تفسير سفر الجامعة ١٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني عشر

الجهاد المبكر

قدم لنا سليمان الحكيم صورة حيَّة للجهاد بقوة الروح في حكمة ومحبة عملية، وقد كشف عن عذوبة هذا الجهاد وبهجته في حياة الإنسان لكي يبدأه في شبابه دون تأخير. الآن يختم عمله بِحثّ الشباب على الجهاد الروحي، معززًا ببراهين يستنتجها من متاعب الشيخوخة.

  1. اذكر خالقك في أيام شبابك        [1].
  2. ضعف الشيخوخة ومتاعبها       [2-8].
  3. إمكانية التغلُّب على البطلان       [9-14].
  4. اذكر خالقك في أيام شبابك:

إن كان العالم قد صار باطلاً بسبب فساد الإنسان وحياته، فإنه يليق بالإنسان أن يرتبط بالله منذ شبابه حتى لا تخدعه الأباطيل ولا يرتبك بهمومه… وقد سبق فتحدث عن البواعث التي تدفع الشاب للتمتع بالشركة مع الله (11: 7-10)، خاصة حياة الفرح الحقيقي. ربما يقول شاب: لماذا لا انتظر حتى الشيخوخة؟ فيجيبه الجامعة، قائلاً:

“قبل أن تأتي أيام الشر،

أو تجيء السنون إذ تقول ليس ليّ فيها سرور” [1].

قد تحل أيام الشر مبكرًا، كأن يفقد الإنسان وعيه فيخسر إمكانية التوبة والرجوع إلى الله، وقد يُباغته الموت المبكر فجأة؛ أو قد تحل سنون الشيخوخة فيفقد الإنسان عذوبة الحياة… إنه يدعونا للرجوع الفوري إلى الله لنختبر حلاوة العشرة معه.

يقول المرتل: “اللهم قد علمتني منذ صباي، وإلى الآن أُخبر بعجائبك، وأيضًا إلى الشيخوخة والشيب يا الله لا تتركني حتى أُخبر بذراعك الجيل المقبل وبقوتك كل آتٍ” (مز 71: 17-18).       

  1. ضعف الشيخوخة ومتاعبها[230]:

يصف الجامعة انحلال الشيخوخة وعاهاتها بتعايير وصفية يصعب إدراكها الآن،

لأنها لم تعد تستخدم، لكنها بوجه عام تكشف عن انزعاج الحكيم سليمان من أيام الشيخوخة. قدم هذا الوصف ليوضح أن الإنسان يفقد الكثير من حيويته في شيخوخته، فأنه وإن تاب لا يحمل إمكانية عمل الشاب وجهاده وتمتعه بعذوبة الحياة الروحية المبكرة.

أ.تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم” [2]. إذ يكاد الإنسان في شيخوخته أن يفقد بصره فيظن النور ظلامًا، ويبدو له كأن الكواكب قد أسدل عليها السحاب الستار.

ربما يقصد هنا بالشمس والنور… أن الإنسان في شيخوخته يشعر أنه فقد بهجة الحياة وجمالها، فصارت له الشمس ظلامًا…

إذا ما أُصيب إنسان بشيخوخة روحية لا تُعاين بصيرته شمس البر، ولا يشرق عليه النور الإلهي، ولا يتلمس مفهوم الكنيسة الحق كقمر يستنير بالمسيح، ولا ينتفع بالشركة مع القدِّيسين بكونهم كواكب منيرة.

ب.وترجع السحب بعد المطر[2]. تُشير السحب هنا إلى كثرة التجارب التي تحل بالإنسان في شيخوخته من آلام وأمراض. أنها كالسحاب الذي يهطل مطرًا ليعود مرة أخرى فثالثة الخ…

من يصاب بشيخوخة روحية يشعر بجفاف يُسبب له سقطات متوالية.

ج.في يوم يتزعزع فيه حفظة البيت وتتلوى رجال القوة[3]. يُشير ذلك إلى ضعف الهيكل العظمى واِنهيار الجهاز العصبي، فلا يقوى الشيخ على مواجهة المتاعب الصحية الجسدية والنفسية.

في الشيخوخة الروحية حيث يُحرم الإنسان من قيادة روح الله المجدد مثل النسر شبابنا، يدخل الإنسان إلى اليأس، فيصير منها القوى، أشبه ببيت بلا حراسة أو جيش بلا قوة! ينهار أمام التجارب وعواصفها!

د.وتبطل الطواحن لأنها قلَّت[3]. تتساقط الأسنان التي تقوم بمضغ الطعام وطحنه، فيعجز حتى عن التمتع بكثير من أنواع الأطعمة.

في الشيخوخة الروحية لا يختبر الإنسان كلمات المرتل: “وجدت كلامك حلو فأكلته”، لأنه بلا أسنان روحية تقدر أن تتمتع بالطعام الروحي وتقتات عليه.

هـ.وتظلُم النواظر من الشبابيك” [3]. أي تضعف حواس الجسد، فلا يتجاوب الشيخ مع ما يحوط به.

في الشيخوخة الروحية تفقد الحواس الداخلية قدسيتها وتظلم، فلا تُعاين السمويات، ولا تشتم رائحة المسيح الذكية، ولا تعرف كيف تنطق مع السمائيين بالتسابيح العلوية…

و.وتغلق الأبواب في السوق” [4]. يعجز الشيوخ عن الخروج من منازلهم حتى لشراء طعامهم الرئيسي الضروري، وكأن أبواب السوق قد أغلقت أمام وجوههم.

في الشيخوخة الروحية يكمن الإنسان في “الأنا”، ليجد أبواب السماء مغلقة أمامه بسبب انغلاق قلبه من نحو الله والناس. يصير كمن دفن وزنته في التراب ولم يتاجر بها.

ز.ويقوم لصوت العصفور[4]. بسبب تعبهم العصبي وقلة الحركة طوال اليوم لا يحتملون صوت عصفور فيقومون من نومهم، علامة فقدانهم الراحة الداخلية في الرب تحت أعذار واهية كزقزقة عصفور.

ح.وتُحط كل بنات الغناء” [4]. لا يشاركون الغير أفراحهم بسبب تعبهم، إشارة إلى الحرمان من شركة التسبيح والفرح مع السمائيين.

ط.وأيضًا يخافون من العالي[5]. لا يسكنون الأدوار العليا لئلا يسقطون أثناء صعودهم أو نزولهم، إشارة إلى الاستكانة الروحية، وعدم الرغبة في النمو الروحي ورفع القلب الدائم إلى الأبد.

ى.وفي الطريق أهوال” [5]. يعيشون في خمول، لا يريدون الحركة، إشارة إلى عدم الرغبة في الجهاد الروحي والتمتع بخبرات روحية جديدة.

ك. “اللوز يزهر[5]. إشارة إلى الشعر الأبيض الذي يملأ الرأس فتصير كشجرة اللوز المزهرة. تمثل فقدان حيوية الشباب الروحية.

ل.والجندب يستثقل[5]. لا يقدرون على حمل أخف أنواع الأطعمة كالجندب، وهو طعام خفيف جدًا، سهل الهضم. يُشير إلى استثقال أي تدريب روحي لبناء النفس.

م.والشهوة تبطل[5]. فقدان كل رغبة داخلية للبهجة والسرور، إشارة إلى فقدان الإنسان بهجته الروحية وسلامه الداخلي وحنينه إلى السمويات.

ن. يشبه الشيخ وهو يترقب الموت ليدخل بيته الأبدي [5]: حبل الفضة الذي ينفصم، هذا الذي يربط النفس بالجسد، أو كوز الذهب الذي ينسحق، أو جرة ماء تنكسر، أو بكرة بئر تتحطم، أي يتحول إلى حطام بلا نفع، إنه اقتراب إلى العودة إلى التراب. وفي الشيخوخة الروحية يشعر الإنسان أن حياته بلا نفع، هي أقرب إلى التراب منها إلى السماء!

  1. إمكانية التغلب على البطلان:

لم يرد الجامعة أن يسدل الستار على صورة الشيخوخة المؤلمة، وإنما قدم علاجًا للغلبة على بطلان الحياة الزمنية، وهو الالتقاء مع الله خالق العالم ومهيِّء المجد الأبدي، خلال الطاعة لوصيته بخوف تقويّ.

فلنسمع ختام الأمر كله:

اِتَّقِ الله،

واحفظ وصاياه،

لأن هذا هو الإنسان كله.

لأن الله يُحضر كل عمل إلى الدينونة،

على كل خفي إن كان خيرًا أو شرًا” [13-14].

علاج الأمر هو الالتصاق بالله خلال التقوى أو برّ المسيح الواهب المخافة الممتزجة بالحب، فنكسب حياتنا فيه، وننعم بحفظ وصيته، منتظرين يوم الدينونة كبدء حياة أبدية مجيدة عوض الحياة الباطلة الزائلة.

كأن وصيته الأخيرة هي: خف الله، واحفظ وصاياه!

v     بدء حياة الإنسان الحقيقية هي مخافة الله، لكن مخافة الله لا يمكن أن تحل في نفس تتشتت وراء الأمور الخارجية[231].

v     مخافة الله هي بدء الفضيلة، ويقال أنها وليدة الإيمان. أنها تُزرع في القلب حين يسحب الإنسان فكره عن تشتيت العالم كي يحصره في عمق التأمل وفي الأمور العتيدة[232].

v     الذين يخافون الله أيها الأحباء يواظبون بفرح على حفظ الوصايا، حتى إن تتطلب الأمر جهادًا وتعبًا، ويُعرِّضون أنفسهم للمخاطر في سبيل مسعاهم هذا. وقد حصر واهب الحياة كمال الوصايا وصُلْبها وركَّزها في اثنتين تحتضنان الجميع: محبة الله محبة مماثلة لها، هي محبة أيقونته[233].

v     تفوق وصايا الله كل كنوز العالم. الذي يقتنيها داخليًا يجد الرب فيها. ومن يذهب إلى مخدعه دائمًا وهو متفكر في الله، يقتنيه (الله) كياوره الخاص؛ ومن يتوق إلى إتمام إرادة الله تصير ملائكة السماء مرشدين له[234].

v     ما من إنسان تستمر الخطية فيه، طالما أنه يسلك في طريق واضع الناموس (الله) ويمارس وصاياه. لهذا السبب وعد ربنا في الأناجيل أنه يمكث مع من يحفظ وصاياه[235].

مار اسحق السرياني

v     اقتنِ لك أيها التلميذ حب تنفيذ الوصية حتى تتأهل لقبول المحبة الإلهية[236].

v     هل تشتهى أن ترى شعاع الثالوث القدُّوس في نفسك؟ احفظ وصايا المسيح[237].

v     إن لم يبصر الإنسان الشمس لا ينعم بنورها، هكذا إن لم يقتن الإنسان حفظ وصايا ربنا لا يتنعم بنوره[238].

v     واحد هو باب السماء وباب القلب؛ إن حفظنا قلبنا بحفظ وصايا المسيح ينفتح لنا باب السماء، لأن الساكن فينا هو الساكن في السماء[239].

فاصل

سفر الجامعة: 123456789101112

تفسير سفر الجامعة: مقدمة123456789101112

زر الذهاب إلى الأعلى