنًا لله.
4- علي من ينكر مفاعيل المعمودية أن يجيب علي هذا السؤال وأنها مجرد علامة
” لماذا اعتمد المسيح” ؟ قيل ليلتزم بالناموس، لكن الناموس لا يطلب معمودية أحد. وقيل ليقف في صفوف الخطاة ! وهذا خطأ… فالمسيح ليس بخاطئ يقدم توبة ويعتمد علامة على توبته، بل هو حامل خطية ! فكان يوحنا يعمد التائبين علامة على توبتهم. ولو فرض صحة هذا فلماذا قال نكمل ولم يقل أُكمِل، والعبرية ليس بها صيغة تفخيم. اذاً نكمل هو قول الثالوث الذي يخلق الانسان خليقة جديدة. وهل حمل الآب أو الروح القدس خطايانا ! هذا كان عمل المسيح بصليبه.
5- لكن وكما قال الآباء أن المسيح لم يكن محتاجا للمعمودية لكن المعمودية كانت محتاجة للمسيح. المسيح كان بمعموديته يؤسس سر المعمودية، والروح القدس الذي حل عليه، حل علي جسده لحسابنا فكل من يعتمد الآن، فالروح القدس وبطريقة خفية يجعله يموت بإنسانه العتيق مع المسيح حين ينزل الماء، ويقوم مع المسيح حين يخرج من الماء. لذلك نقول عن المعمودية أنها سر. وسر تعنى اننا نحصل علي نعمة غير منظورة تحت أعراض منظورة.
الآيات 1-10
آية (1): “وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية.”
في تلك الأيام= لا يقصد به بعد عودة العائلة المقدسة من مصر ولكن في ذلك العصر أو في ذلك الزمان. ولوقا حدد عمر المسيح في هذا الوقت (لو23:3) أنه حوالي 30 عامًا.
يوحنا المعمدان= لقب المعمدان غالبًا أطلقه عليه الشعب. وكان ملاخي قد سبق وتنبأ عنه في (ملا1:3) وتنبأ عن مجيء إيليا قبل مجيء المسيح الثاني في (ملا5:4)، ولما كان اليهود لا يفهمون أن هناك مجيء أول ومجيء ثاني، ظنوا أن إيليا يجب أن يظهر قبل المسيا. ولكن المعمدان جاء في صورة إيليا الساكن في البراري والجبال وبنفس قوته.
برية اليهودية= هي القطاع الشرقي من إقليم اليهودية، يقع شرق قمة الجبل الرئيسية وغرب البحر الميت، لم تكن صحراء رملية ولكنها أرض غير مخصبة.
والمعمدان بدأ خدمته قبل أن يبدأ المسيح بشهور. وكان من حق يوحنا أن يصير كاهنًا، ولكنه ترك الهيكل والكهنوت ذاهبًا إلى البرية، ليعلن أن الجميع فسدوا وصاروا برية قاحلة تنتظر المسيح الذي سيأتي ليرويها بمياه الروح القدس لتصير فردوسًا يحمل ثمار الروح (مز1:63). لقد حُرِم يوحنا المعمدان من خدمة الهيكل ليهيئ الطريق لرئيس الكهنة الأعظم ربنا يسوع الذي جعل من بريتنا هيكلًا جديدًا سماويًا.
كان يوحنا هو الرسول الذي يعد طريق الملك كما يسبق الملوك حرس شرف.
يوحنا المعمدان كان عمله الاساسي تأسيس سر المعمودية ” الذي ارسلنى لاعمد بالماء” (يو 1: 33) وكان هذا بأن يعمد المسيح.
آية (2): “قائلا توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات.”
تُوبُوا = يوحنا يهيئ الطريق الملوكي بالتوبة، ومعنى طلب التوبة كشئ سابق لملكوت المسيح، أن ملك المسيح سيكون روحياً وليس أرضياً. والتوبة في اليونانية مطانية metanoia وتعني تغيير الاتجاه أي تغيير القلب والعقل من جهة الخطية ليهتدي ويتجه نحو الله. ويعطي الإنسان لله الوجه لا القفا. إذاً تُوبُوا = غيروا قلوبكم وعقولكم. ومن يقدم توبة تنفتح عيناه، فالخطية تسبب العمى للعيون الروحية. ومن تنفتح عيناه يعرف المسيح حين يظهر، وهكذا كان يوحنا يهيئ الطريق للمسيح.
اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ = أي أن مجيء المسيح ليسكن فينا صار على الأبواب. وطريق التمتع بهذا الملكوت هو أن ندرك حاجتنا إلى عمل المسيّا فينا، فإذ يدين الإنسان نفسه ينفتح القلب لاستقبال عمل المسيّا فيه. ويُمَلِّك الإنسان المسيح على قلبه فيصير ملكوت الله داخله “ها ملكوت الله داخلكم”. واصطلاح ملكوت السموات هو اصطلاح خاص بمتى أما باقي الإنجيليين فكانوا يستعملون اصطلاح ملكوت الله. لأن متى كان يكتب لليهود الذي يخشون أن يستعملوا اسم الله. وملكوت الله معناه سيادة وحكم الله على القلب، لكن اليهود فهموه على أنه ملك مادي أرضي. ومن المؤكد أن المسيح استخدم التعبيرين ملكوت السموات وملكوت الله. وببساطة حيثما يملك الله يصير هذا المكان سماء.
آية (3): “فان هذا هو الذي قيل عنه بإشعياء النبي القائل صوت صارخ في البرية اعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة.”
الاقتباس من (إش3:40) ومن الترجمة السبعينية بالذات. صوت صارخ= هو صوت المعمدان. فهو كان صوتًا يوجه النظر ليسوع، يدعو الناس للتوبة فيكونوا مستعدين لقبول الرب يسوع. إصنعوا سبله مستقيمة= مرادفة لتوبوا. أي من ارتفع قلبه بالكبرياء أو من التهب قلبه بالطمع أو الشهوة فليغير طريقه. والعكس فمن كان يشعر بيأس أو صغر نفس فليكن له رجاء منذ الآن (إش4:40).
آية (4): “ويوحنا هذا كان لباسه من وبر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد وكان طعامه جرادًا وعسلًا بريًا.”
كانت صرخات يوحنا لا تخرج من فمه فحسب بل تنطلق من كل حياته، تعلنها حياته الداخلية ومظهره الخارجي. حتى ملبسه كان أشبه بعظة صامتة وفعّالة وأيضاً طعامه. لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ = خشن ورخيص وكان هذا لباس الأنبياء (زك4:13).
طَعَأمُهُ جَرَادًا هذا أكل الفقراء جدًاً. وَعَسَلاً بَرِّيًّا = وهذا يجدونه في الصخور وجذوع الأشجار. وكان زهد المعمدان سر قوته، أيضاً خلوته في البرية. وكان له شكل إيليا في ملبسه وطعامه.
آية (5): “حينئذ خرج إليه أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن.”
هكذا لنرجع إلى الله علينا أن نخرج من العالم.
آية (6): “واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.”
الأردن= ينبع من جبال لبنان ويصب في البحر الميت ماراً ببحر الجليل (أو بحيرة جنيسارات أو بحيرة طبرية). واليهود عرفوا أنواعاً من المعموديات منها معمودية المتهودين الدخلاء. ومعمودية يوحنا كانت رمزاً للمعمودية المسيحية. وبولس الرسول اعتبر أن موسى والشعب إعتمدوا في البحر الأحمر والسحابة رمزاً أيضاً للمعمودية المسيحية. وبطرس الرسول يقول أن فلك نوح كان مثالا للخلاص بالمعمودية (1بط3: 21) . ولكن معمودية يوحنا لم تهب البنوة لمن اعتمد مثل المعمودية المسيحية. وغفران الخطايا الذي كان هدف معمودية يوحنا استمد قوته من صليب المسيح (مثل شيك يكتب على ظهره يصرف في يوم كذا فهو حق لك ولكن مفعوله يبدأ في اليوم المحدد)، وهذا نفس ما يقال عن كل من غفرت خطاياهم في العهد القديم. قوة معمودية يوحنا استمدت قوتها من قوة المرموز إليه كما حملت الحية النحاسية قوة الشفاء خلال الصليب التي ترمز إليه. فمعمودية يوحنا لم تكن بالروح مثل المعمودية المسيحية. وهناك معمودية الدم للشهداء وهناك معمودية الدموع والتوبة كما كان داود يعوم كل ليلة سريره (مز6:6).
آية (7): “فلما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلى معموديته قال لهم يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي.”
الفريسيين= أهم طوائف اليهود الدينية التي ظهرت أيام المكابيين سنة 150ق.م. هدفهم أن يشددوا على وجهة النظر الدينية عند اليهود، وكانوا يحفظون الشريعة بدقة. وكان هذا كرد فعل للثقافة اليونانية المتحررة التي انتشرت. ومعنى فريسيون= مفروزون. ويسمون أنفسهم الأتقياء. واعتبروا تقليد الآباء على نفس مستوى الناموس. ساد عليهم الرياء والتظاهر والتمسك الظاهري لا الفعلي بالناموس فعشروا الشبث والنعنع وأطالوا صلواتهم.
الصدوقيين= هم الطائفة اليهودية الكبيرة بعد الفريسيين، ويرجح أنهم نشأوا كمضادين للفريسيين. اسمهم مشتق من اسم صادوق رئيس الكهنة أو من معنى اسم صادوق وهو يعني البار. وعلموا أن الفضيلة تمارس لأجل نفسها وليس من أجل أجر معين ومن هنا تمادوا وأنكروا القيامة لأنها أجر للأعمال الصالحة. وكانوا لا يؤمنون سوى بأسفار موسى الخمسة فقط، ولا يقبلون تقليد الشيوخ وأنكروا القيامة والأرواح والملائكة (أع8:23). كانوا يسمونهم جماعة العقلانيين عند اليهود. وكان هدفهم في الحياة جمع المال وإرضاء ملذاتهم.
يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي = أي أنهم يشبهون الأفاعى فالابن يشبه أبيه (وهناك أولاد إبليس يو44:8+ 1يو10:3 وأبناء المعصية كو6:3 وأبناء النور يو36:12)= يوحنا هنا يريدهم أن يتساءلوا بينهم وبين أنفسهم لماذا أتوا هل هي توبة حقيقية أو سعياً وراء المظاهر. لأنه شعر أنهم لم يأتوا إليه بقلوبهم طالبين التوبة. وكان يوحنا قوياً لم يخف من الفريسيين والصدوقيين ولم يتملقهم، بل هو عرف مشاعرهم فهم لم يحتملوا إذ قد فضح ريائهم بقداسته الحقيقية. وإلتفت حوله الجماهير وأحبوه فخافوا على مراكزهم وأرادوا إظهار نقاوتهم بأن يعتمدوا هم أيضا. الْغَضَب الآتِي = الدينونة.
الآيات(8، 9): “فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم.”
التوبة التي بلا ثمر هي مظاهر ورياء. وكان اليهود يظنون أنهم يخلصون لمجرد انتسابهم لإبراهيم. ولكن يوحنا هنا يشرح لهم أن الخلاص ليس ميراثًا من الآباء.
يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم. ما هي هذه الحجارة؟
1- يقال أن يوحنا المعمدان كان يتكلم وأمامه الحجارة التي وضعها يشوع في الأردن.
2- تشير إلى (إش1:51-2) فهذا الصخر في إشعياء يشير لمستودع سارة المائت ولأن إبراهيم صار شيخًا غير قادر على الإنجاب ومع هذا كان لهما نسل ومنه اليهود. ويكون المعنى أنه كما أقام الله اليهود من مستودع ميت كالصخر، قادر هو أن يقيم له أولادًا آخرين.
3- تشير للأمم الذين صاروا حجارة بعبادتهم للأوثان الحجرية فشابهوها (مز8:115).
4- تشير لكل قلب تقسى وتحجر، والله يحركه بالتوبة فيصير ابنًا لإبراهيم.
وأولاد إبراهيم هم من يشابهونه في تقواه وإيمانه، ولكن هؤلاء الفريسيين والصدوقيين لا يشبهون إبراهيم بل هم أولاد أفاعي بمعنى أولاد إبليس (يو44:8).
ولكن كل من تحجر قلبه، فالله قادر أن يحوله مرة أخرى إلى قلب لحمي (حز26:36).
آية (10): “والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدا تقطع وتلقى في النار.”
التشبيه مأخوذ من الحطاب الذي وضع فأسه بجانب الشجرة وذهب يخلع سترته استعداداً لقطع الشجرة. فهذا المثل يشير للغضب القادم. فالمسيح أتي ليبشر بيوم مقبول وسنة مقبولة. فإما أن يستجيب الإنسان أو تأتي عليه الدينونة وسيف القصاص، ويلعنه الله كما لعن شجرة التين، إذا وجده بغير ثمار التوبة. والمسيح هو ذلك الحطاب الذي أتى بصليبه ليموت عني. وأعطاني المعمودية، فيها أموت معه لهدم الإنسان العتيق فمن يرفض بعد كل هذا لن يكون أمامه سوى الدينونة. والمسيح هو الحطاب الذي هو مزمع الآن أن يأتي للدينونة.
الآيات 11-15
آية (11): “أنا أعمدكم بماء للتوبة ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني الذي لست أهلًا أن احمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس ونار.”
نرى هنا سر عظمة المعمدان وهو اتضاعه= لست أهلًا أن أحمل حذاءه= (هو قول يشير لألوهية السيد المسيح فأي ملك أرضي يمكن أن يحل سيور حذاءه أي أحد. أو يحمل حذاءه أي أحد) هو يرى في نفسه أنه غير مستحق أن يعمل أحقر الأعمال التي يقوم بها العبيد.
سيعمدكم بالروح القدس ونار= وقارن هذه بقول المسيح “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح (يو5:3). فالروح القدس هو روح الإحراق (إش4:4) وهو يجعل الماء نار إحراق فماذا يعني قوله الروح القدس ونار= إلا أن ماء المعمودية هو النار الذي يلقي فيها المعمد لتحرق خطاياه وتميت الإنسان العتيق. ويقول القديس مار يعقوب السروجي “المعمودية هي الكور العظيم الممتلئ نارًا، فيها يسبك الناس ليصيروا غير أموات” هذا يعني أن المعمودية هي ليست غسيل إنسان في ماء عادي، بل هي بعمل الروح القدس (روح الإحراق (إش4:4) تحرق الخطايا القديمة، وتلقي نار حب داخل القلب. وانظر لعمل الروح القدس في أرمياء “فكان في قلبي كنارٍ محرقة” (أر9:20) لذلك رأينا حلول الروح القدس على التلاميذ على هيئة ألسنة نارية فالمعمودية هي تحرق خطايانا بالنار وتغسلها بالماء.
آية (12): “الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ.”
هنا نرى المسيح الديان. الرَفْشُ = يستخدم للتذرية [الرفش هو المذراة وهي ساق لها أصابع خشبية ترفع بها الحبوب المختلطة بالتبن والقش، فتسقط الحبوب لأسفل لثقلها أما القش والتبن فيطيران بعيداً. وبهذا تجمع الحبوب وحدها والتبن وحده وهذا يتم في مكان متسع بجانب الحقل يسمى البيدر أو الجرن. وتوضع الحبوب في المخزن، أما التبن والقش فيحرقان. والرفش إشارة لكلمة الله التي ستدين غير المؤمنين وغير التائبين (يو48:12)] ويشير الرفش لسلطان المسيح. بَيْدَرَهُ = أي كنيسته ويشير لنهاية العالم. قَمْحَهُ = المؤمنين الأبرار. الْمَخْزَنِ = الكنيسة أو المجد في السماء. التِّبْنُ = الأشرار. نَارٍ لاَ تُطْفَأُ أي الدينونة الأبدية في جهنم. فالمسيح يترك الآن القمح مع التبن والزوان ولكن هناك يوم يفصل فيه بين هذا وذاك. ولكن من الآن فالتذرية موجودة وهناك فاصل بين الذي يؤمن والذي لا يؤمن وبين الذي يتوب والذي لا يتوب.
آية (13): “حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه.”
لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ = المسيح كان يؤسس سر المعمودية، فكل معمد بعد ذلك حين نزوله للماء وصعوده منه يموت مع المسيح ويقوم معه. ولكن العجب أن يقبل المسيح أن يقف في صفوف الخطاة، وهذا كان مقدمة للصليب يوم يحمل المسيح خطايا البشر، والكنيسة تهتم بالمعمودية لأنه حتى المسيح لم يبدأ خدمته إلا بعد أن اعتمد.
آية (14): “ولكن يوحنا منعه قائلًا أنا محتاج أن اعتمد منك وأنت تأتى إلى.”
من عرفه وهو في بطن أمه، من المؤكد أنه عرفه الآن.
آية (15): “فأجاب يسوع وقال له اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر حينئذ سمح له.”
المسيح يكمل كل بر أي بتأسيسه للمعمودية وبصلبه بعد ذلك، يؤسس الطريق لنا لنتبرر، ونحسب أبرارًا فيه. هنا نرى منتهى الاتضاع أن يعتمد الله من أحد عبيده. وبولس الرسول عبر عن هذا بقوله “جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه” (2كو5: 21).
الآيات 16-17
الآيات (16-17): “فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء وإذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وأتيًا عليه. وصوت من السماوات قائلًا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.”
صَعِدَ = إذاً هو كان نازلاً في الماء. لذلك فالمعمودية بالتغطيس وفي يوم عيد الغطاس، يوم عماد المسيح تحتفل الكنيسة أيضاً بعيد الظهور الإلهي، إذ ظهر هنا بوضوح الثلاثة الأقانيم. صوت الآب في السماء والابن الإنسان في الماء والروح القدس في شكل حمامة. هنا نرى التمايز في الثالوث، الواحد عن الآخر، ولكنهم هم الله الواحد.
والمسيح حل عليه الروح القدس في شكل حمامة كاملة (حمامة رمز السلام والطهارة والوداعة والبراءة والبساطة وهذه ثمار يعطيها الروح لمن يحل عليه). وهي كاملة رمز لحلول الروح القدس بالكامل على المسيح. أما التلاميذ فحل عليهم على قدر ما يحتملون، ألسنة نار منقسمة. والروح حل على التلاميذ على شكل نار ليطهرهم، أما المسيح الذي بلا خطية لم يحتاج لشكل النار: 1) هو لا يحتاج لنار تحرق خطاياه؛ 2)التلاميذ لايحتملون كبشر الا لمواهب وعطايا الروح. ومعنى الألسنة المنقسمة = أن كل منهم أخذ بقدر احتياجه وبقدر احتماله؛ 3) أما المسيح فحل الروح عليه علي شكل الحمامة وتعنى الروح كاملا، فالروح إنسكب على المسيح رأس الكنيسة لحسابها أي لينسكب على الكنيسة بعد ذلك = كالطيب ينزل على الرأس ثم على اللحية أي الكنيسة جسد المسيح (مز 133). [اللحية شعر كثير يلتصق بالرأس كما يلتصق المؤمنين برأس الكنيسة المسيح].
وحلول الروح القدس على المسيح كان لتكريسه وإعداد جسده ليقدم ذبيحة نفسه، كما كان رئيس الكهنة يُمسح بالزيت ليقدم ذبائح. وصوت الآب من السماء تكرر يوم التجلي (مت5:17) وأيضاً في (يو28:12).
انْفَتَحَتْ لَهُ = يوحنا المعمدان رأى الحمامة نازلة على المسيح وعرف أن هذا هو الروح وقد إستقر على المسيح (يو31:1-34) . والسماء تنفتح الآن بعد أن كانت قد أغلقت أمام البشرية ومن أيام نوح فالحمامة رمز للسلام وزوال السخط وانتهاء زمن سلطان الخطية.
والحمامة مشهورة دائما أنها تعود لبيتها (حمامة نوح/الحمام الزاجل). وعمل الروح القدس هو دفع الكنيسة للإتحاد بالمسيح، والمسيح يحملها كعروس له إلى حضن الآب بإتحاده بها. وكلمة بساطة وهي صفة الحمام مترجمة SINGLE HEARTED، في الترجمة الإنجليزية. أي يكون الإنسان له هدف واحد بقلبه، متجه دائماً للمسيح. وهذا هو عمل الروح القدس فينا: إذ أننا كلما نخطئ يبكتنا الروح القدس ويعيننا حتى نعود للثبات في المسيح. لذلك نقول الحمامة رمز البساطة “كونوا بسطاء كالحمام” (مت16:10). ومن يفعل أي يكون قلبه دائما لا هدف له سوى مجد الله، يثبت في المسيح ويُحسب كاملاً (كو1: 28) وهذا معنى “إفتحى لي يا أختى ياحبيبتى يا حمامتى يا كاملتى” (نش2:5).
لذلك فالروح القدس بتبكيته ومعونته يجعلنا دائماً في حالة رجوع دائم للمسيح “إرجعى إرجعى يا شولميث” (نش13:6). والروح يثبتنا في المسيح في المعمودية (2كو1: 21، 22)، وإن أخطأنا يبكتنا لنتوب ويعيننا فنعود للمسيح ويثبتنا فيه.
المسيح يكمل كل بر (تأملات)
1- سلك بمعموديته من يوحنا طريق الاتضاع وهو كمال كل بر.
2- هو يعلن أهمية المعمودية ويعلن قبوله لمهمته أي موته فالمعمودية هي موت مع المسيح، فالمسيح بمعموديته يعلن أنه يقبل هذا الموت وأنه سيقوم بعد موته، وأنه يطيع حتى الموت موت الصليب. المعمودية هي مثال لسر موته وقيامته. المعمودية هي إعلان حب من الذي قال “ليت عليَّ الشوك…” (اش 27: 2-5).
3- المسيح يؤسس سر المعمودية الذي به يكمل كل بر لآدم ونسله. فبموتنا مع المسيح وقيامتنا مع المسيح نتبرر. المسيح بالمعمودية أكمل كل بر للإنسان أي صار هناك وسيلة يتبرر بها الإنسان الذي كان قد حُكِمَ عليه بالموت بسبب الخطية. والتبرير له شقين: أ) غفران الخطية وذلك يتم بموتنا مع المسيح ، ب) باتحادنا مع المسيح فنحيا بحياته فيستخدم أعضاءنا كآلات بر، فنعمل أعمال بر.
لماذا المعمودية؟
- المسيح غير محتاج للمعمودية فهو بلا خطية.
- بهذا يتيح الفرصة ليوحنا ليشهد عنه، وليظهر لإسرائيل.
- جعل المعمودية مثالاً لسر موته وقيامته.
- بعد المعمودية حل عليه الروح القدس لحسابنا أي لتقديسنا. والمسيح اعتمد ثم حل عليه الروح بعد ذلك ليحدث لنا نفس الشيء، ففي المعمودية نموت مع المسيح ونقوم معه فنصبح مستعدين لحلول الروح القدس فينا.
- ظهر أثناء المعمودية سر الثالوث القدوس فالخليقة الجديدة لنا هي عمل الثالوث.
- المسيح لم يكن محتاجاً للمعمودية، لكن المعمودية هي التي كانت محتاجة للمسيح ليؤسسها فيعطي الماء القوة بالروح القدس ليعيد خلقتنا. هو قدَّس الماء لنعتمد نحن بالماء والروح بعد ذلك.
- كان تكريساً لذاته للعمل (بالمعمودية) فنزول المسيح إلى الماء وتغطيسه فيه (كما نزل يونان إلى عمق الماء) كان إشارة لقبوله الموت. وكما عبر يشوع ماء الأردن مع الشعب ليدخلوا لكنعان الأرضية فالمسيح عبر معنا الموت لندخل معه إلى كنعان السماوية، وكان قبول المسيح للمعمودية هو قبول للموت. ونحن نموت معه في المعمودية ليدخلنا معه بقيامته وقيامتنا معه في المعمودية للأمجاد السماوية، كما كان عبور شعب إسرائيل لنهر الأردن المشقوق، إشارة لعبورنا إلى كنعان السماوية بالموت. وكان شق نهر الأردن وتوقف سريانه إشارة لأننا بالمعمودية نجتاز الموت دون أن يكون للموت سلطان علينا، بل بالموت نعبر إلى الحياة، وذلك لأن المسيح رأسنا قد خرج من الأردن رمزاً لقيامته وليقيمنا معه. وتبع معمودية المسيح وتكريسه لذاته، تكريس الآب له للعمل بحلول الروح القدس عليه فمسحه وصار اسمه المسيح أي الممسوح أي المخصص والمكرس لعمل الفداء.
إنجيل معلمنا متى : 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 – 25 – 26 – 27 – 28
تفسير إنجيل معلمنا متى : مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 – 25 – 26 – 27 – 28