تفسير سفر الملوك الأول 3 للقمص تادرس يعقوب ملطي

[ص3- ص4]

 “وعبدك في وسط شعبك الذي اخترته شعب كثير لا يُحصى ولا يُعد من الكثرة.

فأعطِ عبدك قلبًا فهيمًا لأحكم على شعبك،

وأُميِّز بين الخير والشرّ،

لأنَّه من يقدر أن يحكم على شعبك العظيم هذا؟”

(1 ملوك 3: 8-9)

اختيار سليمان للحكمة

حدَّثنا الأصحاح السابق عن استقرار الحكم بين يديّ سليمان. والآن يبدأ تاريخه كملك بزواجه من أميرة مصريَّة، مع تقديم ملاحظة عن حال المملكة في بداية حكمه [1-3]. يلي هذا تقديم ذبائح ممتزجة بالصلاة في جبعون كنوعٍ من تقديس الحكم، وطلب عون الرب وبركته [4]. ظهر الرب له وسأله عمَّا يطلبه [5-8]، فاختار سليمان الحكمة ولم يسأل مجدًا أو غنى [9-10]. أعطاه الله ما سأله وما لم يسأله [11-15]. ولكي يقدِّم دليلًا عمليًا على روح الحكمة أصدر حكمًا عادلًا أمام كل الشعب [16-28].

في جبعون حيث كانت خيمة العهد والمذبح النحاسي في ذلك الحين (1 أي 21: 29)، وهي تبعد حوالي عشرة أميال شمال غرب أورشليم، ومع كون التابوت في أورشليم [15]، اختار سليمان الحكمة لكي يحكم شعب. ُسر الله بذلك وكافأه بسخاء.

 

1. زواجه من أميرة مصريَّة:

إذ استقرَّ الحكم في يديه لم يضيِّع سليمان وقته في إقامة تحالف مع مصر، أخطر قوَّة عسكريَّة في ذلك الحين، لكنَّه استطاع أن يحقِّق ذلك بزواجه بابنة فرعون التي يبدو أنَّها قبلت عبادة الله الحيّ. وقد رحَّبت مصر بذلك، حيث شعرت بتزايد قوى إسرائيل، فكان من الجانب السياسي هذا الزواج يعطي استقرارًا للمملكتين.

يرى البعض أن سليمان قد أخطأ، وأنَّه لم يسمع للوصايا التالية: “احترز من أن تأخذ من بناتهم لبنيك، فتزني بناتهم وراء آلهتهنَّ، ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهنَّ” (خر 34: 16). “ولا تصاهرهم. بنْتك لا تُعطِ لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك، لأنَّه يرد ابنك من ورائي، فيعبد آلهة أخرى، فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا” (تث 7: 3-4). وعندما قام نحميا بإصلاح الشعب خاصم المتزوِّجين بالأشدوديَّات والعمونيَّات والموآبيَّات (نح 13: 23): هؤلاء الذين بسببهن فقدوا قدرتهم حتى على التكلُّم باللغة اليهوديَّة كما يجب. وقال لهم: “أليس من أجل هؤلاء أخطأ سليمان ملك إسرائيل، ولم يكن في أمم كثيرة ملك مثله، وكان محبوبًا إلى إلهه، فجعله الله ملكًا على كل إسرائيل؟ هو أيضًا جعَلته النساء الأجنبيَّات يخطئ، فهل نسكت لكم أن تعملوا كل هذا الشرّ العظيم بالخيانة ضدّ إلهنا بمساكنة نساء أجنبيَّات؟” (نح 13: 26-27).

غير أنَّه لم يكن الزواج بمصريَّة أمرًا يُخالف الشريعة التي تمنع الزواج من الكنعانيَّات (خر 34: 16؛ تث 7: 3)، بينما يسمح بزواج الأسيرة في الحرب (تث 21: 10 إلخ). لكن لكي يتحقَّق الزواج بروح الشريعة تلتزم العروس بجحد الأوثان والدخول في الإيمان بيهوه. واضح أن ابنة فرعون فعلت هكذا، إذ نجد سليمان في السنوات الأولى من حكمه يجحد الأوثان، كما لم نسمع عن دخول أيَّة عبادة مصريَّة وثنيَّة في أيَّام سليمان. وقد مُيّزت هذه الزوجة عن بقيَّة الزوجات الأجنبيَّات اللواتي جذبن سليمان إلى آلهتهن (11: 1).

لقد تمَّم زواجه السياسي ليتفرَّغ لبناء هيكل الرب وقصره وأسوار أورشليم وكل منشآته.

“وصاهر سليمان فرعون ملك مصر،

 وأخذ بنت فرعون،

وأتى بها إلى مدينة داود إلى أن أكمل بناء بيته وبيت الرب وسور أورشليم حواليها” [1].

أخطأ المؤرِّخ يوسيفوس اليهودي حيث كتب بأن ملك مصر هذا هو آخر ملك حمل لقب “فرعون”(24).

جاءت ابنة فرعون إلى مدينة داود، أورشليم، قبل الانتهاء من بناء الهيكل الذي كان في السنة الحادية عشرة من مُلكه (1 مل 6: 1، 37-38). مدينة داود قائمة على الجبل الشرقي أو صهيُّون الحقيقيَّة حيث أُقيم الهيكل عليه فيما بعد. وقد أقام لها بيتًا، إذ قيل: “وأمَّا بنت فرعون فأصعدها سليمان من مدينة داود إلى البيت الذي بناه لها، لأنَّه قال لا تسكن امرأة لي في بيت داود ملك إسرائيل، لأن الأماكن التي دخل إليها تابوت الرب إنَّما هي مقدَّسة” (2 أي 8: 11).

“إلاَّ أن الشعب كانوا يذبحون في المرتفعات،

لأنَّه لم يُبنً بيت لاسم الرب إلى تلك الأيَّام” [2].

المرتفعات: كانت الوصيَّة الإلهيَّة التي قدَّمها الرب بواسطة موسى النبي قبل دخولهم أرض الموعد هي: “تُخرِّبون جميع الأماكن حيث عبدت الأمم التي ترثونها آلهتها على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء… لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم. بل المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه فيه سكناه تطلبون، وإلى هناك تأتون، وتقدِّمون إلى هناك محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم ونذوركم ونوافلكم وأبكار بقركم وغنمكم” (تث 12: 2-7). جاءت الوصيَّة تؤكِّد ألاَّ يقدِّموا ذبائح إلاَّ عند باب الخيمة (لا 17: 3-5). فهل كان ذلك خطيَّة على الشعب أنَّه ذبح في المرتفعات؟

يرى البعض أن هذه الوصايا كانت إعدادًا لهم لكي يمارسوا العبادة المركَّزة في مكان معيَّن (هيكل سليمان) بعد بنائه، وأنَّه لا تحسب خطيَّة ممارسة العبادة الجماعيَّة وتقديم الذبائح في أي موضع قبل بناء الهيكل. الدليل على هذا عبادة يهوه في المرتفعات بعد أيَّام القضاة (قض 6: 25؛ 13: 16؛ 1 صم 7: 10؛ 13: 9؛ 14: 35؛ 16: 5؛ 1 أي 21: 26) دون الشعور بأيَّة خطأ من جانب من قدَّم الذبائح.

*     لقد قدَّم الآباء البطاركة والأنبياء والقضاة والملوك ذبائح على المرتفعات إلى أيَّام سليمان إذ لم يكن بعد قد بُنيَ الهيكل.

*     يرى البعض أن تعبير “المرتفعات” لا يعني جبلًا أو تلاًّ عاليًا، وإنَّما يُلقَّب به كل موضع تُقدَّم فيه الذبائح سواء كان جبلًا أو سهلًا.

*     ذبح سليمان ألف محرقة على المذبح في المرتفعة العظمى [4]، وقد ظهر له الرب يسأله أن يطلب شيئًا دون أن يُعلن غضبه على هذا التصرُّف.

*     أنشأ إبراهيم أب الآباء مذابح على الجبال (تك 12: 8؛ 22: 2).

*     ما كان يشغل ذهن داود الملك هو ممارسة العبادة أمام تابوت العهد الذي لم يكن بعد قد استقرَّ في موضع معيَّن، دون الارتباط بجبل أو مكان مرتفع.

“وأحبَّ سليمان الرب سائرًا في فرائض داود أبيه،

إلاَّ أنَّه كان يذبح ويوقد في المرتفعات” [3].

دُعي سليمان “يديديا” (2 صم 12: 24)، أي محبوب الرب، الآن نراه يرد الحب بالحب. كما أنَّه محبوب الرب فالرب محبوب جدًا لديه. وقد ترجم هذا الحب بسيْره في فرائض الرب كما سلك أبوه فيها وأوصاه بحفظها (1 مل 2: 2-3؛ 1 أي 28: 9-10).

مع محبَّة سليمان الملك لله لكنَّه أخطأ بتقديمه ذبائح وإيقاد بخور في المرتفعات. لقد ارتبطت العبادة الوثنيَّة بالمرتفعات لذلك مَنعت الشريعة ذلك (لا 17: 3-4؛ تث 12: 13-14؛ إر 7: 31؛ حز 6: 3-4؛ هو 10: 8).

طلب سليمان من الرب أن يهبه قلبًا مطيعًا وحكمة ليقود شعب الله، معترفًا بأنَّه شاب قليل الخبرة بينما كانت مسئوليَّات الحكم عظيمة وخطيرة، لكي يقدر أن يُميِّز بين ما هو صالح وما هو شرِّير.

*     إن كان داود صديق الله، وسليمان الذي أحب الله [3] قد غُلبوا كسائر البشر، فإن سقوطهم يعني تحذيرنا، وتوبتهم تقودنا إلى الخلاص، فمن في هذه الحياة المخادعة يقدر أن يؤكِّد عدم سقوطه؟!(25)

القديس جيروم

2. ظهور الرب لسليمان:

“وذهب الملك إلى جبعون ليذبح هناك،

لأنَّها هي المرتفعة العظمى،

وأصعد سليمان ألف محرقة على ذلك المذبح” [4].

إذ قدَّم الله الكثير لسليمان ردَّ له من الكثير القليل، وهو ألف محرقة.

ربَّما يتساءل: أليس في هذا تبديد للموارد الحيوانيَّة؟

أمَا كان يمكن تقديم هذه الذبائح للفقراء؟

هذا هو المنطق البشري المادي، الذي يرى في الصلاة ضياعًا للوقت، وفي العبادة تبديدًا للموارد. إنَّهم لا يدركون قيمة الحب المشترك المتبادل بين الله والإنسان. هذا الحب لا يمكن تقديره بثمنٍ ما!

تقديم ألف محرقة على مذبح واحدٍ في يومٍ واحدٍ يحمل معانٍ كثيرة:

*     رقم 1000 يُشير إلى الروحيَّات والسماويَّات، فالألف محرقة تُشير إلى تقديم ذبيحة القلب الروحاني السالك في السماويَّات.

*     حرق كل هذا العدد في يومٍ واحدٍ يُشير إلى عمل الله النار الآكلة. إنَّه يحل علينا كمذبحٍ خاصٍ به ليلتهم بناره تقدمات الحب المرضيَّة والمقبولة لديه.

*     إن كانت ذبيحة المحرقة تُشير إلى اِلتهاب القلب كلُّه بنار المحبَّة، فإن كثرة هذه الذبائح يُشير إلى عطش الله إلى محبَّتنا المستمرَّة.

قدَّم سليمان الحيوانات، وقام الكهنة بذبحها وتقديمها على المذبح (1 مل 8: 5).

يرى البعض أن تقديم ألف محرقة على مذبحٍ واحدٍ وهو مذبح موسى النبي، وكان لا بُد من ترك الذبيحة تُحرق بالكامل، هذا يتطلَّب عدَّة أيَّام. قدَّم الملك الحيوانات واستمرَّ الذبح أكثر من يوم والنار حسب الشريعة لا تنطفئ قط، بل تبقى مستمرَّة نهارًا وليلًا.

 

جبعون:

مدينة قائمة على تل، نالت شهرتها من إقامة خيمة الاجتماع القديمة ووضع المذبح النحاسي الذي صنعه موسى النبي في البريَّة فيها (1 أي 16: 39؛ 21: 29؛ 2 أي 1: 3-6)، حيث نُقل من نوب ووضع في المرتفعات، هناك دعيت “نوب”، وأُقيم على المرتفعات المدعوَّة مصفاة النبي صموئيل. يبلغ ارتفاع هذا التل حوالي 500 إلى 600 قدمًا، وهو أعلى نقطة في المنطقة المحيطة به، يبعد حوالي ميل واحد من جبعون.

“في جبعون تراءى الرب لسليمان في حلم ليلًا.

وقال الله: اسأل ماذا أعطيك” [5].

كنا نتوقَّع من استلام شاب صغير كسليمان للمملكة أن يجمع بعض رجال الدولة المحيطين به ويبدأ بالعمل التنظيمي لتدبير كل الأمور. لكن سليمان جعل الله  أولًا قبل أن يفكِّر في شئون دولته ويمد يده للعمل. انطلق إلى حيث مذبح الرب ليقضي نهاره وليله هناك، يتعبَّد لله ويقدِّم ذبائح ويسأله بكل غيرة وحماس الحكمة الإلهيَّة، لهذا تأهَّل سليمان لرؤية الرب في حلمٍ.

في جبعون حيث المرتفع العالي، وحيث توجد خيمة الاجتماع والمذبح النحاسي (2 أي 1: 3). هناك حيث قدَّم سليمان محرقات كثيرة، ظهر له الرب. يشتاق الله أن يتراءى لكل شخصٍ، فمن جانبه هو مستعد لإعلان حضرته لمؤمنيه. بقي علينا من جانبنا أن نُعطي لله الأولويَّة في حياتنا، فلا نرتبك بشؤوننا اليوميَّة، إنَّما نصعد أولًا كما إلى جبعون لنقضي نهارنا وليلنا معه! نجده نازلًا إلينا ليتجلَّى في قلوبنا، ويتحدَّث معنا، معلنًا سخاءه العجيب وشوقه أن يهبنا ذاته.

لنصعد بروح الله القدُّوس إلى جبعون الروحيَّة، فترتفع قلوبنا إلى السماء، ولا يستطيع وحل هذا العالم أن يطمس عيوننا فلا تعاين ذاك الذي يتنازل ليتجلَّى أمامها.

في جبعون حيث المرتفعات العالية نقدِّم محرقات ثمينة في عينيّ الله.  فكما قدَّم مسيحنا ذبيحة حب من أجلنا ليصالحنا مع أبيه السماوي، ننعم بكرامة تقديم حياتنا ذبيحة عقليَّة مرضيَّة أمامه (رو 12: 1). نشتهي أن يلتهب كياننا كلُّه بالنار الإلهيَّة كما على مذبح سماوي، فنصير محرقة حب مفرحة للسماويِّين!

إذ ننشغل طول النهار بحب الله الفائق، أينما وجدنا، حيث يكون قلبنا مرتفعًا في جبعون يتراءى الله لنا ليلًا. في وسط هدوء الليل وسكونه يتطلَّع الله إلى القلب المؤمن ويقدِّسه ببرِّه الإلهي. فيقول المؤمن مع داود النبي: “عيناك تنظران المستقيمات. جرَّبت قلبي، تعهَّدته ليلًا، محَّصْتني. لا تجد فيَّ ذمومًا. لا يتعدَّى فمي” (مز 17: 2-3).

 في هدوء الليل تصمت حواس الإنسان وتهدأ ليتراءى الله للعقل ويتحدَّث معه. يقدِّم لنا مار اسحق خبرته الحيَّة فيقول: [سكِّت لسانك فيتكلَّم قلبك، وسكِّت قلبك فيتكلَّم الله].

ظهر الرب لسليمان في حلم… وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص عن أنواع الأحلام المختلفة: [إن أعضاءنا والمخ أشبه بآلة موسيقيَّة وتَرِيَّة. أثناء ساعات النهار يلعب العقل على هذه الأوتار فتقدِّم لنا سيمفونيَّة متناسقة رائعة. وإذ ننام لا تعود هذه الآلة قادرة على إصدار صوتٍ ما، اللهم إلاَّ إذا عادت ذكريات اليوم وقدَّمت ذاتها للعقل ونحن نيام، فتخرج حلمًا. وذلك كما تصدر الأوتار أصواتًا هادئة بعد أن تتوقَّف يد الموسيقار عن لمس الأوتار مباشرة(26)].

“قال اللهاسأل ماذا أُعطيك” [5]. إن كان سليمان قد انشغل طوال يومه بالصلاة مع تقديم الذبائح، وكان يطلب من الله الحكمة، فلماذا يسأله الله: “اسأل، ماذا أُعطيك؟” كان سليمان طوال يومه يقدِّم أوانيه الفارغة لكي يملأها الله من زيت السماء، وها هو يسأله قبل العطاء مباشرة ليؤكِّد له حريَّة إرادته، ينعم بما يطلبه قلبه، وليس قهرًا من قِبل الرب. لهذا يقول السيِّد المسيح: “إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي، اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملًا” (يو 16: 24). ويقول يوحنا الرسول: “وهذه هي الثقة التي لنا عنده إن طلبنا شيئًا حسب مشيئته يسمع لنا” (1 يو 5: 14).

ليس من موضوع يشغل ذهن أولاد الله الذين التهبت قلوبهم بالحب الإلهي مثل التمتُّع برؤية الله. فقد بدأ موسى في العهد القديم خدمته برؤية الله خلال العلِّيقة الملتهبة نارًا، كما كان يرى الله عمليًا خلال معاملاته معه كل يوم في حياته الشخصيَّة وفي خدمته وسط الشعب. تمتَّع بالمجد الإلهي الذي أشرق على وجهه فصار مضيئًا ولم يحتمل الشعب أن ينظر إليه، فطلب منه أن يضع برقعًا على وجهه حين يتحدَّث معهم، وينزعه حين يدخل الخيمة ويلتقي مع الله. تمتَّع موسى باللقاء مع الله على جبل سيناء، ومع هذا كانت طلبته الأخيرة: “أرني وجهك”. هذه الطلبة التي تحقَّقت له بصورة رائعة بعد حوالي ألفين عامًا حين ظهر إيليا مع موسى ليُعاينا السيِّد المسيح المتجلِّي على جبل تابور ويتحدَّثان معه.

تمتَّع أيضًا سليمان الحكيم برؤية الله مرَّتين: بعد تجليسه ملكًا وعند تدشين الهيكل.

هكذا لن ييوقَّف عطش المؤمن الحقيقي عن رؤية الله بكل وسيلة ليتمتَّع باللقاء مع محبوبه السماوي وجهًا لوجه. هذه الرؤية وهذا اللقاء لن يحدث في الحياة العتيدة فحسب، بل هي امتداد لحياة مُعاشة يختبرها المؤمن كل يوم.

يميِّز القدِّيس إيريناؤس بين ثلاثة أنواع من الرؤى، وإن كانت كل منها مشتملة في الأخريَّتين.

  1. الرؤية النبويَّة خلال الروح القدس. كالرؤية التي تقبَّلها موسى النبي على الصخرة إشارة إلى رؤيته خلال التجسُّد (صخرة مجيئه البشري). وهي رؤيا رمزيَّة، لا يرى وجه الله الحقيقي بل يظهر لهم بطريقة سرائريَّة حيث يبدأ الإنسان يرى الله. لقد طلب موسى النبي رؤية أوضح، تحقَّقت له حين ظهر مع إيليا على جبل تابور(27). التي تحقَّق كمال الرؤية التي على جبل سيناء على جبل تابور.
  1. رؤية التبنِّي خلال الابن المتجسِّد.
  2. رؤية الآب في ملكوت السموات، في الحياة الأخرى، أو الرؤية الإسخاتولوجيَّة.

“فقال سليمان: أنك قد فعلت مع عبدك داود أبي رحمة عظيمة،

حسبما سار أمامك بأمانة وبرّ واستقامة قلب معك،

فحفظت له هذه الرحمة العظيمة،

وأعطيته ابنًا يجلس على كرسيه كهذا اليوم” [6].

إذ طلب منه الرب أن يسأل فيعطيه بدأ بتقديم الشكر لله على عطاياه لأبيه، حاسبًا ما قدَّمه الله لسليمان إنَّما هو عطيَّة إلهيَّة مقدَّمة لداود أبيه صاحب القلب المستقيم. لقد ورث سليمان عن أبيه الفم المبارك لله على عطاياه. فنسمع داود النبي يقول: “مبارك الرب إله إسرائيل الذي أعطاني اليوم من يجلس على كرسي، وعيناي تبصران” (1 مل 1: 48). صارت تجري في عروقه مباركة الرب على عطاياه. فيباركه ليس فقط في ساعات النهار، وإنَّما ينبض قلبه بالبركة وهو في أحلامه ليلًا. يقول مع أبيه داود: “أبارك الرب الذي نصحني، وأيضًا بالليل تنذرني كليتاي” (مز 16: 7).

في وقارٍ شديدٍ تحدَّث سليمان مع الله عن أبيه، ساترًا على أخطائه مثل سيِّده، قائلًا: “سار أمامك بأمانةٍ وبرٍ واستقامة قلبٍ معك“. وتحدَّث بقلب يفيض شكرًا وحمدًا لله الذي أظهر رحمته العظيمة مع عبده داود. هكذا يليق بنا أن نشكره ونسبِّحه من أجل معاملاته مع آبائنا وأمَّهاتنا وكل الأجيال السابقة.

“والآن أيُّها الرب الهي، أنت ملكت عبدك مكان داود أبي،

وأنا فتى صغير لا أعلم الخروج والدخول” [7].

بعد أن بارك الله على عطاياه لأبيه بأن أقام ابنه ملكًا في تواضعٍ شديدٍ أعلن أنَّه كطفلٍ صغيرٍ لا يقدر أن يخرج أو يدخل دون معونة. إنَّه كمن يتدرَّب على المشي يحتاج إلى يدٍ تمسك بيده وتقوده. حسب نفسه طفلًا بلا فهمٍ ولا خبرةٍ هذا الذي دعاه والده حكيمًا (1 مل 2: 9).

3. اختيار سليمان للحكمة:

“وعبدك في وسط شعبك الذي اخترته،

شعب كثير لا يُحصى ولا يَّعد من الكثرة.

فأعطِ عبدك قلبًا فهيمًا لأحكم على شعبك،

وأُميِّز بين الخير والشرّ،

لأنَّه من يقدر أن يحكم على شعبك العظيم هذا؟” [8-9].

لم يقل سليمان “شعبي” بل “شعبك“، فهو ليس بالملك الحقيقي، وإنَّما ممثِّل له. إنَّه سفير لملك الملوك يعمل وسط شعب الله، لا شعبه هو. إن كان هذا الشعب قد اختاره الرب، والملك اختاره الرب، إذن فالعامل هو الرب نفسه المهتم بشعبه كما بعبده الذي أقامه لخدمتهم. إنَّه عبد الرب المحتاج إلى فهم وحكمة لخدمة شعب سيِّده. لقد أدرك أن “الرب يُعطي حكمة، من فمه المعرفة والفهم” (أم 2: 6). وكما يقول الرسول: “إن كان أحدكم تُعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يُعطي الجميع بسخاء ولا يُعيّر فسيُعطى له” (يع 1: 5).

الله هو ينبوع كل حكمة ومعرفة وفهم. والحكماء والفهماء الحقيقيُّون هم قنوات يفيض خلالها الله بالحكمة على كثيرين كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم(28): [الحكمة الإلهيَّة هي مجن لأُناس الله الذين يسلكون باستقامة، أو معِين لهم لنوال النصرة. فإنَّنا إذ نتمسَّك بالحكمة ونحفظها، تتمسَّك هي بنا وتحفظنا]. ويقول القدِّيس إكليمنضس السكندري: [بالنسبة للذين يتبرَّرون بالفلسفة، تقودهم المعرفة إلى التقوى كمُعين لهم(29)].

لم يطلب الحكمة بوجه عام لكي يفتخر بها أو يفوق الآخرين، وإنَّما لخدمة شعب سيِّده بروح التقوى، ويقضي بينهم بروح العدالة. كان الملك في القديم قاضيًا للشعب، خاصة في الأمور الكبيرة.

*     الإيمان الحقيقي والتعليم الصادق يُعلنان أن كلًا من النعمتين هي من الله. يقول الكتاب المقدَّس: “من وجهه المعرفة والفهم“، وفي سفر آخر يقول: “المحبَّة هي من الله” (1 يو 4: 7)(30).

*     “الرب يُعطي حكمة، من فمه المعرفة والفهم” (أم 3: 6). منه ينالون الرغبة ذاتها نحو المعرفة، إذا ما تلاحمت (تزوَّجت) بالتقوى(31).

القديس أغسطينوس

“فحسُن الكلام في عينيّ الرب،

لأن سليمان سأل هذا الأمر” [10].

جاءت طلبة سليمان من الله في حلم، كشفت عمَّا في أعماق قلبه من روح الشكر لله، والوقار لوالده، والتواضع، وشهوة خدمة شعب الله بأمانة وحكمة. لهذا سُرّ الله به، وبما يحمله من إرادة مقدَّسة. وجد الله مسرَّته في قلب سليمان وفكره وإرادته. سُرّ بتقدماته الصادرة عن نقاوة قلبه، وصلواته نهارًا، وطلباته ليلًا حتى في أحلامه.

نال سليمان عطيَّة القلب الحكيم، وتجلَّت حكمته في الآتي:

*     سأل الله ليعطيه فهم قلب يحكم به الشعب (3: 9).

*     حمل بصيرة داخليَّة بروح التمييز (3: 16-28).

*     فاق غيره من الحكماء (4: 29-31).

*     نطق بأمثال وحِكم، وضع 3000 مثلًا (4: 32)، و1005 نشيدًا (4: 32) من بينها المزموران (72، 127). جاء إليه البعض من أنحاء العالم ليسمعوا حكمته، من بينهم ملكة سبأ (10: 1-9). كثير من الأمثال القديمة في إسرائيل وإثيوبيا والعربيَّة يرجع أصلها إلى سليمان الحكيم.

*     بحكمة وقف أمام الهيكل (5-6).

*     بحكمة قدَّم صلاة التدشين (8: 22-53).

*     وضع بإعلان الروح القدس أسفار الأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد.

*     أوضّح أنَّه صاحب معرفة في أمور علميَّة كثيرة، مثل علم النباتات والحيوان والأسماك (4: 33؛ أم 30: 24-31؛ جا 2: 4-6).

*     في القضاء حكم في قضيَّة السيِّدتين اللتين ادعتا أنَّهما والدتان لطفلٍ ما (3: 16-28).

لكن ما أفسد حكمته هو:

  1. الحياة المدلَّلة المبالغ فيها (4: 22، 32؛ 10: 21).
  2. تزوُّجه الوثنيَّات (11: 1-2؛ نح 13: 23-26).
  3. حساسيَّته المبالغ فيها (11: 3).
  4. انحرافه إلى الوثنيَّة (11: 4-10).
  5. كان يصنع ما يحسن في عينه (11: 33).
  6. ظلمه للشعب (12: 4).

“فقال له الله:

من أجل أنَّك قد سألت هذا الأمر ولم تسأل لنفسك أيَّاما كثيرة،

ولا سألت لنفسك غِنى،

ولا سألت أنفس أعدائك،

 بل سألت لنفسك تمييزًا لتفهم الحكم.

هوذا قد فعلت حسب كلامك،

هوذا أعطيتك قلبًا حكيمًا ومميِّزًا حتى أنَّه لم يكن مثلك قبلك،

ولا يقوم بعدك نظيرك [11-12].

سأل سليمان لنفسه الحكمة أو التمييز ليفهم الحكم، أي طلب الحكمة العمليَّة التي خلالها يمارس الحياة اللآئقة بالمؤمن. وهبه الله الحكمة العقليَّة والعمليَّة، حتى لم يكن من هو مثل سليمان، ولا من يأتي بعده مثله، حتى يأتي من هو أعظم من سليمان (مت 12: 42؛ لو 11: 31).

*     الآن إذ كان الابن الحكيم لأب حكيم، لهذا أضيف اسم داود الذي ولد منه سليمان وهو طفل تعلَّم في الكتب المقدَّسة، ونال سلطانه لا بالقرعة ولا بالقوَّة بل بحكم الروح وقانون الله.

لمعرفة حكمة وأدب (أم 1: 2) من يعرف حكمة الله يتقبَّل منه أيضًا الأدب. ويتعلَّم بها أسرار الكلمة. ومن يعرفون الحكمة السماويَّة الحقَّة بسهولة يفهمون كلمات هذه الأسرار. لذلك يقول: “لإدراك صعوبة الكلمات” (أم 1: 2). فإن الأمور التي ينطق بها بلغة غريبة بالروح القدس تصير مدركة للذين لهم قلوب مستقيمة بالرب(32).

القديس هيبوليتس

“وقد أعطيتك أيضًا ما لم تسأله غِنى وكرامة،

 حتى أنَّه لا يكون رجل مثلك في الملوك كل أيَّامك” [13].

إذ نطلب ملكوت الله وبرّه يُزاد عليها كل البركات الزمنيَّة من أمور ماديَّة وكرامة حقيقيَّة (مت 6: 33). إذ نطلب من الله نعمته الفائقة يهبنا مع النعمة السماويَّة احتياجاتنا الزمنيَّة. فإنَّنا إذ ننعم بالنعمة الإلهيَّة تصير كل الخيرات الأرضيَّة لخيرنا، أمَّا بدون النعمة فإن هذه الخيرات تستعبد نفوسنا.

“فإن سلكت في طريقي وحفظت فرائضي ووصاياي كما سلك داود أبوك،

فإنِّي أطيل أيَّامك” [14].

وعده الله بإطالة أيَّامه بشرط السلوك في طريقه وحفظ فرائضه ووصاياه كما فعل أبوه داود. لم يحقِّق سليمان الشرط، فمات قرابة التسعة وخمسين عامًا أو بالأكثر في الستين من عمره.

*     إذ طلب سليمان ما يجب طلبه أنظر كيف نال بسرعة. أمران يجب أن يكونا في من يصلِّي: أن يطلب بغيرة، ويسأل ما يجب طلبه(33).

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فاستيقظ سليمان

 وإذا هو حلم.

وجاء إلى أورشليم،

ووقف أمام تابوت عهد الرب، وأصعد محرقات وقرَّب ذبائح سلامة،

وعمل وليمة لكل عبيده” [15].

إذ أتم سليمان الخدمة الروحيَّة في جبعون حيث توجد خيمة الاجتماع انطلق إلى المركز الثاني للعبادة، أورشليم، حيث تابوت العهد في جبل صهيُّون (2 صم 6: 13). لقد أقام وليمة عظيمة مع تقديم ذبائح سلامة. مع المحرقات التي قدِّمت في جبعون قدِّمت الذبائح لتستهلك كلُّها بالنار علامة تكريس القلب كلُّه لله. وفي ذبائح السلامة يُعطي نصيب من اللحم للآويِّين والغرباء والأيتام والأرامل (تث 14: 29). علامة الارتباط بالحياة الكنسيَّة العمليَّة والعطاء والاهتمام بالمحتاجين.

استيقظ سليمان وقد رأى حلمًا من قِبل الله، تمتَّع بإعلانٍ إلهي من قِبل الله، أو بظهور إلهي في حلمٍ. قام سليمان من نومه متهلِّلًا بالروح فقد رأى الرب، وتلامس مع محبَّته وحنانه. اشتهى سليمان أن يتمتَّع كل الشعب بهذا الفرح الداخلي، فأقام لهم وليمة روحيَّة عظيمة. القائد الحيّ هو الذي يتمتَّع بالفرح بالرب ويبث روح الفرح في إخوته.

بدأ سليمان يمارس القضاء بالقلب الحكيم الذي وهبه الله، فنال مخافة لدى الشعب، هي انعكاس للمجد الذي وعده الله به.

4. حكمة سليمان:

“حينئذ أتت امرأتان زانيتان إلى الملك ووقفتا بين يديه.

فقالت المرأة الواحدة:

استمع يا سيِّدي، إنِّي أنا وهذه المرأة ساكنتان في بيتٍ واحدٍ،

وقد ولدتُ معها في البيت.

وفي اليوم الثالث بعد ولادتي ولدت هذه المرأة أيضًا،

وكنَّا معًا ولم يكن معنا غريب في البيت غيرنا نحن كلتينا في البيت” [16-18].

بناء على طلب روفينوس الكاهن الروماني (بخلاف روفينوس أسقف Aquileia وروفينوس السرياني) بعث القديس جيروم إليه رسالة يشرح في شيء من الإطالة هذه القصَّة بمفهومها الرمزي بكونها أشبه بمثل يميِّز بين المجمع اليهودي والكنيسة(34).

“فمات ابن هذه في الليل لأنَّها اضطجعت عليه.

فقامت في وسط الليل، وأخذت ابني من جانبي وأمتك نائمة،

وأضجعته في حضنها وأضجعت ابنها الميِّت في حضني.

فلما قمت صباحًا لأرضع ابني إذا هو ميِّت،

ولمَّا تأمَّلتُ فيه في الصباح إذا هو ليس ابني الذي ولدته.

وكانت المرأة الأخرى تقول: كلاَّ بل ابني الحيّ وابنك الميِّت.

وهذه تقول: لا بل ابنك الميِّت وابني الحيّ،

وتكلَّمتا أمام الملك.

فقال الملك” هذه تقول هذا ابني الحيّ وابنك الميِّت،

وتلك تقول لا بل ابنك الميِّت وابني الحيّ” [19-23].

كانت كل الأنظار تتطلَّع إلى سليمان لترى كيف يحكم، ربَّما توقَّعوا إنَّه يُلقي قرعة ليعرف من هي الأم الحقيقيَّة.

“فقال الملك آتوني بسيف،

فأتوا بسيف بين يديّ الملك” [24].

يرى القديس أمبروسيوس أن سليمان الحقيقي هو السيِّد المسيح الذي بسيف كلمته يقسم، يعزل الشرّ عن الخير(35). يرى أنَّه من حق السيِّد المسيح وحده، يشوع الحقيقي، أن يقسِّم أرض الموعد على الأسباط، وأنَّه وحده، سليمان الحقيقي، أن يفصل الكلمة بسيف الروح ويقسمها، فيقول: [كان حق التقسيم خاص بالرب وحده، ويُعبِّر عن هذا بعبارات الكلمة، أي بالسيف الروحي الذي لسليمان الحقيقي(36)].

“فقال الملك: اشطروا الولد الحيّ اثنين،

وأعطوا نصفًا للواحدة ونصفًا للأخرى.

فتكلَّمت المرأة التي ابنها الحيّ إلى الملك،

لأن أحشاءها اضطرمت على ابنها،

وقالت: استمع يا سيِّدي أعطوها الولد الحيّ ولا تميتوه.

وأمَّا تلك فقالت: لا يكون لي ولا لكِ، اشطروه”.

“فأجاب الملك وقال: أعطوها الولد الحيّ ولا تميتوه فإنَّها أمُّه” [25-27].

حينما أمر الملك بشطر الطفل غالبًا ما اضطرب كثيرون في داخلهم وحسبوا قراره غريبًا وغير حكيم، يحمل وحشيَّة، إذ يُقتل طفل لا ذنب له. وربَّما تساءلوا في أعماقهم: هل هذه هي حكمة الملك الجديد المختار من الله؟ هل هذا ما تسلَّمه من الله عندما ظهر له في حلم؟ لقد جاء في الشريعة: “إذا نطح ثور إنسان ثور صاحبه فمات يبيعان الثور الحيّ ويقتسمان ثمنه، والميِّت أيضًا يقتسمانه” (خر 21: 35). إن كان هذا بالنسبة للثور النطّاح، فكيف يأمر الملك ببتر الطفل الحيّ فيموت ولا تناله هذه ولا تلك؟ لكنَّه إذ أصدر الحكم بعد أن أعلن عن الأم الحقيقيَّة أدرك الكل حكمته، وأن “قلوب الملوك لا تُفحص” (أم 25: 3).

لقد التهب قلب الأم الحقيقيَّة على ابنها وطلبت تسليم ابنها للسيِّدة الأخرى المقاومة لها ولا تراه مقتولًا، كأنَّها تقول له: “أود أن أراه ابنها عن أن لا أراه. وكأنَّه كان لديها رجاء أن تتمتَّع به. وكما قيل: “يوجد رجاء لآخرتك يقول الرب، فيرجع الأبناء إلى تخمهم” (إر 31: 17).

يرى القديس أمبروسيوس أن سليمان الحقيقي اختار الكنيسة التي حمل لها حبًا حقيقيًا بروح التمييز(37). وأن هذه السيِّدة التي لها الابن هي القدِّيسة مريم التي اجتاز في نفسها سيف الله(38).

“ولما سمع جميع إسرائيل بالحكم الذي حكم به الملك خافوا الملك،

لأنَّهم رأوا حكمة الله فيه لإجراء الحكم” [28].

ينقل لنا الأب قيصريوس أسقف آرل تفسيرًا آبائيًا لقصَّة سليمان الحكيم والزانيتين، قائلًا:

[الآن إن أردتم أن تنصتوا باختياركم فإنِّي أود أن أشير إلى آذان محبَّتكم ما أوضحه الآباء القدِّيسون في هذا الشأن.

المرأة التي صرخت بأن يبقى الطفل حيَّا تمثِّل الكنيسة الكاثوليكيَّة (الجامعة)، والمرأة الأخرى القاسيَّة الشرِّيرة التي صرخت إنَّه يجب أن يقَّسم الطفل تُشير إلى البدعة الأريوسيَّة.

الكنيسة الكاثوليكيَّة تشبه أُمًّا تقيَّة للغاية تصرخ أمام كل الهراطقة:

لا تجعلوا المسيح أقل من الآب، لا تقسموا وحدته، لا تقسموا الله الواحد إلى درجات مختلفة وأشكال متفاوتة…

احتفظوا به معكم بالكامل.

إن أردتم سلامًا، فلا تقسموا وحدته.

إن كان لكم الكل يبقى كل شيء لكم.

عظيمة هي كليَّة قدرته، إذ الجميع يملكونه بالكامل، وكل واحدٍ يملكه.

على أي الأحوال فإن الهرطقة الشرِّيرة القاسيَّة تصرخ: “لا، اشطروه” [26] ماذا يعنى هذا: “اشطروه“، إلاَّ أن الابن غير مساوٍ للآب؟ إن نزع أحد مساواة الابن ينكر أن الآب صالح وكلِّي القدرة.

إن كان الله الآب قادر أن يلد الابن مثله ولم يرد فهو ليس بصالحٍ، وإن أراد ولم يستطع فهو غير قدير. تأكَّدوا يا اخوة أنَّه ليس أحد من الأريوسيِّين يقدر أن يجيب على هذه العبارة، لكن عندما يحصرون بالمنطق الحقيقي يلجأون كحيَّة مراوغة إلى نوع من التساؤلات البارعة والملتويَّة(39).

[لتخجلي في عار أيَّتها البدعة الأريوسيَّة العنيفة والشرِّيرة…

إنَّكم أشرار لأنَّكم لستم أمًا.

إنَّكم تشطرون المولود وتجمعون ما لم تجلبوه.

صار قلبكم قاسيًا(40)…].

 

من وحي 1 ملوك 3

هبني ذاتك يا حكمة الله!

 

*     في جبعون ذبح لك سليمان ألف محرقة.

هب لي أن أقدِّم لك كل حياتي محرقة حب لا تنقطع.

لتظهر لي كما ترأيت لسليمان.

في اتِّضاع شعر أنَّه فتى صغير،

محتاج إلى حكمتك السماويَّة ليدبِّر أمور شعبك.

ماذا اطلب منك إلاَّ أن أقتنيك يا حكمة الله؟

*     بك اعرف كيف أحكم على الشعب في قلبي.

بك أعرف كيف أخدم كل إنسان.

بك أميِّز بين الخير والشرّ.

ليس لي بعد أن أطلب شيئًا سواك؟

أنت هو الحكمة الإلهي، بك أحيا وأتقدَّم في كل شيء.

*     بحكمتك عرف سليمان كيف يقدِّم الرضيع لأمه.

ميَّز بين الأم الحقيقيَّة والمخادعة.

هب لي روح التمييز فأعرف الكنيسة الأم الصادقة.

أميِّز من لها روح الحق ممَّا لها روح الخداع!

فاصل

فاصل

تفسير ملوك الأول 2 تفسير ملوك الأول 
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير ملوك الأول 4
تفسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى