تفسير سفر الخروج – المقدمة للقمص تادرس يعقوب

تقديم

بدأ الكتاب المقدس أسفاره بالتكوين، حيث أعلن بدء الخليقة وبدء الحياة البشرية في أحضان الله محب البشر، لكن سرعان ما سقط الإنسان تحت العصيان فخرج من الفردوس يحمل في نفسه فراغًا ليس من يملأه، وفي قلبه موتًا أبديًا ليس من يقدر أن يفلت منه.

لم يقف الله مكتوف الأيدي أمام محبوبه الإنسان، فإن كان الإنسان قد خرج معطيًا لله القفا لا الوجه، إلتزم الله في حبه أن يخرج إليه ليخلصه ويرده إلى أحضانه الإلهية مرة أخرى. وهكذا جاء سفر الخروج يعلن  بطريقة رمزية عن خلاص الله المجاني، فقدم لنا خروج الشعب القديم من أرض العبودية بيد الله القوية منطلقًا نحو حرية مجد أولاد الله. وكأن هذا السفر وهو يقدم لنا حقائق تاريخية واقعية لم يقصد أن يسجل الأحداث لأجل ذاتها، فهو ليس سجلاً تاريخيًا، وإنما أراد أن ندخل إلى الأعماق لنكتشف خلاصنا الذي نعيشه في حياتنا الآن. في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [لم تكتب هذه الأمور بقصد تاريخي، فلا نظن أن الكُتب الإلهية أرادت أن تسجل تاريخ المصريين[1]، إنما كُتبت لأجل تعليمنا (1 كو 10: 1)، كُتبت لإنذارنا (1 كو 10: 11)[2]].

كما قال أيضًا: [نحن نعلم أن الكتب المقدسة لم تكتب لتروي لنا قصصًا قديمة، وإنما لأجل بنيان خلاصنا. لهذا فإننا نعلم أن ما نقرأه عن ملك مصر في (خر 1: 8)، إنما نعيشه اليوم في حياة كل واحد منا[3]].

مصر والعبرانيون:

لما كان محور هذا السفر هو خروج العبرانيين من أرض مصر، لذا فإننا نفهم فرعون يمثل الشيطان الذي يأسر أولاد الله، ومصر تشير إلى العالم، والشهوات المصرية إنما تشير إلى شهوات العالم، والعبرانيين يشيرون إلى المؤمنين الذين يعيشون كغرباء في العالم… فالحديث في هذا الكتاب يأخذ الصورة الرمزية. لكن الآن صارت مصر علامة البركة كوعد الرب “مبارك شعبي مصر” (إش 19: 25)، إذ يُعرف الرب في مصر ويعرف المصريون الرَب في ذلك اليوم ويقدمون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرًا ويوفون به” (إش 19: 21)… وصارت “إسرائيل” تشير إلى “إسرائيل الجديد” أي الذين قبلوا الإيمان بالسيِّد المسيح المخلص، وليس إسرائيل كأمة وجنس معين.-

– مقدمة السفر

 

الأصحاح التاسع عشر (الاستعداد للشريعة)

– الباب الأول  الأصحاحات (1: 1-12: 36)

 

الأصحاح العشرون (الوصايا العشر)

الأصحاح الأول (الحاجة إلى مخلص)

 

الأصحاحات 21-23 (الشريعة)

الأصحاح الثاني (إعداد موسى للخدمة)

 

الأصحاح الحادي والعشرون (الشريعة (يتبع)

الأصحاح الثالث (العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا)

 

الأصحاح الثاني والعشرون (الشريعة (يتبع)

الأصحاح الرابع (موسى يلتقي بشعبه)

 

الأصحاح الثالث والعشرون (الشريعة (يتبع)

الأصحاحان 5، 6 (لقاء مع فرعون)

 

الأصحاح الرابع والعشرون (العهد الإلهي)

الأصحاحات 7-10 (الضربات العشر)

 

الأصحاح الخامس والعشرون (التابوت والمائدة والمنارة)

الأصحاحان 11، 12 (الفصح)

 

الأصحاح السادس والعشرون (خيمة الإجتماع)

– الباب الثاني الأصحاحات (12: 37-19: 2)

 

الأصحاح السابع والعشرون (المذبح النحاسي)

تابع: الأصحاح الثاني عشر (خروج الشعب)

 

الأصحاح الثامن والعشرون (الملابس الكهنوتية)

الأصحاح الثالث عشر (تقديس البكر)

 

الأصحاح التاسع والعشرون (تقديس الكهنة)

الاصحاح الرابع عشر (عبور البحر الأحمر)

 

الأصحاح الثلاثون (مذبح البخور والمرحضة)

الأصحاح الخامس عشر (تسبحة النصرة)

 

الأصحاح الحادي والثلاثون (الحديث الختامي)

الأصحاح السادس عشر (تجربة الطعام)

 

الأصحاح الثاني والثلاثون (العجل الذهبي)

الأصحاح السابع عشر (تجربة الشراب)

 

الأصحاح الثالث والثلاثون (تجديد العهد)

الأصحاح الثامن عشر (مقابلة يثرون لموسى)

 

الأصحاح الرابع والثلاثون (تجديد العهد (يتبع)

– الباب الثالث (19: 3 – ص45)

 

الأصحاحات 35: 40 (صنع الخيمة وتكريسها)

 مقدمة السفر

تسميته:

لم يعط العبرانيون لهذا السفر إسمًا، وإنما اعتبروه جزءًا لا يتجزأ من التوراة ككل، فكانوا يدعونه “هوميس سيني” بمعنى “الثاني من الخمسة”، أي السفر الثاني من أسفار موسى الخمسة، وأيضًا “وإله شيموت” أي “وهذه أسماء”، وهما أول كلمتين وردتا في السفر[4]. أما إسمه في الترجمة السبعينية وفي معظم الترجمات فهو باليونانية Exodus التي تعني “الخروج”. يشير هذا الاسم إلى الأحداث الواردة في الأصحاحات (1-15)، خاصة (12-15)، التي تروي خروج شعب بني إسرائيل من مصر.

كاتب السفر:

كتب موسى النبي هذا السفر بوحي إلهي، يظهر ذلك من الدلائل التالية:

  1. يبدأ السفر بحرف العطف “واو”، قائلاً: “وهذه أسماء”، وكأن هذا السفر هو تكملة للسفر السابق “التكوين” الذي كتبه موسى النبي.
  2. قدم لنا السفر أحداثًا بدقة بالغة، وفي كثير من التفاصيل مما يدل على أن الكاتب هو شاهد عيان، بل أنه قائد عملية الخروج.
  3. سجل حوادث خاصة بموسى النبي نفسه، مثل قتله المصري سرًا، وأنه التفت يمينًا ويسارًا قبل قتله، وروى لنا تفصيل الحديث الذي جرى بينه وبين العبراني الذي كان يظلم أخاه، كما روى لنا أخذ زوجته وابنيه على حمير وختان ابنه… الخ.
  4. قبل السامريون هذا السفر كأحد أسفار موسى الخمسة، وهم أعداء اليهود، فلولا تأكدهم من الكاتب لما قبلوه.

تاريخ الخروج:

اختلف العلماء في تحديد تاريخ الخروج، وفيما يلي ملخص لأهم الآراء[5]:

  1. تم الخروج في القرن السادس عشر قبل الميلاد. نادى بهذا الرأي مانيثو المصري حوالي عام 250 ق.م. إذ رأى أن العبرانيين قد طُردوا مع الهكسوس. لكن هذا الرأي لا يتفق مع الاكتشافات الحديثة ولا مع النصوص الكتابية الواردة في (خر 1: 11، 12: 40، 1 مل 6: 1).
  2. تم الخروج حوالي عالم 1290 ق.م. أثناء حكم رمسيس الثاني. يرى أصحاب هذا الرأي أن الضيق حلّ بالشعب اليهودي أيام سيتي الأول (1309-1290 ق.م). واستمر في عهد خلفه رمسيس الثاني (1290 –1224 ق.م)[6]. اعتمدوا على أن بني إسرائيل بنوا مخازن مدينتيّ فيثوم ورعمسيس قائلين: أن اسم “رعمسيس” هو اسم فرعون الذي تم الخروج في عصره. لكن لا يمكن الأخذ بهذا الرأي، لأنه يحتمل أن يكون الاسم قد استخدم في عمر سابق لزمن رمسيس الثاني بزمن طويل.
  3. تم الخروج في عصر يَفتاح حوالي عام 1230 ق.م.، وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي خطأ على النصب التذكاري الذي أقامه يَفتاح، والذي يذكر فيه الانتصار على إسرائيل وغيره من الأمم التي تقطن في فلسطين في ذلك الوقت. والحقيقة أن وجود مثل هذا النصب إنما يؤكد العكس أن إسرائيل قد خرج منذ زمن واستقر في فلسطين وبعد ذلك تمت الحرب.
  4. الرأي الأرجح أنه تم حوالي عام 1447 ق.م. أثناء الأسرة المصرية الثامنة عشر، أيام تحتمس الثالث، أو في زمن أمنوفس الثاني. هذا يتفق مع قضاة (11: 26)، إذ يذكر يَفتاح الذي عاش حوالي عام 1100 ق.م. أن ثلاثمائة سنة قد انقضت على دخول العبرانيين الأرض، أي دخلوها حوالي عام 1400 ق.م. فإذا أُضيفت إليها الأربعون عامًا التي قضوها في البرية لكان تاريخ خروجهم حوالي عام 1440 ق.م.

يتفق هذا الرأي أيضًا مع ما ورد في (1 مل 6: 1) أن بيت الرب قد بُنيَ في السنة الأربعمائة والثمانين لخروج الشعب من مصر. فإن كان قد بدأ سليمان في بناء الهيكل عام 967 أو 966 ق.م. يكون الخروج قد تم حوالي عام 1447 ق.م.

ويتفق هذا التاريخ أيضًا مع الاكتشافات التي ظهرت في أريحا وحاصور، ومع ما ورد في لوحات تلّ العمارنة، التي تتحدث عن شعب قادم إلى أرض فلسطين في هذا التاريخ تقريبًا، أو بعده بزمن قليل.

موضع العبور:

اختلف العلماء في تحديد موضع العبور…

تمت المعجزات على يديّ موسى النبي في صوعن أي تانيس (مز 78: 12) عاصمة الهكسوس. وكانت رعمسيس[7] ضاحية لهذه العاصمة، إذ كان العبرانيون يعملون مخازن مدينتيّ فيثوم ورعمسيس (خر 1: 11) ومن رعمسيس ارتحلوا إلى سكوت[8] (خر 12: 37). لم يتخذوا أقصر الطرق إلى فلسطين بل رحلوا عن طريق البرية بالقرب من البحر الأحمر (خر 13: 17-18)، حيث ضربوا خيامهم لأول مرة بعد مغادرة سكوت في إيثام التي تبعد ثمانية أميال غرب سكوت، وتقع على طرف البرية عند حافة الصحراء (خر 13:20).

“من هناك رجعوا وضربوا خيامهم أمام فم الحيروث بين مجدل البحر أمام بعل صفون” (خر 2: 14)، ليس من السهل تحديد هذا الموقع، لكنه من المعروف أنه غرب البحر الأحمر. من هناك عبروا إلي برية شور (خر 15: 4، 22، عد 13: 10، 15) [9]. 

ويذهب كثير من العلماء إلى أن الخليج كان ممتدًا في أيام موسى إلى منطقة البحيرات المرَّة على هيئة مستنقع ماء. ويرى البعض أن العبور كان بالقرب من الإسماعيلية، وآخرون أنه بالقرب من السويس.

ويلاحظ أن التعبير العبري لبحر (يم) سوف Yam sûp يعني “بحر الغاب” أو “بحر البوص”. وفي رأى البعض أن هذا التعبير إنما يصف المستنقع في منطقة Isthmus والذي يمتد حوالي 72 ميلاً من البحر الأحمر نحو رأس خليج السويس، ذراع البحر الأحمر.

ملامح السفر:

  1. يتحدث القديس أغسطينوس عن ارتباط العهد القديم بالعهد الجديد قائلاً: [العهد الجديد مخفي في القديم، والقديم معلن في الجديد. يظهر ذلك بأكثر وضوح في سفر الخروج، فقد رأى الإنجيلي متى في السيِّد المسيح إسرائيل الجديد وموسى الجديد. إستخدم الإنجيلي كلمات هوشع النبي “من مصر دعوت ابني” (11: 1)، كنبوة عن هروب السيِّد المسيح إلى أرض مصر (مت 2: 15). وكما اعتمد إسرائيل القديم في البحر الأحمر (خر 14)، اعتمد السيِّد المسيح الحامل فيه الكنيسة – إسرائيل الجديد – في مياه الأردن (مت 3: 13-17). قضى السيِّد المسيح أربعين يومًا في البرية (مت 4: 1-11)، وكأنه كان يستعيد الأربعين عامًا التي قضاها إسرائيل الأول في البرية، والأربعين يومًا التي قضاها موسى النبي على جبل سيناء (خر 24: 18). موسى الأول، مستلم الشريعة العظيم ليقدمها لإسرائيل، قدمها بعد أن أعلنت له على جبل سيناء (خر 24: 3-8)، والسيِّد المسيح – موسى الجديد – الذي هو بعينه كلمة الله قدم شريعته للشعب على الجبل (مت 5، 6). فكان العهد السينائي رمزًا للعهد الجديد[10]].

يطول الشرح إن تحدثنا عن ارتباط العهدين بوضوح في سفر الخروج، لذا نترك الحديث عن هذا الأمر خلال شرحنا للسفر نفسه. إنما نر يد أن نؤكد أن ما ورد في سفر الخروج كان إعلانًا لمواعيد الله لإقامة “مملكة كهنة وأمة مقدسة” (خر 19: 6)، يتمتع أعضاؤها بطعام سماوي وشراب روحي ويقيمون مقدسًا ليسكن الله في وسطهم (خر 25)… هذا كله مجرد بدء انطلاق. للصداقة الإلهية الإنسانية والتي تتحقق في كمالها في العهد الجديد.

  1. شخصية موسى النبي:

لهذا السفر أهمية خاصة، إذ عرض حياة موسى النبي، الذي صار ممثلاً للعهد القديم بكونه مستلم الشريعة والمتكلم مع الله وقائد الشعب في تحريره من العبودية للدخول به إلى أرض الموعد. لذا حين تجلى السيِّد المسيح على جبل طابور ظهر موسى وإيليا معه (مت 17: 1-8). وفي سفر الرؤيا نسمع عن تسبحة موسى التي يترنم بها الغالبون في السماء (رؤ 15: 3).

تلقفت الكنيسة حياة موسى لترى فيها جوانبًا حية للحياة الروحية، فأفاض العلامة أوريجانوسفي تفسيره الرمزي لسفريّ الخروج والعدد عن موسى النبي وكل تحركاته كرمز للناموس الروحي الحيّ الذي يمس الحياة الداخلية للمؤمن ونموه الروحي. أما معلمه القديس إكليمنضس الإسكندري فقد أعجب جدًا بشخصية موسى النبي وأحبه، وكما سبق أن رأينا في كتابنا “آباء مدرسة الإسكندرية الأولون” أنه رأى أن الفلاسفة اليونانيين إذ جاءوا ببعض الحق، إنما استعاروه عن موسى، ولذا فهم يحسبون أطفالاً إن قورنوا بالعبرانيين[11]. يقتطف كلمات Eupolemus في كتابه “عن ملوك يهوذا” قوله: [كان موسى أول رجل حكيم، أول من قدم النحو ليهود فتسلمه الفينيقيون عنهم، وتسلمه اليونانيون عن الفينيقيين[12]]. كما قال: [اعتمد أفلاطون الفيلسوف على كتب موسى في التشريع[13]]. وقال: [يعلن الفلاسفة أن الرجل الحكيم هو وحده ملك ومشرع وقائد وعادل ومقدس وحبيب الله، فإن اكتشفنا أن هذه الصفات جميعها تنطبق على موسى كما توضح الكتب المقدسة نفسها، بهذا يتبرهن لنا بالتأكيد أن موسى هو الرجل الحكيم الحقيقي[14]]. ويرى أن فلسفة موسى حملت جوانب أربعة: الجانب التاريخي، والجانب التشريعي، والذبيحي، والرؤي[15].

 وجاء القديس غريغوريوس أسقف نيصص وتلميذ العلامة أوريجانوس الإسكندرييسجل لنا “حياة موسى”[16] في ثوب رمزي روحي جميل.

لماذا نتحدث عن آباء الكنيسة الذين أطالوا الحديث جدًا عن موسى، فإن السيِّد المسيح نفسه قد أعطى إشارة لبدء انطلاق هذا الفكر بقوله: “وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان” (يو 3: 14). وأوضح الرسل ارتباط خروف الفصح بذبيحة المسيا (1 كو 5: 7)، والصخرة التي تابعتهم كانت السيِّد المسيح… الخ

  1. سفر الفداء أو الخلاص:

بدأ هذا السفر بالذل والاضطهاد وانتهي بظهور مجد الله في خيمة الاجتماع، أي في مسكنه مع شعبه (خر 40)، بدأ بالظلام الذي ساد أرض العبودية وانتهي بالمجد. وقد أكد لنا هذا السفر أن هذا التغير أو هذا الخلاص ليس ثمرة عمل بشري، بل كانت الحاجة ماسة لتدخل الله نفسه الذي وحده يقدر أن يخلِّص ويحرِّر خلال تيار الدم المقدس (ذبيحة الفصح). والسفر في مجمله يقدم لنا صورة حيّة وعملية لملامح طريق خلاصنا.

  1. سفر العبور:

قاسى الشعب الأمرّين من العبودية لكنه لم يفكر في الانطلاق من الموقع إلاَّ بعد أن أرسل الله لهم موسى يحدثهم عن الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، أي أورشليم. هنا لم يعودوا يحتملون العبودية ولا قبلوا الاستسلام لها. ونحن أيضًا باكتشافنا لكنعان السماوية، يجعلنا نشعر بمرارة عبودية الخطية، ونستطيع تحت القيادة الإلهية أن ننطلق إلى البرية القاحلة التي بلا أنهار ولا مزروعات ولا بيوت للإقامة، فتصير موضعًا للتسبيح والتهليل (خر 15)، وطريقًا للعبور، نختبر فيه كل يوم معاملات الله الخلاصية معنا. وكأن سرّ عبورنا المستمر إنما يكمن في اكتشافنا لأورشليم العليا والتأمل فيها بالبصيرة الداخلية.

أما عن إمكانية العبور، فتكمن في قول النبي: “نزل لينقذهم” (خر 3: 8). إنها إمكانيات نزول الله إلينا، الذي وحده في السماء يقدر أن ينزل إلى أرضنا ليحملنا فيه إلى أمجاده العلوية. أراد موسى أن يعبر بشعبه من ذل فرعون مستخدمًا ذراعه البشري  ففشل حتى في خلاص نفسه، وعاش هاربًا أربعين عامًا. لهذا نزل الله إليه خلال العليقة الملتهبة نارًا، رمز التجسد الإلهي، ليعبر به مع بقية الشعب. نزل إليه في العليقة ليؤكد سرّ حلوله وسط شعبه، ونزل إلى شعبه كسحابة تظللهم نهارًا كسرّ حمايتهم، وكعمود نار يضيء لهم كسرّ استنارتهم وكقائد لهم. وفي الصخرة ليرويهم، وفي الخيمة ليسكن في وسطهم… كانت هذه جميعها تحمل رموزًا لتجسد كلمة الله ونزوله إلينا لنتحد به فيحملنا معه خلال استحقاقات الدم الكريم.

  1. سفر الحرية:

أولاً: استعبد فرعون الشعب لا إراديًا، لكن ما هو أخطر استسلام الإنسان للعبودية الداخلية وخضوعه لنيرها بإرادته، حاسبًا أنها مصدر لذته وسلامه، مع أنها تحمله إلى الذل وتقدم له الموت. لقد حررهم الله بموسى من سلطان فرعون، لكنهم حتى بعد العبور كانوا في عبودية شهوة الجلوس عند قدور اللحم في مصر (خر 16: 3) والتمتع الوقتي بشهوات الجسد، فصاروا يتعبدون لعجل أبيس المصري، إذ حملوه في قلوبهم (خر 32).

ولماذا نتحدث عن الشعب فإن موسى نفسه كان هو أولاً محتاجًا أن يتحرر داخليًا حتى يتسلم عصا الله. كان مستعبدًا للذات “الأنا” فظن في البداية أنه قادر أن يخلص الشعب بذراعه، وبقى أربعين عامًا في البرية يدربه الرب عوض الأربعين عامًا التي عاشها في القصر حاسبًا نفسه شيئًا. كان لزامًا أيضًا أن يتحرر من عبودية الخوف والزمن (الشعور بالشيخوخة)، حتى إذ أدرك مفهوم الحرية كوجود دائم مع الله (أنا أكون معك، وفي فمك) تسلم عصا الله ليرعى الشعب في طريق الحرية.

ثانيًا: إذ بدأ موسى النبي ينطلق بشعبه نحو طريق الحرية انطلق أيضًا الشيطان يحاربه، فيقدم له أنصاف الحلول[17] عوض الحرية لينحرف به عن الهدف، فطريق الحرية ليس مفروشًا بالورود، ولا نسلكه ونحن نائمون في ترف وتدليل بل هو طريق الحرب الروحية المستمرة حتى النهاية.

  1. سفر الوصية والعبادة:

بالرغم من وجود سفر متخصص في الوصية الإلهية أو الناموس وفي العبادة الموسوية، لكن موسى أصرّ أن يختم سفر الخلاص بأمرين: إستلام الشريعة، وخيمة الاجتماع. وكأن العبور وهو انطلاق إلى الحرية خلال الاتحاد مع الله والوجود الدائم معه إنما يتحقق خلال كلمة الله أو الوصية والعبادة (الخيمة). فالوصية هي القائد للنفس للدخول إلى السماويات، والعبادة هي عبور للشركة مع السمائيين في ليتورﭽياتهم.

العبادة هي غاية العبور “أطلق شعبي ليعبدونني”، خلالها نتعرف على قانون السماء (الوصية) ونتدرب على السكنى مع الله (الخيمة السماوية)!

عبور البحر الأحمر أو المعمودية هي بداية ضرورية وأساسية خلالها ننعم بالميلاد الجديد ونحمل سلطانًا لاعتزال أعمال الإنسان القديم، لكننا نبقى في عوز إلى تقدم مستمر نحو كنعان يسندنا الروح القدس الذي نلناه في سرّ الميرون وتعيننا الوصية الإلهية والعبادة غير المُنقطعة، بهذا نحافظ على قوة العبور بالدم المقدس فنتمتع بخروج مستمر حتى ندخل الأحضان الإلهية ونلتق مع الله وجهًا لوجه.

  1. البرية كمدرسة:

يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن البرية كمدرسة التزم العبرانيون بدخولها، وللأسف كانت تصرفاتهم وسلوكهم كأطفال صغار[18]، وكان الله يحتملهم ويتعامل معهم على هذا الأساس، فمن ذلك:

أ. في خروجهم أعطاهم نعمة في عيون المصريين فأعاروهم أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا (12: 25، 26)، وكان ذلك عربونًا لغنى الحياة الأبدية، لكنه في نفس الوقت كان كأب يُعطي أطفاله مالاً في الصباح ليشجعهم على الذهاب إلى المدرسة والإصغاء إلى معلميهم.

ب. إذ كانوا يقضون وقتًا طويلاً في المدرسة كانوا يحنّون إلى  الرجوع إلى مصر تاركين دراستهم. كانوا كأطفال يبكون قائلين: “ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟!” (14: 11)، لماذا أصعدتنا من مصر؟! (17: 3).

ج. أساء الأطفال معاملتهم لله أبيهم وموسى مدرسهم حتى غضب موسى وكسر لوحي الشريعة (32: 19)، وكأنه أراد أن يتوقف عن تعليمهم. ومع ذلك كان حنونًا عليهم، حين غضب الرب عليهم وأراد إبادتهم تشفع فيهم (32: 32).

د. كانوا كأطفال مُترفين، قدم لهم أبوهم المن السماوي طازجًا كل يوم، لكنهم كانوا يتذمرون عليه. إشتهوا الكرات والثوم في مصر، وذلك كالطفل الذي يجلس على مائدة أبيه وقلبه متعلق باللعب في الطين.

هـ. من أجل ضعفهم قدم لهم شريعته “عين بعين وسن بسن”، مانعًا إياهم من الانتقام بأكثر مما أصابهم… حتى متى دخلوا إلى دور النضوج يقدم لهم “لا تقاوم الشر بالشر” و “من لطمك على خدك الأيمن حوّل له الآخر”، بهذا هدأ فيهم رغبة الإنتقام الطفولية ليعبر بهم إلى مرحلة النضوج[19].

و. عندما وقفوا أمام فرعون وأمام عماليق للحرب، قال لهم على لسان موسى النبي: “الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون” (14: 14)، “للرب الحرب مع عماليق” (17: 16)، “أُعادي أعداءك وأضايق مضايقيك” (23: 22). يرى القديس يوحنا الذهبي الفم الشعب كأطفال يقولون لأبيهم: “فلان يضربني في طريق المدرسة” فيُجيبهم: “إنه إنسان شرير، لا تحافوا أنا أضربه لكم.

ز. عندما غاب موسى على الجبل، كأطفال لم يحتملوا غياب مدرسهم فتصرفوا بطيش وطلبوا من هرون أن يصنع لهم العجل الذهبي.

هذه مجرد أمثلة تكشف عن معاملات الله مع الشعب اليهودي الذي كان يتصرف في طفولية روحية ولم يكن بعد قد بلغ النضوج الروحي، لذا دعاهم الرسول بولس أطفالاً وقصّرًا وتحت الوصاية.

طريق الخلاص:

قلنا إن سفر الخروج في مجمله يقدم لنا صورة حيَّة لملامح طريق خلاصنا بطريقة واضحة، لكنها ليست كخطوات متتالية، وإنما كطريق واحد متلاحم معًا… هذه الملامح هي:

  1. الشعور بالحاجة إلى مخلص: قد يستسلم المريض لمرضه ويبقى العبد مستكينًا للذل، لكن عمل الروح القدس هو فضح ما وصلت إليه النفس وإذلال الخطية لها لتشعر أنها في حاجة إلى الله المخلص. ليس هذه بداية للطريق وإنما هو عمل الروح القدس المستمر في حياة المؤمن طوال طريق غربته. كلما التقينا بالمخلص، اكتشفنا بروحه القدوس ضعفاتنا أكثر وأحسسنا بالحاجة إليه، نبقى في فرح دائم بلقائه وفي توبة مستمرة على ضعفاتنا محتاجين إليه، حتى يبلغ بنا إلى أمجاده الأبدية.
  2. نزول الله إلينا: الشعور بمرارة العبودية، وفضيحة النفس، قد تدفع الإنسان إلى اليأس ما لم يسرع السيِّد المسيح نفسه إليها، ويسندها بدمه لينطلق بها إلى الحرية. فإن كان سفر الخروج قد أعلن شعور الشعب بالحاجة إلى مخلص، فإنه بعد ذلك أوضح خروجين، هما في الواقع عمل واحد متكامل ومتلاحم: خروج الشعب، وخروج الله نفسه لخلاص الشعب. فإنه لا يقدر الإنسان أن يتحرك نحو الحرية بذاته مادام مكبلاً بقيود العبودية، إنما يحتاج إلى خروج ابن الله إليه.

في هذا السفر ترى الله هو الذي بادر بالحب، وهو الذي أعد موسى كقائد للخلاص، وهو الذي كان يعمل به وفيه، وظل يعمل ويعمل… وبقيت هذه الصورة تتأكد عبر الأجيال، وفي كل العصور. لذا يقول الرب نفسه “خرج الزارع ليزرع”، هو الذي بادر بالخروج ليلقي ببذار محبته فينا. وفي دعوة لاوي يؤكد الإنجيل أن السيِّد المسيح خرج إليه إلى موضع الجباية يدعوه: “اتبعني”، فانحلت قيوده ورباطات قلبه بأموال الجباية وانطلق في الحال يتبعه. أخيرًا فإنه ما كان يمكن للعازر أن يخرج من القبر ما لم يخرج الرب نفسه إليه ويهبه نعمة القيامة والتحرر من رباطات الموت.

  1. الحاجة إلى الدم: كانت الضربة الأولى هي تحويل الماء دمًا، وفي الأخيرة ذبح خروف الفصح، فلا عبور لنا إلى الحياة الأبدية إلاَّ خلال تيار دم السيِّد المسيح.
  2. الميلاد الجديد: بالصليب دُفع ثمن عبورنا، أما بدء العبور فهو دخولنا بالإيمان إلى مياه المعمودية لندفن مع السيِّد المسيح، ونقوم معه في جدة الحياة.
  3. الجهاد المستمر: بعبور الشعب البحر الأحمر لم يجد الشعب نفسه داخل أورشليم، بل في بداية طريق البرية التي يسير فيها أربعين عامًا، في القفر يحارب عماليق (شهوات الجسد)، ليكتشف في الطريق وجود الله الدائم معه، سندًا له وشبعًا لكل احتياجاته.

أقسام السفر:

من جهة الموضوعات يمكننا تقسيم السفر إلى قسمين متكاملين:

  1. الخلاص                          [ص 1-18].
  2. الشريعة والعبادة                   [ص 19-40].

ويمكننا أيضًا تقسيم السفر حسب المواضع التي تمت فيها الأحداث الواردة فيه:

  1. في مصر                          [1: 1-12: 36].
  2. من مصر إلى سيناء               [12: 37-19: 2].
  3. في سيناء                          [19: 3- ص 40].

هذه الأقسام الثلاثة تمثل جوانب ثلاث في حياة المؤمن، ففي مصر يشعر الإنسان بالحاجة إلى الخلاص الإلهي. وفي الطريق من مصر إلى سيناء يتدرب الإنسان على الطاعة الكاملة لله. وفي سيناء يتمتع الإنسان بقبول الوصية وينعم بالعبادة الروحية (الخيمة). وكأن هذا السفر ربط في حياة المؤمن بين “الإيمان والأعمال (الطاعة) والعبادة مع الوصية”. هذا الثالوث يمثل وحدة واحدة، يسند كل منها الآخر، ويُكمله حتى يعبر بالمؤمن إلى أورشليم العليا.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى