تفسير سفر التثنية ٢٠ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح العشرون
القانون العسكري
إذ كان الشعب في طريقه للتمتُّع بأرض الموعد حسب وعد الله لآبائهم كان إسرائيل يمثِّل معسكرًا حربيًا أكثر منه مملكة. بلا شك كان السؤال الذي يشغل أذهان الكل، كهنة وشعبًا، رجالاً ونساءً، وربَّما حتى الأطفال هو: “ما هو دورنا في المعارك القادمة؟” لهذا كانوا في حاجة أن يضع لهم الرب سلوكًا خاصًا بحروبهم مع الأمم التي يحتلُّون أرضهم، وأيضًا الأمم المجاورة. ويلاحظ في جوهر هذا السلوك إدراك وجود الله وسط شعبه ليتمِّم خطَّته بهم لتهيئة أمَّة مقدَّسة متحرِّرة من كل الرجاسات التي كانت تمارسها الأمم الوثنيَّة، حتى يأتي مخلِّص العالم كلُّه.
الشريعة الواردة هنا تناسب وقت غزو الأرض لتذكيرهم بأن الحرب للرب (1 صم 17: 47).
يوضح دكتور جاميسون Dr. Jameson أنَّه لا يوجد وجه للمقارنة بين ما قدَّمته الشريعة هنا وبين ما كانت تسلكه الأمم في ذلك الحين بخصوص الحروب والعادات الخاصة بها[228].
1. الخروج للحرب [1-9].
2. حصار المدن خارج كنعان [10-15].
3. المدن المحرَّمة [16-18].
4. التصرُّف في أشجار المدن [19-20].
1. الخروج للحرب:
وضعت هذه الشريعة الخاصة بالحروب إلى حين يملك الشعب عوض الأمم الوثنيَّة، لكن فكْر الله واضح حتى في العهد القديم أنَّه لا يريد الحروب بل السلام. وكما يقول المرتِّل مسبِّحًا أعمال الله الفائقة: “مُسكن الحروب إلى أقصى الأرض، يكسر القوس ويقطع الرمح. المركبات يحرقها بالنار. كفُّوا واعلموا إنِّي أنا الله” (مز 46: 8-10). وجاء في رؤية لإشعياء النبي عن عمل المسيَّا: “ويكون في آخر الأيَّام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال… وتجري إليه كل الأمم… فيطبعون سيوفهم ورماحهم مناجل. لا ترفع أمَّة على أمَّة سيفًا، ولا يتعلَّمون الحرب فيما بعد” (إش 2: 2-4). وفي ميلاد السيِّد المسيح قيل: “على الأرض السلام وبالناس المسرَّة” (لو 2: 14).
يبدأ القانون العسكري بتأكيد من الله نفسه أنَّه هو قائد جيش شعبه، وواهب النصرة [1-4]. لذا يُعفي خدَّامه من ممارسة الأعمال العسكريَّة، ليس احتقارًا لها، ولكن للتفرُّغ للعبادة لله الذي يهب الغلبة، فبدونهم لا يتقدَّس الشعب ولا الجند، ولن توجد نصرة [5-9].
هنا يتحدَّث عن الحرب القائمة لكي يرث الشعب أرض كنعان، لهذا لا يجوز تطبيقها على الحروب السياسيَّة. لكنَّها تنطبق رمزيًا على الحروب الروحيَّة والجهاد من أجل كنعان السماويَّة، حيث يحتل المؤمنون مركز إبليس الذي سقط من بين الطغمات السماويَّة.
يمتاز العدوّ عن شعب الله بكثرة العدد ووفرة الإمكانيَّات العسكريَّة، لكن هذا كلُّه يلزم ألا يرعب المؤمنين.
“إذا خرجت للحرب على عدوَّك ورأيت خيلاً ومراكب قومًا أكثر منك،
فلا تخف منهم،
لأن معك الرب إلهك الذي أصعدك من أرض مصر” [1].
بلا شك لم يكن لشعب إسرائيل حتى لحظات انتقال موسى النبي خيل ومركبات حربيَّة، وربَّما إلى أيَّام سليمان، لهذا فإن موسى النبي يتحدَّث بصفة عامة عمَّا سيحدث فيما بعد حين يكون للشعب الخيل والمركبات. هذا ولا يعني النص ضرورة أن يكون للشعب خيل ومركبات أقل وإنَّما يقصد الإمكانيَّات العسكريَّة بصفة عامة.
أول مبدأ في الجهاد الروحي هو “عدم الخوف“: “من هو الرجل الخائف والضعيف القلب، ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ تذوب قلوب اخوته مثل قلبه” [8]. صوت الخائف يذيب قلب اخوته ويحطِّمهم نفسيًا، بينما صوت رب الجنود يذيب الجبال الصلدة ويحطِّم قوى الشر، واهبًا نصرة لمؤمنيه.
سرّ الشجاعة هو الثقة في الله قائد المعركة الروحيَّة: “الرب إلهكم سائر معكم لكي يحارب عنكم أعداءكم ليخلِّصكم” [4]. وأما سرّ الخوف فهو ارتباط القلب بالزمنيَّات، لذا يطالب من بنى بيتًا جديدًا أو غرس كرمًا ولم يبتكره (أي قدَّم بكوره في السنة الرابعة) أو خطب امرأة ولم يتزوِّجها بعد يرجع إلى بيته. إنَّها صورة رمزيَّة للنفوس الضعيفة التي تعلَّقت بالعالم وغير قادرة على البذل روحيًا، فهي معثرة للغير.
جاءت الوصيَّة: “لا تخف” متكرِّرة في الكتاب المقدَّس، لأن الخوف شيمة عدم الإيمان بالله والثقة في أبوَّته وحكمته وقدرته على الخلاص. هي خطيَّة إلحاد متستِّر. لهذا يكرِّر:
“لا تضعف قلوبكم.
لا تخافوا ولا ترتعدوا ولا ترهبوا وجوههم” [3].
أما سرّ الشجاعة وعدم الخوف فيكمن في الآتي:
أولاً: الحضرة الإلهيَّة وسط شعبه. “لأن معك الرب إلهك“ [1]، “لأن الرب إلهكم سائر معكم لكي يحارب عنكم أعداءكم ليخلِّصكم“ [4]. وكما جاء في إشعياء النبي: “لا تخف لأنِّي معك؛ لا تتلفَّت لأنِّي إلهك. قد أيَّدتك وأعنتك وعضَّدتك بيمين برِّي… لأنِّي أنا الرب إلهك الممسك بيمينك، القائل لك: لا تخف أنا أعينك” (إش 41: 10، 13).
ثانيًا: خبراتنا وخبرة آبائنا السابقة مع الله مخلصنا، إذ يقول: “الذي أصعدك من أرض مصر“ [1]. فقد جاء في سفر الخروج: “وكان في هزيع الصبح أن الرب أشرف على عسكر المصريِّين في عمود النار والسحاب وأزعج عسكر المصريِّين، وخلع بكر مركباتهم حتى ساقوها بثقلة. فقال المصريُّون: نهرب من إسرائيل، لأن الرب يُقاتل المصريِّين عنهم” (خر 14: 24-25). كما قيل: “الرب رجل الحرب، الرب اسمه، مركبات فرعون وجيشه ألقاها في البحر” (خر 15: 3-4). وترنَّمت مريم قائلة: “رنِّموا للرب فإنَّه قد تعظَّم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر” (خر 15: 21).
ثالثًا: يشارك الكل في هذه الحرب، كل حسب موهبته وقدراته. فكما يلتزم الشعب أن يحارب، يقوم الكاهن بدوره، إذ يتقدَّم ليخاطب الشعب مؤكِّدًا لهم معيَّة الرب، ومقدِّمًا لهم وصيَّة الرب التي هي عدم الخوف. يقوم العرفاء أيضًا بدورهم، إذ يعزلون الخائفين من وسط رجال الحرب حتى لا يثبطوا همم اخوتهم. كان من عادة الأمم أن يحملوا معهم تماثيل آلهتهم، يصحبها الكهنة كممثِّلين للآلهة. كل نصرة تتحقَّق تنسب إلى إله هذه الأمة. لهذا كان لابد لله أن يُعلن حضرته وسط شعبه أثناء المعركة وأن يسندهم الكهنة كممثِّلين لله نفسه.
“وعندما تقربون من الحرب يتقدَّم الكاهن ويخاطب الشعب.
ويقول لهم: اسمع يا إسرائيل أنتم قربتم اليوم من الحرب على أعدائكم،
لا تضعف قلوبكم، لا تخافوا ولا ترتعدوا ولا ترهبوا وجوههم” [2-3].
لا يتحدَّث هنا عن رئيس الكهنة ولا عن الكهنة بوجه عام، بل عن الكاهن الذي يرافق الجيش في معاركه. فنقرأ عن المعركة ضد الموآبيِّين في أيَّام موسى النبي: “أرسلهم موسى ألفًا من كل سبط إلى الحرب هم وفينحاس بن العازار الكاهن إلى الحرب وأمتعة القدس وأبواق الهتاف في يده” (عد 31: 6). راجع أيضًا (1 صم 4: 4؛ 2 أي 13: 12). وكان عمله الرئيسي تشجيع رجال الحرب أن الله هو قائدهم يسندهم وينصرهم.
يليق بنا ألاَّ نخاف في حربنا الروحيَّة، وكما يقول القدِّيس يوحنا كاسيان:
[لنتعلَّم في كل شيء أن نشعر بضعفنا الطبيعي، وفي نفس الوقت ندرك معونته، فنقول مع القدِّيسين:
“دحرتني دحورًا لأسقط، أمَّا الرب فعضَّدني. قوتي وتسبحتي الرب، وقد صار لي خلاصًا” (مز 118: 13-14).
“لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت، إذ قلت قد زلّّت قدماي فرحمتك يا رب تعضدني” (مز 94: 17-19).
ناظرين أيضًا أن قلوبنا تتقوَّى في مخافة الرب وفي الصبر، فنقول: “وكان الرب سندي، أخرجني إلى الرحب” (مز 18: 18-19).
وإذ نعلم أن المعرفة تنمو بالتقدُّم في العمل، نقول: “لأنَّك تضيء مصباحي أيُّها الرب، يا إلهي أنر ظلمتي، لأنَّه بك أخلص من التجربة وبك أتحصَّن“. حينئذ نشعر نحن أنفسنا بالانتماء إلى الشجاعة والصبر ونسير في طريق الفضيلة مباشرة وبسهولة عظيمة وبغير جهد، فنقول: “إنَّه الله الذي يمنطقني بالقوَّة ويجعل طرقي كاملة، الذي يجعل قدميَّ كقدميّ الإيل، ويجلسني في الأعالي، ويعلِّم يديَّ الحرب“.
نملك أيضًا روح التمييز، فنتقوَّى بذاك الذي به نستطيع أن نقهر أعداءنا، ونصرخ إلى الله: “تأديبك جاء عليَّ إلي النهاية، وسوف يعلِّمني تأديبك، توسِّع خطواتي تحتي فلم تتقلقل عقباي، ولأنِّي أنا هكذا أتقوَّي بمعونتك وقوَّتك“.
بجسارة أقول هذه الكلمات: “أتبع أعدائي فأدركهم، ولا أرجع حتى أفنيهم. أسحقهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت رجليَّ” (مز 18: 37-38).
مرة ثانية نراعي ضعفنا الخاص وندرك هذه الحقيقة أنَّه بينما نظل مثقَّلين بالضعف الجسدي لا نستطيع بدون معونته أن نغلب مثل هؤلاء الأعداء (خطايانا)، فنقول: “بك سوف نشتِّت أعدائنا“، “باسمك ندوس القائمين علينا، لأنِّي علي قوسي لا أتَّكل، وسيفي لا يخلِّصني، لأنَّك أنت خلَّصتنا من مضايقينا، أخزيت مبغضينا” (مز 44: 6-8)، لكن فضلاً عن ذلك: “تمنطقني بقوَّة للقتال، تصرع تحتي القائمين عليَّ، وتعطني أقفية أعدائي ومبغضي أفنيهم” (مز 18: 39-40).
إذ نتأمَّل أنَّنا بأسلحتنا الخاصة لا نستطيع أن نغلب، نقول: “امسك مجنًا وترسًا وانهض إلى معونتي، أشرع رمحًا وصد تلقاء مطاردي. قل لنفسي: خلاصكِ أنا” (مز 35: 2-3).
“وتجعل يدي كسهمٍ من نحاس، وتجعل لي ترس خلاصك ويمينك تعضِّدني” (مز 18: 35).
“آباؤنا ليس بسيفهم امتلكوا الأرض، ولا ذراعهم خلَّصتهم، لكن يمينك وذراعك ونور وجهك، لأنَّك رضيت عنهم” (مز 44: 4-5).
أخيرًا بعقل مملوء غيرة نتأمَّل في كل بركاته بالشكر، فنصرخ إليه بمشاعر قلبيَّة عميقة لأجل كل هذه الأمور، لأنَّنا قاتلنا وأخذنا منه نور المعرفة وضبط النفس والتمييز (الفطنة)، ولأنَّه زودنا بأسلحته الخاصة، ومنطقنا بالفضيلة وجعل أعداءنا يهربون من أمامنا، وأعطانا القوَّة أن نحطِّمهم ونجعلهم كالرماد أمام الريح. “أحبَّك يا رب يا قوَّتي، الرب صخرتي ومنقذي، إلهي صخرتي به اَحتمي، ترسي وقرن خلاصي وملجأي، أدعو الرب الحميد فأتخلَّص من أعدائي” (مز 18: 2-4)[229]].
إنَّنا ندخل في سلسلة لا تنقطع من الحروب، يتبعها نصرات متتالية، وتمتُّع متجدِّد بقوَّة الله الغالبة بنا وفينا. يقول الرسول: “إذ أسلحة محاربتنا ليست جسديَّة، بل قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2 كو 10: 3-5). ويقول المرتِّل: “يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات، وأنت لا يقتربون إليك” (مز 91: 7)[230].
يرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص أن القدِّيس بولس يشبه داود النبي في قتاله ضد عدوُّه، فكان يجري بسرعة من أمامه. [هكذا كان بولس مقاتلاً سريع الحركة ورشيقًا، وكان داود يوسَّع خطواته أثناء تعقُّبه عدوُّه، وأيضًا العريس في سفر النشيد يُشبه الظبي يقفز بسرعة على الجبال، طافرًا على التلال (نش 2: 8-9)[231]].
v علَّمني الله أن أكون ماهرًا في القتال ضد المقاومين (الشيَّاطين) الذين يهدفون إلى إقامة حاجز يحجبني عن ملكوت السماوات[232].
القدِّيس أغسطينوس
v إذا صلَّيت ضد آلامك (شهواتك الشرِّيرة) والشيَّاطين التي تهاجمك، تذكر ذاك الإنسان القائل: “أطرد أعدائي فأدركهم، ولا أرجع حتى يسقط جميعهم. أسحقهم فلا يستطيعون الوقوف، يسقطون تحت قدميَّ…” (مز 18: 38) تقول هذا في اللحظة الحاسمة التي فيها تتسلَّح ضد خصمك بالتواضع[233].
القدِّيس أوغريس من بنطس
استبعاد الخائفين وضعيفي القلب:
ما يشغل فكر الله ليس حجم الجيش بل إيمان الملتحقين به، فالنصرة ليست بالعدد ولا بالقوَّة، بل برب الجنود نفسه، لهذا استعبد كل الفئات التي يمكن أن تفسد قدسيَّة الجيش ببث روح الخوف والإحباط، فإن واحدًا أفضل من ألف جندي مملوءين جُبنًا وخوفًا.
“ثم يخاطب العرفاء الشعب قائلين:
من هو الرجل الذي بنى بيتًا جديدًا ولم يُدشِّنه،
ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ يموت في الحرب فيُدشِّنه رجل آخر.
ومن هو الرجل الذي غرس كرمًا ولم يبتكره،
ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ يموت في الحرب فيبتكره رجل آخر.
ومن هو الرجل الذي خطب امرأة ولم يأخذها،
ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ يموت في الحرب فيأخذها رجل آخر.
ثم يعود العرفاء يخاطبون الشعب ويقولون:
من هو الرجل الخائف والضعيف القلب،
ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ تذوب قلوب اخوته مثل قلبه.
وعند فراغ العرفاء من مخاطبة الشعب يقيمون رؤساء جنود على رأس الشعب” [5-9].
طالبت الشريعة باستثناء أربع فئات من الاشتراك في الحرب خشية أن يحل بهم الخوف، فيرتبكون أثناء المعركة. أمَّا الفئة الرابعة وهي فئة الخائفين وضعفاء القلب فهؤلاء يلزم استبعادهم تمامًا لأنَّهم كالوباء الذي ينتشر فيهلك الآخرين. هذا ما فعله جدعون مع جيشه إذ نادى كأمر الله في آذان الشعب قائلاُ: “من كان خائفًا ومرتعدًا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد. فرجع من الشعب اثنان وعشرين ألفًا، وبقي عشرة آلاف” (قض 7: 3).
طلب من الفئات التالية حق أن ينسحبوا من المعسكر حتى لا يفسدوا نفسيَّة الجيش.
أ. من بنى بيتًا جديدًا أو اشترى بيتًا جديدًا ولم يُدشِّنه بعد [5]، أي لم يقم احتفالاً مع أصدقائه بمناسبة شرائه الذين يأتون ليهنئونه به، فليرجع إلى البيت ويستريح فيه، لئلاَّ ينشغل بالبيت واحتفاله به أثناء الحرب. الجندي الحقيقي ليس له بيت ينشغل به، بل يعيش كغريبٍ على الأرض حتى يستقر في حضن الله، في بيته السماوي.
ربَّما يقصد بالإنسان الذي بنى بيتًا جديدًا ولم يُدشِّنه بعد ذاك الذي ينشغل بالراحة الجسديَّة والبركات الزمنيَّة، ولم يحول بيته إلى كنيسة مقدَّسة، ولم يُدشِّنها ويحتفل بسكنى الرب في بيته، مثل هذا لا يستطيع أن يجاهد روحيًا.
واضح من عنوان المزمر 30 “مزمور أو أغنية عند تدشين بيت داود“، أنَّه كان من عادة إسرائيل أن يدشِّنوا البيت الجديد لله بالصلاة والتسبيح وتقديم التشكُّرات. هذا كلُّه لتأكيد تسليم كل بيت لله ليسكن وسط كل أسرة ويباركها. فإنَّه لا يمكن لمؤمن أن يسكن في بيتٍ ويشعر بالأمان ما لم يتحقَّق من رعاية الله وحمايته له. ولا ننسى أنَّه في كثير من الأمم القديمة كانت الأسرة تخصِّص جزءً من البيت للعبادة، يقيمون فيه التماثيل. على سبيل المثال كان سكان Bonny في أفريقيا غالبًا ما يقسمون أماكن السكن إلى ثلاثة أقسام، قسم لسكن الشخص أو الأسرة، والثاني يحسب مكانًا عامًا لإضافة الغير وإطعامهم، والثالث يخصَّص للـ Juju، الإلهة الثعبان serpent-god التي يعبدونها. فقد كان حتى هؤلاء الهمجيون يعتقدون بأنَّه في كل بيت يلزم أن يجد إلههم هيكلاً له.
لا يزال يوجد عند كثير من الأقباط تقليد جميل، وهو ألاَّ يسكن أحد منزلاً جديدًا ما لم يستدعِ الكاهن ويجتمع مع الأسرة ليقدِّموا صلاة “تبريك المنازل“، خلالها يطلب الكل من الله أن يسكن في وسط الأسرة، ويبارك الموضع، ويتمِّم رسالة الساكنين فيها. للأسف البعض يستدعون الأقارب والأصدقاء والجيران لإقامة حفلٍ عند بناء بيت جديد أو عند شرائه، لكنَّهم ينسون الصلاة والتسبيح لله. هذا ويخصِّص كثير من المسيحيِّين، خاصة في الشرق، المنتمين للكنائس الرسوليَّة حجرة خاصة للصلاة أو زاوية من حجرة تُزيَّن بالأيقونات حتى يشعر أهل البيت بأن المنزل كلُّه مكرَّس للرب.
ب. من غرَس كرمًا وأنفق عليه الكثير ولم يجنِ منه ثمرًا بعد. الكلمة العبريَّة هنا تعني حقلاً أو حديقة فواكه، ليس بالضرورة أن تكون غروس عنب، بل أي نوع من الفواكه أو مزارع الزيتون. أنَّه يشتاق أن يتمتَّع بالثمر، وبحسب الشريعة كان يُمنع من أكل ثمرها لمدَّة الثلاث سنوات الأولى (لا 19: 23). مثل هذا الإنسان الذي يضع قلبه في بطنه، فيشتهي أن يأكل ويشرب متلذذًا حتى وإن كان من تعب يديه لا يصلح أن يشترك في معركة السيِّد المسيح. يليق بجندي المسيح ألاَّ تكون له كروم ولا معاصر ولا موائد تشبع شهواته، بل يأكل ويشرب ممَّا يجده عند قدميه لكي يعيش ويجاهد. أنَّه لا ينشغل بشيء سوى الاستعداد لسماع صوت البوق الذي يدعوه إلى المعركة.
ج. من عقد خطبة مع فتاة واهتم أن يعد لها بيت الزوجيَّة حتى يستدعيها ويتزوَّجها، مثل هذا الإنسان إن كان قلبه مشغولاً بتهيئة البيت لعروسه لا يلتزم بالذهاب إلى المعركة. أنَّه يمثِّل الإنسان الذي لم يذق عذوبة الاتِّحاد الزيجي الروحي مع الله مخلِّصه ولم يهيِّء بعد مكان العرس السماوي ليستقر فيه، مثل هذا الإنسان لا يقدر أن يجاهد في المعركة الروحيَّة. جاء في نفس السفر: “إذا اتَّخذ رجل امرأة جديدة فلا يخرج في الجند، ولا يُحمل عليه أمر ما، حرًا يكون في بيته سنة واحدة ويسر امرأته التي أخذها” (تث 24: 5).
اتَّفق الكُتَّاب اليهود أن هذه التجاوزات سمح بها فقط في الحروب التي تُثار بحريَّة إرادة إسرائيل، أمَّا التي ألزمهم بها الرب مثل محاربة عماليق والكنعانيِّين فيلتزم بها كل الرجال دون استثناء.
إذ يُنزع الخائفون وضعيفو القلب يقيم العرفاء رؤساء قادة مملوئين شجاعة ويقين في عمل الله معهم.
يليق بنا هنا أن نميِّز بين الإنسان الذي يشعر بضعفه وعجزه، لكنَّه يثق في إمكانيَّات الله معه وبه، وبين الإنسان الخائر والضعيف القلب. فإن الله يعمل بقوَّة في الضعفاء، لكنَّه لا يسند من لا يثق فيه ويتَّكئ عليه.
هذا الخوف ينبع عن فساد في الضمير، لذا قيل: “قدِّسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم” (إش 8: 13). إن خطورة الخائرين تكمن في أنَّهم إذ يحتلُّون مراكز قياديَّة يبثُّون روح الإحباط في غيرهم، ويتسرَّب مرضهم إلى غيرهم، فلا يعملون عمل الرب ولا يتركون الآخرين يعملون. خطورة الخائرين أمَرّ وأقسى من الأعداء المقاومين للحق ولكنيسة المسيح، فعن الآخرين قيل أن الله يحكم عليهم بقضيب من حديد، أمَّا الخائرون فينزعون نعمة الله عن كثيرين ويحجبون قوَّته عنهم.
يطالبنا السيِّد المسيح بأن نحسب النفقة قبل الدخول في أيَّة معركة، “وأي ملك إن ذهب لمقاتلة ملك آخر في حربٍ لا يجلس أولاً ويتشاور هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي عليه بعشرين ألفًا، وإلاَّ فمادام ذلك بعيدًا يرسل سفارة ويسأل ما هو للصلح” (لو 14: 31-32). لقد أدرك إليشع النبي أن الذي معه أعظم من الذين عليه. وأخطأ داود النبي خطيَّة عظمى حينما حسب النفقة بحسابات بشريَّة، متجاهلاً عنصر الإيمان فقام بعمل تعداد لشعبه (2 صم 24: 2 الخ).
غاية شريعة الحرب هذه هو تأكيد أنَّنا ننتسب لله، فما يحبُّه نحبُّه نحن، وما لا يطيقه من ظلمة وفساد ودنس يصير بالنسبة لنا عدوًا. ليس لنا شيء في ذواتنا. معاركنا هي معركة الله مع الظلمة. نحن لسنا طرفًا فيها، إنَّما نختفي في الله ليحارب هو بنا وفينا معلنًا نصرته الفائقة.
2. حصار المدن خارج كنعان:
بالنسبة للأمم البعيدة يرسل إليهم لإقامة عهود سلام، فإن قبلوا يقومون بخدمة الله وشعبه [10-15]. لا يجوز لهم أن ينزلوا في معركة مع الجيران ما لم يقدِّموا أولاً إعلانًا عامًا، فيه يطلبون الصلح.
“حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح.
فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك.
وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها.
وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف.
وأمَّا النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة
أعدائك التي أعطاك الرب إلهك.
هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا” [10-15].
اختلف المفسِّرون في شرح هذه العبارة، فالبعض يرى أنَّها تنطبق على البلاد المجاورة لأرض الموعد، ولا تنطبق على الأمم السبع التي في كنعان. وعلَّة هذا أن بقاء أيَّة بقيَّة من الأمم السبع وسط الشعب يكون عثرة لهم، ويجذبونهم إلى عبادة الآلهة الوثنيَّة وممارسة الرجاسات. ويرى آخرون أنها تنطبق على هذه الأمم أيضًا حيث تكون شروط الصلح هي:
1. جحد العبادة الوثنيَّة والدخول إلى عبادة الله الحي.
2. الخضوع لليهود.
3. دفع جزية سنويَّة.
من لا يقبل هذه الشروط لا يبقون في مدينتهم كائنًا حيًا متى كانت من الأمم السبع، أمَّا إذا كانت من المدن المجاورة فيقتل الرجال ويستبقى النساء والأطفال مع الحيوانات وكل غنائمها. أمَّا سبب التمييز فهو ألا يترك أي أثر في وسط الشعب للعبادة الوثنيَّة.
الخضوع للعمل الشاق، تحقيق للعنة نوح لكنعان ابنه (تك 9: 25).
بالنسبة للبلاد البعيدة التي لا تتبع أرض الموعد فيمكن طلب الصلح معها وتسخير شعبها (20: 10-15). صورة رمزيَّة عن رغبة الإنسان الروحي الداخليَّة للسلام مع تحويل الطاقات من العمل لحساب الشر إلى طاقات خاضعة لحساب ملكوت الله فينا.
3. المدن المحرَّمة:
“وأمَّا مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبقِ منها نسمة ما.
بل تحرمها تحريمًا: الحثِّيِّين والأموريِّين والكنعانيِّين والفرِّزيِّين والحويِّين واليبوسيِّين كما
أمرك الرب إلهك.
لكي لا يعلِّموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم، فتخطئوا إلى الرب إلهكم [16-18].
بالنسبة للأمم التي تقيم في أرض الموعد يلزم مقاتلتهم حتى لا يسحبوا قلب الشعب إلى الارتداد والعبادات الوثنيَّة وممارسة الرجاسات [16-18]. كانت الأمم التي تمتَّع الشعب القديم بأرضها ترمز إلى الخطيَّة، فكان إبادتهم يشير إلى تحطيم كل شر. من الجانب التاريخي كانت هذه الشعوب عنيفة للغاية تقدِّم الأطفال محرقة للآلهة وتتقدَّم النساء والفتيات للزنا لحساب الآلهة الوثنيَّة مع رجاسات أخري بشعة، لذا كانت تمثِّل خطرًا على انحراف شعب الله (20: 18). لا يستخدم مع الأمم أيَّة رحمة، لأن الفساد قد تفشَّى ودمَّر سكَّانها أبديَّتهم بأنفسهم، وصار الأمر خطيرًا حتى بالنسبة لشعب إسرائيل متى احتلُّوها إن بقيت أيَّة آثار لعبادتهم.
4. التصرَّف في أشجار المدن:
لا يجوز قطع الأشجار التي تعطي ثمرًا للأكل (20: 19)، لأنَّها خليقة الله الجيِّدة. إن كان الله يهتم هكذا حتى بالأشجار أفلا يهتم بالإنسان؟! لذا لم يكن الأمر بإبادة الوثنيِّين صادرًا عن قسوة للشريعة، إنما هم وضعوا أنفسهم تحت الضيق بشرِّهم وقسوة قلوبهم.
الالتزام بإتلاف الشجر الذي لا يثمر… ربَّما كي ينزع كل أثر للعبادة الوثنيَّة، حيث اعتاد الوثنيُّون أن يتعبَّدوا تحت كل شجرة خضراء (إر 2: 20).
“إذا حاصرت مدينة أيَّاما كثيرة محاربًا إيّاها لكي تأخذها فلا تتلف شجرها بوضع فأسٍ عليه.
إنَّك منه تأكل، فلا تقطعه،
لأنَّه هل شجرة الحقل إنسان حتى يذهب قدَّامك في الحصار.
وأمَّا الشجر الذي تعرف أنَّه ليس شجرًا يؤكل منه فإيَّاه تتلف وتقطع.
وتبني حصنًا على المدينة التي تعمل معك حربًا حتى تسقط” [19-20].
بهذا أوضح الله للشعب ألاَّ تكون الحرب هدفًا للتدمير، فالجنود أثناء حماسهم يقطعون أشجار الحقل التي تأتي بثمار ويجعلون منه عوارض في الطريق لحمايتهم من العدو، فيتلفون الأشجار والحقول التي سيستولون عليها، يحطِّمون ما هو لطعامهم وحياتهم. يلزم أن يضبط الجيش نفسه فلا يتصرَّف إلاَّ بروح الحكمة، ما فيه بنيانهم.
فهم اليهود هذه الوصيَّة بمعنى أوسع، فلا يقصد به فقط عدم تحطيمهم الأشجار التي تأتي بثمار، وإنَّما عدم كسر الأواني الصالحة للاستعمال أو تمزيق الثياب التي يمكن الاستفادة منها، أو ردم الآبار، أو هدم المباني الخ. يليق بنا أن نتطلَّع إلى السيِّد المسيح الذي يحرص أن يجمع الكسر حتى لا يفقدها المجتمع.
إن كانت الحياة في جوهرها معركة مستمرَّة أو سلسلة معارك يتمتَّع خلالها المؤمن بالنصرة الدائمة، فإنَّه يليق به في جهاده أن يكون حكيمًا. لا يكون مندفعًا، بل يعرف أن يميِّز في المعركة ما هو للبنيان وما هو للهدم، فيحطِّم الأشجار غير المثمرة ويحافظ على ما هو مثمر فيها.
قد يظن الإنسان في نفسه أنَّه قوي، فيستعرض عضلاته بقطع الأشجار المثمرة، ولا يدرك أن الامتناع عن قطعها والحفاظ عليها أثناء المعارك يتطلَّب قوَّة أعظم، فالهدم أسهل من البناء.
ليتنا في جهادنا الروحي لا نعثر أحدًا أو نحطِّم نفسيَّة أحد، فنكون قد اقتلعنا شجرة مثمرة عِوض الحفاظ عليها.
من وحيّ تثنيَّة 20
اقبلني جنديًا في جيش خلاصك
v اقبلني جنديًا في جيش صلاحك.
لا أخاف قط من كل قوى إبليس وجنوده،
فأنت القائد واهب النصرة.
هوذا العدو كثير العدد، وقوي ومخادع،
لكن الذي معنا أعظم وأقوى!
لن أتراجع، ولا يخر قلبي فأنت ساكن فيه!
أنت فيَّ وأنا فيك.
أنت سائر أمامي تُحارب عنِّي.
v لألتحق بجيش خلاصك!
قلبي ليس مشغولاً ببيتٍ جديدٍ ولا كرمٍ أو زوجةٍ.
ليس لي بيت اَنشغل به سوى كنيستك القائمة فيَّ.
هي قديمة وجديدة، لأنَّك أنت ساكن فيها يا قديم الأيَّام ويا واهب التجديد.
أنت بيتي، أنت فرحي، أنت عريس نفسي!
لا أخاف الموت لأنَّك حياتي!
v كيف أخاف يا من أنت حال في وسطنا!
خبرات آبائنا تعلن عن نصرتك الفائقة!
لأقدِّم كل موهبة وإمكانيَّة قدَّمتها لي.
ولأعزل كل خوف عن قلبي!
v هب لي إن أمكن أن أصنع سلامًا مع كل بشر!
هب لي ألاَّ أُقيم عهدًا مع الشرّ!
لأترفَّق بكل خاطئ،
وأتطلَّع إليه، فأراه قادمًا بالمجد في يوم الرب العظيم،
فأنت مخلِّص الخطاة!
هب لي ألاَّ أترفَّق بالخطيَّة،
بل أدمِّر مملكتها التي تتسلَّل لتحتل أعماقي!
v طلبت من شعبك الترفُّق بالأشجار،
هب لي قلبًا رحيمًا يترفَّق بكل الخليقة حتى الجامدة!
خلقت لي العالم لا لأدمِّره،
بل لأعمل فيه فتباركه بالثمار!
هب لي أن اهتم بكل شجرة حديثة الغرس.
فتمتلئ جنَّتك بأشجار القدِّيسين الحاملة ثمار الروح!
لأكن محاربًا قويًا وجنديًا مترفِّقًا.
لأحب الحق وأترفَّق بكل ضعيف!