تفسير صموئيل الثاني ٢٠ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح العشرون
ثورة شبع بن بكري
كان لابد للسيف ألا يفارق مملكة داود تأديبًا له على قتل أوريا الحثي، لهذا بلا سبب حقيقي ثار شبع بن بكري البنياميني ضده وأثار إسرائيل بسرعة فائقة ليبقى رجال يهوذا وحدهم مع داود. أعلن الله يده القوية إذ تحقق الانتصار لداود بطريقة غير متوقعة ودون سفك دم، سوي قطع رأس شبع نفسه. هكذا سمح الله لداود بالتجربة للتأديب وهو الذي أوجد المنفذ أيضًا.
١. ثورة شبع بن بكري [١-٣].
٢. غدر يوآب بعماسا [٤].
٣. قتل شبع بن بكري [٥-٢٢].
٤. تنظيم المملكة [٢٢-٢٦].
“شبع” كلمة عبرية تعني “سبعة” أو “قسم oath”[121]. كان شبع بنيامينيًا حسب المولد [١]، مسكنه في جبل افرايم [2١]؛ وهو وشمعي من سبط شاول. ربما كان لشبع دور ظاهر أو خفي في فتنة أبشالوم ضد داود أبيه.
نزل البنيامينيون إلى الأردن ليعبّروا داود الأردن، لكنهم غضبوا من كلام يهوذا (١٩: ٤١-٤٣)، ولسبب تافه ضرب شمعي بالبوق ليعود رجال إسرائيل (١٠ أسباط) إلى بلادهم في تمرد ضد داود، لكنهم عوض الرجوع إلى بلادهم عادوا فتجمعوا لإثارة حرب جديدة بقيادة شبع (١ مل ١٢: ١٦).
واضح أن ما يحدث ليس بالأمر الطبيعي، فالشعب يتقلب بسرعة عجيبة، كانوا قبلاً مع داود، ثم تبعوا أبشالوم ثم رجعوا إلى داود، وها هم يتركونه ليتبعوا شبع. غالبًا ما كان السواد الأعظم لا يدري السبب للالتفاف حول شخص ما ثم مفارقته… هناك يد خفية تحرك هذا كله هو “السماح الإلهي” لأجل تأديب داود.
لم يسترح داود من فتنة ابنه أبشالوم حتى قام شبع بذات الدور ليجمع عشرة أسباط حوله، وكأن الله لم يرد لداود أن يستريح من الضيق حتى تبقى الخطية التي سقط فيها مُرّة في فمه.
عاد داود مع رجال يهوذا إلى أورشليم، وأخذ السرارى العشر وتركهن تحت الحجز لأنه لم يكن لائقًا أن يرجعن إليه بعدما دخل عليهن أبشالوم (١٦: ٢٢).
طلب داود الملك من عماسا (إبن يثرا وأبيجابل أخت داود، وابن عم يوآب) أن يجمع له رجال يهوذا في ثلاثة أيام، وهي مدة غير كافية، لكن الأمر كان خطيرًا لا يحتمل أي تأخير، إذ يُريد أن يضرب شبع بن بكري بسرعة حتى لا تضيع المملكة كلها.
تجاهل داود الملك يوآب وأقام عماسا رئيسًا للجيش كله لأسباب كثيرة:
أ. اعتاد داود أن يفي بوعده مهما كانت الظروف، وقد سبق فأرسل له لكي يرجع إليه فيقيمه رئيسًا للجيش (١٩: ١٣).
ب. إن كان شبع قد جمع الأسباط كلها عدا يهوذا، فإن تعيين عماسا رئيس جيش أبشالوم يعني في أذهان الشعب أن داود غير منحاز لسبطه، وأنه لازال يفتح يديه للجميع لكي يعمل معهم وبهم.
ج. الخلافات القديمة بين داود ويوآب التي سبق لنا الحديث عنها (راجع ٢ صم ١٩).
تأخر عماسا عن الميعاد المحدد فطلب داود من أبيشاي أخي يوآب أن يلحق بشبع، فخرج أبيشاي ومعه أخوه يوآب ورجاله.
التقى يوآب بعماسا في عودته ومعه رجال يهوذا وبنيامين عند الصخرة العظيمة التي في جبعون. أمسك يوآب بلحية عماسا بيده اليمنى كمن يقبله – وعن عمد – أغمد سيفه الذي أمسكه بيده اليسرى ليقتل به عماسا، وتركه يتمرغ بدمه في وسط الطريق.
نادى يوآب وسط الشعب: “من سرّ بيوآب ومن هو لداود فوراء يوآب” [١١]. كأنه أراد أن يؤكد لهم أن قتل عماسا بسبب خيانته لداود، وأنه هو رجل داود الأول والأمين له، بهذا الحديث اجتذب حتى رجال عماسا وراءه هو وأبيشاي لإدراك شبع، تاركين عماسا بدمه بعد نقله من الطريق العام إلى حقل وطرح ثوبه عليه حتى لا يقف أحد بجواره.
تبقى شخصية يوآب غريبة ومحيرة، فمن جانب كان صادقًا في أمانته لداود فمع اختلافه في التفكير معه لكنه لم يخنه قط ولا توانى في بذل كل طاقته لتثبيت مملكته، رافقه كل الطريق… لكنه كان متسرعًا يُريد تحقيق سلام داود بتصرفات يراها داود الملك متهورة مثل قتله أبنير وعماسا… ولعل وراء ذلك دافعًا خفيًا هو الغيرة منهما كقائدي جيش قويين، فأراد الخلاص منهما كمنافسين خطيرين على مركزه. أيضًا قتل أبشالوم متجاهلاً أوامر الملك مادام في قتله سلام للملك والمملكة. لا يهتم بالوسيلة مادامت تحقق الهدف فقتل أبنير وعماسا غدرًا!
عبر الشعب تحت قيادة يوآب وأخيه أبيشاي نحو الشمال حتى بلغ مدينة “آبل بيت معكة” (تعني “مرج بيت الظلم”[122] أو “مرج بجوار بيت معكة”[123]). مدينة حصينة في سبط نفتالي، عرفت بحكمة أهلها وتمسكهم بالعادات اليهودية. ربما مكانها اليوم تل آبل (أو تل القمح)، قرية في غرب الأردن على رابية تشرف على الوادي، تبعد ١2 ميلاً شمال بحيرة الحولة مقابل دان. يحيط بها سهل خصيب مياهه وفيرة دعى “آبل مايم” أو “مرج المياه” (٢ أي ١٦: ٤). أقام يوآب ورجاله مترسه (حائطًا أو ساتر تراب يحميهم) حول المدينة.
أدرك أهل المدينة بالخطر المحدق بهم، وكانوا معروفين بالحكمة. نادت امرأة حكيمة: “اسمعوا. اسمعوا. قولوا ليوآب تقدم إلى ههنا فأكلمك” [١٦]. تحدثت معه قائلة: “كانوا يتكلمون أولاً قائلين: سؤالاً يسألون في آبل وهكذا كانوا انتهوا” [١٨]. هذا مثل مشهور عن آبل معناه أنها مدينة مشهورة بالحكمة، يلجأ إليها كثيرون يسألونها المشورة المصيبة المقنعة، فينالون إجابة قاطعة. كأنها تقول له: لماذا لم تأتِ إلينا بالتفاوض والتفاهم نحن أناس مسالمون وحكماء؟” قالت له: “لماذا تبلع نصيب الرب؟” بمعنى إنك تهاجم مدينة هي هبة قدمها الله لأهلها، وها أنت تخربها (بحسب الشريعة كان يلزمه أن يقدم السلام ويدخل في حوار قبل أن يهاجم (تث ١٠: ١٠)). أجابها يوآب: “حاشاى. حاشاى. أن أبلع وأن أهلك؛ الأمر ليس كذلك، لأن رجلاً من جبل أفرايم اسمه شبع بن بكري رفع يده على الملك داود؛ سلموه وحده فأنصرف عن المدينة (10: 21). استطاعت بحكمتها أن تقنع أهل المدينة، فقُطعت رأس شبع وألقتها إلى يوآب الذي ضرب بالبوق لينصرف الجيش من محاصرة المدينة.
“شبع” يرمز للكبرياء حيث يظن الإنسان أنه في حالة إستغناء، وهو المرض الذي أصاب أسقف كنيسة لاودكية فوبخه الرب قائلاً: “لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان” (رؤ ٣: ١٧). الشعور بالشبع الذاتي وعدم الحاجة إلى الله يُحطم كل إمكانياته ليصير هكذا شقيًا وبائسًا إلخ… هذا ما فعله شبع إذ جمع الأسباط حوله ليثيرها ضد داود ويقيم مملكة مقاومة له. لكن وجدت المرأة الحكيمة التي قطعت رأسه لتلقيها خارج الأسوار فيرجع للمملكة سلامها.
إن كانت حياتك الداخلية هي مملكة الله (لو ١٧: ٢١)، فإن الكبرياء كفيل أن يُحطم كل طاقاتك من أحاسيس وعواطف ومواهب وقدرات لتعمل كلها خلالها ضد ابن داود، فتُقيم مملكة مضادة ومقاومة. نحتاج إلى الحكمة، حكمة الصليب، القادرة أن تضرب الكبرياء وتقطع رأسها لتلقى بها خارجًا عنا، فيعود سلامنا إلينا حيث يرجع ابن داود ويملك فينا.