تفسير صموئيل الثاني ١٨ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن عشر

نهاية أبشالوم

مُسح أبشالوم العاق والمتعجرف ملكًا على كل إسرائيل، ولم تمض سوى أسابيع قليلة حتى جمع جيشه الضخم ليقتل داود… دخل في معركة كانت ظلاً لمعركة الصليب، فيها خرج داود ورجاله منتصرين بينما تحطم أبشالوم ورجاله. كان داود رمزًا للمسيح الحيّ الغالب، وكان أبشالوم رمزًا لإبليس الذي قتله الرب بالصليب وحطم سلطانه.

١. تنظيم رجال داود         [١-٥].

٢. انكسار أبشالوم          [٦-٨].

٣. نهاية أبشالوم            [٩-١٥].

٤. رجوع عبيد داود        [١٦-١٨].

٥. داود يحزن على ابنه    [١٩-٢٣].

١. تنظيم رجال داود:

مُسح أبشالوم العاق ملكًا، وجمع جيشه الضخم وعبر الأردن لمحاربة داود ورجاله، طالبًا قتل داود بالذات، وكان في هذا يرمز لإبليس الذي بخداعه وكبريائه مع عصيانه لله صار رئيس هذا العالم (يو ١٤: ٣٠). وقد جمع كل رجاله الخاضعين له للخلاص من المسّيا.

في ذات الوقت كان داود يحصى رجاله لا لمعرفة عددهم وإنما لتنظيم جيشه في محنايم، ويقدر المؤرخ اليهودي يوسيفوس عددهم بحوالي ٤٠٠٠ نسمة، وهو عدد قليل جدًا بالنسبة لجيش أبشالوم. أقام داود رؤساء ألوف ورؤساء مئات كنظام موسى النبي (خر ١٨: ٢٥) ونظام شاول (١ صم ٢٢: ٧). كما قام بتوزيع الجيش على ثلاث فرق: الثلث تحت قيادة إتاي الجتي الذي أظهر إخلاصه وقت الضيق رافضًا البقاء في أورشليم مع أبشالوم ليشارك داود آلامه وتغربه (١٥: ١٨-٢٣)؛ والثلث تحت قيادة يوآب رئيس جيش داود، والثلث تحت قيادة أبيشاي أخي يوآب. ويبدو أنه أراد أن يكون القائد العام للثلاث فرق يقودهم بنفسه، لكن الشعب الذي سمع عن مشورة أخيتوفل وأدرك نية أبشالوم ألا وهي التركيز على قتل داود، طلبوا منه ألا يخرج، لأنه بقتله يسقط الجيش كله (٢١: ١٧)؛ وإن بقى في المدينة يرسل لهم نجدة ويسندهم بمشورته وتدبيره.

داود بتنظيمه للجيش يمثل السيد المسيح الذي يقيم من مؤمنيه جنودًا روحيين يصارعون حتى النهاية لتحطيم الشر وإبادة عدو الخير… لتحطيم الخطية لا الخطاة، الفساد لا البشر المخدوعين بالفساد. يقول القديس بولس: “البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، فإن مصارعتنا ليست من دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية وفي السمويات” (أف ٦: ١١-١٢). وأيضًا: “فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح. ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من جنده” (٢ تي ٢: ٣-٤).

يرى الآباء أن السيد المسيح هو نفسه سلاحنا في المعركة. يقول القديس أمبروسيوس: [يوجد دفاع لخلاصنا مادام يوجد المسيح[114]]. ويقول القديس أغسطينوس: [عُدة أسلحتنا هي المسيح[115]].

أطاع داود أمرهم وبقي في المدينة، وفي حنان طلب من القادة الثلاثة: “ترفقوا لي بالفتي أبشالوم” [٥]. لم تكن هذه وصية ملك ولا قائد حرب بل وصية أب حنون يتطلع إلى ابنه العاق كصبي يحتاج إلى حنان الأبوة. هذه نظرة كثير من آباء الكنيسة تجاه كل إنسان غضوب، إنه شُبِّه بصبي صغير يحتاج إلى حب لعلاجه لا إلى مقاومته.

هذه هي مشاعر الأب البشري تجاه ابنه العاق، والأسقف أو الكاهن تجاه أحد أفراد شعبه الغضبي، فكم تكون مشاعر أبينا السماوي ربنا يسوع المسيح نحو الخطاة؟! إنه يبحث عنا جميعًا ويترفق بنا منتظرًا إشارة منا ليستلم حياتنا ويستريح في أحشائنا ويسكن في قلوبنا. لقد أعد الوليمة وأمسك بالحلة الأولى وخاتم البنوة، منتظرًا كل ابن عاق يرجع إليه.

ليس هناك وجه للمقارنة بين داود وأبشالوم، فداود المحب لكل الشعب لم يوصِ إلا بابنه العاق، بينما جاء أبشالوم بنفسه إلى المعركة هدفه الأول قتل أبيه!

٢. انكسار أبشالوم:

إذ تحرك أبشالوم للقتال اضطر داود أن يطلب من رجاله أن يتحركوا خارج محنايم، إذ لم يرد أن يسبب لشعبها اضطرابًا، وقد استضافوه هو ورجاله. هكذا كان داود عجيبًا في رقة مشاعره وحرصه ألا يتأذى أحد بسببه.

تم اللقاء في وعر أفرايم شرقي الأردن وذلك بخلاف الوعر الذي في غربة (يش ١٧: ١٨)، الذي فيه انكسر الأفراميون حينما حاربوا يفتاح وأهل جلعاد (قض 12: 6). انهزم أبشالوم مع رجاله أمام عبيد داود الذين يحسبون قلة قليلة أمام جيش أبشالوم. تشتت إسرائيل في الوعر فتبعهم رجال داود وقتلوا 20000 نسمة، أما الذين أهلكهم الوعر فكانوا أكثر من الذين قتلهم السيف، وكأن الطبيعة ذاتها ثارت ضد هذا الشرير كما حدث أثناء الصلب.

كان سقوطهم رمزًا لسقوط جاحدي الإيمان الذين رفضوا ابن داود السماوي ليعيشوا حسب فكرهم الأرضي وشهواتهم الجسدية وراء أبشالوم (رمز إبليس) المتعجرف. يقول القديس أغسطينوس: [“قدامه سيسقط كل المنحدرين إلى التراب” (مز ٢٢: ٢٩). هو (ربنا يسوع) وحده يرى كيف يسقط كل من يتركون السيرة السماوية، ويجعلون اختيارهم أرضيًا، ليظهروا أنهم سعداء أمام الناس الذين لا يرون سقوطهم (هلاكهم)[116]].

٣. نهاية أبشالوم:

كان أبشالوم راكبًا على بغل، مع أنه اعتاد في أورشليم أن يركب مركبة وخيلاً؛ وفي وسط الأحراش تعلقت رأسه، أو كما يقول يوسيفوس المؤرخ تشابك شعره بأغصان بطمة عظيمة، وذلك بسبب طول شعره وغزارته، وإذ سار البغل بقى معلقًا بين السماء والأرض. أسرع رجل يخبر يوآب بما رآه فانتهره لأنه لم يضربه إذ كان مستعدًا أن يعطيه عشرة شواقل فضه ومنطقة مطرزة. أجابه الرجل: “فلو وُزن في يدي ألف من الفضة لما كنت أمد يدي إلى ابن الملك. لأن الملك أوصاك في آذاننا أنت وأبيشاي وإتاي قائلاً: احترزوا أيا كان منكم على الفتى أبشالوم” [5]. لم يصبر يوآب رئيس الجيش على ذلك فنشب ٣ سهام في قلب أبشالوم وهو بعد حيّ في قلب البطمة، وأحاط به عشرة غلمان حاملوا سلاح يوآب وضربوا أبشالوم حتى مات. لقد خالف يوآب وصية داود لأنه شعر أن حياة أبشالوم تمثل خطرًا على داود نفسه كما على المملكة.

وقد سبقت الإشارة إلى أن نهاية أبشالوم ترمز إلى معركة الصليب التي فيها تحطمت قوى عدو الخير إبليس تمامًا بالنسبة للمؤمنين بالمخلص المصلوب، وذلك في الجوانب التالية:

أ. خرج رجال داود خارج المدينة “محنايم” ليدخلوا إلى معركة عنيفه مع أبشالوم ورجاله، مع رجال حرب أقوياء وكثيرين. هكذا إذ رفع مسيحنا على الصليب خارج أورشليم، يدعونا الرسول بولس أن نخرج خارج المحلة لنحمل عاره (عب ١٣: ١٣). ندخل معركة مع عدو الخير العنيف للغاية، قواته بلا حصر، لا يعرفون سوى العنف والشراسة… لكننا في المسيح يسوع ننال الغلبة والنصرة، محطمين كل خداعاته وحيله وكل قوته وجبروته. إنه يضعف جدًا هو وكل أعماله الشريرة إن اختفينا في مسيحنا الغالب.

ب. استخدم أبشالوم البغل الذي لأبيه عوض الخيل الذي كان يركبه… غالبًا ما كان داود الملك يخرج بهذا البغل في الحروب فيغلب، أما أبشالوم ففلت البغل من تحته ليتركه معلقًا بين السماء والأرض. يمكننا أن نقول مع العلامة أوريجانوس: [إن السيد المسيح رُفع على الصليب علانية، أما الذي فقد سلطانه وصُلبت إمكانياته فهو إبليس. على ذات الصليب ملك المسيح وتحطم إبليس، إذ يقول الرسول عنه إنه بالصليب قط أشهر إبليس وكل سلاطينه (١ كو ٢: ١٥).

v   لقد غلب العالم كله كما نرى أيها الأحباء… لقد قهر… لا بقوة عسكرية بل بجهالة الصليب!…

القديس أغسطينوس[117]

v   سلب (الرب) الرؤساء والسلاطين وظفر بهم بصليبه. هذا كان سبب مجيء ربنا: أن يطرحهم خارجًا ويسترد الإنسان الذي هو بيته وهيكله.

القديس مكاريوس الكبير[118]

v   بالشجرة التي قتلنا بها (الشيطان) أنقذنا الرب…

مبارك هو هذا الذي كحمل حقيقي خلصنا، وأهلك مهلكنا كما حدث مع داجون.

مار أفرايم السرياني[119]

ج. الشعر الذي بجماله وغزارته جذب أبشالوم الكثيرين ليقيموه ملكًا (١٤: ٢٥-٢٧)، هو الذي تشابك مع أغصان البطمة ليبقى معلقًا غير قادر على الإفلات من الموت. هكذا الجسد بكل أعضائه الصالحة وأحاسيسه ومشاعره التي أوجدها الله فينا إن انحرف عن غايته يصير سبب هلاك لنا. ليس العيب في الجسد ولا في طاقاته فإنه من عمل خالق صالح إنما العيب فينا نحن الذين نحول ما هو صالح لهلاكنا.

د. بقي أبشالوم بين السماء والأرض معلقًا على الخشبة، يشير إلى عدو الخير الذي يُحطمه الصليب فلا يجد راحة في السماء إذ ليس له موضع فيه، ولا الأرض باقية له… إنه يهوى إلى حيث لا يتمتع بالسماء ولا بالأرض.

هـ. ضُرب أبشالوم بالسهام وهو حي بيد يوآب في قلبه، كما ضربه الغلمان العشرة حاملوا السلاح. يوآب يمثل جماعه القديسين الجبابرة في الإيمان يُحطمون إبليس، يضربونه كما في قلبه. أما الغلمان العشرة فيشيرون إلى المؤمنين البسطاء كغلمان صغار لا يتوقفون عن محاربة عدو الخير الذي فقد قدرته على التحرك بالنسبة لهم. يشبهه القديس يوحنا الذهبي الفم بالكلب الذي ينبح كثيرًا أمام بيته لكنه جبان أمام طفل برئ.

٤. رجوع عبيد داود:

ضرب يوآب بالبوق لينهي القتال بموت أبشالوم؛ أنه بوق كلمة الله التي ينطق بها المؤمنون كما ببوق ليعلنوا خلال الكلمة حياة الغلبة ونهاية عدو الخير.

طرح أبشالوم في أقرب جب وُجد هناك فاقدًا كرامته كابن للملك. طلب الكرامة الزمنيه وسعى إليها بكل طاقاته ففقدها في موته وحتى بعد موته، فصار عبرة لكل نفس في عقوق نحو الله أبيها. كانوا يرمونه بالحجارة وكأنهم يرجمونه بسبب عقوقه كحكم الشريعة (تث ٢١: ٢٠-٢١). لا تزال توجد في بعض بلاد الشرق عادة أن يُلقي العابرون حجارة على مقبرة المجرمين.

مات أبشالوم بعد أسابيع من ملكه، وقد سبق أن مات أولاده الثلاثة (12: 27) في حياة أبيهم. وأقيم نصب تذكاري دُعي “يد أبشالوم”، ربما لأنهم كانو يصورون يدًا على النصب لأن اليد آلة للعمل. هذا النصب تذكار وعبرة لكل من تسول نفسه ممارسة العقوق.

٥. داود يحزن على ابنه:

أدرك يوآب أن الملك المتعلق بابنه أبشالوم لن يتقبل خبر النصرة بفرح بسبب موت ابنه لذلك لم يرد أن يقوم أخيمعص بن صادوق الكاهن بإبلاغ الخبر للملك، فبعث برسول آخر كوشي، ربما كان عبدًا ليوآب من بلاد كوش. نزل أخيمعص إلى الغور أي إلى وادي الأردن وسار فيه ثم صعد إلى محنايم ليبشر داود بالنصرة، أما الكوشي فأخذ طريقًا أسهل لكنه أطول.

وصل أخيمعص أولاً حيث كان داود جالسًا بين البابين: أي على السطح يربط بين باب خارجي تجاه البرية وآخر تجاه المدينة، وقد صعد الرقيب على سطح السور فوق الباب ليخبر داود بما يراه.

بشر أخيمعص داود بالنصرة، دون أن ينطق بكلمة بخصوص أبشالوم حتى جاء الكوشي، وفهم داود من حديثه أن ابنه مات فحزن جدًا، وكان يبكيه بمرارة، ولعل سر بكائه  هو:

أ. مشاعر الأبوة الحانية الطبيعية. خاصة وأن داود يحمل مشاعر رقيقة للكل.

ب. كان يكِنّ لأبشالوم معزة خاصة، متوقعًا أن تنضج شخصيته مع الزمن وخلال الخبرات المستمرة.

ج. لم يكن أبشالوم مستعدًا للموت بالتوبة.

د. شعوره بخطئه في تربيته لابنه.

هـ. شعر أن ما حل به هو ثمرة خطأه هو.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى