تفسير سفر التثنية ٢٥ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الخامس والعشرون
شرائع مختلفة
امتدادًا للأصحاح السابق يُعلن الله اهتمامه ورعايته للفئات المتألِّمة حتى وإن كان الإنسان تحت العقاب. فيضع حدًا لعقوبة الجلد، ويهتم بالثور الدارس حتى لا يَكُمّ الفلاح فمه، كما يهتم بحماية الأرملة وإقامة نسل للميِّت الذي بلا نسل ليقيم اسمه. وفي نفس الوقت يقدِّم هذا الأصحاح مجموعة من الشرائع المختلفة غايتها تأكيد الاهتمام بتقديس الجماعة المنتسبة للرب.
1. أربعون جلدة [1-3].
2. لا تّكُمّ ثورًا دارسًا [4].
3. إقامة نسلٍ للميِّت [5-10].
4. المرأة التي بلا حياء [11-12].
5. الغش في الموازين [13-16].
6. تدمير عماليق [17-19].
1. أربعون جلدة:
تبدو الشريعة قاسيَّة للغاية مع المخطئين، إذ تبلغ العقوبة إلى درجة الرجم، لكنَّها لا تتطلَّع إلى العقوبة كغاية في ذاتها، ولا تحمل روح الانتقام، بل تنظر حتى إلى المجرم كأخ (2 تس 3: 15). يجب الترفُّق به ما أمكن دون مجاملة على حساب خلاص نفسه وخلاص اخوته. لقد تعاملت الشريعة مع الشعب اليهودي كأطفال صغار يحتاجون أحيانًا إلى الحزم الشديد حتى لا تتحطَّم رسالتهم الجماعيَّة أو الشخصيَّة.
“إذا كانت خصومة بين أناس وتقدَّموا إلى القضاء ليقضي القضاة بينهم،
فليبرِّروا البار، ويحكموا على المذنب.
فإن كان المذنب مستوجب الضرب يطرحه القاضي،
ويجلدونه أمامه على قدر ذنبه بالعدد.
أربعين جلده لا يزد،
لئلاَّ إذا زاد في جلده على هذه ضربات كثيرة يُحتقر أخوك في عينيك” [1-3].
كانت عقوبة الضرب عادة بالعصا (خر 21: 10؛ 2 صم 7: 14؛ أم 10: 13)، وهي لا تزال مستخدمة في الشرق الأوسط، حيث يُلقى الشخص على الأرض ويضرب على قدميه بالعصا. وأحيانًا يضرب بالشوك (قض 8: 16-17)، وأخرى بالسوط العادي أو به عقد صلدة (1 مل 12: 11، 14).
في هذه الآيات قُدِّمت المبادئ التاليَّة:
أولاً: يجب مواجهة المتَّهم بواسطة من يتَّهمه في حضرة القضاة، حتى يمكن التحقُّق من الأمر واكتشاف الحقيقة، فيكون كل شيءٍ في النور، ولا يتسلَّل الالتواء إلى القضاء.
ثانيًا: يجب تبرئة البار.
ثالثًا: يُحسب دنسًا من يبرِّئ المجرم، أو من يجرِّم البريء (أم 17: 15). يقول الرسول بولس: “إن فعلت الشرّ فخف، لأنَّه لا يحمل (السلطان) السيف عبثًا، إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر” (رو 13: 4). ويقول الرسول بطرس: “إن كان للملك فكمن هو فوق الكل، أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر، وللمدح لفاعلي الخير” (1 بط 2: 14).
رابعًا: تصدر العقوبة حسب جرم الإنسان وخطورته، فإن كان لا يستحق الإعدام أو الرجم عندئذ غالبًا ما يحكم بجلده، وتكون الجلدات حسب نوع الجريمة. لا يُعفي من الجلد إنسان بسبب رتبته أو مركزه الاجتماعي أو غناه.
خامسًا: غالبًا ما تنفَّذ العقوبة بوقارٍ ديني هادف، ولا تزيد عدد الجلدات عن أربعين جلدة. كان اليهود يفضِّلون أن يصدر الحكم أربعين جلدة إلاَّ واحدة (2 كو 11: 24)، لئلاَّ يحدث خطأ فيجلد إنسان أكثر من أربعين جلدة. وغالبًا ما كان السوط يحمل ثلاثة فروع، ويُضرب الإنسان 13 مرة فتكون المحصلة 39 جلدة. وضع حدود لعدد الجلدات يؤكِّد عدم معاملة المخطئ كعبدٍ أو كحيوان، لئلاَّ يسقط المؤدَّب في حالة إحباط ويظن أنَّه مُحتقر من الجميع ولا رجاء في إصلاحه. هكذا يهتم الله بنفسيَّة كل أحد. الله لا يُريد قتل المخطئ ولا تحطيمه، فهو يفصل بين الخطيَّة والخاطئ. يطلب قتل الخطيَّة وسحقها، مع إنقاذ الخاطئ وإصلاح أمره.
كان رئيس المحكمة يقرأ بصوتٍ عالٍ (تث 28: 58-59؛ 29: 9) أثناء عمليَّة الجلد، ويختم ذلك بمزمور (78: 38)، لتأكيد أن العقوبة غايتها لا الانتقام بل نفع المخطئ وبنيان الآخرين. يقول Trapp أن الأتراك إذ يجلدون بالسياط الشخص بقسوة يلتزمون بالرجوع إلى القاضي الذي أصدر الأمر ويقبلون يده، ويشكرونه، ويدفعون مالاً للضابط الذي قام بضربه بالسياط[259].
سادسًا: يتم تنفيذ الحكم في وجود من أصدر الحكم، حتى لا يتهاون المنفذون للحكم ولا يبالغون فيه، فتتحقَّق العدالة.
سابعًا: بقوله: “لئلاَّ يُحتقر أخوك في عينيك” [3]، تكشف عن اهتمام الله بكرامة الإنسان ليس فقط في عينيّ أخيه، بل في نظرة السماء إليه. فالمحاكمة التي تتم على الأرض وبواسطة قضاة بشريِّين يجب أن تكون صدى لعمل سماوي غايته عزل الشر لا الشرِّير، وإبادة الخطيَّة لا الخاطئ، وتحطيم الفساد مع تمجيد التائب على مستوى سماوي أبدي. قد يحكم عليه بالضرب أو الجلد لكي ما تقدِّمه الجماعة حجرًا كريمًا لله!
2. لا تّكُمّ ثورًا دارسًا:
“لا تّكُمّ الثور في دراسه” [4]. لا يجوز للفلاح أن يَكُمّ ثورًا دارسًا، بل أن يترك له الفرصة ليأكل وهو يعمل. يرى القدِّيس بولس أن هذا النص يشير هنا إلى خادم المذبح الذي من المذبح يأكل. إذ يجب تقديم احتياجات العاملين حتى في الكرازة بالإنجيل ليخدموا دون ارتباك بالأمور الماديَّة. يقول الرسول:
“ألعلَّ الله تهمُّه الثيران؟!
أم يقول مطلقًا من أجلنا. أنَّه من أجلنا مكتوب. لأنَّه ينبغي للحرَّاث أن يحرث على رجاء، وللدارس على الرجاء أن يكون شريكًا في رجائه.
إن كنَّا نحن قد زرعنا لكم الروحيَّات، أفعظيم إن حصدنا منكم الجسديَّات؟!
ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدَّسة من الهيكل يأكلون؟!
والذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح؟!
هكذا أيضًا أمر الرب أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون” (1 كو 9:9-14).
3. إقامة نسل ميِّت:
“إذا سكن اخوة معًا ومات واحد منهم وليس له ابن،
فلا تصر امرأة الميِّت إلى خارج لرجل أجنبي،
أخو زوجها يدخل عليها ويتَّخذها لنفسه زوجة،
ويقوم لها بواجب أخي الزوج.
والبكر الذي تلده يقوم باسم أخيه الميِّت،
لئلاَّ يمحى اسمه من إسرائيل” [5-6].
ما هو غاية هذا القانون؟
أولاً: كان الإنسان يرى في نسله امتدادًا لحياته، وبالتالي إن مات دون إنجاب ابن يعني إزالة اسمه من العالم نهائيًا. لهذا كان الأخ أو الوليّ يلتزم أن يتزوَّج أرملة الميِّت لا لشيء إلاَّ لإقامة نسلٍ للميِّت فلا يُمحى اسم الميِّت من العالم. هذه العادة قديمة قبل استلام الشريعة كما جاء في (تك 38: 8). ولا يجوز للأرملة أن تتزوَّج آخر غير الوليّ اللهمَّ إلاَّ إذا رفض الوليّ الزواج بها.
ثانيًا: أهم ما يملكه الإنسان – في العهد القديم – هو نصيبه في أرض الموعد التي قُدِّمت هديَّة إلهيَّة مجانيَّة من قبل الله للشعب كله، وقسِّمت على يد يشوع بن نون بالقرعة. فكان حرص كل سبط على أرضه يُشير إلى حرص الكنيسة على تمتُّعها بالأرض الجديدة، أورشليم العليا.
لم يكن ممكنًا للأرملة التي ليس لها أولاد أن تدير شئون الأرض بالمزروعات وبيع المحاصيل والاهتمام بالأغنام الخ. لذلك كان الزواج بالنسبة لها غالبًا ما يمثِّل ضرورة. فلكي لا تتزوَّج بإنسانٍ من عشيرة أخرى فيرث هو ونسله من بعده أرضًا ليست من عشيرته، وُضع هذا القانون، فتحفظ الأرض ليس فقط لذات السبط، وإنَّما حتى لنفس العشيرة، وإلى أقرب الأقرباء للميِّت بلا نسل، بل تُسلَّم الأرض للابن البكر الذي يحمل اسم الميِّت، فتبقى الأرض محفوظة لنفس الأسرة.
ثالثًا: في هذا القانون أيضًا كرامة للأرملة وتقديم جو من الحب العائلي لها، إذ صارت بلا زوج ولا أولاد تهتم بهم.
أساء الصدُّوقيُّون فهم هذا القانون، إذ حسبوا أنَّه دليل على عدم القيامة من الأموات، لأنَّه في القيامة لمن تكون هذه الزوجة (مت 22: 24).
يترجم البعض كلمة “ابن” بطفلٍ، كما في الترجمة السبعينيَّة والفولجاتا[260] [5]، فإن كان للميِّت ابنة يمكن أن يُقام له نسل من خلالها (عد 27: 4).
ما هو الموقف إن رفض الأخ أو الوليّ الزواج بالأرملة لإقامة نسل للميِّت؟
“وإن لم يرضى الرجل أن يأخذ امرأة أخيه،
تصعد امرأة أخيه إلى الباب إلى الشيوخ، وتقول:
قد أبى أخو زوجي أن يقيم لأخيه اسمًا في إسرائيل،
لم يشأ أن يقوم لي بواجب أخي الزوج.
فيدعوه شيوخ مدينته ويتكلَّمون معه،
فإن أصر وقال لا أرضى أن اتَّخذها.
تتقدَّم امرأة أخيه إليه أمام أعين الشيوخ وتخلع نعله من رجله وتبصق في وجهه،
وتصرح وتقول: هكذا يفعل بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه.
فيدع اسمه في إسرائيل بيت مخلوع النعل” [7-10].
أولاً: ليس من قانون يلزمه بذلك بغير إرادته، فإنَّه إن لم يحبَّها له حق رفضها، إذ لا تقوم العلاقة الزوجيَّة بأمر إجباري بل خلال دالة الحب والتفاهم.
ثانيًا: الوليّ الرافض الزواج بامرأة أخيه (أو قريبة الميِّت) يخلع نعليه أمام شيوخ المدينة وتبصق في وجهه وتقول: “هكذا يُفعل بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه” ويدعى اسمه بيت مخلوع النعل. هذا الطقس يكشف عن مدى حرص الشريعة أن يبقى اسم الميِّت… لأن كل مؤمن يترجَّى أن يأتي المسيَّا من نسله.
رفض الولي أن يتزوَّج الأرملة يُعتبر استخفافًا بخطَّة الله الخاصة بحفظ كل سبط نصيبه من الأرض، بل وإن أمكن حفظ كل عشيرة نصيبها، بل وكل أسرة صغيرة. لهذا يرى البعض في هذا الرفض إساءة إلى الأرملة نفسها، وإلى الميِّت وعائلته، وإلى السبط كما إلى الشعب ككل؛ بل وإلى الله نفسه. أنَّه يستحق الإهانة.
يفسِّر بعض اليهود ذلك بأن البصق على الأرض أمام وجهه وليس على وجهه[261]. إذ لا يهتم ببناء بيت أخيه لهذا يستحق الإهانة. لا تزال في بعض بلاد الشرق الأوسط مثل بعض بلاد صعيد مصر حينما يود إنسان أن يهين آخر يبصق أمامه على الأرض.
في قصَّة راعوث إذ رفض الوليّ الزواج بها، قبل من يليه “بوعز” ذلك، ليُقيم نسلاً للميِّت، فتأهَّل أن يأتي السيِّد المسيح من نسله (را 4).
خلع النعلين بواسطة الأرملة لكي تأخذهما هو عمل رمزي يشير إلى عدم استحقاقه أن يسير بنعليه على أرض الميِّت، وقد صار للأرملة حق التصرُّف فيها بزواجها بآخر. هذا العمل الرمزي واضح من قول المرتِّل “على أدوم أطرح نعلي” (مز 60: 8؛ 108: 9)، أي أسير على أرضه وأمتلكها.
طُلب من موسى خلع نعليه أمام العليقة، وهكذا يخلع الكهنة أحذيتهم عند دخولهم الهيكل كأرض مقدَّسة، إعلانًا عن أنَّهم ليسوا بالعريس صاحب الموضع، إنَّما خدام العروس، أمَّا العريس الوحيد فهو السيِّد المسيح مخلِّص العالم.
يقول القدِّيس أمبروسيوس: [إنَّه بحسب الشريعة ما كان يمكن لبوعز الذي أحب راعوث أن يأخذها زوجة ما لم تخلع أولاً نعله حسب الشريعة، لأنَّه لم يكن بعد زوجها. هكذا لم يكن موسى العريس لذلك كان يجب عليه أن يخلع نعله على الأرض المقدَّسة (خر 3: 5)، وأيضًا يشوع بن نون (يش 5: 16)، أمَّا ربنا السيِّد المسيح العريس الحقيقي فلا يُحل نعله، حتى وإن حسب القدِّيس يوحنا المعمدان غير مستحقٍ أن يحلُّه (يو 1: 17) [262]].
السير حافي القدمين يُشير إلى البؤس الشديد، فكان المسبيُّون يلتزمون أحيانًا بذلك. جاء في إشعياء النبي: “اذهب وحلّ المُسح عن حقويك واخلع حذاءك عن رجليك، ففعل هكذا ومشى مُعرَّى وحافيًا. فقال الرب كما مشى عبدي إشعياء مُعرَّى وحافيًا ثلاث سنين آية وأعجوبة على مصر وكوش، هكذا يسوق ملك أشور سبي مصر وجلاء كوش الفتيان والشيوخ عُراة وحفاة مكشوفي الرأس خزيًا لمصر” (إش 20: 2-4).
وعند هروب داود من وجه ابنه أبشالوم صعد على جبل الزيتون باكيًا ورأسه مغطَّى، وكان يسير حافي القدمين (2 صم 15: 30).
4. المرأة التي بلا حياء:
من حق المرأة أن تدافع عن رجلها في وقت الشدَّة، لكن يجب أن تسلك بروح الاحتشام، لذا إن امتدَّت يدها لتمسك بعورة من يخاصم رجلها تقطع يدها.
“إذا تخاصم رجلان بعضهما بعضًا، رجل وأخوه،
وتقدَّمت امرأة أحدهما لكي تخلِّص رجلها من يد ضاربه،
ومدّت يدها وأمسكت بعورته،
فاقطع يدها ولا تشفق عليها” [11-12].
مهما تكن الظروف فإن المرأة التي تفعل ذلك، ولو بقصد إنقاذ زوجها، تكشف عن فقدانها الحياء تمامًا، وفقدان حياتها الفاضلة وكرامتها.
تُقطع يدها بلا رحمة، حتى لا يتسرَّب عدم الحياء إلى غيرها. فإنَّه خير لها أن تبقى مقطوعة اليد عن أن تعثر الفتيات والنساء. ولعل السيِّد المسيح في حديثه عن العثرة كان يُشير إلى هذا القانون: “فإن كانت عينك اليُمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنَّه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنَّم. وإن كانت يدك اليُمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنَّه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنَّم” (مت 5: 29-30). بمعنى أنَّه يليق بالمؤمن أن يكون حذرًا على الدوام من أيَّة عثرة أو خطر يحلّ به أو بمن حوله، وأن يصلب الشهوات الجسديَّة مهما كلَّفه الأمر.
5. الغش في الموازين:
لا يليق الغش في الموازين والمقاييس، كما يجب إلاَّ نحابي الوجوه فنزن لشخص بكيلٍ ولآخر بكيلٍ آخر، كأن نحابي الأغنياء على حساب الفقراء.
“لا يكن لك في كيسك أوزان مختلفة كبيرة وصغيرة.
لا يكن لك في بيتك مكاييل مختلفة كبيرة وصغيرة.
وزن صحيح وحق يكون لك.
ومكيال صحيح وحق يكون لك،
لكي تطول أيَّامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك.
لأن كل من عمل ذلك، كل من عمل غشًا مكروه لدى الرب إلهك” [13-16].
خلق الله الإنسان لكي يتعامل مع أخيه بروح العدالة. فالتجارة والمعاملات هي فرص لا ليستغلها الإنسان فيقتني شيئًا ما ظلمًا، وإنَّما لكي يمارس برّ المسيح ويختبر الأمانة، فنسمع القول: كنتَ أمينًا على القليل، أقيمك على الكثير“. التهاون في الأمانة رجس في عيني الله القدُّوس والأمين. هنا نرى أن مبادئ العدالة يجب أن تسود المعاملات التجاريَّة (لو 6: 38).
أولاً: ليس فقط لا يستخدم الإنسان أوزان ومكاييل غاشة، وإنَّما لا يسمح لنفسه أن يقتنيها في بيته، حتى ولو لم يكن يستخدمها، إذ يقول: “لا يكن“، وليس “لا تستخدم“. لا يجوز للإنسان أن يترك في بيته أو مكان عمله ما قد يسحبه نحو الخطيَّة.
ثانيًا: كل ظلمٍ نمارسه هو ممارسة للغش في الموازين، إذ نسيء تقدير الأمور. وكما جاء في عاموس: “اسمعوا أيُّها المتَّهممون المساكين لكي تبيدوا بائسي الأرض، قائلين… لنصغِّر الإيفة ونكبِّر الشاقل، ونعوِّج موازين الغش. لنشتري الضعفاء بفضَّة والبائس بنعلين ونبيع نفاية القمح” (عا 8: 4-6).
رابعًا: جاءت كلمة أوزان في العبريَّة: “Eben” أو “Waa’aaben“، معناها “حجر“، حيث كانت الحجارة تستخدم كأوزان. يتم الغش بأن يضع الإنسان مجموعتين من الحجارة، إحداهما ثقيلة والأخرى خفيفة، يستخدم الأولى عندما يشتري شيئًا، والأخرى عندما يبيعه. راجع (خر 16: 16؛ لا 19: 23).
خامسًا: الغش جريمة موجَّهة ليس ضد من نتعامل معه بل مع المجتمع ككل. فإن الإنسان الذي يقتني ربحه بالغش والخداع لا يشعر بقيمة ما لديه، فيبذِّره بطرقٍ خاطئة. ومن جانب آخر فإن من يقع عليه الغبن بسبب الغش هو جزء لا يتجزَّأ من المجتمع. فما يصيبه من ضرر يصيب المجتمع ككل. هذا وأن الغش ينزع عن الإنسان وعمَّن حوله بركة الرب.
يليق بكل إنسان أن يرى في متجره أو مكتبه أو مصنعه عرش الله معلنًا، والسيِّد المسيح حاضرًا. لذا يسلك بما يليق بموضع يسكنه الرب نفسه. نجاح العمل لا في كثرة الربح بل في الشهادة الحيَّة لعمل الله الذي يبارك ويهب نجاحًا للأمناء في تصرُّفاتهم.
سادسًا: الأمانة في الموازين والمكاييل تكشف عن قلب محب للعدالة، فيتمتَّع المؤمن ببركة الرب، وتطول أيَّامه على الأرض، أمَّا الغش والظلم أو المحاباة فتسقطه تحت اللعنة. فإن الله يبغض كل أنواع الغش. يقول سليمان الحكيم: “موازين غش مكرهة الرب، والوزن الصحيح رضا” (أم 11: 1). “معيار فمعيار، مكيال فمكيال، كلاهما مكرهة عند الرب” (أم 20: 10).
استخدام الموازين والكيل الحق يشير إلي روح التمييز الداخلي، فلا يزن الإنسان لنفسه بميزانٍ ولغيره بميزانٍ آخر، وكما يقول الأب ثيوناس في مناظرات القدِّيس
يوحنا كاسيان:
[فإذ يسكن في ضميرنا قاضٍ عادلٍ غير مرتشٍ، فإنَّه حتى إن أخطأ الكل لكن نقاوتنا الداخليَّة لن تنخدع قط. وهكذا يلزمنا أن نحتفظ بهدوء دائم في قلبنا المتيقِّظ بكل اجتهاد واهتمام، حتى لا يضل حُكم إفرازنا، فننشغل بمجرَّد صوم مملوء حماقة (أي مفرط) أو بتلذُّذ باسترخاء زائد. وهكذا نثقِّل قوَّتنا في ميزان غير سليم. إنَّما يجب علينا أن نضع نقاوة نفوسنا في كفَّة وقوَّتنا الجسميَّة في كفَّة أخرى، ونزنهما بحكم ضميرنا العادل، حتى لا نميل منحرفين إلى كفَّة على حساب الأخرى، أي إلى حزم غير لائق أو استرخاء بتفريط.
إذن ليس بغير سبب يوبِّخ الرب من يخدع نفسه باعتبارات غير صحيحة فيقول: “إنَّما باطل بنو آدم. كذب بنو البشر. في الموازين هم إلى فوق” (مز 62: 9). لهذا يوصينا الرسول المبارك أن نقبض بزمام الإفراز ولا ننحرف إلى المغالاة في أي الطريقين (رو 12: 3). ويمنع واهب الشريعة نفس الأمر قائلاً: “لا ترتكبوا جورًا في القضاءِ لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل” (لا 19: 35).
إذن يجدر بنا ألاَّ تكون في قلوبنا موازين ظالمة، ولا موازين مزدوجة في مخزن ضميرنا، بمعنى أنَّه يجب علينا ألاَّ نحطِّم من يلزمنا أن نكرز لهم بكلمة الرب، بشرائع حازمة مغالى فيها أثقل ممَّا نحتملها نحن، بينما نعطي لأنفسنا الحريَّة ونخفِّف منها… لأنَّه إن كنا نزن لاخوتنا بطريقة ولأنفسنا بأخرى يلومنا الرب بأن موازيننا غير عادلة ومقاييسنا مزدوجة، وذلك كقول سليمان بأن الوزن المزدوج هو مكرهة عند الرب والميزان الغاش غير صالح في عينيه (راجع أم 20: 10) [263]].
يليق بنا ألاَّ يكون لنا مِكْيالان أحدهما للكهنة والآخر للشعب، فالكل أعضاء في جسد المسيح الواحد، ويخضع لرب واحد، ويتمتَّع بحياة واحدة في المسيح يسوع. إن أخطأ الكاهن، أيَّا كانت رتبته لا يعفيه كهنوته من التأديب، بل تكون عقوبته مضاعفة بسبب كثرة معرفته.
v بالحقيقة لا يوجد تمييز بين الشعب والكهنة[264].
القدِّيس غريغوريوس النزينزي
6. تدمير عماليق:
“اذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر.
كيف لاقاك في الطريق، وقطع من مؤخِّرك كل المستضعفين وراءك،
وأنت كليل ومتعب ولم يخف الله.
فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك
نصيبًا لكي تمتلكها،
تمحو ذكر عماليق من تحت السماء لا تنسى” [17-19].
إذ تحدث عن المعايير الصادقة وعدم الغش في الموازين والمكاييل قدَّم مثلاً لذلك بعماليق.
أول معركة دخل فيها الشعب كانت في رفيديم ضد عماليق (خر 17). يرى البعض أن فرعون يمثِّل الشيطان الذي استعبد الإنسان زمانًا، وقد خلص منه الشعب في مياه المعموديَّة، وعماليق يمثِّل شهوة الجسد، أو أعمال الإنسان القديم التي تحارب المؤمن، لكنَّه يغلبها بالصليب حتى تتم النصرة. قال الرب: “للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور” (خر 17: 16). فإن حربنا مع أعمال الإنسان القديم تبقى مستمرَّة مادمنا في الجسد في هذا العالم. وكما يقول الرسول: “لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون” (غلا 5: 17).
لقد كالوا بالشرّ لشعب الله لتحطيم الإيمان، لذا لاق بالشعب أن يمحو ذكرهم حتى لا يتسرَّب فسادهم ورجاستهم في وسط الشعب فيهلكون. إبادة عماليق تشير إلى محو كل أثر للخطيَّة العنيفة المقاومة لنا في طريق خلاصنا.
يليق بنا أن نكون رحماء ولطفاء، لكن بروح الحكمة والتمييز، فلا نتهاون مع الخطيَّة، ولا نفتح بابًا لعثرتنا أو عثرة الآخرين. إن أمكن نُسالم جميع الناس، ونصلِّي لأجل الجميع، لكن إن دفعت الصداقة إلى الشرّ نكون حازمين مع أنفسنا بروح الحكمة والحب.
يرى البعض أن خطأ عماليق لم يكن موجَّهًا ضد شخص معين، بل ضدّ الكنيسة كشعب الله، لهذا يقف الله نفسه محاميًا عنها. وكما قيل: “كل آلة صوِّرت ضدِّك لن تنجح“.
من وحيّ تثنيَّة 25
هب لي روح العدالة المترفِّقة
v شريعتك حازمة للغاية وعادلة ودقيقة.
تطالب بعقوبة المجرمين لا لتعذيبهم بل لتأديبهم.
تهتم بالمجرم لعلَّه حتى في تأديبه يتوب.
وإن فقد حياته الزمنيَّة تطلب أبديَّته.
v تهتم حتى بالثور الدارس، فلا تجيز أن يَكُمّ فمه،
حتى يأكل مادام يعمل!
من أجلي يعمل الثور.
يدور ويدور ليدرس لي الغلَّة، كيف أتمتَّع بها وأحرِم الحيوان العامل لأجلي؟!
هب لي أن أعمل لحساب ملكوتك.
لأبحث عن كل خروفٍ ضال،
تفرح وتسرّ به!
تشبع بخلاص اخوتي،
أمَّا أنا فلا تتركني جائعًا قط!
ولن تَكُمّ فمي قط عن الخبز الجسدي،
ولا قلبي عن مائدة الملائكة!
v قدَّمت لنا شريعة إقامة نسل للميِّت،
إذ كان الكل يترقَّب مجيء المسيَّا من نسله.
لم ترد أن تحزن قلب أرملة فقدت رجلها وليس لها نسل.
v أعطيت للمرأة حق دفاعها عن رجلها،
لكن بروح الحياء والاحتشام.
v تلزمنا شريعتك ألاَّ نغش في الموازين.
ولا نكيل لشخص بكيل ولآخر بكيلٍ آخر.
نحمل سمتك يا من لا تحابي الوجوه.