تفسير سفر الملوك الأول 22 للقمص تادرس يعقوب ملطي
قتل آخاب في راموت جلعاد
في نهاية الأصحاح السابق تمتَّع آخاب الشرِّير بوعد إلهي بعدم جلب الشرّ في أيَّامه لأنَّه اتَّضع أمام الرب. لكنَّه لم يبقَ طويلًا. ففي هذا الأصحاح التقى ملكا إسرائيل ويهوذا ليحاربا ملك آرام. انتهت حياة آخاب بضربة قاتلة بيدٍ آراميَّة، وقد صمَّم ملك آرام ألاَّ يقتل أحدًا سوي ملك إسرائيل.
1. آخاب يودّ استراد راموت جلعاد |
[1 –3]. |
|
2. تحالفه مع يهوشافاط لمحاربة آرام |
[4]. |
|
3. تضليل الأنبياء الكذبة |
[5 –6]. |
|
4. ميخا النبي ينبئ بالهزيمة |
[7 –17]. |
|
5. روح الكذب يضلِّل آخاب |
[18 –23]. |
|
6. ضرب ميخا النبي وسجنه |
[24 –28]. |
|
7. الاشتباك العسكري |
[29 –30]. |
|
8. مقتل آخاب |
[31 –40]. |
|
9. شخصيَّة يهوشافاط |
[41 –50]. |
|
10. أخزيا يخلف والده آخاب |
[51 –53]. |
|
من وحي 1 ملوك 22 |
1. آخاب يودّ استرداد راموت جلعاد:
تمتَّع آخاب بجوٍ من الهدوء قرابة ثلاثة سنوات من أجل تواِضعه أمام الرب، لكن في أعماقه كان يحمل نوعًا من العداوة أو الشعور بمعاداة أنبياء الرب له. وإذ حلَّ موعد قتله بيد آراميَّة وضع آخاب في قلبه أن يسترد راموت جلعاد. طلب من يهوشافاط ملك يهوذا الذي جاء لزيارته أن يحارب معه.
لدى اليهود تقليد بأن الله بعث يهوشافاط إلى آخاب ليقيم في الظاهر عهدًا ومحالفة، لكنَّه في الداخل يودّ تأديبه؛ هذا التقليد ليس له أساس يعتمد عليه.
“وأقاموا ثلاثة سنين بدون حرب بين آرام وإسرائيل.
وفي السنة الثالثة نزل يهوشافاط ملك يهوذا إلى ملك إسرائيل.
فقال ملك إسرائيل لعبيده:
أتعلمون أن راموت جلعاد لنا ونحن ساكتون عن أخذها من يد ملك آرام؟” [1-3]
لأسباب سياسيَّة تجاهل يهوشافاط الخلافات الدينيَّة التي تفصل المملكتين وأراد إقامة تحالف مع آخاب بن عمري ملك إسرائيل. سبق فطلب يهوشافاط عثليا ابنة آخاب زوجة لابنه يهورام (2 أي 18: 1، 2 مل 8: 18).
جاء تعبير “نزل” يكشف عن نزول يهوشافاط الصالح روحيًا بإقامة تحالف مع آخاب الشرِّير، فنال خسائر بسبب هذا التحالف. لقد أساء آخاب استغلال هذه الصداقة.
غالبًا ما كان من بين شروط المعاهدة بين آخاب وبنهدد (1 مل 30: 34) أن يرد بنهدد راموت جلعاد لإسرائيل. لكن آخاب تراخي في البداية في المطالبة بها ولم ينفِّذ بنهدد هذا الشرط. ولعلَّ هذا التأجيل تمَّ بسبب حملة أشور العظمى على المنطقة شغلت ملك إسرائيل عن المطالبة بحقوقه. يروي لنا شلمناصَّر الثاني أنَّه في حملته الأولى على جنوب سوريا واجهته قوَّات مشتركة من بنهدد وآخاب وملوك بني حِثّ وغيرهم. اشتركوا في المعركة ووجد صعوبة وإن كان قد لحقهم شيء من الخسائر والهزيمة.
2. تحالفه مع يهوشافاط لمحاربة آرام:
“وقال ليهوشافاط: أتذهب معي للحرب إلى راموت جلعاد؟
فقال يهوشافاط لملك إسرائيل: مثلي مثلك، شعبي كشعبك، وخيلي كخيلك” [4].
وحدة المملكتين أمر مفرح، لكن كان يلزم أن تكون على أساس وحدة الإيمان والحياة المقدَّسة. فقد أخطأ يهوشافاط حين قال: “مثلي مثلك، شعبي كشعبك، وخيلي كخيلك”. كان يليق به أولًا أن يطلب قدسيَّة حياة الملك وشعبه قبل الاتِّحاد معه في الحروب. لقد دفع يهوشافاط الكثير بسبب هذه الصداقة القائمة بلا أساس.
كان آخاب يدرك قوى آرام العسكريَّة، ولم يكن يتوقَّع أيّ عون إلهي، لهذا طلب عون يهوشافاط الإنسان التقي، لكنَّه لم يكن حكيمًا في هذا التصرُّف.
* لا تضطربوا لحقيقة أن (داود النبي) حسب السلام شرًا. فإنَّكم تجدون حقًا في الإنجيل أيضًا سلامًا يرفضه المسيح، كما يقول هو نفسه “سلامي أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا” (يو 14: 27). لأنَّه يوجد سلام لا يضع حجر عثرة، وسلامًا يضع…! لهذا أيضًا يقول النبي “سلام سلام، وليس سلام” (حز 13: 10). فلنهرب إذن من سلام الأشرار، لأنَّهم يتآمرون ضدّ البريء ويجتمعون على مضايقة البار (حك 2: 12)، ويقهرون الأرملة ويسحقون تواضعها!(235)
القديس أمبروسيوس
3. تضليل الأنبياء الكذبة:
“ثم قال يهوشافاط لملك إسرائيل:
اسأل اليوم عن كلام الرب” [5].
يهوشافاط كرجل تقي لم يهتم بالإمكانيَّات العسكريَّة لحليفه بل طلب أولًا بركة الرب وسؤاله عن طريق أنبيائه. لم يخجل من أن يطلب أن يسمع كلمة الرب قبل التحرُّك العسكري.
“فجمع ملك إسرائيل الأنبياء نحو أربع مائة رجل، وقال لهم:
أذهب إلى راموت جلعاد للقتال أم امتنع؟
فقالوا اصعد، فيدفعها السيِّد ليد الملك” [6].
جمع آخاب الأنبياء الذين كانوا حوالي 400 نبيًا، غالبًا ما كانوا من أنبياء العشتاروت الذين تسندهم الملكة إيزابل. هذا واضح من عدم راحة يهوشافاط لهم، والتناقض بين ما تحدَّثوا به وما تنبَّأ به ميخا النبي الحقيقي لله.
يرى البعض أنَّهم لم يكونوا أنبياء للبعل ولا للعشتاروت ولا هم أنبياء صادقون للرب، إذ شعر يهوشافاط بعدم راحة لهم، مع أنَّهم تحدَّثوا كما من فمٍ واحدٍ. ذكروا اسم السيِّد الرب ربَّما مراضاة ليهوشافاط. فكثيرًا ما يتحدَّث الأنبياء الكذبة كمن يحملون كلمة الرب (إر 23: 30). ولكي يرضوا آخاب الملك ادعوا أنَّه سينال نصرة على ملك آرام. لعلَّهم كانوا أنبياء العجل الذهبي الذي أقامه يربعام.
الوحدة ليست دائمًا علامة التقوى، فقد تحدَّث الأربعمائة نبي كاذب كما بفمٍ واحد، لهم قلب واحد، وفكر واحد لكن لم يكن لهم روح التقوى.
4. ميخا النبي ينبئ بالهزيمة:
“فقال يهوشافاط: أمَا يوجد هنا بعد نبي للرب فنسأل منه؟” [7]
أدرك يهوشافاط أن نبي واحد من قبل الرب أفضل من مشورة أربعمائة نبي كاذب.
“فقال ملك إسرائيل ليهوشافاط:
إنَّه يوجد بعد رجل واحد لسؤال الرب به،
ولكنِّي أبغضه لأنَّه لا يتنبَّأ عليَّ خيرًا بل شرًا،
وهو ميخا بن يملة.
فقال يهوشافاط: لا يقل الملك هكذا” [8].
كان لدى آخاب نبي واحد صادق، ولكنَّه كان يبغضه ولا يريد أن يلتقي معه أو يستشيره. لم يخجل آخاب من أن يصرِّح بهذا ليهوشافاط. لم يلقِ باللوم على نفسه، بل على النبي لأنَّه لا يتنبَّأ عليه بخير بل دائمًا بالشرّ. كان يليق به أن ينتفع بصراحته ويصحِّح من أخطائه، ويرجع عن شرُّه، فيتنبَّأ له بالخير لا بالشرّ.
“فدعا ملك إسرائيل خِصيًا وقال:
أسرع إليّ بميخا بن يملة” [9].
“خِصْي” يبدو أن الخِصيان دخلوا لأول مرة في إسرائيل بواسطة داود النبي (أي 28: 1). غالبًا ما كان الخِصي غريب الجنس، إذ لم تسمح الشريعة للإسرائيلي أن ينحط فيصير خِصيًا.
من أجل الصداقة استدعى آخاب ميخا النبي غالبًا ما كان قد سجنه، وكما يقول يوسيفوس المؤرخ لأنَّه وبخه على دخوله في معاهدة مع بنهدد، أي قضى حوالي ثلاثة سنوات مسجونًا لكن لم يفارقه روح النبوَّة.
ترك آخاب قرابة 400 نبيًا منافقين في كمال حرِّيَّتهم وسجن رجل الله الوحيد. لقد أحبَّ النفاق فلم ينقصه وجود عدد كبير من المنافقين حوله، يتنبَّأون له بما يشتهيه هو لأجل مسرَّته. فمن السهل جدًا أن يجد القادة كمٌ من المنافقين حولهم يمجِّدونهم بكلمات معسولة ويشبعوا كبرياءهم، ولكن ما أقل الأمناء، فغالبًا ما لا يجدوا مكانًا وسط القيادات، وإن وُجدوا يُضطهدون.
ميخا النبي هنا هو ابن يمله وهو بخلاف ميخا النبي الذي سجَّل سفر ميخا والذي جاء بعده بحوالي قرنًا من الزمان.
“وكان ملك إسرائيل ويهوشافاط ملك يهوذا جالسين كل واحد على كرسيه،
لابسين ثيابهما في ساحة،
عند مدخل باب السامرة،
وجميع الأنبياء يتنبَّأون أمامهما” [10].
كان للملوك عروش متنقِّلة، تحمل إلى حيث يجلسون. فوضع العرشان في الساحة التي كانت ضخمة تتَّسع لحضور 400 نبيًا ولعدد كبير من الجمهور، وأن يُقام فيها سوق (2 مل 23: 8).
“وعمل صدقيا بن كنعنة لنفسه قرنيّ حديد وقال:
هكذا قال الرب بهذه تنطح الآراميِّين حتى يفنوا” [11].
قبل حضور ميخا النبي ظهر أحد الشخصيَّات القياديَّة بين الأنبياء الكذبة، وقلَّد ما يفعله الأنبياء الحقيقيُّون، يدَّعي صدقيا بن كنعنة. صنع لنفسه قرنين من حديد ونسب إلى الرب قولًا: “بهذا تنطح الآراميِّين حتى يفنوا”. يشير بهذين القرنين الحديديِّين عجز آرام عن مقاومة الملكين بجيوشهما.
كانت هذه القرون زينة عسكريَّة يستخدمها الآراميُّون وأحيانًا الإسرائيليُّون في الجيش، علامة تمتُّعهم بقوَّة لا يمكن مقاومتها. تشير القرون إلى البدء بالهجوم وتأكيد النصرة على العدو (تث 33: 17؛ مز 44: 5، ودا 8: 4).
اِدَّعى الأنبياء الأربعمائة بأنَّهم نالوا رسالة من السيِّد (أودناي)، أمَّا صدقيا فيدَّعي أنَّه يقدِّم رسالة من الرب (يهوه).
“وتنبَّأ جميع الأنبياء هكذا قائلين:
أصعد إلى راموت جلعاد، وافلح، فيدفعها الرب ليد الملك.
وأمَّا الرسول الذي ذهب ليدعو ميخا فكلَّمه قائلًا:
هوذا كلام جميع الأنبياء بفمٍ واحدٍ خير للملك،
فليكن كلامك مثل كلام واحد منهم وتكلَّم بخير” [12-13].
لماذا قدَّم الرسول هذه المشورة لميخا النبي؟
* ربَّما لأنَّه ظنّ أنَّه كسائر الأنبياء الكذبة يتَّفقون معًا لكي تكون الإجابة موحَّدة فيصدِّق الملك ما ينطقون به.
* ولعلَّه أراد أن يتظاهر بالحب له، فيخبره بما حدث، فيجد الفرصة لإرضاء الملك، ويُعتق من السجن.
* كان هناك اعتقاد سائد أن النبي ليس فقط ينطق بما يتكلَّم به الإله، بل هو شخص له سلطان على الله ليتمِّم ما يريده النبي (عد 24: 10، إش 30: 10).
“فقال ميخا: حيٌ هو الرب أن ما يقوله لي الرب به أتكلَّم” [14].
رفض ميخا النبي هذه المشورة مهما كلَّفه ذلك من ثمن. فإنَّه يبقى أمينًا لرسالته كنبي ينطق بما يعلنه له الرب.
“ولما أتى إلى الملك قال له الملك:
يا ميخا أصعد إلى راموت جلعاد للقتال أم نمتنع؟
فقال له: اصعد وافلح، فيدفعها الرب ليد الملك” [15].
واضح أنَّه قدم الإجابة بأسلوب فيه سخريَّة، كأنَّه يقول اصعد وانجح مادمت تظنّ هذا، وتطلب مني أن أقول هذا. نطق بما قاله الأنبياء الكذبة في تهكم. لم يقل: “هكذا قال الرب”، بل “اصعد وافلح، فيدفعها الرب ليد الملك (كما تتخيَّل)”. هكذا فهم الملك أنَّه يسخر حتى استحلفه أن يقول له الحق باسم الرب. يبدو أن ميخا استخدم هذه الوسيلة أكثر من مرة كما يظهر من الآية 16، وكأنَّه يقول له أن الوقت مقصر والظروف حرجة للغاية. لا يوجد وقت للسخريَّة، بل لتنطق بالحق.
“فقال له الملك:
كم مرة استحلفتك أن لا تقول لي إلاَّ الحق باسم الرب؟.
فقال: رأيت كل إسرائيل مشتَّتين على الجبال كخرافٍ لا راعي لها،
فقال الرب: ليس لهؤلاء أصحاب، فليرجعوا كل واحٍد إلى بيته بسلام” [16-17].
أول صورة صادقة قدمها له هي رؤيته للشعب الإسرائيلي كخراف على التلال مبعثرة بلا راعٍ. هوذا الملك يقتل فتَّتشتت الرعية (خر 34: 5، زك 13: 7). المعنى واضح، أنَّه لا مجال للحرب مع أرام! تشبيه الملك والشعب بالراعي والرعيَّة كان مشهورًا بين الإسرائيليِّين كما في صلاة موسى النبي (عد 27: 17).
لم يرَ الشعب يقتل ويذبح، وإنَّما رأى الملك قد مات والشعب مشتَّت، وهذا ما قد حدث، فإن كل طلبة ملك آرام هي قتل آخاب وحده [31].
5. روح الكذب يضلِّل آخاب:
“فقال ملك إسرائيل ليهوشافاط:
أمَا قلت لك أنَّه لا يتنبَّأ علي خيرًا بل شرًا” [18].
ظنّ آخاب أن ما نطق به ميخا النبي ليس من قبل الرب، بل من قبل قلبه المملوء حقدًا عليه. حاول أن يقنع يهوشافاط بأن ما تنبَّأ به الأربعمائة نبي وصدقيا بن كنعنة هو حق. وأن ما نطق به ميخا نابع عن عداء شخصي بينه وبين الملك. من يحمل في قلبه بغضة وحقدًا، يرى حتى في قلوب الأنبياء بغضة وحقدًا، يعكسون ما في داخلهم على الآخرين.
“وقال: فاسمع إذًا كلام الرب،
قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه،
وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره.
فقال الرب: من يغوي آخاب، فيصعد ويسقط في راموت جلعاد؟
فقال هذا هكذا وقال ذاك هكذا.
ثم خرج الروح ووقف أمام الرب وقال: أنا أغويه.
وقال له الرب: بماذا؟
فقال: أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه.
فقال: أنَّك تغويه وتقتدر، فأخرج وأفعل هكذا.
والآن هوذا قد جعل الرب روح كذب في أفواه جميع أنبيائك هؤلاء،
والرب تكلَّم عليك بشرٍّ” [19-23].
في هذه الرؤيا يؤكِّد ميخا النبي أنَّه وإن كان واقفًا أمام ملكين يحوط بهما 400 نبيًا كذابًا وجمهور من الشعب، فإنَّه يتمتَّع بالوقوف أمام الرب نفسه، ملك الملوك، الجالس على عرشه السماوي، يحيط به جند السماء عن يمينه ويساره. صاحب سلطان على ملوك الأرض. أنَّه يسمح بروح الأعداء أن يضلِّل الملك بسبب شرُّه.
* لا يخاف من ملوك أرضيِّين لأنَّه في حضرة ملك الملوك السماوي.
* يرى الجند السمائيِّين عن اليمين يرسلهم الرب للرحمة، وجنود عن اليسار يرسلهم للتأديب. كأنَّه يقول لهم لقد انتهى دور الرحمة أمام إصرارك على الشرّ، وجاء وقت التأديب.
* لله سلطان أن يقيم ممالك ويزيلها. يهب روح الحق والحكمة ويسمح أيضًا لروح التضليل أن يعمل في أبناء المعصية.
* لدى الله طرق كثيرة لتحقيق إرادته المقدَّسة، والسماح للشرّ أن يغوي الأشرار.
* أن الذين حوله من أنبياء إنَّما يحملون روح الغواية والتضليل.
هكذا قدَّم ميخا النبي لآخاب تحذيرًا خطيرًا، واضحًا ومفصَّلًا. لم ينشغل ميخا بالدفاع عن نفسه، وتأكيد أنَّه لا يحمل كراهيَّة لشخصيَّة للملك. إنَّما كشف بروح النبوَّة عن منظر سماوي، وهو أن الرب قد سمح بإغواء آخاب خلال روح الكذب، لأنَّه ترك الحق وطلب الكذب، فيشرب من الكأس التي ملأها.
الله في حبُّه يقدِّم روح الحق لطالبيه، أمَّا الذين يصرُّون على المقاومة فيعطيهم فرصًا كثيرة للتعرُّف على الحق، وأخيرًا يسمح لعدوّ الخير أن يغويهم ماداموا قد سلَّموا حياتهم وقلوبهم بين يديه.
6. ضرب ميخا النبي وسجنه:
“فتقدَّم صدقيا بن كنعنة، وضرب ميخا على الفك وقال:
من أين عبر روح الرب منِّي ليكلِّمك؟” [24]
لم يجسر آخاب الملك أن يضرب ميخا النبي، لكن صدقيا كرئيس للأنبياء الكذبة فعل هكذا كصاحب سلطان. اقترب صدقيا من ميخا بغيظ وضربه على وجهه ربَّما بكف يده أو بحذائه. فعل هذا في حضرة الملكين دون استئذان منهما. وقد سرّ آخاب بذلك، أمَّا يهوشافاط فلم يتكلَّم حاسبًا هذا ليس في سلطانه، لأنَّه ضيف. أمَّا ميخا فلم ينتقم لنفسه، وإنَّما أعلن له بأن الزمن سيكشف ما يفعله ويفضحه. لم يحتمل صدقيا كلمة الحق، فلطم ميخا على خدِّه، أمَّا ميخا فما كان يشغله هو إعلان كلمة الله والشهادة لها.
“من أين عبر روح الرب منِّي ليكلِّمك؟” يعني بهذا من أين لك أن تدَّعي بأن روح الرب قد عبر إليك؟ هل تركني وعبر إليك؟
“فقال ميخا: إنَّك سترى في ذلك اليوم الذي تدخل فيه من مخدعٍ إلى مخدعٍ لتختبئ” [25].
تنبَّأ له ميخا بأنَّه سينطلق من حجرة إلى حجرة ليختبئ من وجه إيزابل الملكة وأخزيا ابن الملك والشيوخ ورجال الدولة حينما يسقط آخاب في الحرب، ويكتشف الكل كذب صدقيا ورجاله، فيندم الكل أنَّهم لم يسمعوا لصوت الرب.
“فقال ملك إسرائيل:
خذ ميخا وردُّه إلى آمون رئيس المدينة، وإلى يواش ابن الملك.
وقل هكذا قال الملك:
ضعوا هذا في السجن، وأطعموه خبز الضيق وماء الضيق، حتى أتي بسلام” [26-27].
لم يأمر آخاب بإعادته إلى السجن فحسب، بل وأن يطعموه خبز الضيق وماء الضيق حتى يرجع من الحرب منتصرًا. حسب آخاب أن نصرته أكيدة لا جدال فيها. لقد نسي ما قاله لبنهدد حين افتخر عليه حاسبًا أن النصرة بين يديه: “لا يفتخرن من يشد كمن يحل” (1 مل 20: 11).
“فقال ميخا: إن رجعت بسلام فلم يتكلَّم الرب بي.
وقال: اسمعوا أيها الشعب أجمعون” [28].
7. الاشتباك العسكري:
“فصعد ملك إسرائيل ويهوشافاط ملك يهوذا إلى راموت جلعاد” [29].
من العجيب أن يهوشافاط التقي يصعد إلى راموت جلعاد مع آخاب ليحارب بعد سماعه تحذيرات ميخا النبي. يعلل البعض ذلك بأنَّه من أثر الصداقات الشرِّيرة والضغوط يضطرّ الإنسان أن يسير في الموكب الشرِّير. ويرى آخرون أن يهوشافاط أدرك من كلمات ميخا أن آخاب وحده دونه ودون الشعب هو المستهدف، فذهب إلى المعركة وهو مطمئن بأن آخاب سيُقتل، أمَّا هو فيعود سالمًا. لذلك عندما مال الآراميُّون لقتله صرخ بأنَّه ليس آخاب، فرجعوا عنه.
“فقال ملك إسرائيل ليهوشافاط:
إنِّي أتنكَّر وادخل الحرب،
وأمَّا أنت فألبس ثيابك.
فتنكَّر ملك إسرائيل ودخل الحرب” [30].
8. مقتل آخاب:
“وأمر ملك آرام رؤساء المركبات التي له الاثنين والثلاثين وقال:
لا تحاربوا صغيرًا ولا كبيرًا إلاَّ ملك إسرائيل وحده.
فلما رأى رؤساء المركبات يهوشافاط قالوا:
إنَّه ملك إسرائيل.
فمالوا عليه ليقاتلوه، فصرخ يهوشافاط” [31-32].
هرب يهوشافاط بعد أن نال جزاءً مرًا لتهاونه واشتراكه مع آخاب فيما حذَّره منه ميخا النبي. عند عودته إلى أورشليم أنصت إلى توبيخٍ قاسٍ من ياهو النبي (2 أي 19: 2).
“فلما رأى رؤساء المركبات أنَّه ليس ملك إسرائيل رجعوا عنه.
وأن رجلًا نزع في قوسه غير متعمِّد،
وضرب ملك إسرائيل بين أوصال الدرع.
فقال لمدير مركبته: ردّ يدك وأخرجني من الجيش، لأنِّي قد جرحت” [33-34].
تخفَّى آخاب وسط الجيش ليحارب، لكنَّه لا يقدر أن يختفي عن الله. ضربه جندي بقوسه عن غير عمد، فأصابه جرح قاتل أدى بحياته. لقد ُضرب الملك المتخفِّي ليس بمهارة ملك آرام ولا بقدرات جيشه، وإنَّما بسماح إلهي عجيب. ضرب الرجل المطلوب وبطريقة تُحقِّق نبوَّة إيليَّا النبي له وفي الموضع المناسب. لقد سمح الله لآخاب ألاَّ يموت فورًا حتى يتحقَّق بنفسه في اللحظات الأخيرة أن ما تنبَّأ به ميخا هو حق.
كانت أوصال الدرع في مصر تصنع من الكتَّان، وأيضًا في إسرائيل. فيما بعد صارت من المعدن (رؤ 9: 9). جاء في الفولجاثا أنَّها “بين الرئتين والمعدة”، أي في القلب.
“واشتد القتال في ذلك اليوم،
وأوقف الملك في مركبته مقابل آرام، ومات عند المساء،
وجرى دم الجرح إلى حضن المركبة.وعبرت الرنَّة في الجند عند غروب الشمس قائلًا:
كل رجل إلى مدينته، وكل رجل إلى أرضه” [35-36].
عند الغروب إذ مات آخاب لم يعد يطمع الشعب في استرداد راموت جلعاد، فصار نداء أن يرجع الإسرائيليُّون كل إلى بيته، وعاد الآراميُّون إلى منازلهم، ولم تستمر المعركة أكثر من نهارٍ واحدٍ.
“فمات الملك وأُدخل السامرة،
فدفنوا الملك في السامرة.
وغسلت المركبة في بركة السامرة،
فلحست الكلاب دمه،
وغسلوا سلاحه حسب كلام الرب الذي تكلَّم به” [37-38].
جاء في الترجمة السبعينيَّة أن الخنازير والكلاب لحست دمه والداعرات استحممن في البركة التي تسرَّب الدم إليها. يرى البعض أنَّه من علامات الخزي والاستهانة أنَّهم إذ غسلوا المركبة والسلاح من الدم فلحسته الكلاب، وتسلَّل بعض الدم إلى البركة بينما كنت النساء الداعرات يستحممن في البركة كمن هنَّ كنَّ في لهوٍ لا يبالين بالحدث. يقول يوسفوس المؤرِّخ أن بركة السامرة كانت موضع استحمام السامريَّات العاهرات.
“وبقيَّة أمور آخاب وكل ما فعل
وبيت العاج الذي بناه
وكل المدن التي بناها،
أما هي مكتوبة في سفر أخبار الأيَّام لملوك إسرائيل” [39].
بيت العاج: قصر ملكي بناه آخاب في السامرة، غشَّاه بالعاج. وقد تحدَّث عاموس النبي ضد هذا الترف الزائد (1 مل 3: 15). كان العاج يُستخدم بكثرة في العهد القديم في الأثاثات كما في الشبابيك والأبواب الخشبيَّة.
“فاضطجع آخاب مع آبائه،
وملك اخزيا ابنه عوضًا عنه” [40].
9. شخصيَّة يهوشافاط:
“وملك يهوشافاط بن آسا على يهوذا في السنة الرابعة لآخاب ملك إسرائيل.
وكان يهوشافاط ابن خمس وثلاثين سنة حين ملك،
وملك خمسًا وعشرين سنة في أورشليم،
واسم أمه عزوبة بنت شلحي.
وسار في طريق آسا أبيه لم يحد عنها،
إذ عمل المستقيم في عينيّ الرب،
إلاَّ أن المرتفعات لم تنتزع، بل كان الشعب لا يزال يذبح ويوقد على المرتفعات” [41-43].
سار في طريق أبيه آسا الصالح، وإن كان آسا قد تغرَّب قلبه عن الله في أيَّامه الأخيرة. كان يهوشافاط من أفضل ملوك يهوذا في التقوى كما في الغنى. عمل المستقيم في عينيّ الرب [43]، حفظ وصايا الرب وسلك في طريق أبيه الصالح دون انحراف. اشترك في الحكم مع أبيه، مع هذا فمن أخطائه أنَّه ترك المرتفعات. هدم تلك المرتفعات التي كانت تستخدم للأوثان، وترك تلك التي كانت تستخدم قبل بناء الهيكل، وكان يلزم إزالتها لأنَّه لم يعد يجوز تقديم ذبائح عليها، خاصة وأن أورشليم قريبة.
“وصالح يهوشافاط ملك إسرائيل” [44].
أقام صلحًا مع إسرائيل حيث تزوَّج ابنه يهورام بابنة آخاب وإيزابل، أي بعثليا (2 أي 18: 1). والعجيب أن السيِّد المسيح مخلِّص الخطاة جاء من نسلها، إذ جاء في سلسلة أنسابه يورام (مت 1: 8-9) حفيد ابنتها عثلْيا.
“وبقيَّة أمور يهوشافاط وجبروته الذي أظهره وكيف حارب،
أمَا هي مكتوبة في سفر أخبار الأيَّام لملوك يهوذا” [45].
كان قديرًا في الحروب.
“وبقيَّة المأبونين الذين بقوا في أيَّام آسا أبيه أبادهم من الأرض” [46].
نزع الفساد الأخلاقي، فمنع الشذوذ الجنسي بين الرجال (المأبونين) الذي كان أحد ملامح عبادة البعل.
“ولم يكن في أدوم ملِك ملَك وكيل.
وعمل يهوشافاط سفن ترشيش لكي تذهب إلى أوفير لأجل الذهب فلم تذهب،
لأن السفن تكسَّرت في عصيون جابر.
حينئذ قال أخزيا بن آخاب ليهوشافاط:
ليذهب عبيدي مع عبيدك في السفن.
فلم يشأ يهوشافاط” [47-49].
هذه العبارة لتوضيح أن يهوشافاط كان قادرًا على إعادة التجارة مع أوفير. تحالف مع أحزيا ملك إسرائيل لإعادة الأسطول البحري التجاري، وإذ انكسرت السفن في ميناء عصيون جابر لم يقبل يهوشافاط أن يكمل العمل في إصلاح السفن مرة أخرى.
“واضطجع يهوشافاط مع آبائه،
ودفن مع آبائه في مدينة داود أبيه،
فملك يهورام ابنه عوضًا عنه” [50].
10. أخزيا يخلُف والده آخاب:
“أخزيا بن آخاب ملك على إسرائيل في السامرة في السنة السابعة عشرة ليهوشافاط ملك يهوذا،
ملك على إسرائيل سنتين” [51].
مع قِصر مدَّة حكم أخزيا إلاَّ أنَّها كانت غاية في الشرّ. لم يحتفظ فقط بالوثنيَّة التي ادخلها يربعام، وإنَّما بعبادة البعل التي أدخلتها إيزابل. لقد سمع عن الخراب الذي حل ببيت يربعام ورأى والده قد دمَّره الأنبياء الكذبة ومع ذلك لم يتَّعظ.
“وعمل الشرّ في عينيّ الرب،
وسار في طريق أبيه وطريق أمه،
وطريق يربعام بن نباط الذي جعل إسرائيل يخطئ.
وعبد البعل وسجد له،
وأغاظ الرب إله إسرائيل حسب كل ما فعل أبوه” [53].
من وحي 1 مل 22
لأهرب من صداقة آخاب
* أعطى يهوشافاط الصالح ابنه لابنة آخاب.
انحدر ليقيم تحالفًا مع الملك الشرِّير.
يا له من إنسان غير حكيم!
هل من شركة للنور مع الظلمة؟
* يا له من ملك مسكين!
حقًا لم ينخدع البار بالأنبياء الكذبة،
بل طلب مشورة النبي الحقيقي.
لكن خلال الصداقة الشرِّيرة انحنى لمشورة الكذبة.
رأى بعينيه رجل الله يُهان ولم يتحرَّك.
دخل إلى الحرب وكاد أن يُقتل.
هذا هو ثمر الصداقة الشرِّيرة.
هب لي يا رب أن أهرب من مجلس الأشرار؟
* اتَّفق الأنبياء الكذبة الأربعمائة.
تكلَّموا كما بفم بروح الوحدة.
لكنَّها وحدة في الشرّ لا في الحق.
تكلَّم ميخا النبي مخالفًا الكل، لكن ثابت في الحق.
كان يكفيه أن يكون الرب في صفه.
ليضرب وليسجن، لكنَّه متهلِّل بالرب العامل فيه.
يموت آخاب الشرِّير ويتمجَّد الله في ميخا النبي.
هب لي يا رب أن اهتم بالوحدة مع اخوتي فيك.
لأرتبط بك حتى إن فارقني الكل.
* ماذا فعلت الخطيَّة بآخاب الشرِّير؟
استطاع أن يكسب يهوشافاط البار في صفه.
لكنَّه لم يستطع أن يجذب ميخا لحسابه.
جمع حوله أربعمائة نبي،
لكن روح الغواية سيطر عليهم وعليه.
* تهلَّل حين ضرب صدقيا الكاذب ميخا النبي دفاعًا عنه.
لكن لم يستطع أحد أن يحميه من سهم العدو؟
تخفَّى في المعركة كي لا توجَّه السهام ضدَّه.
لكنَّه ضُرب بسهمٍ لم يقصده ضاربه.
من يقدر أن يفلت من يد العدالة الإلهيَّة؟
* الملك الجبَّار قتل نابوت وورث.
الكلاب التي لحست دم نابوت انتظرت لتلحس دم صدقيا.
في مياه البركة التي تستحم فيها الزانيَّات تسلَّل دم الملك.
الذي فتح بيوت الزواني والمأبونين لحساب عبادة البعل،
صارت الزانيَّات يهزأن به، حين تسلَّل دمه إلى البركة.
كن تستأنفن من دمه المتسرِّب إلى البركة.
يسخرن به ولا تتحرَّك قلوبهن نحوه.
الجبار سافك دماء الأنبياء صار سخريَّة الزانيَّات.
يا له من عار وإهانة!
* هب لي يا رب أن أهرب من كل صداقة شرِّيرة.
هب لي أن أهرب من الخطيَّة،
فلا يقدر روح الغواية أن يقترب إليّ.
هب لي روح الحق، فأتمتَّع بالراحة الحقَّة.
انزع عنِّي كل عنف ونجاسة.
فلا تهلك نفسي ولا أصير في عارٍ.
- سفر الملوك الأول – أصحاح 22
- تفاسير أخرى لسفر الملوك الأول – أصحاح 22
تفسير ملوك الأول 21 | تفسير ملوك الأول القمص تادرس يعقوب ملطي |
مراجع |
تفسير العهد القديم |