تفسير سفر التثنية ١٣ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثالث عشر
الغواية إلى العبادة الوثنيَّة
في الأصحاح السابق تحدَّث في شيء من الحزم والصراحة ضدّ الوثنيَّة والوثنيِّين المصرّين على العبادة للأصنام، الآن يوجِّه حديثه عن الذين يغوون اخوتهم نحو الوثنيَّة. الله ليس عنده محاباة، لذا جاءت الشريعة غاية في الصرامة ضدّ الإسرائيليِّين الذين يغوون اخوتهم.
يُعالج موسى النبي هنا الجانب السلبي من الوصيَّة الأولى الخاصة بإبادة كل أثرٍ للوثنيَّة، فإذا بدت قاسية، فلنذكر أنَّه كان يجب تطهير الأرض من عبادة الأصنام، بإهلاك الوثنيِّين الكنعانيِّين. ويجب أن يلقى كل إسرائيلي نفس المصير إذا وقع في نفس الخطأ.
اعتمدت العبادات الكنعانيَّة على العِرافة والسحر وما شابه ذلك، الأمر الذي حرَّمه الله تمامًا. لهذا بعد أن تحدَّث عن إبادة كل أثر للعبادة الوثنيَّة وتهيئة الجو للعبادة لله الحيّ وحده عالج موضوع الذين يدَّعُون النبوَّة كذبًا أو الذين يغوون الآخرين نحو العبادة الوثنيَّة، سواء كان هؤلاء يدعون النبوَّة وعمل المعجزات، أو كانوا من أقرب الأقرباء، أو يمثِّلون مدينة بأكملها.
بعد تركيزه على الذبيحة المقدَّسة في هيكل الرب الواحد، حذرنا من مصادر الانحراف، إذ يليق بنا أن نحمل روح التمييز فلا ننخدع وراءها. هذه المصادر هي:
1. النبوَّة الكاذبة [1-6]: في كل عصر يوجد أنبياء كذبة يخدعون البسطاء بالآيات والعجائب، كما فعل السحرة في أيَّام موسى (راجع 2 تس 2: 9؛ مت 24: 23-25؛ رؤ 13:13-14).
2. علاقات القرابة والدم [7-11]: كما حدث مع سليمان الذي جرى وراء آلهة غريبة بسبب نسائه الأجنبيَّات. يلزمنا أن نبتر كل علاقة تحطِّم أبديَّتنا بلا تردُّد.
3. الانحراف الجماعي [12-18]: كثيرون ينحرفون بسبب الضغط الجماعي كي لا يبدو أنَّهم شواذ. آمن القدِّيس أثناسيوس الرسولي أنَّه يمارس عمل الرب لذا قال بقوَّة: “وأنا ضدّ العالم“. لنحب سكان العالم ونترفَّق بالجميع، لكنَّنا لا ننجرف خلال هذا التيار، بل نلتزم بالسلوك حسبما تمليه علينا رسالتنا!
1. النبي الكذَّاب [1-5].
2. القريب الذي يغوي [6-11].
3. المدينة التي تغوي [12-18].
وسائل الغواية:
يرى البعض أن موسى النبي قدَّم في هذا الأصحاح ثلاث وسائل للغواية تعمل في كل عصر لتحطيم الإيمان:
أولاً: الفلسفات الإلحاديَّة، فالفلاسفة الملحدون أشبه بأنبياء كذبة يقدِّمون فلسفاتهم بأسلوب معسول جذَّاب، فيكون أشبه بالآيات والعجائب التي تخدع البسطاء.
ثانيًا: الجو الاجتماعي والأسري الفاسد، يسحب الإنسان عن الشركة الحيَّة مع الله.
ثالثًا: الرأي العام، إذ ينحني الإنسان للرأي السائد حتى لا يُحسب متخلِّفًا عن المجتمع، حتى وإن كان هذا الرأي محطِّمًا لأبديَّته.
1. النبي الكذَّاب:
“إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا،
وأعطاك آية أو أعجوبة.
ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلَّمك عنها، قائلاً:
لنذهب وراء آلهة أخرى لم نعرفها ونعبدها.
فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم،
لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبُّون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم” [1-3].
النبي الكاذب شخصيَّة مألوفة في العهد القديم تعاود الظهور في العهد الجديد، خادمة إبليس، مغرية على الشرّ (مت 24: 24، رؤ 18: 20). يدَّعي النبي الكاذب أنَّه يتقبَّل إعلانات إلهيَّة بطريقة أو أخرى كما بواسطة الأحلام؛ ويحاول تأييد ادعائه بصنع آيات أو عجائب مخادعة.
لقد استلم الشعب الشريعة، فلم يكن بالصعب عليهم اكتشاف الأنبياء الكذبة. كلمة الله هي التي تفرز النبي الحق من النبي الكذَّاب، أمَّا صنع الآيات والعجائب فليس معيارًا لصدقهم أو كذبهم، لأنَّها قد تخدع.
لا نتعجَّب من إمكانيَّة قيام أناسٍ من وسط الشعب يدَّعون النبوَّة ويصنعون آيات وعجائب لكي ينحرفوا بالمؤمنين عن الحق. لهذا يحذِّرنا الرسول بولس قائلاً: “إن بشَّرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشَّرناكم فليكن أناثيما” (غلا 1: 8). سيصنع ضدّ المسيح أيضًا في آخر الأيَّام عجائب وآيات، حتى لو أمكن أن يضل المؤمنين (مت 24: 24). والشيطان نفسه أحيانًا يظهر على شكل ملاك نور لكي يضلِّل المؤمنين (2 كو 11: 14).
يحذِّرنا السيِّد المسيح قائلاً: “حينئذ إن قال لكم هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدِّقوا، لأنَّه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلُّوا لو أمكن المختارين أيضًا، ها أنا قد سبقت وأخبرتكم” (مت 24: 23-25).
يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [يتحدَّث هنا عن ضدّ المسيح والذين يدعون مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، الذين يوجدون بكثرة حتى في أيَّام الرسل، أمَّا قبل مجيء المسيح الثاني فيوجدون بأكثر حرارة ].
يستخدم ضدّ المسيح وأتباعه كل وسيلة للخداع، مقدِّمًا آيات وعجائب هي من عمل عدو الخير للخداع.لذلك فالحياة الفاضلة في الرب وليس الآيات هي التي تفرز من هم للمسيح ومن هم لضدّ المسيح. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [يحذِّرنا الرب من أنَّه حتى الأشرار يقدرون أن يصنعوا معجزات معيَّنة لا يستطيع حتى القدِّيسين أن يصنعوها، فليس بسببها يُحسبون أعظم منهم أمام الله].
لماذا يسمح الله بوجود أنبياء كذبة؟ لكي يتزكَّى المؤمنون، ويكلَّلون من أجل محبَّتهم له من كل قلوبهم ومن كل أنفسهم.
يحذِّرنا من الأنبياء الكذبة وأصحاب الأحلام الباطلة، لكي لا نجري وراءهم ولا نمارس ما يطلبونه، بل ولا نعطي آذاننا للاستماع إليهم. “فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم“. هكذا ننجو من السقوط الذي حلَّ بأمِّنا حواء لأنَّها أعطت أذنيها للحيَّة. ففي بعض التجارب يليق بنا أن نقول مع السيِّد المسيح: “ابعد عنِّي يا شيطان“.
يظهر الله هنا كطبيب عجيب يعلم أن النبي الكاذب كخليَّة السرطان إن تُركت في الجسم دمَّرته تمامًا، لهذا يلزم استئصاله من وسط شعبه. لقد تُرك آخاب الملك وإيزابل وسط الشعب، فاجتذبا الشعب إلى العبادة الوثنيَّة، فسقط كثيرون تحت الحكم الإلهي. قُتل الآلاف وصار الكثيرون عبيدًا في مذلَّة يُعاملون من الأشوريِّين كحيوانات. ألم يكن من الأفضل رجم الأنبياء عِوض كل هذا الدمار؟!
v قد يقول أحد: “ماذا نفعل فإن السحرة والرائيين غالبًا ما يكشفون لنا عن علامات حقيقيَّة خاصة بالمستقبل؟” يحذِّرنا الكتاب المقدَّس في هذا الشأن وينصحنا: فإنَّهم وإن قالوا الحق فلا تصدِّقوهم “لأن الرب إلهك يمتحنكم لكي يعلم هل تتَّقونه أم لا” [3][129].
الأب قيصريوس
v كثيرون ينسبون لأنفسهم اسم المسيح ليخدعوا إن أمكن حتى المؤمنين.
الأب ثيؤفلاكتيوس
v عندئذ سُيحل الشيطان فيعمل بكل قوَّته خلال ضدّ المسيح بطريقةٍ باطلة ومدهشة… إنَّه يخدع الحواس الميِّتة بأوهام، فيظهر كمن يعمل أعمالاً في الحقيقة هي وهم؛ أو ربَّما يفعل عجائب حقيقيَّة لكنَّها تضلِّل الناس عن الحق، إذ يحسبونها قوَّة إلهيَّة.
القدِّيس أغسطينوس
v المسيح هو الحق، وضدّ المسيح يبطل الحق. المسيح هو الحكمة، ويأخذ ضدّ المسيح مظهر الحكمة بسرعة وبطريقة حاذقة. كل الأمور الممتازة تنطبق على المسيح وكل مظاهر الفضائل (المخادعة) تنطبق على ضدّ المسيح. فإن كل نوع من الصلاح يعبَّر عنه المسيح في ذاته لبنيان المؤمنين، يجد الشيطان طريقًا لتقليده بطريقة سخيفة مظهريَّة لكي يخدع المؤمنين[130].
العلامة أوريجانوس
يرى العلامة أوريجانوس أن ضدّ المسيح (والأنبياء الكذبة) يفسد مفهوم الكتب المقدَّسة فتحل رجسة الخراب في هيكل الرب (مت 24: 15).
v يفهم بالموضع المقدَّس كل قول ورد في الكتاب الإلهي الذي تكلَّم به الأنبياء من موسى فيما بعد، ونطق به الإنجيليُّون والرسل. في هذا الموضع المقدَّس الذي للكتب المقدَّسة غالبًا ما يقف ضدّ المسيح، الكلمة الباطل؛ هذه هي رجسة الخراب[131].
العلامة أوريجانوس
قيل “الله لا يجرَّب أحدًا” (يع 1: 3)، لا يُفهم أن الله لا يجرِّب أحدًا بأي نوعٍ من التجارب بل لا يجرِّبه بأنواع معيَّنة، لئلاَّ يكون المكتوب باطلاً: “الرب إلهكم يمتحنكم (يجرِّبكم)” (تث 13: 3). الله لا يجرِّبنا بالتجربة التي تقودنا للخطيَّة، لكنَّه يهبنا أن نُجرَّب بالتجربة التي بها يُمتحن إيماننا.
ماذا يعني بقوله: “لكي يَعلَم“؟ أنَّه لا يحتاج أن يمتحنا لكي يعلَم ما في داخلنا، لكنَّه يقصد بذلك أنَّنا نكتشف نحن ذواتنا فنعلَم ما في داخلنا.
v على كل الأحوال لا يمكن أن يفهم القول… بأي معنى سوى هذا، إنَّكم بواسطته تُعرفون، ويكون ذلك شهادة لكم عن تقدُّمكم في محبَّته[132].
v هذا يعني أنَّه يجعلنا أنَّنا نحن نعرف[133].
v أنَّها تعني أنَّه يجعلنا “نعلم“. مرة أخرى في العبارة: “قم يا رب” (مز 3: 7) تعني اجعلنا أن نقوم، هكذا عندما يُقال أن الابن لا يعلم هذا اليوم، ليس لأنَّه يجهله، وإنَّما لا يجعل الذين لا يعرفونه بعد يعرفوه ولا يظهره لهم[134].
القدِّيس أغسطينوس
هكذا من الجانب السلبي نرفض مجرَّد الاستماع لهذا الصوت الغريب، أمَّا من الجانب الإيجابي فيقول:
“وراء الرب إلهكم تسيرون،
وإياه تتَّن،
ووصاياه تحفظون،
وصوته تسمعون،
وإيَّاه تعبدون،
وبه تلتصقون” [4].
هكذا نكرِّس كل كياننا للشركة مع الله بالسير معه، والسلوك بمخافته، وحفظ وصاياه، وتقديس الآذان للاستماع إليه.
تظهر جسامة الجريمة، إذ يأمر بقتل المجرم نفسه، حتى لا يحطِّم إيمان آخرين.
“وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يُقتل،
لأنَّه تكلَّم بالزيغ من وراء الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر وفداكم من بيت العبوديَّة،
لكي يطرحكم عن الطريق التي أمركم الرب إلهكم أن تسلكوا فيها،
فتنزعون الشرّ من بينكم” [5].
كان يصعب على الشعب أن يميِّز بين المرض والمريض، فمتى كان المرض خطيرًا وتنتقل عدواه سريعًا يُقتل المريض حتى ينجو الشعب من الوباء.
يُنظر إلى النبي الكذاب كعدوٍ عام للشعب وكخائنٍ للبلد ولله ملك الملوك، لذلك يُحكم عليه بالإعدام رجمًا.
حذّر الله شعبه في العهد القديم من قيام أنبياء كذبة، وفي العهد الجديد ربط بين قيام أنبياء ومسحاء كذبة ونهاية الأيَّام (مت 24: 11؛ 1 تي 4: 1؛ 2 بط 2: 1)، وإن الآيات والعجائب ستكون مضلِّلة (مت 24: 24؛ 2 تس 2: 9-10). وجاء المعلِّمون الكذبة ضمن قائمة الأنبياء الكذبة (مت 7: 15؛ 2 بط 2: 1). وبسبب شوق البشريَّة إلى المعرفة يسقطون في هذا الخداع بغير حكمة (أف 4: 14)، إذ يرغبون في معرفة ما هو جديد (2 تي 4: 3).
يمتحن الأنبياء بواسطة الشريعة وكلمة الله (إش 8: 20). يأمرنا القدِّيس يوحنا الحبيب: “امتحنوا الأرواح” (1 يو 4: 1)، فإن كانت تعاليمهم مناقضة لكلمة الله يجب رفضهم. “إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام، لأن من يسلِّم عليه يشترك في أعماله الشرِّيرة” (2 يو 10-11)
2. القريب الذي يغوي:
إذ كان وباء انتشار الوثنيَّة خطيرًا لذلك طالبت الشريعة بقتل من يغوي على العبادة الوثنيَّة، مهما كانت درجة قرابة الإنسان الذي يحاول الإغواء سرًا، أو مهما بلغت صداقته له. فإنَّه يليق بالمؤمن أن يحدِّد موقفه: الله أم قريبه؟ فإن الله يحسب كل حب نقدِّمه للقريب مقدَّم له، لكن إن كان هذا الحب يفقدنا شركتنا مع الله، فلنا أن نختار أحد الاثنين. بنفس الروح: “من أحبَّ أبًا أو أمَّا أكثر منِّي فلا يستحقَّني، ومن أحبَّ ابنًا أو ابنة أكثر منيَّ فلا يستحقنيَّ” (مت 10: 37). “إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يُبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا” (لو 14: 26).
“وإذا أغواك سرًّا أخوك ابن أمَّك أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلاً:
نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك،
من آلهة الشعوب الذين حولك،
القريبين منك أو البعيدين عنك،
من إقصاء الأرض إلى إقصائها،
فلا ترض منه،
ولا تسمع له،
ولا تشفق عينيك عليه،
ولا ترق له، ولا تستره،
بل قتلاً تقتله.
يدك تكون عليه أولاً لقتله ثم أيدي جميع الشعب أخيرًا.
ترجمه بالحجارة حتى يموت” [6-10].
“وإذا أغواك سرًّا أخوك“، الأخ في العبريَّة هو القريب، وهذا ما نلاحظه في أيَّامنا كيف تسحب الروابط العائليَّة الكثيرين إلى الارتداد، فتهاجمنا التجربة حتى عن طريق بيوتنا.
“أخوك ابن أمَّك“، ليس فقط من هو في مرتبة الأخ، بل وإن كان أخًا حسب الجسد من أم واحدة.
“امرأة حضنك“، أي زوجة تحبُّها وتحتضنها، وتلتزم أن تحميها كما بأحضانك.
“صاحبك الذي مثل نفسك“، أي الصديق العزيز إلى الإنسان كنفسه. جاءت كلمة “صاحب” في العبريَّة بمعنى من تجد فيه بهجة، وتدخل معه في صداقة حقَّة.
ليس عجيبًا أن يتحدَّث عن الأخ أو الأخت أو الابن والابنة أو الصديق الذي يحاول سرَّا أن يجتذب الإنسان إلى الخطيَّة، فقد استخدم الشيطان حواء لتغوي رجلها آدم، وظن أيضًا أنَّه قادر أن يخدع يسوع المسيح خلال تلميذه بطرس.
الإغواء إلى الشرّ يحوِّل القريب إلى عدو، إذ يصير قاتل نفسٍ. من نحبُّهم ونعتز بهم، إن أساءوا استغلال هذا الحب فيخونونا بإهلاك نفوسنا يأخذون موقف الأعداء الذين يجتذبوننا إلى خطيَّة مهلكة.
يبدأ الشخص المُتَّهم بالرجم أولاً ليحمل المسئوليَّة أمام الله أنَّه صادق في اتهامه لقريبه أو لصديقه أنَّه يغويه سرًّا على العبادة الوثنيَّة، ثانيًا لكي يعلن أن الله قبل كل قريب أو صديق، هو فوق الكل.
“لأنَّه التمس أن يطوِّحك عن الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبوديَّة.
فيسمع جميع إسرائيل ويخافون ولا يعودون يعملون مثل هذا الأمر الشرِّير في وسطك” [10-11].
مع أن الغواية تتم سرًا [6]. لكن العقوبة تتم علنًا [10]، حتى يكون عبرة لمن يظن أنَّه يخدع غيره في الخفاء. يجب أن يكون العقاب علنًا حتى يخاف الباقون ولا يخطئون، كما توضِّح ضرورة التشدُّد في هذا التدبير الجديد الذي فيه يسكنون الأرض (أع 5: 11).
3. المدينة التي تغوي:
ماذا إن قامت المدينة بأكملها أشبه بثورة ضدّ العهد مع الله وخدمت آلهة غريبة؟
“إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها قولاً،
قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك، وطوَّحوا سكَّان مدينتهم قائلين:
نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفوها،
وفحصت وفتَّشت وسألت جيدًا، وإذا الأمر صحيح وأكيد، قد عُمل ذلك الرجس في وسطك،
فضربًا تضرب سكَّان تلك المدينة بحد السيف وتخربها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف.
تجمع أمتعتها إلى وسط ساحتها وتُحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك،
فتكون تلاًّ إلى الأبد لا تُبنى بعد.
ولا يلتصق بيدك شيء من المُحرَّم” [12-17].
يلاحظ الآتي:
أولاً: يقول “إحدى مدنك“، أي إحدى مدن إسرائيل، فإنَّه ليس لنا أن نحكم على الذين في الخارج، وكما يقول الرسول بولس: “لأنَّه ماذا لي أن أدين الذين من خارج؛ ألستم أنتم تدينون الذين من داخل، أمَّا الذين من خارج فالله يدينهم؟” (1 كو 5: 12-13).
فالمدينة التي تعبد الله الحيّ ثم انحرفت بكاملها للعبادة الوثنيَّة، وصارت عثرة لبقيَّة مدن يهوذا. وكما يقول بطرس الرسول: “لأنَّه كان خير لهم لو لم يعرفوا طريق البرّ من أنَّهم بعدما عرفوا يرتدُّون عن الوصيَّة المقدَّسة المسلَّمة لهم” (2 بط 2: 21).
ثانيًا: إذا قام بعض الرجال بإغراء الشعب، يدعوهم “بنو لئيم“. بنو لئيم معناها “بطَّالون“، وقد ترجمت “بنو بليعال” في (قض 19: 22، 20: 13) في قصَّة جبعة. هؤلاء ليس فيهم مخافة الرب، ولا يخشون حتى الناس، يقاومون ضمائرهم ويكسرون الشرائع. يقول الرسول: “أي اتِّفاق للمسيح مع بليعال؟” (2 كو 6: 15) وكأنَّه يضع بليعال في مكان الشيطان، فبنو بليعال هم “أبناء إبليس“. هكذا صار هؤلاء خميرة فاسدة حوَّلت كل العجين إلى الفساد لتحمل طبيعة إبليس الفاسدة.
يحذِّرنا الكتاب المقدَّس من الأشرار: “أمَّا خاطئ واحد فيُفسد خيرًا جزيلاً” (جا 9: 18). “لا تضلُّوا، فإن المعاشرات الرديَّة تفسد الأخلاق الجيِّدة” (1 كو 15: 33).
ثالثًا: لما كان الأمر فيه دمار للمدينة، لهذا يلزم الفحص بتدقيق والسؤال جيِّدًا والتأكَّد من حقيقة الأمر. عندما أراد الله أن يهلك مدينة سدوم قال: “انزل وأرى” (تك 18: 21).
يرى بعض الكتَّاب اليهود أنَّه إذا أُتُّهم إنسان أنَّه يغوي إلى العبادة الوثنيَّة فإنَّه يُقدَّم للمحاكمة لدى محكمة صغرى، أمَّا إذا أُتُّهِمت مدينة بذلك فتُقدَّم أمام مجمع السنهدريم. فإذا تيقَّن المجمع من صدق الأمر أرسل اثنين متعلِّمين للنصح والإرشاد، فإن قبلت المدينة النصح، وقدَّمت توبة تُقبل، وتصير المدينة في سلام. وإن رفضت وأصرَّت على العبادة الوثنيَّة يقيمون حربًا ضدَّها لإبادتها منعًا من تسرُّب أفكارها الوثنيَّة إلى غيرها من مدن إسرائيل.
رابعًا: إن وُجدت قلَّة قليلة مؤمنة فإنَّها تخرج من المدينة، كما من مكان خطر، بعد ذلك يُضرب الرجال والنساء والأطفال بالسيف [15]، ثم يُؤتى بكل الأمتعة في ميدان عام وتُحرق بالنار، وتتحوَّل المدينة إلى رماد ولا تُبنى من جديد.
خامسًا: لا يسمح لأحد أن يأخذ شيئًا من أمتعة هذه المدينة لأنَّها محرَّمة [17]، وإلاَّ كان نصيبه مثل عخان بن كرمي، إذ خان خيانة وأخذ من الحرام، فغضب الرب على بني إسرائيل بسببه (يش 7: 1).
سادسًا: يُزال كل أثر للخطيَّة “لكي يرجع الرب من حمو غضبه” [17]. هكذا فإن الله غيور ويحسب عبادة آلهة غريبة جريمة كبرى. في العهد الجديد يُحسب الله الخلط بين مائدة الرب ومائدة الشيَّاطين خطيَّة عظمى إن صح التعبير.
“إن ما يذبحه الأمم فإنَّما يذبحونه للشيَّاطين لا لله. فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشيَّاطين. لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شيَّاطين ولا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شيَّاطين. أم نغير الرب؟ ألعلَّنا أقوى منه؟” (1 كو 10: 19-21).
سابعًا: يُكافئ الله الذين يرجعون عن هذه الخطيَّة، بكونهم صانعي الحق في عينيه. “لكي يرجع الرب من حمو غضبه ويعطيك رحمة يرحمك ويكثرك كما حلف لآبائك. إذا سمعت لصوت الرب إلهك لتحفظ جميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم لتعمل الحق في عيني الرب إلهك” [17-18].
من وحيّ تثنية 13
لتنكسر كل يدٍ تغويني!
v يدك تحملني كما إلى أحضانك الأبديَّة.
لتنكسر كل يدٍ تسحبني منك.
إن امتدت يد نبي كاذب أو مخادع لتصنع آيات،
يدك وحدها تقدر أن تحفظني.
فلا يخطفني أحد منك.
v لتُبتر يد أخي أو أختي أو أي قريب لي،
إن تجاسرت لتستغل القرابة،
فتحرمني من التمتُّع بالقرابة لك!
فأنت أبي وأخي وأختي والكل لي!
v إن انحرفت المدينة بأكملها وراء الباطل،
وإن انخدع العالم كلُّه وراء الفساد،
تبقى نفسي أمينة لك!
أنت فوق الكل!
لأقتنيك يا أيها القدُّوس،
حتى وإن فقدت العالم كلُّه!