تفسير سفر دانيال ١٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني عشر

الضيقة العظيمة والقيامة

يرى القدِّيس هيبوليتس الروماني أن دانيال تحدث عن الضيقة العظيمة أو رجسة الخراب التي تحققت جزئيًّا وعلى مستوى محلي في أيام أنطيوخس إبيفانُس، وتتحقق على مستوى العالم كله في أواخر الدهور أيام ضد المسيح[271]. لكن الكثير من الآباء، خاصة القدِّيس جيروم، يرون أن الحديث هنا واضح عن ضد المسيح وانقضاء الدهر.

  1. الضيقة العظيمة         [1].
  2. القيامة                  [2-3].
  3. خاتمة                   [4-13].
  4. الضيقة العظيمة:

وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك،

ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أُمَّة إلى ذلك الوقت،

وفي ذلك الوقت يُنجي شعبك كل من يوجد مكتوبًا في السفر” [1].

إذ يُفتتح الأصحاح بالتعبير: “وفي ذلك الوقت” [1] ، واضح أنه يكمل ما جاء في الأصحاح السابق. ففي قمة سلطان ضد المسيح يقوم رئيس الملائكة ميخائيل ويعمل لحساب الكنيسة (كما جاء في رؤ 12) ، وذلك في فترة الضيقة العظيمة التي يعلن عنها السيَّد المسيح (مت 24: 15-22).

 وسط الضيق يُنجي الله شعب دانيال، أي كنيسة المؤمنين المكتوبة أسمائهم في سفر الحياة. أنها تتعرض دومًا للضيق، لكنها ليست منسية أمام الله، بل كلما اشتدت الضيقة أظهر الله بالأكثر اهتمامه بها. أنها في يد مخلصها السيَّد المسيح الذي يعمل لبنيانها، ويستخدم ملائكته ورؤساء ملائكته لحمايتها.

  1. القيامة:

“وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون،

هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي.

والفاهمون يضيئون كضياء الجلد،

والذين ردُّوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور” [2-3].

يعتبر البعض سفر دانيال هو أول سفر في العهد القديم يتحدث بوضوح وبقوة عن القيامة ويحدِّد زمانها. عندما يأتي يوم الرب العظيم ويضيء الحكماء الذين أطاعوا الله ككواكب أبدية. وإن كان قد حُسب هذا الأمر فوق قدرة دانيال نفسه، إذ يقول: “وأنا سمعت وما فهمت” [8].

 يحاول البعض أن يميز بين قيامتين هنا، إحداهما للمُلك الألفي والأخرى للحياة الأبدية، لكن واضح أن الحديث هنا عن قيامةٍ واحدةٍ ودينونةٍ أبدية، ومجدٍ أو عذابٍ أبديٍ.

v   أما هؤلاء السادة والمعلمون الذين لهم معرفة الناموس، فسيضيئون كالسماء، والذين يحثون الشعوب المتخلفة عن الإيمان على الاهتمام بعبادة الله فيتلألأون ككواكب في الأبدية[272].

القدِّيس جيروم

v   لنهرب بكل قوتنا من معوقات هذا العالم ونطلب بعض الساعات حيث نستطيع أن نكرِّس أنفسنا للصلاة أو قراءة الكتاب المقدس لأجل خلاص نفوسنا. هذا يحقق فينا المكتوب: “والفاهمون يضيئون كضياء الجلد[273].

الأب قيصريوس

v   بعد أن يتحطم ضد المسيح ويهلك بنفخة فم المخلص، سيخلص الشعب المكتوب في سفر الله، وذلك حسب استحقاق كل واحدٍ؛ فيقوم البعض لحياة أبدية، والبعض الآخر لعارٍ أبدي.

يُشبه المعلمون بالسموات عينها، ويُقارن الذين يعلمون الآخرين ببهاء الكواكب. فإنه لا يكفي أن يعرف الإنسان الحكمة بل يليق به أن يُعلمها للآخرين.

لسان التعليم الذي يبقى صامتًا ولا يبني أحدًا لا ينال مكافأة.

القدِّيس جيروم

v   يعين الرب المتواضعين، ويتحول المتواضعون إلى كواكبٍ. إذ “يشرق الأبرار مثل الكواكب” كما يقول دانيال[274].

القدِّيس جيروم
  1. خاتمة:

أما أنت يا دانيال فأخفِ الكلام، واختم السفر إلى وقت النهاية.

كثيرون يتصفحونه والمعرفة تزداد” [4].

أُمر دانيال أن يُختم على السفر حتى “إلى وقت النهاية”، لكن المعرفة تزداد، وإن كان يبقى الإنسان كما في لغز حتى يتحقق ما ورد في السفر تمامًا. ربما قصد بالختم هنا بقاء النبوات غير واضحة حتى يتحقق الخلاص في ملء الأزمنة، وتنكشف أسرار المجيء الثاني كما في سفر الرؤيا (رؤ 22: 10) . لهذا يرى كثير من الدارسين أن سفر الرؤيا هو مفتاح سفر دانيال.

يرى القدِّيس إيريناؤس أن الوحيّ الإلهي طلب من دانيال أن يختم على النبوة، لأنه لا يستطيع أحد أن يدركها حتى يأتي السيَّد المسيح الذي هو غاية النبوات، فيدرك المؤمنون سرّها، إذ يقول: [الكنز المخفي في الكتب المقدسة هو المسيح، حيث أُشير إليه خلال الرموز والأمثال. وحيث أن طبيعته البشرية لم يكن ممكنًا فهمها قبل تحقيق هذه الأمور المُتنبأ عنها، أي قبل مجيء المسيح، لذلك قيل لدانيال النبي: “اخفِ الكلام، واختم السفر إلى وقت النهاية، حتى يتعلَّم كثيرون وتكمل المعرفة. في ذلك الزمان عندما يتحقق التدبير فسيعرفون كل هذه الأمور” (راجع دا 12: 4، 7). فإن كل نبوة – قبل تحققها – تكون بالنسبة للبشر لغزًا وغموضًا. لكن عندما يحل الوقت وتتحقق النبوات تصير واضحة ويصبح تفسيرها أكيدًا[275]].

يقول القدِّيس هيبوليتس الروماني: [الأمور التي نُطق بها قديمًا بواسطة الناموس والأنبياء كلها قد خُتمت، ولم تكن معروفة للناس، هذا يعلنه إشعياء بقوله: “السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين: اقرأ هذا، فيقول: لا أستطيع لأنه مختوم” (إش 29: 11). إنه لائق وضروري أن تكون الأشياء التي نطق بها الأنبياء قديمًا مختومة بالنسبة للفرِّيسيين غير المؤمنين، الذين ظنُوا أنهم يفهمون حرف الناموس، بينما تكون مكشوفة بالنسبة للمؤمنين. لقد كانت الأمور القديمة مختومة، أما الآن فبنعمة الله الرب جميعها مكشوفة للقدِّيسين. فقد كان هو نفسه (الله) هو الختم والكنيسة هي المفتاح: “الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح”، كما يقول يوحنا (رؤ 3: 7)… لهذا السبب يقول الملاك لدانيال: “اختم الكلمات، فإن الرؤيا إلى وقت النهاية“. أما بالنسبة للمسيح فلا يُقال “اختم” بل فك الأشياء التي كانت مربوطة قديمًا، لكي بنعمته تُعرف إرادة الآب، ونؤمن بذاك الذي أرسله لخلاص البشر، ربنا يسوع[276]].

يقول القدِّيس جيروم [ذاك الذي أعلن الحق من جوانب متعددة لدانيال يعلن أن الأمور التي قالها سرية. وقد طلب منه أن يطوي الدرج الحاوي لكلماته، ويضع ختمًا على السفر. فتكون النتيجة أن كثيرين يقرأونه ويسألون عن تحقيقه عبر التاريخ، ويختلفون في آرائهم (تفاسيرها) بسبب غموضها العظيم.

بقوله “كثيرون يتصفَّحونه[4] أو “يعبرون فيه”، يُشير إلى أن كثيرين يقرأونه…

وأيضًا في رؤيا يوحنا يُرى سفر مختوم من الداخل والخارج. وإذ لم يقدر أحد أن يتأهل لفك ختومه يقول يوحنا: “فصرت أنا أبكي…وجاءني صوت: لا تبكِ كثيرًا، هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا أصل داود ليفتح السفر ويفك ختومه” (راجع رؤ 5: 4).

أما ذاك السفر فيمكن أن يُفتح بواسطة من يتعلم أسرار الكتاب ويفهم حقائقه المخفية وكلماته التي تبدو مظلمة بسبب عظمة الأسرار التي تحويها. أنه هو الذي يستطيع أن يشرح الأمثال ويحوِّل الحرف الذي يقتل إلى الروح الذي يحيي[277].

القدِّيس جيروم

“فنظرت أنا دانيال وإذا باثنين آخرين قد وقفا،

واحد من هنا على شاطئ النهر، وآخر من هناك على شاطئ النهر.

وقال للرجل اللآبس الكتَّان الذي من فوق مياه النهر:

إلى متى انتهاء العجائب؟

فسمعت الرجل اللآبس الكتَّان الذي من فوق مياه النهر،

إذ رفع يُمناه ويسراه نحو السموات،

وحلف بالحيّ إلى الأبد أنه إلى زمان وزمانين ونصف.

فإذا تم تفريق أيدي الشعب المقدس تتم كل هذه.

وأنا سمعت وما فهمت. فقلت يا سيدي ما هي آخر هذه.

فقال: اذهب يا دانيال لأن الكلمات مخفية ومختومة إلى وقت النهاية.

كثيرون يتطهَّرون ويبيضُّون ويُمحَّصون.

أما الأشرار فيفعلون شرًا ولا يفهم أحد الأشرار، لكن الفاهمون يفهمون” [5-10].

لكي يختم دانيال السفر رأى ملاكين آخرين واللآبس الكتَّان، أي كلمة الله قبل التجسُّد (6: 10). سأله أحد الملاكين عن مدة هذه الضيقة، وجاءت الإجابة إلى زمان وزمانين ونصف زمان ، أي إلى ثلاث سنوات ونصف. وهو نصف الأسبوع الذي تحدث عنه دانيال قبلاً، فترة الاضطهاد المُرّة جدًا ، تنتهي بكسر عهد الملك المفترس. يقول القدِّيس جيروم[278]: [إن الزمان والزمانين والنصف زمان لا يمكن أن يُقصد بها الثلاث سنوات ونصف التي فيها دنس أنطيوخس الهيكل كما ادعى بورفيري، لأن هذا يقتضي أن الغالب يتمتع بملكوت أبدي، وأن كل الملوك يخضعون له ويطيعونه، وهذا لم يحدث. إنما واضح أن الحديث هنا عن ضد المسيح الذي يملك لمدة 1290 يومًا أو ثلاث سنوات ونصف.

إن كان قد طُلب من دانيال أن يختم السفر، لأنه يحوي أسرارًا لا يعرفها الجميع، وإن كان دانيالنفسه يقول: “وأنا سمعت وما فهمت[8]، لكنه في نفس الوقت يؤكد أن من كان طاهرًا ومُقدسًاسيفهم ما قيل ويصير حكيمًا، أما الأشرار فلا يفهمون. المعرفة والحكمة هنا أمر نسبي فبلاشك أدرك دانيال الكثير من أسرار انقضاء الدهر، لكن كما في مرآة، أو خلال الظل، لكن تزداد المعرفة بالنسبة للمؤمنين وتنكشف أمور كثيرة.

v   لقد علق بأنه إذ يأتي المنتهى سينقص الأشرار الفهم، بينما المثقفون بتعاليم الله فسيستطيعون أن يفهموا. لأن الحكمة سوف لا تدخل النفس المنحرفة، ولا يمكنها أن تُفصح عن نفسها لجسدٍ خاضع للخطايا[279].

القدِّيس جيروم

“ومن وقت إزالة المحرقة الدائمة وإقامة رجس المُخرب ألف ومائتان وتسعون يومًا.

طوبى لمن ينتظر ويبلغ إلى الألف والثلاث مائة والخمسة والثلاثين يومًا” [11-12].

يُحدد المدة بالأيام لا السنوات 1290 يومًا وتعني ثلاث سنوات ونصف، تُعاني فيها الكنيسة من الضيق الشديد، مضافًا إليها 45 يومًا (1335 يومًا)، ولعل هذه الفترة هي ما بين قتل ضد المسيح ومجيء السيَّد المسيح. أنها فترة راحة ليرجع ويتوب من انحرف وراء ضد المسيح، وفي نفس الوقت فترة تذكية للمؤمنين حيث يترقبوا بفرح مجيء المسيح بعد الخلاص من ضد المسيح. لذلك يطوِّب دانيال النبي من ينتظر ويبلغ 1335 يومًا.

يقول القدِّيس جيروم: [واضح أن الثلاث سنوات ونصف قبلت بخصوص زمن ضد المسيح، فإنه سيضطهد القدِّيسين لمدة ثلاث سنوات ونصف أو 1290 يومًا، وعندئذ سيواجه سقوطه على الجبل الشهير المقدس. وهكذا منذ الوقت الذي فيه يمنع الـ Endelekismos والتي تُترجم “الذبيحة الدائمة”، أي من الوقت الذي فيه يملك ضد المسيح على العالم ويمنع عبادة الله إلى يوم موته فإن الثلاث سنوات ونصف أو الـ 1290 يومًا تتم[280]].

v   يعني بهذا أنه مطوَّب من ينتظر خمسة وأربعين يومًا بعد الرقم المعين (1290)، لأنه في هذه الفترة سيأتي ربنا في مجده. ولكن السبب في الخمسة وأربعين يومًا بعد قتل ضد المسيح أمر مستقر في معرفة الله، اللهم إلاَّ إذا قلنا أن حكم القدِّيسين يتأجل لكي يُمتحن إيمانهم[281]. (بمجيء المسيح الأخير).

القدِّيس جيروم

“أما أنت فاذهب إلى النهاية فتستريح وتقوم لقرعتك في نهاية الأيام” [13].

أخيرًا يطلب من دانيال أن يستريح حتى يقوم حين يأتي رب المجد القائل “ها أنا آتي سريعًا” (رؤ 22).

v   من هذه الملاحظة يظهر بوضوح أن كل نص النبوة خاص بقيامة كل الأموات، الوقت الذي فيه سيقوم أيضًا النبي[282].

القدِّيس جيروم

في القرن السادس عشر يقول جون كالفن إن بعض المفسرين يضيفون الرقمين معًا (1290 + 1335) فيكون الناتج حوالي 2600 عامًا، ولما كانت النبوة حوالي 600 ق.م، إذن سيكون مجيء السيَّد المسيح مع نهاية العالم بعد 2000 عامًا من مجيئه الأول. وقد رفض كالفن هذا التفسير[283].

ويعلق البعض على قول السيَّد المسيح في مَثل “السامري الصالح”: “وفي الغد لما مضى أخرجدينارين، وأعطاهما لصاحب الفندق، وقال له: اعْتنِ به ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك” (لو 10: 35)، مستخدمين التفسير الرمزي، بأن السيَّد المسيح قد أودع النفوس الجريحة في هذا العالم بين يدي الكنيسة المجاهدة لمدة 2000 عامًا. فإن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة، فالديناران يُمثِّلان ألفين عامًا بعد خدمة المسيح، أي يرجع السيَّد المسيح كما إلى الفندق مع بداية القرن الواحد وعشرين.

قدم نيافة الأنبا ديسقورس بحثًا في سفر دانيال يكشف فيه عن قرب انقضاء العالم، كما ظهرت آراء في الغرب تؤيد سرعة انقضاء العالم. هذا وقد رأى بعض العلماء أن اتِّساع ثقب الأوزون، من الجانب العلمي، سبَّب تحركًا لكتلة ثلجية ضخمة في منطقة القطب الجنوبي لمسافة حوالي 3 كيلومترات وأن تحرُّكها بهذا المعدل سيؤدي إلى اختلال مغناطيسية وتوازن الكرة الأرضية مما يسبب حدوث زلازل قوية وبراكين تنتهي بتحطيم الكرة الأرضية بعد عام 2000 بسنوات قليلة.

كان لظهور هذه الآراء انعكاساتها القوية في الشرق والغرب بين مؤيد ومعارضٍ. لكن مما لاشك فيه أنه عند ظهور “ضد المسيح” سيكتشف المؤمنون أن ما ورد بسفر دانيال كان واضحًا تمامًا للأتقياء، وذلك كما أدركت كنيسة العهد الجديد منذ بداية انطلاقها مع أتقياء اليهود أن الأزمنة الخاصة بمجيء المسيح كانت صريحة وواضحة.

ما أود أن أوضحه هنا، أنه منذ صعود السيَّد المسيح والكنيسة بفرح تترقب مجيئه سريعًا، في يقين أنه قادم، وأنه قادم سريعًا، لكن في غير استهتار بالالتزامات الزمنية ولا تراخٍ. وقد كشف لها السيَّد المسيح عن علامات مجيئه الأكيدة لكي تستعد بالصبر وتواجه الضيقات، خاصة الضيقة العظيمة ورجسه الخراب، كما تستعد بالفرح والرجاء أن لها نصيبًا معه في الأحضان الأبوية. أما الآن فيظن كثيرون أن ترقب مجيء السيَّد المسيح يُعتبر نظرة سوداوية تشاؤمية تبعث على التراخي والتهاون في الالتزام بالمسئوليات، هذا يكشف عن ضعف إيمان وعدم التهاب القلوب بالفكر الأخروي السماوي.

إنه قادم حتمًا! وستعبر الأزمنة سريعًا، ونفرح ونتهلَّل بقيامتنا مع الأموات، ولقائنا معه على السحاب.

 

 

 


 

من وحي دانيال 12

نعم! لتنقضِ الأزمنة!

v   من أجلنا خلقت الزمان لنمجدك فيه،

ومن أجلنا ينقضي الزمان لنتمجَّد معك أبديًا.

نعم! لتنقضِ الأزمنة!

لتأت أيُّها الحبيب إلينا،

أو لتحملنا بروحك القدُّوس إليك،

إننا نتعجَّل اللقاء معك!

v   لتفتح عيون قلوبنا،

فنراك قادمًا الآن إلى أعماقنا،

ونرى أنفسنا عابرة إليك تنعم بحضرتك!

<<

 


 

ملحق لتفسير سفر دانيال
ضد المسيح
في كتابات الأباء

 

الاهتمام بظهور ضد المسيح وانقضاء الدهر:

إذ تحدث سفرا دانيال ورؤيا يوحنا اللاهوتي عن ضد المسيح، آثرت أن أقدم ملحقًا لتفسير سفر دانيال عن “ضد المسيح في كتابات آباء الكنيسة“، خاصة وأن موضوع “ضد المسيح وانقضاء الدهر” يشغل العالم في وقتنا الحاضر أكثر من كل عصرٍ سابقٍ. فقد ذكر منذ سنوات قليلة أحد مشاهير الوُعاظ بالولايات المتحدة الأمريكية أن الأسئلة التي قُدمت له في سنة واحدة عن انتهاء العالم أكثر بكثير من عدد الأسئلة في نفس الموضوع لمدة عشرين سنة سابقة إن جُمعت معًا. هذا يكشف عن المشاعر الشعبية حتى في الدول المتقدمة من جهة اقتراب انقضاء الدهر.

تزايدت التساؤلات في الأعوام الأخيرة للأسباب التالية:

  • ظهور دولة إسرائيل، وكأن الصيف قد اقترب لأن شجرة التين قد صار غُصنها رخصًا، وأخرجت أوراقها (مت 24: 32، مر 13: 28).
  • يتساءل البعض عما إذا كانت إسرائيل ستقبل الإيمان بالسيَّد المسيح في آخر الأزمنة كقول الرسول بولس (رو 11). لقد نمت حركة التبشير بالإيمان المسيحي بين اليهود، وظهر المركز المسيحي اليهودي The Jewish Christian Center بأمريكا… واهتم الكثير بالكرازة بين اليهود حتى داخل إسرائيل.
  • مناداة أحد الحاخامات المشهورين الذي قبل الإيمان بالسيَّد المسيح بأن ما يترقبه اليهود ليس المسيَّا بل ضد المسيح، وأنهم يهيِّئون لظهوره دون أن يدروا.
  • ظهور بعض التسابيح اليهودية التي تتغنى بأن المسيَّا قد وُلد فعلاً، ويترقب  بعض اليهود مجيئه سريعًا.
  • الصراع الخطير بين اليهود والدول المحيطة بخصوص إقامة الهيكل من جديد الذي اندثر تمامًا منذ سنة 70م حتى اليوم، أكثر من تسعة عشرة قرنًا…
  • بعيدًا عن الجو السياسي، يتساءل كثير من المسيحيين:

* هل يسمح الله ببناء الهيكل وقد أكد السيَّد المسيح أنه يخرب إلى الأبد (مت 23: 38؛ لو 13: 35)، وقد فشلت المحاولات السابقة في إقامته؟

* هل يسمح الله ببناء الهيكل حيث يُقيم ضد المسيح مركزه الروحي فيه ويبث سمومه ضد الكنيسة في العالم، فيتحقق القول الرسولي عن ظهور إنسان الخطية في هيكل الرب؟

* هل تُقدم ذبائح حيوانية بعد أن بطلت كل هذه القرون بذبيحة السيَّد المسيح الفريدة؟ وما موقف السماء منها إن قُدمت؟

إن التصريحات الإسرائيلية بالعمل على بناء الهيكل، بجانب ما تسببه من مشاكل سياسية، الأمر الذي يشغل رجال السياسة، تُثير في نفوس بعض المسيحيين في العالم كله تساؤلات بخصوص انقضاء الدهر.

  • بجانب العوامل السابقة تُثير تصريحات بعض العلماء عن اتساع ثقب الأوزون وما قد يسببه من دمار الأرض تمامًا بالزلازل والبراكين ما يُثير الكثيرين في هذا الأمر.

موعد المجيء الثاني للسيد المسيح:

فيما يخص موعد المجيء الثاني للسيد المسيح، تُثار في السنوات الأخيرة تساؤلات كثيرة، خاصة وأن كثيرين حاولوا عبر مختلف العصور حساب الأزمنة والأوقات، وقد استعان أغلبهم بسفري دانيال والرؤيا بقصد تحديد موعد مجيئه وانقضاء الدهر.

الرأي الأول: لا يعرف أحد هذا الموعد:

أ. قيل لدانيال: “اخفِ الكلام، واختم السفر إلى وقت النهاية” (دا 12: 4). هذا يحمل في نفس الوقت احتمال معرفة دانيال للنهاية، لكنه يلتزم بإخفائها.

تحدث السيَّد المسيح صراحة أن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعلم بها أحد من البشر، ولا ملائكة السموات، وأنه ليس للبشر أن يعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه وحده (مت 24: 36، 42؛ مر 12: 32-33).

يقول القديس هيلاري أسقف بواتييه: [وقد حرم عليهم معرفتها، وليس ذلك فقط، وإنما الشوق إلى الاهتداء إلى معرفتها ممنوع، لأنه ليس لهم أن يعرفوا تلك الأزمنة[284]].

ب. الشعور بقرب مجيء السيَّد المسيح أمر لازم عبر كل الأجيال، لكي يكون الكل مستعدًا، وكما قيل:

“فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنّا، قد تناهى الليل وتقارب النهار” (رو 13: 12).

“غير تاركين اجتماعنا كما لقومٍ عادة، بل واعظين بعضنا بعضًا، وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب” (عب 10: 25).

لأنه بعد قليل جدًا سيأتي الآتي ولا يُبطئ” (عب 1: 37).

“وإنما نهاية كل شيء قد اقتربت، فتعقلوا واصحوا للصلوات” (1 بط 4: 7).

هوذا الديان واقف قدام الباب” (يع 5: 9).

ها أنا آتي سريعًا” (رؤ 3: 11؛ 22: 7، 12، 20).

الرأي الثاني: أن العلامات أكيدة والمجيء اقترب:

لقد سبق فحدد كثيرون موعد انقضاء الدهر، خاصة الذين اعتقدوا في المُلك الألفي الحرفي، إذ ظنوا أنه كما خلق الله العالم في ستة أيام هكذا سينتهي العالم بعد ستة آلاف سنة، لأن اليوم عند الرب كألف سنة (2 بط 3: 8)، ثم تبدأ راحة الرب في اليوم السابع (المُلك الألفي) وفي اليوم الثامن يكون مجيئه للدينونة. فمع بدء الألف السابعة للعالم يأتي المسيح ثانية ليملك على الأرض لمدة ألف سنة[285]، مثل القديس إيريناؤس[286]وكوموديان[287] وفيكتوريانوس[288] ولاكتانتيوس[289].

إن تركنا العلامات التي يمكن أن تنطبق على كل الأجيال، فإن عصرنا هذا يتسم بعلامات خاصة تؤكد سرعة المجيء، وقد سبق لنا الحديث عنها مثل عودة اليهود وإقامة إسرائيل، والصراع بخصوص إقامة هيكل لليهود، وشعور بعض اليهود أن المسيَّا قد وُلد فعلاً.

هذا وما أن يُعلن اليهود عن قبولهم لشخصٍ ما أنه المسيَّا المنتظر يكون قد تأكد المؤمنون أنه ضد المسيح، وأنه لن يبقى سوى 1290 يومًا، وهي فترة حكمه المُرَّة وقتله ثم فترة انتظار (45 يومًا) لتوبة الراجعين وتزكية المؤمنين.

الآن نقدم عرضًا لما ورد عبر التاريخ بخصوص ضد المسيح

ضد المسيح في الكنيسة الأولى:

منذ انطلاق الكنيسة للعمل الكرازي والتعبدي بعد العنصرة كانت توجه أنظار أولادها إلى حقيقتين أخرويتين:

  1. مجيء السيَّد المسيح الأخير، حيث يحمل كنيسته معه إلى حضن أبيه، لتشاركه مجده. الآن تتمتع الكنيسة بحلول السيَّد المسيح في وسطها وسكناه في قلوب المؤمنين، لينعموا بعربون مجده الداخلي، وتلتهب قلوبهم بالشوق كي تراه وجهًا لوجه قادمًا على السحاب.
  2. مجيء ضد المسيح، المقاوم للحق، والذي يدخل في معركة حاسمة أخيرة لحساب إبليس في أواخر الأزمنة. يبث ضد المسيح كل أنواع الخداع والفساد، إن أمكن أن يضل حتى المختارين. ويعد لهذا المضل أضداد للمسيح في كل عصر.

* ضد المسيح في العصر الرسولي:

يتحدث القديس يوحنا الحبيب عن أضداد المسيح في عصره، قائلاً: “أيها الأحباء لا تصدقوا كل روحٍ بل امتحنوا الأرواح، هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم… هذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي والآن هو في العالم” (1 يو 4: 1-3). هكذا يُحذرنا القديس يوحنا من أضداد المسيح الذين هم أنبياء (معلمين) كذبة لا ينطقون بالحق. وفي نفس الوقت يوجه القديس بولس أنظارنا إلى ضد المسيح الذي يرتبط مجيئه بحالة ارتداد خطيرة في نهاية الأزمنة، إذ يقول: “لأنه لا يأتي (يوم المسيح) إن لم يأتِ الارتداد أولاً، ويُستعلن إنسان الخطية، ابن الهلاك، المقاوم، والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا، حتى انه يجلس في هيكل الله كإلهٍ، مظهرًا نفسه أنه إله” (2 تس 2: 3-4).

 * في عصر الآباء الرسوليين:

يحدثنا واضع الديداكية (القرن الثاني – بعض نصوصها ترجع إلى القرن الأول) عن ضد المسيح بكونه مضلل العالم، الذي يدَّعي أنه ابن الله[290]، يحكم على الأرض ويصنع آيات وعجائب ويضطهد المؤمنين. لكن تتحقق النصرة الكاملة للسيد المسيح بظهور علامة (الصليب) في السموات المفتوحة، ويُسمع صوت البوق، ويقوم الأموات. عندئذ يأتي السيَّد المسيح ومعه جميع قديسيه على سحب السماء.

هذا ويربط واضع الديداكية بين مجيء السيَّد المسيح وانتشار البغضة والكراهية مع الظلم.

يدافع القديس بوليكربس أسقف سميرنا عن التجسد الإلهي، وموت السيَّد المسيح على الصليب، حاسبًا أن من ينكرهما هو ضد المسيح ومن الشيطان والابن البكر لإبليس[291].

* القديس يوستين الشهيد (حوالي 100-165):

يتحدث عن إنسان الخطية بكونه إنسان الارتداد الذي ينطق بما هو ضد العليّ، ويتجاسر بارتكاب أعمالٍ شريرةٍ ضد المسيحيين[292].

* القديس إيريناؤس:

يقول: [مع كونه لصًا ومرتدًا يهتم أن يُعبد كإله، ومع كونه عبدًا مُجردًا يرغب في إقامة نفسه ملكًا؛ وإذ يحمل قوة إبليس يأتي لا كملكٍ بارٍ خاضع لله، وإنما كإنسانٍ مُقاوم، فيه يتركز كل ارتداد شيطاني، مُخادعًا الناس بكونه الله[293]].

يرى القديس إيريناؤس وكيرلس الكبير أن ضد المسيح يقوم بتجديد الهيكل اليهودى في أورشليم كمركز لعمله. بينما يرى القديسون يوحنا الذهبي الفم وأغسطينوس وجيروم والأب ثيؤدرت أنه يتربع في هيكل الكنيسة المسيحية. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “إنه يجلس في هيكل الرب ليس فقط في أورشليم، وإنما في كل كنيسة”[294].

على أي الأحوال إن كان السيَّد المسيح قد جاء إلى العالم ليكرس كل قلب كهيكلٍٍ مقدسٍ للثالوث القدوس، وخلال هذا التقديس يعود للهيكل الإلهي قدسيته، فإنً ضد المسيح يأتي ليهدم القلوب ويفسد الهيكل القائم مغتصبًا إيّاه لحسابه، كما يفسد كنائس الرب ويضطهدها[295].

* العلامة ترتليان (160-240م تقريبًا):

ساد في القرون الأولى اعتقاد بأن هذا الإنسان يظهر بعد زوال الدولة الرومانية، وكانوا يتطلعون إلى الإمبراطورية كقوة مقاومة لظهوره. يقول العلامة ترتليان: [أي عائق له إلاَّ الدولة الرومانية، فإنه سيظهر الارتداد كمقاومٍ وضد المسيح[296]]. كما يقول: [نلتزم نحن المسيحيون بالصلاة من أجل الأباطرة واستقرار الإمبراطورية استقرارًا كاملاً، فإننا نعرف أن القوة المرعبة التي تهدد العالم يعوقها وجود الإمبراطورية الرومانية. هذه القوة التي لا نُريدها، فنصلي أن يؤجل الله ظهورها… بهذا تظهر إرادتنا الصالحة لدوام الدولة الرومانية[297]].

يرى أن ضد المسيح قد اقترب مجيئه جدًا، فيقول: [إنه الآن على الأبواب، يتوق إلى دم المسيحيين لا إلى الأموال[298]].

* العلامة أوريجانوس:

يتحدث العلامة أوريجانوس عن الآيات الشيطانية التي تتبع ضد المسيح وجودها، لكنها آيات خادعة وعاجزة، إذ لا تقدر أن تغير طبيعتنا الفاسدة إلى طبيعة مقدسة، ولا أن تهب نموًا في الحياة الفضلي، بل أن الممارسين لها أنفسهم لا يسلكون في نقاوة[299].

يرى العلامة أوريجانوس أن إنسان الخطية وهو يحمل أعمال الشيطان بكل عنفها وخداعها إنما يمثل الكذب الذي لا يمكن أن يكون له وجود بإعلان ظهور مجيء المسيح، أي ظهور الحق[300]. فظهور المسيح يسوع شمس البر في أواخر الدهور ويقضى تمامًا على ظلمة عدو الخير ويدفع بها إلى العذاب الأبدى، وإعلان الحق يحطم الكذب.

إذ اتبع العلامة أوريجانوس منهج التفسير الرمزي جاء تفسيره للأصحاح 24 من إنجيل متى (Comm. in Matthaeum on 24:3-4) رمزيًا، فيرى ضد المسيح هو التفسير الزائف للتعليم المسيحي والفضيلة المسيحية. أما أحداث الأزمنة الأخيرة فهي:

* المجاعة التي تسبق مجئ السيَّد المسيح هي مجاعة المسيحي للمعنى الذي هو تحت سطح الكتاب، أي المعنى الروحي أو الرمزي المختفي وراء الحرف.

* الأوبئة هي الخطابة المؤذية للنفس التي يستخدمها الهراطقة والغنوسيون.

* الاضطهادات هي التعاليم الباطلة التي يشوه بها المخادعون الحق المسيحي.

* رجسة الخراب في الموضع المقدس هو التفسير الخاطئ للكتاب المقدس.

* السحاب الذي يظهر عليه السيَّد المسيح هو كتابات الأنبياء والرسل التي تعلن عنه في النفس.

* السماء التي نتمتع بها هي الأسفار المقدسة التي تقدم لنا الحق.

* النصرة النهائية هي اعلان الانجيل في العالم.

استخدام العلامة أوريجانوس للتفسير الرمزي هنا لا يعني إنكار مجيء ضد المسيح كشخصٍ حقيقيٍ وذلك في أواخر الأزمنة.

* القديس هيبوليتس أسقف روما[301]  (القرن الثالث):

في مقاله “عن المسيح وضد المسيح De Christo et Antichristo” الذي اعتمد فيه على اقتبسات من العهدين: القديم والجديد، قال إن التاريخ سينتهي بظهور طاغيةٍ عنيفٍ، يقلد المسيح لكي يغلب كل الأمم لحسابه[302]. سيقوم ببناء الهيكل في أورشليم، ويكون أساسه السياسي هو مملكة روما (بابل الجديدة)[303].

سيدعو ضد المسيح كل الشعب لتبعيته، ويغويهم بوعود باطلة، ويكسب الكثيرين إلى حين[304]. ولكن إذ يبلغ الأمر إلى القمة يأتي الرب ويسبقه النبيان يوحنا المعمدان وإيليا[305]؛ يأتيان بمجدٍ، ويجمعان مؤمنيه معًا في موضع الفردوس[306]. سيحدث حريق ويسقط رافضوا الإيمان تحت الحكم العادل. عندئذٍ يقوم الأبرار إلى الملكوت والخطاة إلى نارٍ أبدية[307].

يفترض القديس هيبوليتس أن ضد المسيح سيكون يهوديًا، ويحدد أنه من سبط دان[308]، ويشترك القديس إيريناؤس معه في ذات الرأي[309].

وفي تفسيره سفر دانيالCommentary on Daniel  الذي يُعتبر أقدم تفسير آبائي للسفربين أيدينا، يربط القديس هيبوليتس بين مملكة ضد المسيح ونهاية العالم التي تتم بعد 6000 عامًا من الخليقة حيث يستريح الرب في اليوم السابع.

* كوموديان Commodian:

توجد قصيدتان شعريتان باللاتينية ترجعان إلى النصف الثاني من القرن الثالث أو إلى القرن الرابع، وهما منسوبتان لكوموديان، أول مسيحي لاتيني شاعر، هما  Carmen de Duobus populis, Instructionsيتحدثان عن الأيام الأخيرة هكذا:

سيقوم نيرون من الجحيم كضد المسيح يُحارب الكنيسة، وسيقف أمامه إيليا النبي الذي يرجع إلى العالم[310]. وأن المسيح الغاش هو إعادة حياة نيرون الذي سيصنع معجزات في اليهودية[311]. وتشير القصيدة Carmen عن مجيء ضد آخر للمسيح في الشرق، بينما تُشير القصيدة الأخرى إلى ظهور ضد واحد للمسيح، وهو نيرون الذي يأتي إلى أورشليم بعد نصرته على الغرب وخداعه لليهود الذين يقبلونه بكونه المسيَّا[312].

* القديس أثناسيوس الرسولي (حوالي 295-373):

إذ ذاقت الكنيسة الأمرّين من أريوس، تطّلع البابا أثناسيوس إليه كضد المسيح، لكن لا بروح الخوف والقلق، بل بروح النصرة والغلبة على الشر. ففي رسالته الفصحية العاشرة يقول: [كيف يُذكى طول الأناة مالم تأتِ أولاً اتهامات ضد المسيح الباطلة والمخادعة؟![313]] دعي أريوس “السابق” لضد المسيح[314]، الذي يُهيء لمجيء ضد المسيح. وقد دافع عن حرم وعزل الكنيسة لأريوس أنه بإنكاره لاهوت السيَّد المسيح اقترب جدًا من ضد المسيح[315].

* القديس كيرلس الأورشليمي (تنيح عام 364م):

يُقدم لنا القديس كيرلس الأورشليمي حديثًا عن ضد المسيح في مقاله الخامس عشر الخاص بمجيء السيَّد المسيح في مجده، جاء فيه:

  1. إن البغضة بين الإخوة هي الطريق الذي يُهيء لضد المسيح، وهو في هذا يتفق مع ما ذكره السيَّد المسيح أنه في الأيام الأخيرة تبرد محبة الكثيرين، كما يتفق مع ما ورد في الديداكية[316].
  2. تم الارتداد بظهور الهرطقات.
  3. أرسل الهراطقة روّاده للضلال الجُزئي حتى يأتي لينقَض على الفريسة.
  4. يُقيم نفسه إمبراطورًا على روما، فيخدع اليهود البسطاء المُنتظرين المُلك المادي، ويخدع الأمم بالعجائب المُخادعة.
  5. مُدة حكمه ثلاث سنوات ونصف تنتهي بظهور السيَّد المسيح في مجده من السماء.

يقول: [“فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي في المكان المقدس. ليفهم القارئ” (مت 24: 15). وأيضًا “حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا” (مت 24: 23).

إن كراهية الاخوة تفسح الطريق لمجيء ضد المسيح. لأن الشيطان يصنع الانقسام بين الناس حتى يقبلوا المزمع أن يأتي. لكن الله منع أي خادم من خدام المسيح أن يذهب إلى هنا أو هناك نحو العدو[317]].

[وإذ يكتب الرسول بولس في هذا الأمر يُعطي علامة واضحة إذ يقول: “لأنه لا يأتي (هذا اليوم) إن لم يأت الارتداد أولاً…” (2 تس 2: 3-10).

هكذا كتب بولس، وقد تم الارتداد إذ ارتد الناس عن الإيمان المستقيم، فالبعض يتجاسر ويقول إن المسيح أُوجد من العدم. كان الهراطقة من قبل ظاهرين، أما الآن فالكنيسة مملوءة هراطقة مستترون، إذ ضل الناس عن الحق وصموا آذانهم (2 تي 4: 3). هل يوجد مقال مملوء اعتدادا؟‍! الكل ينصت إليه بفرح! هل توجد كلمة للإصلاح؟ الكل يتحول عنها!

تحول الغالبية عن الكلمات الصحيحة واختاروا بالأحرى الكلمة الشريرة بدلاً من الصالحة. هذا هو الارتداد، والعدو يتطلع إليه فقد أرسل جزئيًا رواده حتى يأتي فينقض على الفريسة.

اهتم بنفسك يا إنسان ولتكن نفسك في أمان.

الكنيسة تحملك المسئولية أمام الله الحيّ، فهي تخبرك عما يخص بضد المسيح قبل أن يأتي. وإننا لا نعلم إن كان يأتي في أيامكم أو بعدكم، لكن يليق بكم إذ تعرفون هذه الأمور أن تحترسوا…[318]].

[لكن كما أنه كان يليق به (بالمسيح) من قبل أن يأخذ الناسوتية وكان منتظرًا أن يولد الله من عذراء، فقد خلق الشيطان خداعًا بإيجاد روايات عن آلهة كذبة تلد وتولد من نساء، لكي بوجود الأكاذيب لا يُصدق الحق. وهكذا أيضًا إذ يأتي المسيح مرة أخرى، فإن المقاوم يستغل فرصة انتظار البسطاء خاصة الذين من أهل الختان، فيأتي رجل ساحر نابغ في فنون السحر والعرافة مخادع ماكر يأخذ لنفسه سلطان إمبراطور روما ويُنصب نفسه مسيحًا كذابًا، وتحت اسم المسيح يخدع اليهود المنتظرين مجيء المسيح ويغوي الأمم بأضاليله السحرية[319]].

[هذا المسيح الكذاب السابق ذكره يأتي بعد انتهاء أزمنة إمبراطورية روما عندما تقترب نهاية العالم. سيقوم عشرة ملوك لروما ضد بعضهم، ربما يحكمون في مناطق مختلفة، لكنهم يقومون في زمن واحد، بعد هذا يأتي الحادي عشر أي الضد للمسيح الذي بخداعاته السحرية يغتصب القوة الرومانية، ومن هؤلاء العشرة ملوك الذين كانوا يحكمون سابقًا”

“يذل ثلاثة ملوك” (دا 7: 24) والسبعة يخضعهم لسطوته. في البداية يلبس مظهر اللطف والتعقل والحنو، وبالعلامات الكاذبة والعجائب السحرية المخادعة يخدع اليهود كما لو كان المسيح المنتظر. بعد هذا يُظهر كل أنواع الجرائم الوحشية والشرور، فيفوق كل الأشرار والملحدين الذين سبقوه، مستخدمًا روح قتال عنيفٍ جدًا ضد كل البشرية خاصة المسيحيين، فيكون بلا رحمة مملوء غشًا.

وبعد ثلاث سنوات وستة أشهر فقط تتحطم هذه الجرائم بالظهور المجيد لابن الله الوحيد ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الحقيقي من السماء، حيث يسحق ضد المسيح فمه ويلقيه في نار جهنم[320]].

[لسنا نُعلم بهذا من اختراعنا، بل تخبرنا به الكتب المقدسة الإلهية التي في الكنيسة وخاصة ما جاء في نبوة دانيال التي قرأت منذ قليل، كما فسرها رئيس الملائكة جبرائيل قائلاً “الحيوان الرابع مملكة رابعة على الأرض تفوق سائر الممالك” (دا 7: 23). ومعروف في تقليد مفسري الكنيسة أنها مملكة الرومان. فكما كانت المملكة الأولى التي ذاع صيتها هي مملكة الآشوريين، والثانية هي مملكة مادي والفرس معًا. وبعد هذا المملكة الثالثة هي المقدونيون، والرابعة هي مملكة الرومان. ثم يستمر جبرائيل في التفسير قائلاً “قرونه العشرة هم عشرة ملوك سيقومون ويقوم بعدهم آخر الذي يفوق في الشر كل سابقيه: (ليس فقط يفوق العشرة بل كل سابقيه)”. “ويذل ثلاثة ملوك” (دا 7: 24). واضح أنهم من العشرة ملوك السابقين… إنه “يتكلم بكلام ضد العليّ” (دا 7: 25). انه يكون مجدفًا وشريرًا، لا يأخذ المملكة عن آبائه بل يغتصبها بالسحر[321]].

[(من هو هذا؟ وما هو نوع عمله؟)

فسِّر لنا يا بولس. يقول “الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة” (2 تس 2: 9). مظهرًا أن الشيطان يستخدمه كأداة عاملاً في شخصه، ومن خلاله. فإذ يعلم أن دينونته لن تتأخر بعد كثيرًا، يصنع حربًا ليس خلال وكلائه كعادته بل يصنعها علنًا من ذلك الحين فصاعدًا. مستخدمًا “آيات وعجائب كاذبة”. لأن أب الكذب يعمل أعمال الكذب حتى يظن الناس أنها ترى الميت يقوم وهو لم يقم، والعرج يمشون والعمي يبصرون مع أنهم لم يشفوا حقيقة[322]].

[يقول أيضًا “المُقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا… حتى أنه يجلس في هيكل الله”.

يجلس في هيكل الله”.

أيّ هيكل هذا؟ لئلا يُظن أننا نفضل أنفسنا فإنه متى جاء لليهود على أنه المسيح راغبًا في أن يكون موضع عبادتهم، يعطي اهتمامًا للهيكل لكي يخدعهم تمامًا مُدعيًا أنه من نسل داود وأنه سيبني الهيكل الذي شيده سليمان هذا الذي متى جاء ضد المسيح لن يجد فيه حجر على حجر كما حكم بذلك مخلصنا…

إنه سيأتي “بآيات وعجائب كاذبة” رافعًا نفسه على كل الأصنام، فيتظاهر أولاً بمحبة الإحسان، لكن يعود فيظهر طبعه الذي لا يعرف الرحمة وخاصة ضد قديسي الله. إذ قيل “وكنت أنظر وإذا هذا القرن يُحارب القديسين” (دا 7: 21). وفي موضع آخر قيل “ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت” (دا 12: 1). مرعب هو هذا الوحش، تنين عظيم لا يهزمه إنسان، مستعد للافتراس، هذا لنا أن نتكلم عنه الكثير مما ورد في الكتب الإلهية، لكننا نكتفي الآن بهذا حتى لا نتعدى حدود المقال[323]].

* لاكتاتنتيوس (القرن الرابع):

يتحدث عن ضد المسيح قائلاً إنه سيأتي عدو قدير من أقصى الشمال[324]، في وقتٍ فيه يتدمر جو الجنس البشري الطبيعي[325]. أخيرًا يظهر ملك سرياني ابن الشيطان مخرب للجنس البشري ومدمرٍ له[326]. هذا الملك هو ضد المسيح الحقيقي[327]، الذي يطالب بالتعبد له؛ يصنع المعجزات، ويقتل النبي الذي سيرسله الله لكي يجمع شمل شعبه[328]. بعد ثلاث سنوات ونصف من اضطهاده للمؤمنين يرسل الله الملك العظيم يسوع المسيح من السماء ليُخلص المؤمنين، ويهلك ضد المسيح مع كل قواته[329]. وسيقوم كل المؤمنين ليدينوا من لم يعرفوا الله، هؤلاء الذين حُكم عليهم بالفعل وسقطوا تحت الدينونة[330]، لكنهم كانوا ينتظرون الموت الثاني والقيامة النهائية. بهذا يُلقى الأشرار في النار الأبدية، وهي نار إلهية تحيا بذاتها لا تحتاج إلى ما يشعلها، وتُبقي على من تستهلكه[331].

يفهم أيضًا من كلماته أن كل البشرية تدخل هذه النار، لكن الأبرار لا يحترقون “لأن فيهم ما هو من الله يقاوم قوة اللهيب ويستخف به”[332].

يؤكد لاكتانتيوس أن دينونة المؤمنين لن تتم بعد الموت مباشرة بل في مجيء السيَّد المسيح[333]. ويعتقد لاكتنتيوس أن الأبرار سيحكمون مع المسيح على بقية الأمم لمدة ألف سنة من السلام والرخاء العجيب[334].

* تيخون الأفريقي (القرن الرابع):

اعتقد تيخون الذي اتبع الدونستين أن ضد المسيح قد ظهر في أيامه في أفريقيا (مات عام 380 م)، وأنه سيعلن في كل العالم[335].

رأى أن ضد المسيح إلى أيامه كان يضطهد كنيسة المسيح الحقيقية بطريقة غير مباشرة وملتوية، يحمل مظهر القداسة مقدمًا سرّ الشر المخفي[336]. لكنه قد حان الوقت لظهوره علانية كشخصية حقيقية ويعلن عن أتباعه، فانه لا يعود ينطق بتجاديف على الله بطريقة خفية تحت ستار الدين وإنما يتحدث أمام الكل[337].

في نفس الوقت تنمو الكنيسة – جسد المسيح – على الدوام في مجدٍ غير منظورٍ، بجهادها المخفي[338]. وإذ تنتهي فترة النمو الغامضة هذه ويكمل عدد القديسين، يحل الشيطان من الهاوية الروحية حيث هو محبوس الآن، ويخطئ شعبه علانية ويعطلوا كرازة الكنيسة[339]. ولا يكون أمام القديسين إلاَّ بذل دمائهم[340]. حتى تستمر شهادتهم للإنجيل في كل الأرض بالرغم من الضيقة الشديدة والمقاومة[341].

الأيام الأخيرة بالنسبة له ليس فقط وقتًا للإعلان فحسب بل ولتطهير الكنيسة. بعد ذلك يُرسل الملائكة لجمع حصاد العنب من كرم الرب، وتُبنى المعصرة خارج المدينة (رؤ 14: 1). فيُعزل الخطاة عن جماعة المسيح[342]. يقول: “من لا يتعذب الآن بالتوبة سيتعذب حتمًا فيما بعد في جهنم”[343].

* القديس يوحنا ذهبي الفم:

يتطلع إلى نيرون بكونه ضد المسيح الذي ظن في نفسه إلهًا[344]. كما يقول: [دعاه: الارتداد، لأنه سيُهلك كثيرين ويجعلهم يرتدون، إن أمكن حتى المختارين أن يضلوا (مت 24: 24). دعاه: إنسان الخطية، لأنه يصنع شرورًا بلا حصر، ويثير الآخرين لفعل ذلك، ودعاه: ابن الهلاك لأنه هو نفسه أيضًا يهلك[345]].

شدة الهجوم الذي يشنه إنسان الخطية تجعل البعض ينظرون إليه أنه الشيطان بعينه، لذلك يتدارك القديس يوحنا ذهبي الفم ذلك بقوله: [“هل هو الشيطان؟ لا، إنما هو إنسان يبث فيه الشيطان كل أعماله”[346]].

ربما تُثير فينا كلمات الرسول بولس “والآن تعلمون ما يَحجزُ حتى يُستعلن في وقته، لأن سرّ الاثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يَحجزُ الآن (2 تس 2: 6-7) التساؤلات التالية:

ما هو هذا الحاجز الذي يعوق استعلان إنسان الخطية؟

ولماذا كتب الرسول بأسلوب غامض؟

وكيف يرفع من الوسط؟

يُجيب القديس يوحنا ذهبي الفم بأن في عصره ساد رأيان:

الرأي الأول: أن الحاجز هو الروح القدس الذي يعوق قيام إنسان الخطية حتى يحل الوقت المحدد. هذا الرأى يرفضه القديس يوحنا ذهبي الفم.

والرأي الثاني: أن الحاجز هو “الدولة الرومانية” التي تقف عائقًا عن ظهوره. وقد قبل القديس هذا الرأى مُتطلعًا إلى نبوة دانيال التي يفسرها هكذا: إن الدولة البابلية قامت على أنقاض مادي، وقام الفرس على انقاض بابل، والمقدونيّون (الدولة اليونانية) على انقاض سابقتها، والرومانية على أنقاض اليونانية، ويكون ذلك قبل مجيء المسيح يسوع ربنا ليملك على كنيسته في السموات إلى الأبد. ففي رأيه أن الرسول أخفي ما هو الحاجز لكى لا يُثير الإمبراطور الروماني ضد الكنيسة بكونها تتنبأ عن نهاية الدولة الرومانية وحلول ضد المسيح مكانها.

* القديس أمبروسيوس:

يبيد السيَّد المسيح “ضد المسيح” بروحه القدوس: [لا ينال (المسيح) نعمة تُوهب له، إنما يمثل الوحدة التي بلا انقسام، حيث لا يمكن أن يوجد المسيح بدون الروح، ولا الروح بدون المسيح، إذ وحدة اللاهوت لا تنقسم[347]].

* القديس أغسطينوس:

يرى القديس أغسطينوس أن السيَّد المسيح قد جاء إلى اليهود يطلب مجد الآب فرفضوه، وسيأتي ضد المسيح يطلب مجد نفسه فيحسبوه المسيا المنتظر: [إذ يعلن الرب عن ذاك الذي يطلب مجد نفسه لا مجد الآب (يو 7: 18) يقول لليهود: “أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني؛ إن أتى آخر باسم نفسه فذاك تقبلونه” (يو 5: 45). لقد أعلن لهم أنهم سيقبلون ضد المسيح الذي يطلب مجد نفسه منتفخًا، وهو ليس بصادقٍ ولا ثابتٍ وإنما بالتأكيد هالك. أما ربنا يسوع المسيح فأظهر لنا نفسه مثالاً عظيمًا للاتضاع، فمع كونه بلا شك مساوٍ للآب… لكنه يطلب مجد الآب لا مجد نفسه”[348]]. أما سرّ قبول اليهود لضد المسيح فهو تفكيرهم المادى وتفسيرهم الحرفي للنبوات. وكما يقول القديس أغسطينوس: [يبدو ليّ أن الشعب الإسرائيلي الجسداني سيظن أن النبوة تتحقق (في ضد المسيح)، القائلة: “خلصنا أيها الرب إلهنا واجمعنا من الأمم” (مز 106: 47). تتحقق تحت قيادته وأمام أعين أعدائهم المنظورين هؤلاء الذين سيأسرهم بطريقة منظورة ويقدم المجد المنظور[349].

كثيرون ظنوا أن العالم سينتهي بعد 6000 عامًا تقابل 6 أيام الخليقة ليستريح الرب في يوم السبت. أما القديس أغسطينوس فاعتقد أن الدينونة تأتي في اليوم الثامن “سبت الراحة”[350].

* القديس جيروم:

يرى أن كثيرين يقومون كرمزٍ لضد المسيح فيقول: [كما كان سليمان وقديسون آخرون رموزًا للمخلص، هكذا نؤمن بظهور رمزٍ لضد المسيح مثل أنطيوخس أكثر الملوك شرًا، مضطهد الكنيسة ومدنس الهيكل[351]].

في تفسيره سفر دانيال وتفنيده هجوم بورفيري Porphyry قال إن ضد المسيح هو إنسان يهودي من أصل وضيع سيُحطم مملكة الرومان ويسود العالم[352].

* سويرس Sulpicius Severus (حوالي 363-420):

أخبرنا أن معلمه القديس مارتن أسقف تورز St. Martin of Tours مقتنع بأن نيرون وضد المسيح سيُخضعان العالم قريبًا جدًا، وكان ذلك حوالي عام 396 م، وذلك كإعداد لنهاية العالم والدخول في المعركة الفاصلة. كما اعتقد أن ضد المسيح كان قد وُلد فعلاً وأنه صبي يستعد لنوال القوة في السن المناسب[353].

* نارساي Narsai السرياني (399-503 م):

يرى أن ضد المسيح هو إنسان يلبسه الشيطان تمامًا، فيصنع عجائب باهرة، ويؤسس سلامًا غاشًا، ويطلب أن يُعبد[354].

يعود إيليا إلى العالم لكي يقاوم ضد المسيح باسم البشرية المؤمنة، وسيغلبه في معركة واحدة حاسمة، بالروح القدس، متسلحًا بالكلمة[355]. وفي نهاية المعركة يظهر السيَّد المسيح نفسه ويتوج نصرة إيليا بسحق ضد المسيح في الجسد والنفس.

ينزل الرب إلى الأرض في بشريته المتجلية بالمجد في موكب مجيد لأرواح مسبحة يقودها ملاك متوشح بصليب على رأسه[356] ويُقيم الأموات من الأرض بعلامة بسيطة، ويحول طبيعة الأحياء حيث يلبسهم الخلود[357]. وبعلامة أخرى يفصل الأبرار عن الأشرار بدينونة عظيمة، حيث يقود كل خليقته إلى أتون الحكم فيصهرهم ليختار الذهب الحقيقي ويزدري بالغاش[358].

* اكيومينس Oecumenius (بداية القرن السادس):

كتب تفسيرًا لسفر الرؤيا اعتمد فيه على أقوال الآباء السابقين، فيه رفضوا فكرة الملك الألفي (المادي)، حاسبًا أن التلاميذ قد تربعوا على العرش بطريقة متواضعة في أيام السيَّد المسيح[359]. وتمتع البعض بالقيامة (الأولي) حقيقة بقبولهم حياة الإيمان الجديدة[360]، وأن القيامة الأولي (رؤ 20: 5) هي اجتذاب تلاميذ جدد إلى الحياة بالروح القدس[361].

تحدث أيضًا عن جوج وماجوج (رؤ 20: 8) بكونها قبائل بربرية غير معروفة تُصاحب الشيطان في اضطهاده المؤمنين[362]. وأن ضد المسيح سيأتي إنسانًا يلبسه شيطان، يصير ملكًا على اليهود، ويقتل إيليا وأخنوخ النبيين اللذين يظهرا في أواخر الدهور[363].

* رومانس Romanos The Melodist (القرن السادس):

يقدم لنا انعكاسًا للفكر الأخروي اليوناني والسرياني في عصره. خصص تسبحة (رقم 50) عن مجيء السيَّد المسيح الثاني، وصف فيها طغيان ضد المسيح في شيء من التفصيل[364].

يرى ضد المسيح أنه الشيطان متجسدًا[365]، يقاوم مؤمني المسيح بقوة[366]. وأنه يصنع معجزات ويقيم موتي[367]، ويبذل كل جهده لكي يقود الأبرار إلى حجال عرسه[368].

سيُلقي العدو في النار الأبدية، وهو وملائكته وكل الأشرار[369].

* أندراوس مطران قيصرية Andrew of Caesaraea:

 يرى الأب اندراوس من القرن السابع أن ضد المسيح يأتي من سبط دان[370]، من باشان في منطقة الفرات[371].

في رأيه أنه يظهر كمن هو إلهي[372]، يقيم نفسه إمبراطورًا رومانيًا، ويعيد تأسيس الإمبراطورية الرومانية[373]، لكنه لا يجعل عاصمتها روما بل يقيمها مملكة أرضية عامة، هي “جسد الذين يقاومون كلمة الله في كل الأزمنة والأماكن”[374].

يرى المطران أندراوس أن الله وحده هو الذي يعرف عدد السنوات اللازمة لكي تكمل الكنيسة[375].

* الأب يوحنا الدمشقي (حوالي 650-750 م):

قدّم لنا مفاهيم كتابية لضد المسيح. أصر أن ضد المسيح سيكون إنسانًا عاديًا قابلاً للموت، مولودًا من زنا، تلبسه قوة شيطانية، وسيقبله اليهود بحماسٍ[376]. سيضطهد الكنيسة ويخدع كثيرين بعلامات وعجائب كاذبة[377].

 يُرسل الله اخنوخ وإيليا ويُقتلا[378].

عندما يأتي السيَّد المسيح على السحاب كما صعد في مجد ويهلك الإنسان غير الشرعي (ضد المسيح)[379].

لقد رفض الأب يوحنا الدمشقي فكرة تجسد الشيطان تمامًا[380].

نقتبس هنا ما ترجمه له الأرشمندريت شكور في هذا الشأن[381].

مفاهيم كتابية عن المسيح الدجال:

[ينبغي أن تعلم أن المسيح الدجال لا محالة آتٍ وأنه لمسيح دجال كل من لا يعترف أن ابن الله قد أتى بالجسد وأنه إله كامل وأنه قد صار إنسانًا كاملاً بعد أن كان إلهًا. ومع ذلك فبالمعنى الخاص والحصري فإنهم يدعون المسيح الدجال ذاك الذي سوف يأتي في منتهي الدهر. ومن ثم ينبغي أن يُكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم (مت14:24)، كما قال الرب، ثم يأتي الدجال ليحاج اليهود مقاومي الله، فقد قال الرب لهؤلاء: “أنا أتيت باسم أبي فلم تقبلوني، ويأتيكم آخر باسم نفسه فذاك تقبلون” (يو 5: 43). وقال الرسول أيضًا: “لذلك يُرسل الله إليهم عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب، ويُدان جميع الذين لم يؤمنوا بالحق بل ارتضوا بالإثم” (2 تس 2: 10-12)].

اليهود سوف يقبلونه على أنه مسيحهم:

[فاليهود إذًا لم يقبلوا الرب يسوع المسيح، على أنه ابن الله والله، ويقبلون الغاش المدعي بأنه الله. وقد سمي نفسه الله لأن الملاك الملقن لدانيال يقول هكذا: “لا يعبأ بآلهة آبائه” (دا 11: 27).

ويقول الرسول: “لا يخدعنكم أحد بوجهٍ من الوجوه، لأنه لا بد أن يسبق الارتداد أولاً، ويظهر إنسان الخطيئة ابن الهلاك المعاند المترفِّع فوق كل من يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى إنه يجلس في هيكل الله ويُري من نفسه أنه هو الله” (2 تي 2: 3-4). هو يقول “في هيكل الله” – لا هيكلنا – بل الهيكل القديم اليهودي، لأنه لا يأتي إلينا بل إلى اليهود. ليس لأجل المسيح، بل ضد الذين هم للمسيح. لذلك يُدعي المسيح الدجال].

سيكون المسيح الدجال رجلاً حقيقيًا:

[وعليه ينبغي أن يكرز بالإنجيل في جميع الأمم، “وحينئذ يظهر الذي لا شريعة له ويكون مجيئة بعمل الشيطان بكل قوة وبالعلامات والعجائب الكاذبة، وبكل خديعة وظلم في الهالكين، فيُهلكه الرب يسوع بنَفَسْ فمه ويبطله بمجيئه” (2 تي 2: 8-10). وعليه فإنه ليس هو بالشيطان الذي يصير إنسانًا على مثال تأنس الرب، حاشا! بل هو إنسان يولد من زنى، ويتسلم كل عمل الشيطان. وقد سبق الله وعلم شناعة اختياره فترك للشيطان أن يسكن فيه].

بداية المسيح الدجال وامتداد نفوذه:

[إذًا قلنا إنه سُيولد من زنى ويتربى في الخفية ويثور فجأة ويستولي ويملك. وفي أوائل تملكه أو الأحرى تجبره يتظاهر بالعدل. وعندما تكون قد اتسعت سلطته يضطهد كنيسة الله ويُظهر كل شره. “وبكون مجيئه بالعلامات والعجائب الكاذبة” (2 تس 2: 9) المضلة وغير الصادقة. ويخدع من كان أساس ذهنهم فاسدًا وضعيفًا ويُبعدهم عن الله الحي و”يُضل المختارين لو أمكن” (مت 24: 24)].

محاربة أخنوخ وإيليا ضد المسيح الدجال:

[وسيُرسل الله أخنوخ وإيليا التشبي فيُعيدان قلوب الآباء إلى الأبناء، أي شيوخ المجمع إلى ربنا يسوع المسيح وإلى كرازة الرسل. ولكنه سيقتلهما. ثم يأتي الرب من السماء كما كان شاهده الرسل القديسون صاعدًا إلى السماء، إلهًا كاملاً وإنسانًا كاملاً، بمجد وقوة، فيهلك بنفس فمه الإنسان الزائغ عن الشريعة وابن الهلاك. فلا يتوقعن أحد إذًا مجيء الرب من الأرض بل من السماء، على ما أكده لنا هو نفسه].

* البابا غريغوريوس (الكبير):

جاء في سيرته التي سجلها الشماس يوحنا في القرن التاسع أن البابا غريغوريوس كان يحسب أن يوم الدينونة قريب الحدوث وأن نهاية العالم على الأبواب بما يرافقها من كوارث عديدة[382]. لقد اتبع التقليد اللاتيني القديم فرأى في الأمراض الاجتماعية لعصره علامة أن العالم قد شاخ[383]. لقد قال: “صارت ضربات الأرض الآن مثل صفحات كتبنا[384]“.

كتب إلى الإمبراطور موريس Maurice:

[سوف لا يحدث تأخير،

السماء والأرض تحترقان،

والعناصر تنحل،

وسيظهر الديّان المهوب مع الملائكة ورؤساء الملائكة والعروش والسلاطين والرؤساء والقوات[385]].

كان يرى البابا غريغوريوس في عجرفة أخيه أسقف القسطنطينية كبرياء ضد المسيح عاملاً فيه[386].

مع اعتقاده بسرعة نهاية العالم، لكنه اعتقد انها لا تتم في عصره[387].

* آراء متطرفة:

في القرون الوسطى اهتم كثير من اللاهوتيين الغربيين بموضوع “ضد المسيح” فتطلع بعض مقاومي السلطان الكنسي في أوربا إلى الكرسي البابوي كضد المسيح. يقول الأب برنارد: “صار خدام المسيح خدامًا لضد المسيح، وجلس وحش الرؤيا على كرسي القديس بطرس”[388].

غير أن كثير من اخوتنا اللاهوتيين البروستانت رفضوا هذا الرأى، مؤكدين أن ضد المسيح ليس نظامًا معينًا، بل هو إنسان معين يظهر في أواخر الدهور قبل مجيء السيَّد المسيح الأخير.

وكما اتهم بعض المتطرفين من البروتستانت البابوية انها “ضد المسيح”، فإنه من الجانب الآخر قام بعض المتطرفين الكاثوليك يتهمون الحركة البروتستانتية كضد المسيح، ورفض بعض اللاهوتيين الكاثوليك ذلك[389].

فاصل

سفر دانيال: 1234567891011121314

تفسير سفر دانيال: مقدمة123456789101112 

زر الذهاب إلى الأعلى