تفسير سفر التثنية ٣٢ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثاني والثلاثون
نشيد موسى
تحت قيادة روح الله القدوس يقدم لنا موسى النبي نشيده الأخير. دُعي هذا النشيد مفتاح كل نبوة لأنه يتكلم عن ولادة الأمة وطفولتها ثم جحودها وارتدادها وأخيرًا عقابها فرجوعها.
قدم لنا موسى النبي أغنية تحمل فكرًا لاهوتيًا حيًا، فإنه كنبي لا يفصل بين الموسيقي واللاهوت. موسيقي بلا لاهوت تصير نوعًا من الميوعة ومضيعة للوقت، ولاهوت بلا موسيقي تفقد الإنسان رقته. إن كان اللاهوت يعتني بالإنسان ليقيم منه أيقونة حية لله، تحمل صورة للحياة المتهللة، فإن اللاهوت لا غنى له عن الموسيقى، إذ تقيم من الإنسان كائنًا سماويًا متهللاً وشاكرًا بلا انقطاع.
الحياة الإيمانية الصادقة هي قطعة موسيقية تعلن عن التناغم في حياة الإنسان بين سلوكه الزمني وتذقه لعربون الأبدية.
إن كانت حياة موسى النبي سلسلة لا تنقطع من الجهاد المستمر، وقد ذاق المرارة من قسوة قلب الشعب، لكن حياته في حقيقتها سيمفونية حب متهللة، سلسلة من التسابيح. فعند بدء انطلاقه إلى البرية إذ وهبه الله النصرة على فرعون وسط البرية ترنم موسى مع الشعب بنشيدٍ عندما جاءوا إلى البئر التي حفرها شرفاء الشعب (عد 21: 17)، وها هو الآن يختم موسى حياته بتسبحة رائعة، إذ دُعي للانطلاق من العالم ورأى بعيني الإيمان كنعان السماوية، فتهللت نفسه وهو على ضفاف نهر الأردن. يرى في الله الأب الذي يرافق ابنه كل الطريق، يقوده ويهتم بكل احتياجاته الروحية والمادية. تراه النفس كالنسر الذي يرف على فراخه، ويبسط جناحيه فيحميها، يترفق بها ويحملها على منكبيه، يعطيها كل رعايته ولا يتركها تعتاز إلى غيره. يشبعها وسط القفر، فيُخرج لها من الحجر عسلاً ومن صوان الصخر زيتًا، أي يصنع من أجلها المستحيلات[291].
سجل لنا موسى النبي في هذا النشيد ما تحمله أعماقه من جهة الله مخلصه، كما حمل مرارة وأنينًا من جهة ارتداد الشعب عن عبادة الله والارتباط بالرجاسات الوثنية، مما
جعلهم يسقطون تحت التأديب الإلهي.
حث موسى شعبه على الطاعة لله، وأخيرًا أمر الرب موسى بالصعود إلى جبل نبو لكي ينظر أرض كنعان ويموت.
- مقدمة النشيد [1-2].
- عظمة الله وبره [3-4].
- انحراف الشعب وحنثه بالعهد [5-6].
- تذكير الشعب بأعمال الله [7-14].
- شعب جاحد [15-18].
- تأديب الشعب الجاحد [19-43].
- دعوة للطاعة [44-47].
- دعوة موسى لصعود جبل نبو [48-52].
مقدمة النشيد:
أدرك موسى عبوره عن العالم وتسليم القيادة في يدي تلميذه يشوع، وإذ جدد الجيل الجديد العهد مع الله قدَّم لله تسبحة رائعة يمجد فيها الله العظيم البار [1-4]. بالرغم من شر الشعب [5-6]. عدد أعمال الله فهو الخالق والمخلص والمحامي ويبقى أمينًا في عهده مع شعبه.
يفتتح موسى النبي نشيده قائلاً:
“أنصتي أيتها السموات فأتكلم،
ولتسمع الأرض أقوال فمي.
يهطل كالمطر تعليمي، ويقطر كالندى كلامي.
كالطل على الكلا، وكالوابل على العشب” [1-2].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[292] أنه إذ لا يوجد إنسان يسمع ويشهد للأمور الإلهية تُستدعى السماء للشهادة.
يدعو موسى النبي الملائكة وكل الطغمات السمائية، كما يدعو كل الأمم لكي تشهد على ما ينطق به بخصوص معاملات الله مع شعبه، ورد فعل الشعب تجاه عمل الله من خيانة وجحود. ويرى القديس أكليمندس السكندري[293] أن الله يستدعي المؤمنين أصحاب المعرفة السماوية (السماء) كما يستدعي من انشغلت قلوبهم بالأرضيات (الأرض) للشهادة.
نرى في إشعياء النبي (1: 2) كما في ميخا النبي (6: 2) دعوة الطبيعة للشهادة في محاكمة الإنسان أو في الخصومة القائمة بين الله وشعبه.
يسأل موسى السماء والأرض أن تنصتا له… ينادي النفس والجسد ليُسبحا معًا بنشيد حب الله ورعايته مقابل قسوة الإنسان وعصيانه. كلمات الله تحول القفر جنة، وكالندى تعطي برودة وسلامًا للنفس.
استخدم موسى النبي التسبحة للشكر وتمجيد الله (خر 15)، وها هو يستخدمها هنا للتعليم. بنفس الروح جاءت كثير من مزامير وتسابيح داود النبي تحت عنوان “من أجل التعليم“. ويقول الرسول بولس: “لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى، وأنتم بكل حكمة معلمون ومنذرون بعضكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة مترنمين في قلوبكم للرب” (كو 3: 16).
تعليم موسى ليس من عندياته، لكنه كالمطر النازل من السماء من عند الرب، وكما جاء في إشعياء: “لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطي زرعًا للزارع وخبزًا للأكل، هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إليّ فارغة بل تعمل ما سررت به، وتنجح في ما أرسلتها له” (إش 55: 10-11).
إنها لا تعتمد على حكمة البشر إنما “كالندى من عند الرب كالوابل على العشب الذي لا ينتظر إنسانًا ولا يصير لبني البشر” (مي 5: 7). المطر هو عطية الله، “لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة وأنتجت عشبًا صالحًا للذين فُلحت من أجلهم تنال بركة من الله” (عب 6: 7).
إنه ينطق بتعاليمه كالمطر الذي يبدأ بقطرات قليلة متوالية لكن سرعان ما تتحول إلى كميات ضخمة لا يستطيع أحد أن ينكرها. أو أن ما يعلنه موسى النبي هو كلمة الله التي تكون إما كالندى ترطب الكثيرين أو كالمطر الشديد أو السيول التي تهلك، كما حدث في أيام نوح. يكون التعليم فعّالاً وقويًا حين يصير كالندى والمطر الخفيف الذي لا يسبب إزعاجًا ولا يُسمع له صوت، فتدخل الكلمة إلى القلب بروح هادئ. “ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الذارفة على الأرض” (مز 72: 6).
v أتُريد أن تعرف بأية طريقة يُدعي المؤمنون سحابًا في الكتاب المقدس
يقول إشعياء:” وأوصى الغيم ألا يمطر عليه مطرًا” (إش 5: 6).
كان موسى سحابة، لذلك يقول:” يهطل كالمطر تعليمي” [2]. رسائل الرسل هي مطر روحي بالنسبة لنا. كحقيقة واقعة ماذا يقول بولس في رسالته إلي العبرانيين؟ “لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرًا” (عب 6: 7). مرة أخري يقول:” أنا غرست وأبُلس سقي” (1 كو 3: 6) [294].
القديس جيروم
v إن كنا نحن البشر جميعًا نرغب في أن نروي حدائقنا، وإن لم توجد فيها مياه، نسحب المياه من البحر باذلين جهدًا عظيمًا، فإنه كم بالأكثر يلزم أن نبذل بالأكثر لكي نمد خضراوات أجسادنا (بالمياه) هذه التي في جنة الرب، أي في كنيسة الله، فنروي الأماكن الجافة بالمياه، ونلين الأماكن القفر بأنهار الكتاب المقدس والمجاري الروحية أو ينابيع الآباء القدامى، لكي بعد هذا نقتلع ما هو ضار ونغرس ما هو نافع؟
كما جاء في الرسول بولس نقول نحن خلفاؤه، وإن كنا أقل منه قدرة: “أنا غرست وأبلس سقي، ولكن هو الذي ينمي” (1 كو 3: 6).
فبمعونة الله يليق بنا أن نتمم ما هو من جانبنا، لنستمر في الغرس والسقي، فإننا إن تممنا التزامنا فإن الله يقدم إحسانه[295].
الأب قيصريوس
- عظمة الله وبره:
“إني باسم الرب أُنادي.
أعطوا عظمة لإلهنا.
هو الصخر الكامل صنيعه.
إن جميع سبله عدل، إله أمانة، لا جور فيه، صديق وعادل هو” [3-4].
ما هو التعليم الذي يقدمه موسى كالمطر النازل على الأرض ليحولها إلى جنة مثمرة؟
أولاً: عظمة الله التي تظهر في رعايته لخليقته، فهو “الصخر الكامل في صنيعه“، وقد تكررت كلمة “الصخر” في الأصحاح ست مرات، وكأنه هو الصخر لكل خليقته التي أوجدها في الأيام الستة. إنه الصخرة غير المتزعزعة، عليه تُبنى الكنيسة وفيه تختفي، فلا يلحق بها ضرر.
ثانيًا: الله “كامل في صنيعه“، كل ما خلقه صالح. وبالتالي هو صالح وكامل في عنايته بخليقته، كل ما يسمح به هو لخير شعبه. وكما يقول الحكيم: “قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد، لا شيء يُزاد عليه، ولا شيء ينقص منه” (جا 3: 14-15). عمل الإنسان مهما كان فاضلاً فهو غير كامل، أما عمل الله فكامل جدًا. لذا يقول السيد: “متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطّالون” (لو 17: 10).
ثالثًا: الله عادل وأمين، ليس فيه جور. وكما يقول النبي: “من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور؟! وفهيم حتى يعرفها؟! فإن طرق الرب مستقيمة والأبرار يسلكون فيها، وأما المنافقون فيعثرون فيها” (هو 14: 9). إنه الحق الذي لن يوجد فيه باطل ولا كذب، لا يخطئ قط متى أدّب. يعرف ما هو لبنيان الإنسان وما هو لصالح الجماعة، دون أن يظلم أحدًا. وكما يقول المرتل: “ليخبروا بأن الرب مستقيم، صخرتي هو ولا ظلم فيه” (مز 92: 15).
يُدعي الله “أمينًا” (1 كو 10: 3)، ويُدعى الإنسان أمينًا. يقول البابا أثناسيوس أن كلمة “أمين” تحمل معنيين في الكتاب المقدس، الأول “الإيمان” و”الثقة” وهذا يناسب البشر، والمعنى الثاني أنه “موضع ثقة” وهذا يناسب الله. فإبراهيم كان أمينًا لأنه آمن بكلمة الله، والله أمين كقول داود في المزمور: “الرب أمين في كل كلماته” (مز 145: 14 LXX)، لن يكذب[296].
- انحراف الشعب وحنثه بالعهد:
مع أمانة الله التي لا يشوبها شائب انحرف الشعب وفي غباوة حنث بوعده مع الله. يقدم النبي مقابلة بين سمات الله وسمات شعبه. الله عظيم في حبه وعدله وحكمته، كالصخر لا يتغير يتكئ عليه المؤمنون في طمأنينة، وفيه يحتمون. لا تستطيع الحية أن تزحف على الصخر، لذا من يختبئ فيه لا تصيبه لدغات العدو. أيضًا من الصخر فاضت المياه للشعب في البرية [20]. أما الشعب فأفسد نفسه (هو 13: 9)، إذ في غباوة تجاهلوا أبوة الله. لكل إنسان ضعفاته حتى أولاد الله، أما هؤلاء فجيل ملتوٍ أعوج، محتاج أن يذكر عمل الله مع آبائهم ليرجعوا عن فساد قلوبهم.
“أفسد له الذين ليسوا أولاده عيبهم.
جيل أعوج ملتوٍ.
الرب تكافئون بهذا يا شعبًا غبيًا غير حكيم؟!
هو عملك وأنشأك” [5-6].
بسلوكهم المعوج في معاملاتهم مع الله الأمين لم يضيروا الله في شيء إنما أفسدوا أنفسهم. هم مصدر خطيتهم، وهم علّة فسادهم وهلاكهم. وكما قيل: “هلاكك يا إسرائيل أنك عليّ على عونك” (هو 13: 9). “إن كنت حكيمًا فأنت حكيم لنفسك، وإن استهزأت فأنت وحدك تتحمل” (أم 9: 12).
كأنه يُعاتبهم قائلاً: ها أنتم تهلكون أنفسكم بإرادتكم الشريرة مدعين أنكم أولاد الله وأنكم منتسبون له. هل هذه هي المكافأة التي تقدمونها لله أبيكم والذي اقتناكم له؛ هذا الذي خلقكم وأوجدكم كأمة وشعب خاصٍ به؟!” إنه أب عجيب خلقهم وعالهم حتى في البرية ورعاهم وحمل أثقالهم، أفلا يشعرون بأحشائه الملتهبة حبًا لهم؟! ما يفعلونه إنما من قبيل الجحود وتجاهل حب الله وغنى بركاته عليهم. وكما يقول النبي: “فإن للرب خصومة مع شعبه، وهو يحاكم إسرائيل. يا شعبي ماذا صنعت بك؟ وبماذا أضجرتك؟ اشهد عليَّ. إني أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية، وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم. يا شعبي أذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب، وبماذا أجابه بلعام بن بعور…” (مي 6: 2-5). إنه ضلال جنوني، إذ يقول: “يا شعبًا غبيًا غير حكيم؟!”
يميز هنا بين الخطايا التي تصدر عن ضعف مع شوق حقيقي للقداسة وجهاد من أجل البرّ في الله، وبين الخطايا التي تصدر عن عمدٍ وفي إصرارٍ دون رغبة حقيقية في التوبة والرجوع إلى الله. الأولى تصدر عن أولاد لله محبين ومجاهدين، والثانية تصدر عن مقاومين للحق. إنهم يخدعون أنفسهم فيظنون أنهم أولاد الله بينما هم مقاومون له.
“هو عملك وأنشأك” [6] كل البشر خليقة الله، ولكن المفديين فقط هم أولاده الحقيقيون (يو 1: 12).
- تذكير الشعب بأعمال الله:
إذ وجه الاتهام إلى الشعب في كسره للعهد مع الله دعاهم إلى إصلاح الموقف بتذكر معاملات الله معهم في الماضي عبر الأجيال ومنذ القدم، موضحًا كيف اهتم الله بهم، مقدمًا لهم كل إمكانية.
أولاً: اختار الله شعبه نصيبًا له.
“اذكر أيام القدم وتأملوا سني دورٍ فدورٍ.
اسأل أباك فيخبرك، وشيوخك فيقولوا لك.
حين قسم العلي للأمم،
حين فرق بني آدم نصب تخومًا لشعوب حسب عدد بني إسرائيل.
إن قسم الرب هو شعبه. يعقوب جبل نصيبه” [7-9].
يليق بالمؤمن أن يتعلم من آبائه ليس فقط كلمة الله ووصاياه (تث 6: 7؛ خر 12: 26-27)، وإنما عمله معهم عبر العصور. وكما يقول المرتل: “لا تخفي عن بنيهم إلى الجيل الآخر مخبرين بتسابيح الرب وقوته وعجائبه التي صنع. أقام شهادة في يعقوب، ووضع شريعة في إسرائيل التي أوصى آباءنا أن يعرفوا بها أبناءهم. لكي يعلم الجيل الآخر. بنون يولدون فيقومون ويُخبرون أبناءهم، فيجعلون على الله اعتمادهم ولا ينسون أعمال الله بل يحفظون وصاياه” (مز 78: 4-7).
كما يليق بالآباء أن يعلموا أولادهم وصايا الرب ويخبروهم عن عنايته العملية معهم، يليق أيضًا بالأبناء أن يشتاقوا إلى معرفة هذه الأمور لكي تكون خير قائد ومرشد لهم في طريقهم.
بالعودة إلى التاريخ الذي يشهد به الآباء والشيوخ، ندرك أن الله حين فصل أبناء آدم إلى أمم وشعوب وضع حدودًا كان يجب أن تلتزم بها ولا تتعدى أمة على أمة، أما بالنسبة لإسرائيل فجعل لها معزة خاصة إذ حسبها شعبه الخاص.
لقد دعيت أفريقيا بلد حام (مز 78: 51، 105: 23، 27؛ 106: 22)، وغالبًا ما صارت له ولنسله من بعده، وكانت أوربا من نصيب يافث، وآسيا من نصيب سام، أما أرض فلسطين فحسبت من نصيب الرب، يقدمها لشعبه الخاص. تقسيم العالم هكذا إلى ثلاثة أقسام بين أبناء نوح الثلاثة دُعي بالهجرة العامة، وقد تحققت بعد حوالي قرنين من عصر نوح. هذا تم قبل برج بابل بخمسة قرون حيث تفرقت البلاد إلى شعوب كثيرة بلغات مختلفة.
جاء في الترجمة السبعينية: “حين قسم العليّ للأمم، حين فرّق بني آدم نصب تخومًا لشعوبٍ حسب عدد ملائكة الله”، وكأن الله ائتمن كل أمة في يد ملاكٍ. أما بالنسبة لشعبه فاستلم قيادته بنفسه بكونهم نصيبه الخاص.
جاء في التقليد اليهودي كما في المسيحية الأولى أن الله قد عين ملاكًا خاصًا لكل أمة أو شعب، لكن الملاك لا يُلزم الأمة على سلوك معين. أما بالنسبة لكنيسة العهد القديم كما الجديد فقد عين رئيس الملائكة رئيس جند الرب مدافعًا عنه، وإن كان قد عهدها لروحه القدوس لتكون له.
v توجد هنا شهادة أن للقديسين ملائكة، بل ولكل البشر[297].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يرى البعض في قوله “حسب عدد بني إسرائيل” تعني أن كنعان وأولاده الإحدى عشر (تك 10: 15) عددهم 12 يقابل الرب الـ 12 سبطًا لإسرائيل حيث ترث الأسباط أرض كنعان وأولاده.
بقوله إن قسم الأرض ووضع حدودًا أوضح أنه يليق بالبشرية إلا تصارع لكي تغتصب من بعضها البعض. وكما قال الرسول بولس: “وصنع من دمٍ واحدٍ كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم” (أع 17: 26)، ويقول المرتل: “السموات سموات للرب، أما الأرض فأعطاها لبني البشر” (مز 115: 16). هكذا قدَّم الأرض لبني البشر ليعيشوا معًا في سلام، كل يسند أخاه لا أن يصارع معه.
من العجيب أن الله خالق السماء والأرض، مالك الكل، يحسب شعبه نصيبه الذي يُسر به، إذ يرى فيه الجنة المغلقة (نش 4: 12) التي يتمشى فيها ويستريح. حقًا يمكن القول بأن الله نصيب المؤمن بكون الأخير محتاجًا إلى الأول، يجد فيه كنزه وغناه وشبعه وفرحه وبهجة قلبه، أما أن يحسب الله الإنسان نصيبه، هذا الذي لا يحتاج إلى شيء، فذلك من أجل تكريم الله للإنسان. إنه تنازل أبوي فائق، يحسب ابنه الذي لا يملك شيئًا خاصًا به، ونصيبه.
v إن كانت رغبتنا أن نكون ميراث الرب ونصيبه، فلنكن في شجاعة وقوة… لا يكن فينا شيء ضعيفًا، لا شيء يكون مهزوزًا، لا يكون فينا شيء ما لا يصلح أن يكون ميراثًا. فإن المسيح يتمجد في قديسيه، قائلاً: ميراثي كامل (جذاب)[298].
القديس جيروم
كأن الله قد أخرج شعبه من العبودية، واهتم بهم في البرية، لا ليهبهم أرضًا تفيض عسلاً ولبنًا، وإنما يقدم لهم ذاته، فيصير هو نصيبهم، وهم نصيبه.
“وجده في أرض قفر،
وفي خلاء مستوحش خرب.
أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه” [10].
ماذا يقصد بقوله وجده في أرض قفر سوى أنها أرض مصر التي كانت مع كل خيراتها تحسب أرض قفر، لأن الشعب كان تحت السخرية، ساقطًا في العبودية تحت يد فرعون القاسية. وربما يقصد البرية التي خرجوا إليها من مصر في طريقهم إلى أرض كنعان. كانوا في برية موحشة خربة، لكن الله أحاط بهم كمظلة يحتمون تحتها. فقد صار كسحابة تظللهم نهارًا، وكعمود نور يقودهم ليلاً. وكما يقول إستفانوس رئيس الشمامسة عن موسى النبي: “هذا هو الذي كان في الكنيسة في البرية مع الملاك الذي كان يكلمه في البرية ورعاهم وعلمهم”.
لقد سمح ببقائهم في البرية طوال هذه المدة لكي يعزلهم عن العالم فينسون كل ما تعلموه من رجاسات وثنية في مصر، ولكي يصير الرب نورًا لهم ومظلة تحميهم، يقدم لهم طعامًا من السماء وشرابًا من الصخرة، ولا يحتاجون إلى ملابس ولا أحذية ولا أدوية، فيكون الله وحده هو شبعهم.
يقول المرتل: “وهداهم طريقًا مستقيمًا ليذهبوا إلى مدينة سكن” (مز 107: 7). دائمًا يقودنا الرب في الطريق المستقيم حتى وإن بدا أنه تيه في البرية نسير كما في دائرة مغلقة. لقد علمنا كيف نهتم بالرعاية الهادئة الطويلة للأجيال القادمة كما رعى شعبه أربعين عامًا في البرية.
“وصانه كحدقة عينه” [10]. يمكننا القول أن الله هو حدقة عيننا، به نرى الأمور غير المنظورة، ونتمتع بمعونة أسراره الإلهية. أما أن نصير نحن كحدقة عينه فهذا أمر عجيب وفائق في تقدير الله للإنسان. لا يوجد حب أعظم من هذا أن الخالق يحسب الإنسان كحدقة عينه، يهتم به ويحفظه ويصونه كمن يريد أن يحفظ بصره. يا له من تنازل إلهي فائق!
يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص بين عبارة معرفة موسى لله وجهًا لوجه وبين شوق العروس لقبلات عريسها بلا انقطاع حيث تتغنى: “ليقبلني بقبلات فمه” (نش 1: 2). فإنها إذ تلتقي النفس بالله وتتقبل منه قبلاته يزداد شوقها بالأكثر إليه لتطلب قبلات فمه بعد رؤيتها له. تطلب الله كما لو لم تكن قد رأته قط من قبل، ولا تتوقف هذه الرغبة قط من داخلها مع كل تمتع بالله يلتهبون برغبات متزايدة أكثر فأكثر[299].
“كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه،
ويأخذها ويحملها على مناكبه،
هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي” [11-12].
يحرك النسر عشه ثم يبسط جناحيه ويرف على جناحيه لكي يلزم صغاره على الاستعداد لترك العش والتمرن على الطيران. هكذا حرك الله كل ما هو حول شعبه بالضربات العشرة لكي يحركهم للرحيل من أرض مصر، والطيران في البرية لكي يدخلوا إلى أرض الموعد أو بالأحرى لكي يحملهم إليه. إذ يقول: “وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليّ” (خر 19: 4).
محبة النسور لصغارها ليس أن تحميها فحسب، بل أن تعلم صغارها وتدربهم على الطيران، فهي ليست محبة خاملة قاتلة لهم، لكنها محبة عاملة تسند الصغار وتهبهم إمكانيات جديدة. هكذا يحرك الله حياتنا لكي تنطلق في برية هذا العالم وسط الآلام كمن يطير إلى حضن الله، ونجد لنا فيه استقرارًا وراحة. إنه لا يحركنا نحو الحياة المترفة المدللة، لكن لكي يحمينا ويحوط حولنا وفي نفس الوقت نطير كما إلى السماء غير مبالين بضيقات العالم وتجاربه.
سبق أن تحدثنا عن جناحي الله أثناء دراستنا لسفر المزامير (مز 17: 8)، ورأينا أن جناحي الله هما المحبة والرحمة كقول القديس أغسطينوس[300]. كما يشيرا إلي جناحي الكاروبيم المظللين علي تابوت العهد حيث كان مجد الله يظهر هناك. ويرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أنه يليق بالمؤمن ليس فقط أن يحتمي تحت جناحي الله، وإنما أن يسترد جناحيه اللذين فقدهما بالخطية.
v جناحا الله يمثلان قوة الله وبركاته وعدم فساده وما إلي ذلك.
كل هذه الخصائص الإلهية وُجدت في الإنسان حينما كان يشبه الله في كل شيء. لكن انحرافنا إلي الشر سلبنا أجنحتنا، ومن ثم أُعلنت نعمة الله لنا وأنارتنا. برفضنا الفساد والشهوات العالمية ينمو فينا جناحا القداسة والبر من جديد[301].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
v يمكن تفسير هذه العبارة (تث 32: 11؛ مز 91: 1) بخصوص المخلص، إذ قدَّم لنا ظل (ملجأ) جناحيه علي الصليب… لقد ارتفعت يد الرب إلي السماء ليس طلبًا لمعونة، وإنما لكي تظللنا نحن خليقته البائسة[302].
القديس جيروم
وحده حرك شعبه للخلاص، أما الآلهة الأجنبية الوثنية فكانت عاجزة عن تقديم الخلاص للمصريين.
“اركبه على مرتفعات الأرض فأكل ثمار الصحراء،
وأرضعه عسلاً من حجر،
وزيتًا من صوَّان الصخر” [13].
قدم لشعبه المستحيلات، فأخرج لهم من الصحراء ثمارًا ومن الحجر عسلاً ومن صوان الصخر زيتًا [13]، أما أروع ما قدمه فهو دمه الثمين: “دم العنب شربته خمرًا” [14].
بقوله “اركبه مرتفعات الأرض” يقصد أنه خرج به إلى نصرات متوالية، لا يعرف السقوط والهزيمة، بل يعيش دومًا كما على القمم العالية. عِوض خبز المذلة الذي كانوا يأكلونه في مصر تحت العبودية جلسوا على قمم الجبال يأكلون ثمار الصحراء حيث الحرية والكرامة.
ولعلّه يقصد بمرتفعات الأرض أن الشعب انطلق إلى جبال كنعان، هناك الخضرة والثمار الفائضة، يتمتعون بالعسل الذي يقدمه النحل في وسط الحجارة، والزيت الذي من أشجار الزيتون التي تملأ المنطقة.
إنها صورة حيّة للمسيحي الذي ينطلق كما إلى عربون السماء فيحيا في المرتفعات، لا سلطان للخطية عليه، يأكل من ثمر الروح في وسط برية هذا العالم، ويتمتع بعذوبة المسيح كالعسل، ومن زيت الروح القدس الذي يسند النفس ويملأها صحة وسلامًا.
“وزبدة بقر ولبن غنم مع شحم خرافٍ وكباشٍ أولاد باشان وتيوس مع دسم للشعب (كلية) الحنطة،
ودم العنب شربته خمرًا” [14].
يقدم الله لنا الزبدة والشحم كطعام روحي للناضجين، واللبن كشرابٍ للأطفال الصغار. يقدم مع الطعام الروحي الشراب الروحي، الخمر، الذي يشير إلى الفرح. فهو يشبع احتياجات الكبار والصغار، ويهب الكل فرحًا داخليًا.
نحن نعلم أن الحيوانات لا النباتات لها الكلية kidney، أما هنا فيقول “من دسم كلية الحنطة“، وكأن الحنطة تقدم غذاء نقيًا دسمًا خالصًا من كل شوائب كما تفعل الكلية.
v ما هو عنقود العنب المتدلي من الخشب إلا ذاك العنقود الذي تدلّى من الخشبة في الأيام الأخيرة، والذي صار دمه مشربًا مخلِّصًا لمن يؤمن به؟! “اشربوا دم العنب“. إنه يقصد بهذا الآلام المخلصة[303].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- شعب جاحد:
بعد أن عرض موسى النبي في نشيده راية الله العجيبة من كل ناحية تحدث عن ارتداد إسرائيل عن الله.
“فسمن يشورون ورفس،
سمنت وغلظت واكتسبت شحمًا،
فرفض الإله الذي عمله وغبي عن صخرة خلاصه” [15].
“يشورون” [15] اسم شعري حبي لإسرائيل يترجم في السبعينية “المحبوب”.
يشبِّه إسرائيل بفرسٍ أكل وشبع وسمن وغلظ وامتلأ شحمًا، فبدأ يرفس صاحبه الذي أوجده، وفي غباوة استهان بالله صخرة خلاصه. قدَّم الله لهم من خيراته فعِوض تقديم ذبيحة شكر له، يرفعون أقدامهم ليرفسوا الله نفسه. عندما يوبخهم الله خلال أنبيائه يثورون كبقرة جامحة وثورٍ غير معتاد أن يحمل النير. بكبريائهم لا يحتملون كلمة توبيخ حتى إن صدرت من الله خالقهم.
v ليس الجسد ولا الطعام هما من الشيطان إنما الترف وحده هو هكذا[304].
v هذه (الأحزان) تسحب الرحمة، وتقدم لنا الحنو، ومن الجانب الآخر فإن ذاك (الغنى) يرفعنا إلى كبرياء غبي ويقودنا إلى الكسل، ويدفع الإنسان إلى مظاهر كثيرة تجعله متشامخًا. لهذا يقول المرتل: “خير ليّ يا رب أنك أذللتني فأتعلم أحكامك” (مز 119: 71)… كما “الرب يعرف عندما يقضي أحكامًا” (مز 9: 16)[305].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v مديح الهراطقة هو الدهن الذي يمسحون به رؤوس البشر ويعدونهم بملكوت السماوات. هذا يجعل الرأس سمينة بالكبرياء. في الكتاب المقدس كل ما هو سمين يعبر عما هو غير مقبول، إذ قيل: “أكل يعقوب وشبع، سمن ورفس، سمن وغلظ وصار نهمًا” [15] [306].
القديس جيروم
أما أخطر علامة للثورة ضد الله فهي عبادة الأوثان:
“أغاروه بالأجانب، وأغاظوه بالأرجاس.
ذبحوا لأوثان ليست الله.
لآلهة لم يعرفوها أحداثٍ قد جاءت من قريب لم يرهبها آباؤكم.
الصخر الذي ولدك تركته،
ونسيت الله الذي أبدأك” [16-18].
عبادة الأوثان هي أخطر مثل للارتداد عن الله، هذه التي خلالها يسقطون في الآتي:
أولاً: عِوض الخضوع لله بروح الطاعة والحب، يغيظون الله بالعصيان والبغضة، مقدمين قلوبهم التي هي عرش الله كرسيًا للأوثان.
ثانيًا: عِوض القداسة يمارسون الرجاسات.
ثالثًا: يرفضون الله القريب منهم، أبوهم الذي ولدهم، ويرتبطون بالأجانب الغرباء عنهم، الذين لا يحملون لهم روح الأبوة والحنان. استبدلوا الأب بالغرباء.
رابعًا: قد يكون للأبناء شيء من العذر إن سقطوا في نفس العبادة الوثنية التي سقط فيها آباؤهم، أما أنهم يعبدون آلهة جديدة لم يسبق أن يتعبد لها آباؤهم فهم بلا عذر.
خامسًا: جاءت الآية [17] “ذبحوا للشياطين” في الترجمات السبعينية والفارسية والقبطية والفولجاتا.
- تأديب الشعب الجاحد:
من أجل محبته لهم واهتمامه بخلاصهم يقوم الله بتأديب شعبه الجاحد بطرق كثيرة.
“فرأى الرب ورذل من الغيظ بنيه وبناته” [19].
هل يرذل الله بنيه وبناته؟ إذ التحف البنين والبنات بالخطية تطلع الرب القدوس إليهم فإذا بهم غير راغبين في الاتحاد معه، إذ لا يمكن أن تقوم الشركة بين القداسة والخطية. بهذا وضعوا أنفسهم في مركز المرذولين. وكما يقول المرتل: “وتنجسوا بأعمالهم، وزنوا بأفعالهم، فحمي غضب الرب على شعبه وكره ميراثه” (مز 106: 39-40).
“وقال: أحجب وجهي عنهم، وأنظر ماذا تكون آخرتهم.
إنهم جيل متقلب أولاد لا أمانة فيهم” [20].
بقوله يحجب وجهه عنهم يعني يُعلن عن عدم سروره بتصرفاتهم، فإذا أعطوا الرب القفا لا الوجه، يصرف وجهه عنهم فلا يتمتعون بمسرته. يعاتبهم الرب قائلاً: “قائلين للعود أنت أبي، وللحجر أنت ولدتني؛ لأنهم حوّلوا نحوي القفا لا الوجه، وفي وقت بليتهم يقولون: قم خلصنا” (إر 2: 27). مع أنهم أولاد لكنهم فقدوا البنوة لله بسبب عدم أمانتهم، أو عدم جديتهم وثباتهم في الله أبيهم. صاروا أُناسًا تافهين بلا هدف، لا يُعتمد عليهم ولا يوثق فيهم.
“هم أغاروني بما ليس إلهًا.
أغاظوني بأباطيلهم.
فأنا أغيرهم بما ليس شعبًا،
بأمة غبية أغيظهم” [21].
كثيرًا ما يقول الله: “أغاروني“. اقتبس الرسول هذا في (رو 10: 19) ويتكرر الفكر في (هو 1: 9) وهدف الغيرة والسخط هذا هو جذب القلوب لترجع إليه.
إذ تجاهلوا أبوته الحانية وارتبطوا بالرجاسات يسمح بتأديبهم مستخدمًا ذات الشعب الذي تعلموا منه الرجاسات: “أنا أُغيرهم بما ليس شعبًا، بأمة غبية أغيظهم” [21]. ما يظنه الإنسان سرّ فرحه ولذته يتحول إلى إذلاله. قوله “أغِيرهم” تحمل الحب الإلهي فهو يثيرهم للتوبة. يرى القديس بولس (رو 10: 19) في ذلك نبوة عن قبول الأمم الإيمان لكي يرجع اليهود في آخر الأزمنة ويقبلوا المسيا المخلص. فكما رفض الشعب الإسرائيلي الله وتعبد لمن هو ليس إلهًا، هكذا رفض الله إسرائيل ودعا الأمم شعبًا مقدسًا له لكي يغيرهم، لعلهم يرجعون إليه ويتركون جحودهم للمخلص فيؤمنوا به في آخر الأيام.
v يليق بهم من جهته أن يكونوا قادرين على تمييز الكارزين ليس فقط من جهة عدم إيمانهم فحسب، وعدم كرازتهم بالسلام (إش 52: 7)، وعدم تبشيرهم بالأخبار السارة، ولا من جهة الكلمة التي غرست في كل منطقة في العالم، ولكن من جهة الحقيقة عينها أنهم صاروا أقل من الأمم الذين صاروا في كرامة أعظم[307].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“إنه قد اشتعلت نار غضبي،
فتتقد إلى الهاوية السفلى،
وتأكل الأرض وغلتها،
وتحرق أسس الجبال” [22].
إن كانوا يعتمدون على كثرة العدد، فإنهم كما بنار يحترقون فيهبطون إلى الهاوية، أي إلى منتهى البؤس والشقاء. وإن كانوا يثقون في قوتهم فستحرق أسس جبالهم، إذ لا يوجد حاجز ما يعوق التأديب الإلهي الذي يحل بالأشرار المقاومين للحق. يرى البعض أن هذه العبارة تحمل فكرًا نبويًا عن حرق الهيكل في أيام تيطس الروماني، حيث لا يبقى من الأساسات حجر على حجر (مت 24).
“أجمع عليهم شرورًا وأنفد سهامي فيهم” [23].
تشبه أحكام الله الخاصة بالتأديب كالسهام التي تطير بسرعة فائقة لا يمكن مقاومتها (أي 6: 4؛ مز 21: 8، 12؛ 38: 2-3؛ 64: 7؛ 91: 5). إن كان مسيحنا هو السهم الإلهي الذي يصوبه نحو النفس فتصرخ: “إني مجروحة حبًا” (نش 2: 5)، فإن تأديبات الرب أيضًا كالسهام التي تصوب نحو النفس لكي تنسحق بالتوبة فتعود ليشفيها المخلص من كل جراحاتها.
أما التأديبات التي يذكرها هنا فهي:
أولاً: الجوع “إذ هم خاوون (أو يحترقون) من جوع” [24].
يُسمح للإنسان بالمجاعة من الخبز المادي لكي يدرك مجاعته الداخلية، فيطلب الخبز النازل من السماء. وكما يقول: عاموس: “هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أُرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب” (عا 8: 11).
ثانيًا: الوباء والأمراض “ومنهوكون من حُمى” [24]، أو “من حرارة حارقة“، حيث لا تقدر مياه العالم كلها أن تهب النفس برودة وهدوءً، إنما دموع التوبة وحدها تنزع هذه الحرارة التي أثارها الفساد، أو النار التي أشعلتها الخطية.
ثالثًا: الوباء “ودواء سام” أو “خراب مدمر”، فمن لا يبالي بما يصيب نفسه من وباء يسمح الله لجسده بالوباء ليُدرك ما حلّ بأعماقه.
رابعًا: هياج الخليقة ضده “أرسل فيهم أنياب الوحوش مع حمة زواحف الأرض” [24]. تتعطش الحيوانات المفترسة نحو افتراس الإنسان وتبث الثعابين سمومها، فيحيط الخطر بالإنسان من كل جانب.
خامسًا: الحروب وما تسببه من دمار في كل شيء.
“من خارج السيف يثكل، ومن داخل الخدور الرعبة.
الفتى مع الفتاة، والرضيع مع الأشيب.
قلت أبددهم إلى الزوايا، من الناس ذكرهم.
لو لم أخف من إغاظة العدو من أن ينكر أضدادهم من أن يقولوا يدنا ارتفعت وليس الرب فعل كل هذه” [25-27].
إذ يستخدم الرب الأشرار لتأديب أولاده يعود ليرى هؤلاء الأشرار قد امتلأوا كبرياء حاسبين أن ما حدث ليس بسماحٍ إلهيٍ، وإنما بيدهم الرفيعة [27]، لذا يؤدبهم هم أيضًا بسبب إهانتهم لله.
أقسى التأديبات التي يسقط الإنسان فيها هو أن يسقط تحت يد أخيه الإنسان، خلال الحروب أو الأَسر أو العبودية. أمر السهام التي يلجأ إليها الله لتأديب الإنسان هو الإنسان نفسه، إذ يصير أحيانًا أكثر قسوة من الحيوانات المفترسة، بل وأكثر عنفًا من الموت، حيث يشتهي الإنسان الموت ليخلص من يد أخيه فلا يجده.
هكذا يضع الشرير نفسه في مرارة المُرّ، إذ يصير الله الرحوم مؤَدِبًا. يُعاني جسده من الجوع والعطش، ويصير كما في أتون نار ليس من إمكانية لإطفائه، ويحل الخراب بكيانه، وتهيج الطبيعة ضده، ويصير أخوه الإنسان سهمًا قاتلاً ومدمرًا له. هذا كله لكي يدرك الإنسان خطورة ما حل بأعماقه فيلجأ إلى الله مخلصه، فيرفعه ويسنده. ليحمل الإنسان مخافة الرب فلا يخاف من كل هذه الأمور، بل تتحول إلى بنيانه وتصير موضوع نصرته وإكليله.
لكن الله الذي لا يُريد هلاك الخاطئ بل أن يرجع ويحيا، لا يؤدب بلا حدود، ولا يغضب إلى الأبد، بل غضبه حب، وتأديباته للخلاص. لهذا يعود فيرحم شعبه الراجع إليه.
أولاً: يرجع عن غضبه لئلا يظن العدو الذي نال نصرة على الشعب فعل ذلك عن قوةٍ واقتدارٍ، وليس بسماح إلهي لتأديب شعبه [27].
ثانيًا: يليق بالشعب الساقط تحت التأديب أن يرجع إلى عقله، فيتمتع ببصيرة روحية، ليرى نهاية التأديب وغايته.
“إنهم أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم.
لو عقلوا لفطنوا بهذه وتأملوا آخرتهم” [28-29].
يليق بهم أن يتفطنوا لما يحدث معهم ويروا ما حل بهم من خراب، لا بسبب قوة العدو وحنكته العسكرية، وإنما بسبب رفض الشعب لله صخرته التي يحتمي فيها.
يدعو شعبه “أمة عديمة الرأي وبلا بصيرة“، فإنها إذ تركت الله فقدت الحكمة وأُصيبت بالعمى، ولم تدرك حقيقة الأمر.
بالمنطق البشري: “كيف يطرد واحد ألفًا، ويهزم اثنان ربوة؟” [30]. لا يمكن أن يتم ذلك “لولا أن صخرهم باعهم والرب سلمهم” [30]. ليس من مبررٍ آخر لدمارهم بهذه الصورة غير الطبيعية سوى تركهم لله حاميهم والمدافع عنهم، فسلمهم مؤقتًا للأعداء.
v أمين هو ذاك الذي يقدر بأن ألفًا يطاردهم واحد، وعشرة آلاف يهربون أمـام اثنين،
لأن النصرة في المعركة لا تتحقق بالعدد بل بالبر[308].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
يقارن بين الله الصخرة الحقيقية القادرة على حماية الشعب، وبين الآلهة الوثنية التي يحتمي فيها الأمم (ربما يقصد هنا الرومان) كصخور لهم، فيقول: “ليس كصخرنا صخرهم، ولو كان أعداؤنا القضاة” [31]. فإن الوثنيين أنفسهم إن أقاموا أنفسهم قضاة لحكموا بأن الله إله إسرائيل الذي لا يُقارن بصخرة الآلهة الوثنية.
إن كان قد سمح الله للوثنيين بالنصرة لتأديب شعبه، ذلك لأنهم صاروا أشرارًا؛ “لأن من جفنة سدوم جفنتهم، ومن كروم عمورة عنبهم عنب سم، ولهم عناقيد مرارة. خمرهم حمة الثعابين وسم الأصلال القاتل” [32-33]. صارت حياتهم حياة سدوم، وأعمالهم كأعمال عمورة، تحولوا إلى شعب يحمل في داخله السم القاتل.
يرى البعض أن الكروم هنا تشير إلى تعاليمهم التي نقلوها عن الوثنيين فصارت لهما سمًا قاتلاً.
ثالثًا: الله المحب لا يتسرع في التأديب، بل يُطيل أناته جدًا، فإن أصر شعبه على الشر يقدم لهم مما وضعوه في المخازن وختموا عليه بعنادهم، فيسقطوا تحت التأديبات المُرّة.
“أليس ذلك مكنوزًا عندي مختومًا عليه في خزائني؟!
لي النقمة والجزاء.
في وقت تزل أقدامهم.
إن يوم هلاكهم قريب والمهيآت لهم مسرعة” [34-35].
يرى البعض أنه يتحدث عن شعب إسرائيل في عبادته للأوثان، فيطيل أناته حتى يحل وقت التأديب. ويرى آخرون أن ذلك يخصهم بسبب ما فعلوه بالأنبياء حيث قتلوهم واضطهدوهم عبر العصور. ويرى فريق ثالث أن هذا النص ينطبق أيضًا على الكنعانيين والأمم الوثنية، فإن الله لم يُسرع بتأديبهم، إنما أطال أناته عليهم جدًا، وأخيرًا بددهم أمام شعبه.
رابعًا: ما يحل بالشعب من هزيمة ليس بسبب قوة العدو، لكن كحكم الله إلههم الذي يدينهم لكي يردهم إليه بالتوبة. يمسك بمشرط الطبيب ليجرح فيشفي أمراضهم.
“لأن الرب يدين شعبه، وعلى عبيده يُشفق.
حين يرى أن اليد قد مضت ولم يبقً محجوز ولا مطلق.
يقول: أين آلهتهم الصخرة التي التجأوا إليها؟!
التي كانت تأكل شحم ذبائحهم، وتشرب خمر سكائبهم.
لتقم وتساعدكم وتكن عليكم حماية!
انظروا الآن. أنا أنا هو وليس إله معي.
أنا أُميت وأُحيي. سحقت وإني أشفي، وليس من يدي مخلص.
إني أرفع إلى السماء يدي وأقول: حيّ أنا إلى الأبد.
إذا سننت سيفي البارق وأمسكت القضاء يدي أرد نقمة على أضدادي وأجازي مبغضي.
أسكر سهامي بدمٍ، ويأكل سيفي لحمًا.
بدم القتلى والسبايا ومن رؤوس قواد العدو.
تهللوا أيها الأمم شعبه،
لأنه ينتقم بدم عبيده،
ويرد نقمة على أضداده،
ويصفح عن أرضه عن شعبه” [36-43].
إنه يدين شعبه وعلى عبيده يشفق، بمعنى أنه يحكم عليهم بالتأديب لكن خلال مراحمه الإلهية. أو لعله إذ رجعوا إليه يحكم لصالحهم فيقف ديّانًا لحسابهم ضد الأمم التي أذلتهم والتي تفتخر بآلهتها كصخرة يختفون فيها.
الله يسمح بجرح النفس بتأديبات لأجل شفائها من أمراضها وفسادها، كما يجرحها أيضًا بجراحات الحب الإلهي، فتترنم قائلة: “إني مجروحة حبًا” (نش 2: 5). الذي يجرحها هو السيد المسيح، الحب الحق ، كلمة الله السيف ذو الحدين، يجرحها بسهام المعرفة الروحية السماوية فتئن ليلاً ونهارًا مشتاقة إلى معرفة أعظم حين ترى الرب وجهًا لوجه!
v يعلمنا الكتاب المقدس أن الله محبة (1 يو 4: 8)، فقد صوّب ابنه الوحيد “السهم المختار” (إش 49: 2) نحو المختارين، غارسًا قمته المثلثة في روح الحياة.
رأس السهم هو الإيمان، الذي يربط ضارب السهم بالمضروبين به. وكأن النفس ترتفع بمصاعد إلهية، فترى في داخلها سهم الحب الحلو يجرحها، متجملة بالجروح…
إنه جرح حسن وألم عذب، به تخترق “الحياة” النفس، إذ بواسطة دموع “السهم” تفتح النفس الباب الذي هو مدخلها[309].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
v إن التهب أحد ما في أي وقت بالحب الصادق لكلمة الله، إن تقبل أحد الجراحات الحلوة لهذا السهم المختار، كما يسميه النبي، إن كان قد جُرح أحد برمح معرفته المستحقة كل حب حتى أنه يحن ويشتاق إليه ليلاً ونهارًا، فلا يقدر أن يتحدث إلا عنه، ولا ينصت إلا إليه، ولا يفكر إلا فيه، ولا يميل إلى أية رغبة أو يترجى سواه. متى صار الأمر هكذا تقول النفس بحق: “إني مجروحة حبًا”. إنها تتقبل جرحها من ذاك الذي قيل عنه: “جعلني سهمًا مختارًا، وفي جعبته يخفيني” (إش 49: 2).
يليق بالله أن يضرب نفوسنا بجراحات كهذه، يجرحها بمثل هذه السهام والرماح، ويضربها بمثل هذه الجراحات الشافية…
ما دام الله “محبة”، فإنهم يقولون عن أنفسهم: “إني مجروحة حبًا”. حقًا إنها دراما الحب، إذ تقول النفس: “إني تقبلت جراحات الحب”.
النفس التي تلتهب بالشوق نحو حكمة الله، أي التي تقدر أن تنظر جمال حكمته، تقول بنفس الطريقة: “إني مجروحة بالحكمة”.
والنفس التي تتأمل سمو قدرته، وتدهش بقوة كلمته، يمكنها القول: “إني مجروحة
بالقدرة”…
والنفس التي تلتهب بحب عدالة الله وتتأمل عدل تدابير عنايته تقول بحق: “إني مجروحة بالعدل”.
والنفس التي تتطلع إلى عظمة صلاحه وحنو محبته ينطق أيضًا بنفس الطريقة.
أما الجرح الذي يشمل هذه الأمور جميعها فهو جرح الحب الذي به تعلن العروس: “إني مجروحة حبًا”[310].
العلامة أوريجانوس
v ما كان يمكن لشاول المضطهد أن يموت ما لم يُجرح من السماء (أع 9: 4)، وما كان يمكن للمبشر أن يقوم إلا بالحياة التي أعطيت له بدم (المسيح) [311].
v شاول هُدم، وبولس المبشر بُني…
قيل لإرميا: “قد وكلتك… لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس” (إر 1: 10). لهذا فإن هذا هو صوت الرب: “أنا أجرح وأنا أشفي” [39]. إنه يضرب فساد العمل، ويشفي ألم الجرح. هذا ما يفعله الأطباء حينما يقطعون ويجرحون ويشفون. يمسكون بالسلاح (المشرط) لكي يضربوا، يحملوا حديدًا ويأتوا لكي يشفوا[312].
القديس أغسطينوس
v ليت غير الأصحاء يجرحون، فإنهم إذ يجرحون كما يليق يصيرون أصحاء[313].
v ذات الرب، طبيبنا الإلهي، يستخدم أدواته هو وخدامه بواسطتكم… وذلك حسب قوله: “أنا أجرح وأنا أشفي” [39] [314].
القديس أغسطينوس
يؤكد الله حبه للإنسان، وأنه إن قاوم إنما يُقاوم عدو الخير، فاضحًا الآلهة الوثنية التي تأكل شحم الذبائح وتشرب خمر السكائب، لكنها عاجزة تمامًا عن إنقاذ من يتعبد لها. يقول لهم: “امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها لتخلصكم هي في زمان ضيقكم” (قض 10: 14). “أين آلهتك التي صنعت لنفسك؟! فيقوموا إن كانوا يخلصونك في وقت بليتك” (إر 2: 28). الله يود أن ترجع عروسه إليه وتتحد معه ولا تبقى بعد في زناها. تقول “أذهب وأرجع إلى رجلي الأول لأنه حينئذ كان خير لي من الآن” (هو 2: 7).
يعيِّر العدو شعب الله قائلاً: “لا يخدعك إلهك الذي أنت متوكل عليه” (إش 37: 10)، “من هو الإله الذي ينقذكم من يدي؟” (دا 3: 15). ويُعلن الله عن حضرته وسط شعبه كسرّ غلبته ونصرته، مؤكدًا: “أنا أنا هو وليس إله معي… حي أنا إلى الأبد”. إنه الإله الوحيد صاحب السلطان المطلق، الذي لا ينافسه آخر، ولا يحتاج إلى آخر، من يقتنيه يقتني النصرة. إنه يميت لكن ليس إلى الأبد، بل يُحيي. يسحق ويشفي، وكما يقول إرميا النبي: “من إحسانات الرب أننا لم نفنَ، لأن مراحمه لا تزول… فإنه ولو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه” (مرا 3: 22-32). ويقول هوشع النبي: “هلم نرجع إلى الرب، لأنه هو افترس فيشفينا، ضرب فيجبرنا” (هو 6: 1).
قارن البابا أثناسيوس في حواره مع الأريوسيين، بين الآية [39] وما ورد في (عب 13: 8) أن يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد، مؤكدًا لاهوت السيد المسيح[315].
يقسم الله بذاته، إذ يرفع يديه إلى السماء ويقول “حيّ أنا إلى الأبد” [40]، ليعلن أنه سيرد للمقاومين شرهم عليهم.
يختم موسى النبي نشيده بالدعوة إلى الفرح والتهليل في الرب [43]، مقدمًا ثلاثة أسباب للفرح.
- دعوة الكنيسة القادمة من الأمم لتمارس فرحها في الرب، حيث تصير الأمم شعبه المتهلل به.
- يهب الله كنيسته غلبة ونصرة على العدو.
- يعلن الرب مراحمه، ربما يقصد عودة اليهود إلى الإيمان بقبولهم السيد المسيح، فيتهللوا مع كنيسة الأمم إذ يصير الكل كنيسة واحدة متهللة.
- دعوة للطاعة:
بعد أن تغنى موسى بنشيده الختامي الذي مع ما حمله من مرارة بسبب عصيان الشعب وارتداده لكنه خُتم بالفرح، ودعوة الكثيرين إلى الرب. الآن يقدم لهم دعوة للطاعة لجميع كلمات هذه التوراة.
“فأتى موسى ونطق بجميع كلمات هذا النشيد في مسامع الشعب هو ويشوع بن نون.
ولما فرغ موسى من مخاطبة جميع إسرائيل بكل هذه الكلمات قال لهم:
وجهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم لكي توصوا أولادكم أن
يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة.
لأنها ليست أمرًا باطلاً عليكم بل هي حياتكم.
وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها” [44-47].
أتى موسى [44] غالبًا من خيمة الاجتماع حيث وهبه الله أن ينطق بهذا النشيد النبوي، والذي تلاه وسبح به أمام الشعب كله. الآن يسألهم أن يتقبلوا الكلمات الإلهية بكونها حياتهم، وأن يقدموها لأبنائهم كي يختبروا الحياة الحقة خاصة في أرض الموعد.
يشوع [44] كان اسمه أولاً هوشع ومعناه “خلاص”، فغيّر موسى اسمه إلى يشوع الذي يعني “الله خلاص” (عد 13: 8، 16) ويظهر الاسم الأول في الأصل العبري هنا، وقد يرجع ذلك إلى أن يشوع أراد ذلك.
ينادي موسى الشعب قلبيًا للوداع فإن يوم موسى قد انتهى، أما طول يومهم هم فيتوقف على طاعتهم. يسوع وحده يقدر أن يقول “أنا معكم كل الأيام” (مت 28: 20).
- دعوة موسى للصعود على جبل نبو:
“وكلم الرب موسى في نفس ذلك اليوم قائلاً:
اصعد إلى جبل عباريم هذا جبل نبو الذي في أرض موآب الذي قبالة أريحا،
وانظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ملكًا.
ومت في الجبل الذي تصعد إليه، وانضم إلى قومك، كما مات هرون أخوك في جبل هور
وضُم إلى قومه.
لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين، إذ لم تقدساني
في وسط بني إسرائيل.
فانك تنظر الأرض من قبالتها، ولكنك لا تدخل إلى هناك إلى الأرض التي أنا أعطيها لبني
إسرائيل” [48-52].
دعاه الرب أن يصعد على جبل نبو ليرى أرض الموعد من هناك، دون أن يدخلها هو وأخوه هرون بسبب تصرفهما عند ماء مريبة في قادش (32: 47؛ عد 27: 14) إذ لم يقدسا الله في وسط الشعب، ربما لأن موسى وهرون لم يمجدا اسم الله قبل ضرب الصخرة بواسطة عصا موسى (عد 20: 10). لقد غفر له الله ما قد صنعه، لكنه حتى اللحظات الأخيرة يذكره بضعفه ليبقى ثابتًا في تواضعه، متذكرًا ضعفاته.
قبل موسى التأديب قبل موته، لكنه دخل أرض الموعد عند تجلي السيد المسيح على
جبل تابور. لقد نظر الأرض أيضًا قبل موته وتهللت نفسه إذ حسب ما يناله شعبه كأنما ناله هو.
تمم موسى النبي رسالته، لهذا دعاه الرب أن يصعد على الجبل ويموت هناك وينضم إلى قومه، كما سبق فمات أخوه هرون.
العظيم موسى الذي سبق أن اختفى من فرعون وانسحب إلى مديان خوفًا منه عندما صدر له الأمر “ارجع إلى مصر” (راجع خر 3: 10) لم يخشَ ذلك. مرة أخرى عندما أُمر أن يصعد على جبل عباريم وأن يموت، لم يتأخر في جُبن، وإنما بفرح انطلق إلى هناك[316].
البابا أثناسيوس الرسولي
من وحي تثنية 32
لأشهد لك بتسبحتي الدائمة
v عبّر موسى عن فرحه بك بتسابيح قلبه التي لا تنقطع.
شهد لك وسط شعبك حتى في تسابيحه لك.
عظيم أنت في حبك.
أنت صخرة الدهور فيك تحتمي نفسي.
أنت كامل في صنيعك لا تعرف إلا الصلاح!
عنايتك بي تفوق كل عقل!
v كل فساد فيّ إنما هو من عمل يديّ!
فإني أشرب من ذات الكأس التي أمزجها!
أنت صالح ولا يصيبك ضرر،
كل مقاومة مني وجحود يرتد عليّ
أنقذني من فسادي وتذمري يا كلي الصلاح.
v أعمالك معي عبر التاريخ تفوق كل عقلٍ.
قدمت لي كل شيء.
وهبتني نصيبًا من الأرض كي لا أنازع اخوتي.
وأعطيتني ذاتك نصيبًا لكي أهبك حياتي نصيبًا لك!
أنا محتاج إليك يا مصدر الغنى،
أما أنت فمن حبك الفائق تحسبني نصيبك المفرح!
v تحفظني كحدقة عينك يا أيها العجيب في حبك.
تحرك عشي بالضيقات وترف كالنسر حولي،
كي أترك عش العالم وأطير معك في السماء.
أتحرك فتحملني إليك يا مجدي!
تحرك عشي لكي لا أبقى في طفولة خاملة.
وفي انطلاقي تعولني فلا اعتاز إلى شيء.
v قدمت لي بفيض فأكلت وشبعت وسمنت.
عوض تقديم ذبيحة شكر لك رفست في غباوة.
انشغل قلبي بالخيرات وجحد واهبها.
من ينزع عني جحودي وغباوة قلبي؟!
لتمتد يدك للتأديب،
فإني لن ائتمن يدًا غيرها.
هي تجرح وتشفي، تميت وتحيي!
لتصوب سهام تأديبك نحوي،
فإنها تجرح قلبي لا لتقتله بل لتلهبه حبًا!
تجرح الجسد بضربات تبدو قاسية،
لكي أدرك بنعمتك جراحات نفسي المهلكة.
خطيتي تفقدني حتى البركات الجسدية،
تثور ضدي الطبيعة، ويتحول إلى سهم قاتل لي.
من ينقذني من خطيتي إلا مراحمك الإلهية؟
v لتتهلل نفسي مع العظيم في الأنبياء موسى:
وانتظر صعودي كما على جبل نبو فأتمتع بانطلاق نفسي إليك.