تفسير سفر التثنية ٢٨ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثامن والعشرون
البركات واللعنات
إذ اقترب موسى النبي من الانتهاء من حديثه الوداعي مع شعبه الذي أوشك على الدخول إلى أرض الموعد قدَّم لهم حق الخيار بين الطاعة أو العصيان، كاشفًا عن بركات الطاعة للوصيَّة الإلهيَّة أو الإخلاص للعهد الإلهي. كما كشف عن لعنات العصيان أو كسر العهد. يؤكِّد هذا الأصحاح حريَّة الإنسان في اختيار إحدى الطريقين، فالأمر بين يديه، إذ نعمة الله مستعدَّة دومًا للعمل في حياة الراغبين فيها.
يلاحظ في الحديث عن البركات واللعنات الآتي:
- يقدِّم الله بركاته لشعبه ولبنيه كهبة مجَّانيَّة أو نعمة من قبله، لكنَّه في حبُّه للإنسان يسأله ألاَّ يعيش بروح الاستهتار والتشويش، بل يسلك كما يليق بشعب منتسب لله، أو كابن يرتبط بروح أبيه، يريد أن يراهم ناضجين روحيًا.
- لم يكن ممكنًا للشعب في بداية طريقه الروحي أن تقدَّم له المكافآت والجزاءات على المستوى الأبدي، وإنَّما على مستوى حياته الزمنيَّة، حتى متى جاء كلمة الله ونضج المؤمن تصير نظرته أعظم وفكره أكثر نضوجًا ليطلب السماويَّات ويخشى العقوبة الأبدي.
- هذه العطايا أو اللعنات لها مفهومها الخاص بالنسبة للمسيحي على ضوء الفكر الإنجيلي، واللقاء مع السيِّد المسيح، الذي يرفعه لا ليطلب بركات زمنيَّة ولا ليخشى من الضربات الأرضيَّة إنَّما يطلب لنفسه واهب البركات ويخشى الحرمان من الشركة معه في الأمجاد السماويَّة.
- بركات الطاعة [1-14].
أولاً: التصاق البركة بالمطيع [1-6].
ثانيًا: النصرة على الأعداء [7].
ثالثًا: التمتُّع بالغنى [8].
رابعًا: التمتُّع بالقداسة [9].
خامسًا: التمتُّع بالكرامة [10].
سادسًا: التمتُّع بالأثمار [11].
سابعًا: الطبيعة خادمة للمطيع [12].
ثامنًا: التمتُّع بروح القيادة [13-14].
- لعنات العصيان [15-68].
أولاً: التصاق اللعنة بالعاصي [15-19].
ثانيًا:المعاناة من الاضطراب [20].
ثالثًا: المعاناة من الوبأ [21-22].
رابعًا: الطبيعة تقاوم للعاصي [23-24].
خامسًا: الهزيمة أمام الأعداء [25-26].
سادسًا: حرمان من كل عطيَّة [27-35].
سابعًا: فقدان الكرامة [36-37].
ثامنًا: حرمان من تعب اليدين [38-42].
تاسعًا: انحدار واِنهيار [43-46].
عاشرًا: السقوط تحت العبوديَّة [47-57].
حادي عشر: حلول ضربات مصر [58-60].
ثاني عشر: حلول الفناء [61-67].
ثالث عشر: ارتداد إلى مصر [68].
- بركات الطاعة
جاءت البركات هنا قبل اللعنات ليعلن الله أنَّه بطيء في الغضب وسريع في إظهار المحبَّة والرحمة، فإنَّه يُسر بأن يبارك، مشتاقًا ألاَّ يسقط أحد تحت اللعنة. أوضح رغبة الله في نجاح شعبه وتقديسه [1-14]. جاء الوعد بفيضٍ من البركات الجسديَّة والماديَّة لمن يخلص للعهد في طاعة للوصيَّة. هذا ويليق بنا في تعاملنا مع الله أن نمتلئ برجاء البنين في محبَّة الله أبيهم عن أن نرتعب منه في خوف العبيد من غضب السيِّد.
يقدِّم لنا الشروط التي على أساسها ننال البركات ألا وهي:
- الاستماع باجتهاد لصوت الله [1-2] لكي نحمل في داخلنا إرادته المقدَّسة [13].
- الطاعة للوصيَّة والسير في طريقه الإلهي [9]، لا مرة واحدة ولا مرات، بل نحفظها على الدوام، ونسير في طريقه إلى نهايته لا إلى المنتصف.
- ألاَّ ينحرف الإنسان عن الطريق يمينًا أو يسارًا، وذلك بعدم المبالغة في الأمور وعدم التهاون فيها.
يميِّز هنا بين نوعين من البركات، متكاملين معًا، وهما البركات التي تحل بالشعب ككل معًا، وتلك التي تحل بالعضو وأسرته، وإن كان لا يمكن الفصل بين العضو والجماعة كلها. فمن جهة البركة الجماعيَّة يقول:
“وإن سمعت سمعًا لصوت الرب إلهك،
لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم،
ويجعلك الرب إلهك مستعليًا على جميع قبائل الأرض” [1].
يبدأ البركات بعمل الله مع الجماعة حيث يرفعها على جميع قبائل الأرض؛ فإن كان الله ساكنًا في الأعالي فإنَّه يقيم من كنيسته جماعة سماويَّة، يحملها روحه القدُّوس كما إلى العرش، فتصير عالية فوق جميع قبائل الأرض.
هذا هو عمل الطاعة، بينما ننحني بإرادتنا أمام الله، إذا به يرفع فكرنا وإرادتنا وكل أعماقنا لنحمل سمات سماويَّة، ونصير كمن لا نُحصى بين الأرضيِّين، ننعم بالشركة مع السمائيِّين. إذ يتحدَّث عن البركة الإلهيَّة يُنسب الله للشعب فيكرِّر التعبير: “الرب إلهك“.
أولاً: التصاق البركة بالمطيع:
يشتهي كل إنسان أن يتمتَّع بالبركة متسائلاً: كيف يمكنني بلوغها؟ لكن النبي هنا يكشف لنا عن حب الله الفائق، الذي يود أن يحملنا إلى حياته المطوَّبة لكي نختبرها. البركات هي التي تسعى وراء الإنسان، إذ كثيرًا ما يظن الإنسان أنَّه غير أهلٍ لها، حتى في يوم الرب العظيم يقول المؤمنون: “متى رأيناك جائعًا فأطعمناك؟” (مت 25: 27). إنَّنا في حاجة لا أن نسعى وراء البركة بل أن نفتح لها أبواب قلبنا. يرى النبي البركة أشبه بكائن أو شخص يسعى وراء المؤمن لكي يدركه ويلتصق به ويتَّحد معه، إذ يقول:
“وتأتي عليك جميع البركات، وتدركك، إذا سمعت لصوت الرب إلهك” [2].
يوجِّه الحديث إلى الشعب ككل كما لو كانوا شخصًا واحدًا، فسرّ البركة هو وحدة الشعب معًا، لينعم الجميع معًا بما هو لبنيانهم إن سلكوا في الطاعة لصوت الرب.
إنَّها تأتي إلى المؤمن لكي تدركه وتقدِّم له ذاتها بكل غناها الفائق وإمكانيَّاتها الإلهيَّة. تتقدَّم لتبارك كل جوانب حياته الداخليَّة والخارجيَّة وكل علاقاته، فتهبه سلامًا في القلب ومع الغير.
بعد أن كشف عن البركات الإلهيَّة بكونها كائنًا يعمل فينا ويقطن في داخلنا، إذ هي ظل لشخص السيِّد المسيح الذي جاء إلينا، أوضح الجوانب التالية لهذه البركات:
- أنواعها: بركات أرضيَّة ونفسيَّة وروحيَّة.
- امتدادها: تعمل في المدينة كما في القرية [3]. تحل البركة في كل موضع، أي ننعم ببركات سماويَّة تخص مدينة أورشليم العليا، وبركات زمنيَّة تخص حقل الخدمة في هذا العالم.
- عملها: بركات تمس كل جوانب حياتنا. “مباركة تكون ثمرة بطنك (تقديس الروح)، وثمرة أرضك(تقديس الجسد)، وثمرة بهائمك (تقديس الطاقات البشريَّة)” الحياة الداخليَّة والخارج [4].
- اهتمامها: تهتم حتى بالاحتياجات اليوميَّة للإنسان. “مباركة تكون سلَّتك (الكماليَّات كالفاكهة بالنسبة لذلك الوقت) ومعجنك (الضروريَّات كالخبز اليومي)” [5].
- مركزها: ترافق الإنسان وتلتصق به في كل تحرُّك، في دخوله وخروجه [6].
- قدرتها: تحفظه من الأعداء وتهبه روح النصرة [7].
- إمكانيَّاتها: تهبه غنى حقيقيًا، بركة في الخزائن، بل يصير هو نفسه “شعبًا مقدَّسًا” أي “بركة” للغير [8].
- غايتها: تقيمنا قدِّيسين للقدُّوس [9].
- مكافأتها: تهب المؤمن كرامة ومخافة [10].
- نتائجها: إثمار دائم [11].
- دورها: تفتح أبواب السماء للمؤمن فيض بركة بلا حصر. “يفتح لك الرب كنزه الصالح ليعطي مطر أرضك في حينه (أي يرسل روحه القدُّوس فينا) وليبارك كل عمل يدك” [12].
- رسالتها: تقيم من المؤمن قائدًا ناميًا [13].
أ. “مباركًا تكون في المدينة، ومباركًا تكون في الحقل” [3]. تحل البركة بالمؤمن بغض النظر عن ظروفه، إن كان رجل المدينة العامل في التجارة أو الصناعة، أو كان في الحقل عاملاً في الزراعة أو الرعي. أنَّه يتمتَّع بالحياة الإلهيَّة المباركة أو المطوَّبة مهما كان عمله أو مركزه أو دوره في المجتمع.
كان يُقال “أوجد الله القرى، وأوجد الإنسان المدن”. وها هو الله يؤكِّد رعايته للمدينة كما للقريَّة. يبارك المدينة ببرِّه الإلهي فيزيل عنها جوَّها الملوَّث، فلا يكون للشرّ موضع فيها، بل يتنسَّم رائحة المسيح الذكيَّة.
ب. “ومباركة تكون ثمرة بطنك، وثمرة أرضك، وثمرة بهائمك، نتاج بقرك وأُناث غنمك” [4]. خلق الله الأرض وكل ما عليها وما فيها من أجل الإنسان، فإن تبارك الإنسان حلّت البركة على الأرض الخادمة له بكل إمكانيَّاتها وحيواناتها. أمَّا إن حلَّت به اللعنة فيقول له الله: “ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيَّام حياتك؛ وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل” (تك 3: 17-18).
تحل البركة بالأعماق الداخليَّة “ثمرة بطنك“، وتحل بالحياة الخارجيَّة “ثمرة أرضك“، كما تحل بالجسد بكل غرائزه “ثمرة بهائمك“.
ج. “مباركة تكون سلَّتك ومعجنك” [5]. يرى البعض أن السلَّة تمثل المكان الذي يخزن فيه الإنسان الفواكه والمحاصيل الزراعيَّة. وأمَّا المعجن (الصغير) فهو الإناء الذي يعجن فيه الإنسان خبزًا يكفي العائلة ليوم واحدٍ. هكذا يبارك الله احتياجات الإنسان اليوميَّة، فلا يعتاز إلى شيء.
د. “مباركًا تكون في دخولك، ومباركًا تكون في خروجك” [6]. وكما يقول المرتِّل: “الرب يحفظ خروجك ودخولك من الآن وإلى الدهر” (مز 121: 8). بركة الرب ليس فقط تحل في حياة الإنسان الداخليَّة والخارجيَّة لتبارك كيانه كله كما أعماله وممتلكاته، وإنَّما تسير معه وترافقه أينما حلَّ، في خروجه كما في دخوله.
ثانيًا: النصرة على الأعداء:
“يجعل الرب أعداءك القائمين عليك منهزمين أمامك.
في طريق واحدة يخرجون عليك،
وفي سبع طرق يهربون أمامك” [7].
لم يعد الله المؤمن المطيع ألاَّ يُحاربه عدو، بل على العكس يؤكِّد قيام أعداء ضدُّه، لكن المقاومة تؤدِّي به إلى النصرة والغلبة، فيتمتَّع بأمجاد وأكاليل. فالأعداء ليسوا إلاَّ خطوة نحو المجد. حياتنا معركة دائمة، حيث يخرج عدو الخير بكل جنوده وأعماله الشرِّيرة، مع خبرته الطويلة، ومكره وخداعه ليهاجم المؤمن مركزًا عليها كما في طريق واحدة، لكنَّه سرعان ما يتبدَّد العدو أمام نعمة الله واهبة النصرة. فيهرب العدو من أمام وجه المؤمن متشتِّتًا كما في طرقٍ كثيرة.
ثالثًا: التمتُّع بالغنى:
“يأمر لك الرب بالبركة في خزائنك،
وفي كل ما تمتد إليه يدك،
ويباركك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك” [8].
إذ ترافق بركة الرب المؤمن وتسكن فيه، ليس فقط ترفعه إلى السماء فيكون له اسم أعلى من جميع الشعب، وإنَّما تبارك حتى في إمكانيَّاته الزمنيَّة “خزائنه“، وتجعل يديه بركة، فتتبارك كل ما تمتد إليه يداه، حتى الأرض تتبارك بسببه. ببركة الرب يسبح المؤمن قائلاً: “القليل الذي للصديق خير من ثروة أشرار كثيرين” (مز 37: 16).
يفتح الله أبواب السماء أمام الأمين كمن يقدِّم له من كنزه كل ما هو جديد. ولا تعرف البركة حدودًا، فإن كانت تفتح أبواب السماء أمام المؤمن ليجد فيها كل شبعه، فإنَّها في نفس الوقت تقدِّس الأرض التي يمشي عليها، والعمل الذي تمتد إليه يداه فتمتلئ مخازنه بالغنى. أمَّا الغنى الذي لا ترافقه بركة الرب فيصير كارثة، ولن يُشبع الإنسان. وكما يقول الحكيم:
“من يحب الفضَّة لا يشبع من الفضَّة، ومن يحب الثروة لا يشبع من دخلٍ. هذا أيضًا باطل.
إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها، وأي منفعة يصاحبها إلاَّ رؤيتها بعينيه؟!
يوجد شرّ خبيث رأيته تحت الشمس. ثروة مصونة لصاحبها لضرره. فهلكت تلك الثروة بأمرٍ سيِّئ، ثم ولد ابنًا وما بيده شيء. كما خرج من بطن أمِّه عريانًا يرجع ذاهبًا كما جاء ولم يأخذ شيئًا من تعبه فيذهب به في يده” (جا 5: 10-15).
يقول الرسول يعقوب: “هلمَّ أيُّها الأغنياء ابكوا موَلوِلين على شقاوتكم القادمة؛ غناكم قد تهرَّأ وثيابكم قد أكلها العُثّ” (يع 5: 1-2). على العكس إن وُجدت بركة الرب حتى وإن لم تمتلئ مخازن الإنسان فإنَّه يُحسب غنيًا. يقول المرتِّل: “القليل الذي للصديق خير من ثروة أشرار كثيرين” (مز 37: 16).
رابعًا: التمتُّع بالقداسة:
“يقيمك الرب لنفسه شعبًا مقدَّسًا كما حلف لك، إذا حفظت وصايا الرب إلهك، وسلكت في طرقه” [9].
“يقيمك” نفس الكلمة التي استعملها المسيح عن إقامة ابنة يايرس (مر 5: 41) ووردت في (تث 18: 15، 18)، وهي تعلن إقامة شيء جديد. من أثمن العطايا والبركات الإلهيَّة أن يقيم الله من الناس شعبًا مقدَّسًا، ويجعل من الإنسان كائنًا ينتسب لله، يحمل برُّه الإلهي وقداسته.
مفهوم التقديس هو تخصيص الإنسان بكل كيانه لله القدُّوس، فإن كان الله منشغلاً بخلاص الإنسان ومجده، فالمؤمن في تجاوبه مع محبَّته لله يكرِّس طاقاته بروح الله القدُّوس للعمل لحساب ملكوته.
هذه البركة تحمل أيضًا معنى الاستقرار والتأسيس الثابت، فكنيسة الله، وكل بيت، بل وكل قلب يحتاج إلى يد الله الفائقة لكي تثبت فيها مملكته. وكما يقول لوقا الإنجيلي: “فكانت الكنائس تتشدَّد في الإيمانوتزداد في العدد كل يوم” (أع 16: 5). ويقول الرسول بولس لأهل روميَّة: “لأنِّي مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحيَّة لثباتكم” (رو 1: 11). ولأهل كولوسي: “فكما قبلتم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه، متأصِّلين فيه ومبنيِّين فيه وموطَّدين في الإيمان” (كو 2: 6-7). وفي رسالته إلى العبرانيِّين: “لا تُساقوا بتعاليم متنوِّعة وغريبة لأنَّه حسن أن يثبت القلب بالنعمة” (عب 13: 9). كما يقول الرسول بطرس: “وإله كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع بعدما تألمتم يسيرًا هو يكمِّلكم ويثبِّتكم ويقوِّيكم ويمكِّنكم” (1 بط 5: 10). “لذلك لا أُهمل أن أذكِّركم دائمًا بهذه الأمور وإن كنتم عالمين ومثبَّتين في الحق الحاضر” (2 بط 1: 12).
هكذا يثبِّت الله شعبه في القداسة التي له لنصير أيقونة له، لا تستطيع كل القوى أن تشوِّهها أو تزيلها. إنَّها من عمل الروح القدس في أعماقنا.
خامسًا: التمتُّع بالكرامة:
“فيرى جميع شعوب الأرض أن اسم الرب قد سُمِّي عليك،
ويخافون منك” [10].
“اسم الرب” هو الرب كما يعلن عن نفسه، فحينما يُدعى علينا اسمه إنَّما نقتنيه، فنحمل مخافته وكرامته فينا، لذا تخاف جميع شعوب الأرض منَّا. قيل عن الإسرائيليِّين الروحيِّين: “ولهم التبنِّي والمجد” (رو 9: 4). نال إسرائيل الظل، أمَّا نحن فننال النعمة والحق، إذ يقول الرسول: “لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة، لا نفس صورة الأشياء” (عب 10: 1).
بالطاعة تُعلن مخافة الله العاملة فينا، وإذ نخاف لئلاَّ تجرح مشاعر حبُّه، يرد لنا هذه المخافة بمخافة الآخرين لنا. من يكرم الله يكرمه الله؛ ومن يخافه يهبه مهابة ومخافة. قيل عن الكنيسة الأولى: “وصار خوف في كل نفس” (أع 2: 43).
يخشى العالم صلوات الأبرار، مع أنَّها لا تحمل كراهيَّة أو بغضه لهم. يشعرون بالمخافة أمام الله الذي يُسر بهم ويسكن فيهم.
إذ يُدعى علينا اسم الرب يليق بنا أن نحمله، لا بالشكل الخارجي، بل بالثبوت فيه. وكما يقول الرسول بولس: “لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليُّون” (رو 9: 6). وفي يوم الرب العظيم يتم الفصل بين الذين يحملون اسمه شكليًا، والذين يحملون قوَّته روحيًا إذ “ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبَّأنا؟! وباسمك أخرجنا شيَّاطين؟! وباسمك صنعنا قوَّات كثيرة؟! فحينئذ أصرِّح لهم أنِّي لم أعرفكم قط، اذهبوا عنِّي يا فاعلي الإثم” (مت 7: 21-23).
سادسًا: التمتُّع بالإثمار:
“ويزيدك الرب خيرًا في ثمرة بطنك، وثمرة بهائمك، وثمرة أرضك، على الأرض التي حلف الرب لآبائك أن يعطيك” [11].
مع الكرامة التي يتمتَّع بها المؤمن كهبة إلهيَّة يهبه الله خيرًا متزايدًا لا ينقص، خيرًا في أولاده ثمرة بطنه، وخيرًا في ممتلكاته كالبهائم، وخيرًا في الأرض التي يسكن فيها.
سابعًا: الطبيعة خادمة للمطيع:
“يفتح لك الرب كنزه الصالح، السماء ليعطي مطر أرضك في حينه،
وليبارك كل عمل يدك،
فتقرض أممًا كثيرة،
وأنت لا تقترض” [12].
إذ يفتح المؤمن قلبه لله بالطاعة تفتح السماء أبوابها لتمطر لا كنوزها بل واهب كل الكنوز، مطر الروح القدس الذي يعمل في حياة المؤمن، واهبًا إيّاه روح البركة والنصرة مع الخلود.
v حتى السماء تدعى أيضًا جديدة عندما لا تعود تصير نحاسًا، بل تعطي مطرًا، والأرض تصير مثلها جديدة عندما لا تكون عقيمة[274]…
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
الإنسان الأمين في علاقته مع الله يرى أبواب السماء مفتوحة أمامه ليسحب من المخازن لا أمطار من مياه، بل يسحب طبيعة الحب، فيشتاق أن يقرض ويُعطي لا أن يأخذ. يتَّسع قلبه بالحنو ويفيض على كل من حوله بغير حسابٍ.
ثامنًا: التمتُّع بروح القيادة:
“ويجعلك الرب رأسًا لا ذنبًا،
وتكون في الارتفاع فقط ولا تكون في الانحطاط،
إذا سمعت لوصايا الرب إلهك التي أنا أوصيك بها اليوم لتحفظ وتعمل.
ولا تزيغ عن جميع الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم يمينًا أو شمالاً لكي تذهب وراء آلهة أخرى تعبدها” [13-14].
مع ارتباط الطاعة بالتواضع يهب الله أولاده لا روح الخنوع والمذلَّة، بل روح القيادة الصادقة الحيَّة، فيصير المؤمن رأسًا لا ذنبًا. يقول الحكيم عن اقتناء الحكمة الإلهيَّة: “ارفعها فتُعلِّيك، تمجِّدك إذا اعتنقتها، تُعطي رأسك إكليل نعمة” (أم 4: 28-29). يهب الله أولاده روح النمو الدائم، فيرتفعون دومًا ولا يهبطون، ينمون بطيئًا لكنَّه نمو دائم وثابت، لن يُقهر.
إذ يرتبط المؤمن بمخلِّصه الابن الوحيد، البكر، يصير هو أيضًا بكرًا. وفي طاعته لملك الملوك يصير ملكًا. ويبقى في حركة نموّ دائم مشتاقًا أن يبلغ إلى قياس ملء قامة المسيح.
v يتطلَّب الناموس من الشخص الذي يحفظه ألاَّ يترك الطريق الذي يقول عنه الرب أنَّه “ضيِّق وكرب” (مت 7: 14)، فلا ينحرف يسارًا ولا يمينًا.
يقوم هذا التعليم على أن الفضيلة تتميَّز بهذا (الاعتدال). فإن كل شر يعمل طبيعيًا خلال نقص الفضيلة أو المبالغة فيها. ففي حالة الشجاعة، الجبن هو نقص للفضيلة، والتهوُّر هو مبالغة فيها…
هكذا كل الأمور الأخرى التي فيها تجاهد من أجل البلوغ إلى ما هو أفضل، تأخذ الطريق الوُسطى بين الشرور المتجاورة.
الحكمة تتمسَّك بالطريق بين المكر والبساطة. فليست حكمة الحيَّة ولا بساطة الحمامة (مت 10: 16) يمكن أن تُمدح، إن اختار الشخص إحداهما وحدها. بالأحرى الفضيلة هي اتِّحاد هاتين الاثنتين معًا بقوَّة في الطريق.
الإنسان الذي ينقصه الاعتدال متسيِّب، والذي يسير إلى ما وراء الاعتدال يصير ضميره معذَّبًا (1 تي 4: 2) كقول الرسول. فالواحد يسلِّم نفسه للملذَّات بلا ضابط، والآخر يدنِّس الزواج كما لو كان زنا. أمَّا السلوك في الطريق الوسطى بينهما فهو الاعتدال[275].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
- لعنات العصيان
إذ أظهر الجانب المبهج للسحابة المتَّجه نحو الطاعة يقدِّم لنا الجانب المظلم الذي يتَّجه نحو العصيان. فإنَّنا إن لم نحفظ وصايا ليس فقط نُحرم من البركات الموعود بها، إنَّما نلقي بأنفسنا تحت اللعنة التي تقدِّم كل بؤس كما تقدِّم البركات كل سعادة.
أعلن الله عن قوَّة بركاته وفاعليَّتها في حياة المؤمن، وفي نفس الوقت كشف عن خطورة العصيان، حتى لا يظن المؤمن أن الحياة الروحيَّة هي حب بلا ضابط ولا قانون. يقدِّم صورة بشعة لما يحل بالشعب بسبب انحرافه عن الله مصدر حياته ونموُّه وفرحه وشبعه وتقديسه وحريَّته الداخليَّة. يرى كثيرون أن هذا الجزء من الأصحاح يمثِّل أرهب ما ورد في الكتاب المقدَّس. قال متى هنري أن إنسانًا ما إذ قرأ هذا الجزء لم يحتمل ما ورد فيه من لعنات، فنزع هذا الأصحاح من الكتاب المقدَّس. لم يدرك هذا أن الحب لابد من أن يُغلَّف بالحزم؛ ومحبة الله الفائقة لا يمكن التمتُّع بها دون المخافة الإلهيَّة.
في كل أمَّة يوجد أناس هم أطفال روحيًا يحتاجون إلى شيء من الخوف كي يرفعهم إلى النضوج ليقبلوا الطاعة خلال الحب. ما يدعوه هنا باللعنات إنَّما يعبَّر به عن الغضب الإلهي ضد الخطيَّة ذاتها أو الشر. غضب الرب مقدَّس، لا يمكن فصله عن الحب؛ فهو يغضب على الخطيَّة، مشتاقًا أن يحرر الخاطئ منها. فاللعنات هي ثمر طبيعي لاعتزال الإنسان الله مصدر كل بركة. فعندما نتحدَّث عن ما يسمح به الله من لعنات، فإن هذه ليست مصدرها الله كلي الحب وصانع الخيرات، إنَّما هي ثمرة إرادتنا الشرِّيرة التي تعتزل مصدر البركة.
الحب الحقيقي يرافقه الإخلاص والجديَّة في العمل، لا التراخي والتهاون وعدم الإخلاص.
اللعنة في الكتاب المقدَّس:
تمثِّل البركات واللعنات عنصرًا جوهريًا في الحياة الروحيَّة وفي الفكر الكتابي. لكن شتَّان ما بين نظرة الكتاب المقدَّس للعنة ونظرة العالم الوثني لها. فالوثنيون يتطلعون إلى اللعنة بكونها غضب إلهي أو من فعل السحر، لا تُنزع من الإنسان خلال التوبة والسلوك الروحي الحيّ، إنَّما خلال استخدام التعاويذ والأعمال السحريَّة. أمَّا الكتاب المقدَّس فيرى في اللعنة الآتي:
اللعنة هي ثمرة طبيعيَّة للخطيَّة، يذوق العاصي عربون مرارتها في العالم لعلَّه يراجع نفسه ويتوب عن خطيته، وإلاَّ فإنَّه يذوق كمال المرارة في العالم العتيد. إن كانت البركة هي عطيَّة الله للبار، فإن اللعنة هي ثمرة الشر الذي يرتكبه العاصي (أم 11: 31). الخطيَّة تدخل بالارتباك والفوضى والفساد إلى النفس، فيصير كل ما هو في داخل الإنسان وخارجه فاسدًا (راجع غلا 6: 8؛ رو 6: 21).
اللعنة عملها هو الفساد: تفسد الفكر والقلب والإرادة وكل كيان الإنسان الداخلي. من بركات الرب علينا إنَّنا لا ندرك تمامًا مدى ما تفعله اللعنة فينا، خاصة في الحياة العتيدة، حتى لا نسقط في اليأس. فما يظهره هذا الأصحاح من عمل اللعنة في حياة الإنسان إنَّما هو ظل لما يحدث في أعماق النفس وينكشف في يوم الرب العظيم.
اللعنة تحرم الطبيعة من الثمر الطبيعي: لقد وضع الله للطبيعة نواميسها لكي تتمم عملها وتأتي بالثمار المتزايدة لسعادة الإنسان. أنَّها تعجز عن تحقيق هذه الثمار بدون العون الإلهي. اللعنة هي اعتزال الإنسان لله ضابط الكل، لهذا ترتبك نواميس الطبيعة بسببها.
اللعنة هي تجرُّد من الحياة: حيثما حلَّت عزلت الإنسان عن الله مصدر الحياة، فيدب فيه الموت أينما وجد.
لا نسقط في اللعنة بلا سبب، ولا لسببٍ تافه، فإن الله لا يبحث عن فرصة ليقف ضدنا، ولا يود أن يدخل معنا في صراع، إنَّما يسقط تحت اللعنة الفئات التالية:
أولاً: الذين يحتقرون الله، ويرفضون الاستماع إليه [15]، فيحسبون صوته كمن لا يستحق الإنصات إليه.
ثانيًا: الذين يعصونه [20]. الله لا يلقينا خارجًا ما لم نلقه نحن خارج حياتنا.
إمكانيَّة اللعنة:
لا يريد الله للإنسان اللعنة بل البركة، فقد خلقه لكي يتمتَّع بشركة الحياة معه، لكن الخطيَّة تحوِّل النور إلى ظلمة، وعذوبة الحياة إلى مرارة، والطعام إلى سم.
- اللعنة تحوِّل عقل الإنسان الفائق في قدرته وإمكانياته إلى مركز ارتباك للإنسان كله. أنَّها أشبه بفيروس virus يحل بالكمبيوتر ليفسد كل الذاكرة ويربك كل الملفات data التي به.
- اللعنة تحوِّل الطبيعة الجميلة الخادمة للإنسان إلى أداة لآلامه ومتاعبه.
- اللعنة تحوِّل الجسد الذي يشارك النفس في تهليلها بالله خالق الكل إلى مركز شهوات تحطِّم النفس والجسد معًا.
- اللعنة تحوِّل الأبناء عوض كونهم مصدر فرح وبهجة إلى مصدر قلق.
- اللعنة تجعل من الممتلكات ليس سرّ قناعة للإنسان بل علَّة اضطراب.
- اللعنة تفسد نظام الطبيعة الفائق بنواميسها الدقيقة إلى حالة من الفوضى.
- أخيرًا إذ تحل اللعنة بالإنسان يصير كما في غير وعيه، يرى في الشمس أتون نار، وفي الطبيعة وكالة لعنات لا تنتهي، وفي المستقبل ظلمة محطِّمة للنفس.
الهروب من اللعنة:
بصفة عامة كل اللعنات تحل علينا وتسيطر علينا حتى إن سعينا إلى الهروب منها والتغلُّب عليها [15]. قل عن الخاطئ إن غضب الله يتبعه ولا يمكن له الهروب من يده (أي 27: 22). لا يوجد من يهرب من الله بل من يهرب إليه، ليس من يهرب من عدالته بل من يهرب إلى رحمته (مز 21: 7-8).
أينما ذهب الخاطئ تتبعه اللعنة، وأينما وُجد تحل عليه وتستقر. أسوار المدينة لا تحميه، والهواء النقي للحقل لا يحفظه من الدخان المفسد. تحل اللعنة على بيت الشرِّير (أم 3: 33). وحين يخرج من البيت، فإنَّه لا يستطيع أن يتركها في البيت ويهرب منها، إذ تدخل إلى أحشائه وتتسلل إلى عظامه.
اللعنة بالنسبة له كالأرض التي يقف عليها كما حدث مع قايين (تك 4: 11). تحل اللعنة في السلَّة والمخزن أي في عقله وضميره (تي 1: 15)، فلا يجد راحة مطلقًا، بل يفقد سلام قلبه وفكره.
تحل اللعنة على ما تمتد إليه يديه [20]، فيدخل في حالة إحباط شديدة.
يهدد الله بأحكام قاسية كما في (حز 14: 21). إن لم يرتدع الإنسان يسقط في أحكام مضاعفة.
اللعنة والنبوَّة:
يرى البعض أن ما ورد هنا من لعنات كانت نبوات تحقَّقت عبر العصور:
- الغزوات الأشوريَّة والكلدانيَّة التي أُشير إليها في (إر 4: 13) [15].
- السبي البابلي لمدَّة 70 عامًا.
- الاحتلال الروماني كأعداء غرباء [49-50].
- حصار أورشليم بواسطة تيطس كما جاء في يوسيفوس المؤرخ[276].
- بيع مئات بل آلاف من اليهود عبيدًا عبر العصور.
يقول القدِّيس أثناسيوس الرسولي:
v يتَّجه هؤلاء الأشرار نحو قتل أنفسهم بكل أنواع الشهوات… نعم، فإنَّهم حتى عندما يعيشون يكونون في عارٍ، إذ يحسبون بطونهم آلهتهم، وعندما يموتون يتعذبون[277].
أولاً: التصاق اللعنة بالعاصي:
كما يشبِّه البركات بشخص يجري وراء المؤمن يود أن يلحق به ويدخل إلى أعماقه هكذا تفعل اللعنات. فإن الصراع قائم بين الله وإبليس، الله يود أن يقتني الإنسان ابنًا له ليهبه شركة أمجاد أبديَّة، وإبليس يبذل كل الجهد ليقتنيه ابنًا معه يشاركه في الهلاك.
“ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم،
تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك” [15].
تحاول اللعنات أن تقتفي أثر الإنسان حيثما ذهب لتقدِّم له على الدوام كل ما هو مضاد للبركات. تود اللعنات أن تمتد لتعمل في الإنسان إن كان في المدينة أو الحقل، تمس حياته الداخليَّة كما الخارجيَّة، تفسد حتى عمله اليومي، ترافقه في دخوله كما في خروجه.
“ملعونًا تكون في المدينة، وملعونًا تكون في الحقل.
ملعونة تكون سلَّتك ومعْجنك.
ملعونة تكون ثمرة بطنك، وثمرة أرضك، نتاج بقرك وإناث غنمك.
ملعونًا تكون في دخولك، وملعونًا تكون في خروجك” [16-19].
اللعنة هنا هي تجريد المدينة والقريَّة والإنسان من كل لمسات الحياة، فيدب الموت في كل مكان.
ثانيًا: المعاناة من الاضطراب:
“يرسل الرب عليك اللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله،
حتى تهلك وتفنى سريعًا من أجل سوء أفعالك إذ تركتني” [20].
إن كان ثمر الروح هو الحب الممتزج بالفرح (غلا 5: 23)، حيث يحمل الروح النفس كما إلى السماء لتذوق الفرح الأبدي وهي بعد وسط اضطرابات العالم وهمومه وتجاربه، فإن عمل الخطيَّة خاصة العصيان هو حرمان الإنسان من هذا الجو السماوي. إذ بالعصيان يعطي الإنسان ظهره لله مصدر الفرح الحقيقي، لذا فهو يلقي بنفسه في جحيم القلق والاضطراب، حاملاً روح الزجر وعدم الشكر في كل عملٍ تمتد إليه يده. أنَّه يدفع نفسه بنفسه إلى الدمار الداخلي.
ثالثًا: المعاناة من الوبأ:
“يلصق بك الرب الوبأ حتى يُبيدك عن الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها.
يضربك الرب بالسُل والحمَّى والبرداء والالتهاب والجفاف واللفح والذبول، فتتبعك حتى تفنيك” [21-22].
جاءت كلمة “الوبأ” في الترجمة السبعينيَّة “الموت”، فإنَّه إذ يرفض الإنسان الالتصاق بالله مصدر الحياة، بعصيانه يدفع بنفسه إلى الموت. تحل به الأمراض بكل أنواعها حتى يذبل جسده مع نفسه، ويفقد كل حيويَّته ويصير أشبه بميِّت قد فنيَ!
تحل الأمراض بأنواعها المختلفة بالإنسان، كما تُصاب الزراعة بالأمراض مثل اللفح. جاء في عاموس: “ضربتكم باللفح واليرقان، كثيرًا ما أكل القمص جناتكم وكرومكم وتينكم وزيتونكم فلم ترجعوا إليّ يقول الرب” (عا 4: 9). وأيضًا الذبول الذي تسببه الرياح الشرقيَّة كما جاء في حلم فرعون: “هوذا سبع سنابل يابسة رقيقة ملفوحة بالريح الشرقيَّة” (تك 41: 23)، حيث تضرب الرياح الساخنة السنابل قبل أن تحمل الثمار فتجف.
رابعًا: الطبيعة تقاوم العاصي:
“وتكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا،
والأرض التي تحتك حديدًا.
ويجعل الرب مطر أرضك غبارًا وترابًا ينزل عليك من السماء حتى تهلك” [23-24].
الطبيعة التي خلقها الله للإنسان لشبعه وإسعاده تقف ضده، فتصير السماء نحاسًا لا تقدِّم مطرًا، والأرض حديدًا لا تنبت فيها البذور، فتحل المجاعة بالأرض ويُعاني الإنسان من نقص المحاصيل. وكما سبق فحذرهم الرب: “فأحطم فخار عزكم وأصيِّر سماءكم كالحديد وأرضكم كالنحاس، فتفرغ باطلاً قوتكم، وأرضكم لا تُعطي غلتها، وأشجار الأرض لا تعطي ثمارها” (لا 26: 19-20).
عِوض سقوط أمطار من السماء على الأرض لترويها تسقط رمالاً ثقيلة، وغُبارًا يعمي العينين. يفقد الإنسان راحته ورؤيته للأمور كما ينبغي.
هكذا إذ يعطي الإنسان ظهره لله يفقد عطيَّة روحه القدُّوس فتصير نفسه “السماء” كالنحاس لا تحمل ثمر الروح، ويحمل الجسد روح العناد والمقاومة فيكون كالحديد.
خامسًا: الهزيمة أمام الأعداء:
“يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك.
في طريق واحدة تخرج عليهم، وفي سبع طرق تهرب أمامهم،
وتكون قلقًا في جميع ممالك الأرض.
وتكون جثَّتك طعامًا لجميع طيور السماء ووحوش الأرض،
وليس من يزعجها” [25-26].
قبل دخولهم أرض الموعد وتمتعهم بالنصرة على الأمم القاطنة في كنعان أكد لهم أنَّهم إن خالفوا وصيته يفقدون نصرتهم وكرامتهم وتصير جثثهم مأكلاً لطيور السماء ووحوش البريَّة، سواء على مستوى الشعب ككل أو على مستوى الفرد. وكما قال أخيَّا النبي لامرأة يربعام: “من مات ليربعام في المدينة تأكله الكلاب، ومن مات في الحقل تأكله طيور السماء، لأن الرب تكلم” (1 مل 14: 11). وجاء في المزمور: “اللهم إن الأمم قد دخلوا ميراثك، نجَّسوا هيكل قدسك، جعلوا أورشليم أكوامًا، ودفعوا جثث عبيدك طعامًا لطيور السماء. لحم أتقيائك لوحوش الأرض” (مز 79: 2). ويقول الرب على لسان إرميا النبي: “لذلك ها أيام تأتي يقول الرب… تصير جثث هذا الشعب أكلاً لطيور السماء ولوحوش الأرض ولا مزعج” (إر 7: 32-33).
الترجمة الحرفيَّة لعبارة “قلقًا في جميع ممالك الأرض” هي “تحركها جميع ممالك الأرض من هنا وهناك، إلى أعلى وإلى أسفل”، أي تصير أشبه بكره تلعب بها كل ممالك الأرض. وكما قيل: “وأدفعهم للقلق في كل ممالك الأرض” (إر 15: 4)، “وأسلمهم للقلق والشر في جميع ممالك الأرض عارًا ومثلاً وهزأة ولعنة في جميع المواضع التي أطردهم إليها” (إر 24: 9؛ راجع إر 29: 18).
سادسًا: حرمان من كل عطيَّة:
إن كان الله قد ضرب المصريِّين الذين استعبدوا الشعب وقد رفض فرعون السماح للشعب أن يخرج ليذبح للرب في البريَّة ويعيِّد، فإن هذا الشعب متى عصى الرب ورفض الالتقاء معه خلال الطاعة والأمانة للعهد يسقط تحت الضربات دون محاباة. لا يحابي الله أمَّة على أمَّةٍ، إنَّما تتمتع الأمَّة ببركات الرب أو تخضع للضربات حسب موقفها من الوصيَّة. لهذا يقول: “يضربك الرب بقرحة مصر” [27]. أنَّها ضربات جسديَّة وعقليَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة وأسريَّة واقتصاديَّة وعسكريَّة الخ.
أ. ضربات جسميَّة: حيث يصاب الجسم بالقروح والبواسير والجرب والحكَّة. يمتلئ الجسم بقروح خبيثة من أسفل القدم إلى قمَّة الرأس.
“يضربك الرب بقرحة مصر، وبالبواسير والجرَب والحكَّة حتى لا تستطيع الشفاء” [27].
ب. ضربات عقليَّة: حيث يُصاب الإنسان بنوع من الجنون، فيكون غير قادرٍ على أخذ القرار الحكيم في تدبيره لأمور حياته. ويُصاب بالعمى الفكري في وسط النهار، في الظهيرة يتلمس في الظلام ولا ينجح في طرقه، فيكون كقادة اليهود الذين انطمَست عيونهم عن رؤية السيِّد المسيح، “شمس البر”، فأحبوا الظلمة ورفضوا نور العالم. كما يسقط الإنسان في “حيرة قلب“، فلا يعرف الحق من الباطل، يصير مترددًا في قراراته.
“يضربك الرب بجنون وعمى وحيرة قلب.
فتتلمس في الظهر كما يتلمس الأعمى في الظلام” [28-29].
لقد أُصيب الشعب اليهودي بالعمى الروحي، فمع أنَّه دعاهم عبده ورسوله، إذ كان يليق بهم أن يكرزوا بالمسيَّا مخلص العالم، انطمست عيونهم عن رؤيته، وأذهانهم عن فهم النبوات الواردة عنه. لذا يوبخهم: “أيها العُمْي أنظروا لتبصروا. من هو أعمى إلاَّ عبدي وأصم كرسولي الذي أرسله؟! من هو أعمى كالكامل وأعمى كعبد الرب؟!” (إش 42: 18-19). وجاء في صفنيا: “يمشون كالعمى لأنَّهم أخطأوا إلى الرب” (صف 1: 17). كما يقول معلمنا بولس الرسول عن رافضي كلمة الإنجيل: “الذين فيهم إله هذا الدهر أعمى أذهان غير المؤمنين لئلاَّ تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله” (2 كو 4: 4).
ج. ضربات اجتماعيَّة: يسقط تحت الظلم الاجتماعي، يصرخ كل أيام حياته ممَّا يحل به من ظلم وليس من يستجيب، ولا من ينصفه. يئن من الظلم متَّهمًا من هو حوله، وهو لا يعلم أن عصيانه لله ورفضه لمحبة الله يفقده حتى التمتُّع بحقوقه الاجتماعيَّة.
“ولا تنجح في طرقك،
بل لا تكون إلاَّ مظلومًا مغصوبًا كل الأيام وليس مخلص” [29].
د. ضربات أسريَّة: تحل به الضربة في أسرته، يخطب فتاة، فيأخذها آخر. يسقط أيضًا تحت السبي ويسلم أولاده وبناته عبيدًا لشعب آخر.
“تخطب امرأة ورجل آخر يضطجع معها.
تبني بيتًا ولا تسكن فيه.
تغرس كرمًا ولا تستغله.
يذبح ثورك أمام عينيك ولا تأكل منه.
يُغتصب حمارك من أمام وجهك ولا يرجع إليك.
تُدفع غنمك إلى أعدائك وليس لك مخلص” [30-31].
هـ. ضربات عسكريَّة: في المجال العسكري تُسلم بلده للعدو بسبب خطاياه، فيصير أولاده وبناته عبيدًا للغرباء. يراهم بعينيه في مذلة حتى تضعفان وهو في عجز من أن يعمل شيئًا لهم. كل ثمار بلده يتمتَّع بها العدو، ليبقى مع الشعب في جوعٍ وعارٍ.
“يُسلم بنوك وبناتك لشعب آخر،
وعيناك تنظران إليهم طول النهار،
فتكلاَّن وليس في يدك طائلة” [32].
يرى البعض أن تعبير “ليس في يدك طائلة” يعني “لا تكون يدك نحو الله القدير”، غير أن البعض يرى أنَّها تعني “لا تكن ليدك قدرة”. فاليد التي لا تمتد بالعمل نحو الله القدير تفقد قدرتها وإمكانياتها، فتصير بلا قوَّة للعمل.
و. ضربات اقتصاديَّة وماديَّة: يُضرب في ممتلكاته، إذ يبني بيتًا ليستقر فيه مع أسرته يؤخذ منه ليبقى بلا استقرار. ويغرس كرمًا لكي يتمتَّع بالعنب ويفرح بالخمر لكنه لا يأكل منه عنقودًا ولا يشرب منه كأس خمر. يُذبح ثوره أمام عينيه ولا يأكل منه. ويُغتصب حماره ولا يرجع، ويَنهب الأعداء غنمه وليس من يخلصه من هذا الظلم.
“ثمر أرضك وكل تعبك يأكله شعب لا تعرفه،
فلا تكون إلاَّ مظلومًا ومسحوقًا كل الأيام.
وتكون مجنونًا من منظر عينيك الذي تنظر.
يضربك الرب بقرح خبيث على الركبتين وعلى الساقين حتى لا تستطيع الشفاء من أسفل قدمك إلى قمَّة رأسك” [33-35].
وكما جاء في صفنيا النبي: “فتكون ثروتهم غنيمة وبيوتهم خرابًا، ويبنون بيوتًا ولا يسكنونها، ويغرسون كرومًا ولا يشربون خمرها” (صف 1: 13). وفي ميخا: “أنت تزرع ولا تحصد؛ أنت تدوس زيتونًا ولا تدهن بزيتٍ، وسلافة ولا تشرب خمرًا” (مي 6: 15).
سابعًا: فقدان الكرامة:
“يذهب بك الرب وبملكك الذي تقيمه عليك إلى أمَّة لم تعرفها أنت ولا آباؤك،
وتعبد هناك آلهة أخرى من خشب وحجر.
وتكون دهشًا ومثلاً وهزأة في جميع الشعوب الذين يسوقك الرب إليهم” [36-37].
تحدَّث عن الضربة العسكريَّة ألا وهي اِنهيار الأمَّة بسبب الخطيَّة ليصير الشعب تحت السبي. الآن يحدثنا عن إحدى اللعنات الخاصة بفقدان الكرامة. فقد خُلق الإنسان ليحيا على الأرض سيِّدًا، وليس أن يستعبده أحد. خلقت الأرض وكل ما عليها وما تحتها وما حولها لخدمة الإنسان، ولم يُخلق الإنسان ليكون عبدًا لأخيه. لكنه إذ يسلم نفسه بنفسه للعبوديَّة للخطيَّة عوض الحريَّة التي يهبها الله لنفسه يسمح الله له أحيانًا بالحرمان من الكرامة والحريَّة لكي يقف أمام أعماقه ويفحصها حتى تسترد حريَّتها وتتحرر من عبوديَّة إبليس، بالعودة إلى الله محررها.
والعجيب إنَّنا نلاحظ هنا الآتي:
أولاً: إن ما يحدث لنا من مرارة مثل السبي وما يلحقه من عبوديَّة ومذلة وسخرية هو بسماح إلهي، إذ يقول: “يذهب بك الرب… يسوقك الرب إليهم“.
ثانيًا: يبدو كأن الله قاسٍ في التأديب، فيُقيم أمَّة غريبة لتأديب شعبه. من كان قاسيًا على نفسه ولا يهتم بخلاصها وتحررها من العبوديَّة يسمح لها بعبوديَّة مؤقَّتة قاسية، لكن إلى حين.
ثالثًا: إذ يعصى الشعب الله ويرفض وصاياه، يسمح بأسره بواسطة أمَّة وثنيَّة. هناك يسقط الشعب في العبادة الوثنيَّة إذ يمتثلون بمن سباهم، ويبقون في مذلَّة حتى يرجعوا إلى الله، لا ليعبدوه فحسب، بل ويستجيبون لوصيته. لقد تحقَّق هذا حرفيًا إذ قام أشور بسبي إسرائيل وبابل بسبي يهوذا، وصارت المملكتان في مذلَّة السبي حتى رجوعهم إلى أورشليم.
ثامنًا: حرمان من تعب اليدين:
“بذارًا كثيرة تخرج إلى الحقل وقليلاً تجمع،
لأن الجراد يأكله.
كرومًا تغرس وتشتل وخمرًا لا تشرب ولا تجني،
لأن الدود يأكلها.
يكون لك زيتون في جميع تخومك، وبزيت لا تدهن،
لأن زيتونك ينتثر.
بنين وبنات تلد ولا يكونون لك،
لأنهم إلى السبي يذهبون.
جميع أشجارك وأثمار أرضك يتولاه الصرصر.
وتأتي عليك جميع هذه اللعنات وتتبعك وتدركك حتى تهلك،
لأنك لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحفظ وصاياه وفرائضه التي أوصاك بها.
فتكون فيك آية وأعجوبة وفي نسلك إلى الأبد” [38-46].
بقوله “إلى الأبد” يُعلن رفضه لإسرائيل نهائيًا ما دامت ترفض الإيمان بالمسيَّا الحقيقي، فهي كشعب لم يعد مختارًا من الله، إذ تقاوم مخلص العالم. أمَّا من يرجع إلى الإيمان ويقبل من تحقَّقت فيه النبوات التي بين أيديهم فيجد ذراعيّ الله مبسوطتين له بالحب والقبول. أنَّه ينتظر البقيَّة الباقيَّة الأمينة (إش 10:22؛ 6: 13؛ رو 9: 27؛ 11: 5).
v (كلمة الله) طعام للنفس وحليها وأمانها، ففي عدم الاستماع إليها مجاعة وحرمان[278].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
تاسعًا: انحدار واِنهيار:
“الغريب الذي في وسطك يستعلي عليك متصاعدًا، وأنت تنحط متنازلاً.
هو يقرضك، وأنت لا تقرضه،
هو يكون رأسًا، وأنت تكون ذنبًا” [43-44].
عاشرًا: السقوط تحت العبوديَّة:
من يرفض أن يخدم الله يلتزم بخدمة الآخرين قسرًا، ومن لا يتعبَّد لله يصير عبدًا للكثيرين. لهذا كثيرًا ما كان القدِّيس أرسانيوس يردد: [كنْ عبدًا لسيِّد واحدٍ، ولا تكن عبدًا لكثيرين].
“من أجل أنك لم تعبد الرب إلهك بفرح وبطيبة قلب لكثرة كل شيء.
تُستعبد لأعدائك الذين يرسلهم الرب عليك في جوعٍ وعطشٍ وعُريٍ وعوزٍ كل شيء.
فيجعل نير حديد على عنقك حتى يهلكك.
يجلب الرب عليك أمَّة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمَّة لا تفهم لسانها؛ أمَّة
جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد.
فتأكل ثمرة بهائمك وثمرة أرضك حتى تهلك ولا تُبقي لك قمحًا ولا خمرًا ولا زيتًا ولا نتاج بقرك ولا إناث غنمك حتى تفنيك” [47-51].
بسبب العصيان غار أشور على إسرائيل وسباه (إش 5: 26؛ 38: 11؛ 23: 19)، وغار البابليون على يهوذا وسباه، لكن هنا يتحدَّث بالأكثر عن الدولة الرومانيَّة.
يشبِّه الأمَّة التي تقوم بتأديب الشعب بالنسر الطائر، وكان ذلك نبوَّة عن احتلال الإمبراطوريَّة الرومانيَّة لهم (بعد أشور وبابل ومادي وفارس واليونان). كان النسر هو العلامة المميزة في الجيش الروماني. حتى أن كلمة نسر في اللاتينيَّة aquila يستخدمها بعض الكتَّاب اللآتين بمعنى فرقة عسكريَّة[279].
هذه الأمَّة لا تفهم لسانها لأنَّها تتحدث باللآتينيَّة. أمَّة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد، إذ كان شعار الرومان “القوَّة أو العنف هو الحياة”.
“وتحاصرك في جميع أبوابك حتى تهبط أسوارك الشامخة الحصينة التي أنت تثق
بها في كل أرضك،
تحاصرك في جميع أبوابك في كل أرضك التي يعطيك الرب إلهك.
فتأكل ثمرة بطنك لحم بنيك وبناتك الذين أعطاك الرب إلهك في الحصار والضيقة التي يضايقك
بها عدوك.
الرجل المتنعم فيك والمترفه جدًا تبخل عينه على أخيه وامرأة حضنه وبقيَّة أولاده الذين يبقيهم.
أن يعطي أحدهم من لحم بنيه الذي يأكله لأنَّه لم يبقَ له شيء في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوك في جميع أبوابك” [52-55].
يظن الإنسان أنَّه قادر أن يحتمي في الأسوار العالية القويَّة، لكن اللعنة تسحبه من حيث يظن أنَّه في مصدر أمانه ليجد نفسه فاقد القُوى. لا تستطيع حصون المدن أن تحميه (تث 9: 1)، ولا الخيل والمركبات (مز 20: 7)، ولا كثرة العدد أو الغنى (أم 10: 15)، ولا الحنكة السياسيَّة أو الالتجاء إلى تحالفات مع قوى غريبة (إش 30) أن تحمي الإنسان، لأن يد الله القويَّة تفارقه.
ليتنا لا نختفي في البرّ الذاتي، إذ يستد كل فم أمام الله (رو 3: 19)، ولا أن نضع ثقتنا في أمور باطلة (مت 3: 9، 7: 22)، ولا أن نبرر أنفسنا بأعذارٍ (مت 25: 26؛ لو 14: 18).
يقدِّم صورة غاية في المرارة للملكة المدللة، صاحبة السلطان المحمولة دائمًا على الأكتاف، وقد أذلتها العبوديَّة، إذ يقول:
“والمرأة المتنعِّمة فيك والمترفِّهة،
التي لم تُجرَّب أن تضع أسفل قدمها على الأرض للتنعم والترفه.
تبخل عينيها على رجل حضنها وعلى ابنها وبنتها.
بمشيتها الخارجة من بين رجليها،
وبأولادها الذين تلدهم،
لأنها تأكلهم سرًا في عوزٍ كل شيء، في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوك في أبوابك” [56-57].
كانت الملكات يبالغن في الزينة والتظاهر بالرقَّة لينلن احترامًا وكرامة، لكن كرامة الإنسان، أيّا كان جنسه رجلاً أو امرأة، أو مركزه، ملكًا أو عبدًا، ليس في الزينة الخارجيَّة ولا فيما يتظاهر به، بل بما تحمله أعماقه من شخصيَّة وقوَّة صالحة وحكمة علويَّة وارتباط داخلي بالسماوي.
هنا يصف الملكات، كيف كنّ يعشن في ترف وتنعُّم حتى أن بطن أقدامهن لا تلمس الأرض. هؤلاء يعانين من الذل والمرارة بسبب السبي.
حادي عشر: تحل به ضربات مصر:
“إن لم تحرص لتعمل بجميع كلمات هذا الناموس المكتوبة في هذا السفر لتهاب هذا الاسم
الجليل المرهوب الرب إلهك،
يجعل الرب ضرباتك وضربات نسلك عجيبة.
ضربات عظيمة راسخة وأمراضًا رديَّة ثابتة.
ويرد عليك جميع أدواء مصر التي فزعت منها، فتلتصق بك” [58-60].
واضح أنَّه لا يقصد بهذا الكتاب “سفر التثنية” لكنه يقصد ما قد سبق فسجله موسى النبي من وصايا وشرائع تسلمها من الله.
“الاسم الجليل المرهوب” [58] أسماء الله في التثنية تستحق الدرس، فهو الإله الحي (5: 26)، وإله آبائنا (6: 3)، وإله الآلهة، ورب الأرباب (10: 17، رؤ 19: 16)، والصخر… إله أمانة (32: 4)، والعلي (32: 8)، والإله القديم (33: 27). ولكن أكثر الأسماء استعمالاً هو “الرب إلهك”.
ماذا يعني بقوله: “هذا السفر”؟ أثناء إلقاء العظات لم يكن سفر التثنية بعد قد سُجل كسفرٍ، فماذا يعني موسى النبي بالسفر هنا؟ يرى البعض أنَّه سفر الشريعة التي تسلمها موسى النبي من الله.
يربط بين تنفيذ الوصيَّة أو العمل بها وبين التمتُّع بمخافة الرب إلهنا. خلال مخافة الرب نحفظ الوصيَّة، وخلال حفظ الوصيَّة نتذوق عذوبة المخافة الربانيَّة فنختبرها عمليًا وننمو فيها.
ضرب الله المصريين بالضربات العشر الواردة في سفر الخروج [7-11]، حتى يتمتَّع شعبه بالخروج ويتسلم الوصيَّة الإلهيَّة، ويدرك العهد مع الله، الآن إذ يرفض الشعب التجاوب مع الوصيَّة، ولا يحفظها يستحق السقوط تحت ذات الضربات التي سقط تحتها المصريون.
ثاني عشر: حلول الفناء:
“أيضًا كل مرض وكل ضربة لم تُكتب في سفر الناموس هذا يسلطه الرب إلهك حتى تهلك.
وكما فرح الرب لكم ليحسن إليكم ويكثركم، كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم،
فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها.
ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها،
وتعبد هناك آلهة أخرى لم تعرفها ولا آباؤك من خشب وحجر.
وفي تلك الأمم لا تطمئن، ولا يكون قرار لقدمك،
بل يعطيك الرب هناك قلبًا مرتجفًا وكلال العينين وذبول النفس.
وتكون حياتك معلقة قدامك وترتعب ليلاً ونهارًا، ولا تأمن على حياتك.
في الصباح تقول: يا ليته المساء،
وفي المساء تقول: يا ليته الصباح،
من ارتعاب قلبك الذي ترتعب، ومن منظر عينيك الذي تنظر” [61-67].
كانت مسرة الله أن يحسن إلى شعبه ويخلصهم من العبوديَّة، ويكثرهم. هذا هو فرحه! الآن إذ رفض الشعب الالتصاق به يقوم بتأديبهم حتى كما إلى الفناء، لعل البقيَّة ترجع إليه، لذا يفرح أيضًا بتأديبهم وتشتيتهم وسط الشعوب من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.
الله لا يُسر بموت الخاطئ بل أن يرجع ويحيا (حز 18: 32)؛ والسيِّد المسيح نفسه بكى على أورشليم الساقطة (لو 19: 41).
يرى البابا أثناسيوس الرسولي في قول موسى النبي: “وتكون حياتك معلقة قدامك” نبوَّة عن موت السيِّد المسيح حيث عُلق على خشبة الصليب ولم يؤمن به اليهود[280].
v لو أنَّهم اهتموا بنبوَّة موسى ما كانوا علّّقوه، ذاك الذي كان هو حياتهم[281].
البابا أثناسيوس الرسولي
بقوله “حياتك معلقة قدامك” [66]، يعني أنَّها كشيء معلق بخيط أمام الشخص ينتظر سقوطه بين لحظة وأخرى.
ثالث عشر: الارتداد إلى مصر:
“ويردك الرب إلى مصر في سفنٍ في الطريق التي قلت لك لا تعُد تراها،
فتُباعون هناك لأعدائك عبيدًا وإماء وليس من يشتري” [68].
لعل أقسى لعنة هي ارتدادهم إلى مصر ليباعوا عبيدًا لأعدائهم. يوضعون كما في سوق العبيد، وفي اشمئزاز يرفض الناس شراءهم. أي صاروا أقل قيمة من العبيد.
يرى البعض أن “مصر” هنا رمز لما حلَّ باليهود حين سقطوا تحت السبي لدول كثيرة، لكن البعض يرى أن هذا قد تم حرفيًا بعد استيلاء تيطس على أورشليم، إذ حمل عدد كبير من اليهود إلى مصر وصاروا في عبوديَّة مُرَّة وقاسية. وإلى عهد هادريان جماعات من اليهود كانوا يباعون كعبيدٍ[282].
يقول البعض أن أقسى عدو على الأرض ضد البشريَّة هو الإنسان، فإنَّه إذ يستبد بأخيه يصير أكثر شراسة من الوحوش الكاسرة. لهذا ترك التهديد بالسبي والعبوديَّة إلى نهاية اللعنات بكونها أقساها.
من وحيّ تثنيَّة 28
لتلتصق بركتك بي
v في غباوتي كنت أبحث عن بركتك،
حاسبًا أنَّها بعيدة عني جدًا من يقدر أن يقتنيها؟!
وجدتها تقف على باب قلبي تقرع.
تطلب صداقتي وحبي وخضوعي.
لتدخل بركتك إلى أعماقي وتلتصق بي، فإني مريضة حبًا!
v لتعمل بركتك في حياتي:
في عملي وفي بيتي وفي كنيستي.
لتحتل كل كياني:
نفسي وجسدي وفكري وكل طاقاتي.
لتملك في داخلي وتقود كل كياني.
لتعمل في أكلي وشربي ونومي ويقظتي.
v نعم لتكن بركتك هي القائد:
تحرك كل كياني في معركة الروح.
بها أغلب كل عدو وأنتصر على كل فساد.
بها أتمتع بأكاليل مجد أبدي.
v لتُقم بركتك حُرَّاسًا على مخازن قلبي.
تحوِّله إلى مقدس لك.
فأتمتع بالاقتداء به يا كلِّي القداسة.
وأصير أيقونة حيَّة لك يا أيها القدُّوس وحده!
v لتحملني بركتك إلى سمواتك،
ولتكشف لي أسرارك الإلهيَّة.
وتهبني نصيبًا في حجالك الفائق.
التقي بك، واَتحد معك، يا عريس نفسي السماوي.
v بركتك تحوِّل حياتي إلى فرح سماوي لا ينقطع.
بركتك تجعل مني رأسًا لا ذنبًا.
بركتك تفتح لي كنوز السماء،
وتبارك خيرات الأرض،
وكل ما تمتد إليه يداي.
بركتك ترفعني إليك فأبقى معك إلى الأبد!