تفسير سفر الخروج ١٥ للقس أنطونيوس فكري
الإصحاح الخامس عشر
لم نسمع من الشعب قبل العبور سوى الصراخ والأنين والشكوى. ولكنهم سبحوا فوراً عقب خروجهم للحرية، سبحوا في فرح لخلاصهم من العبودية. والنفس التي مازالت مستعبدة للخطية بالقطع لا تستطيع التسبيح أما من تحرر من الخطية فلا يستطيع أن يكف عن التسبيح لذلك يقول المزمور (137) “على أنهار بابل (حيث كان الشعب في السبي) هناك بكينا على الصفصاف علقنا أعوادنا.. كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة“
وهذه أول ترنيمة في الكتاب المقدس وقد كتبها موسى بالتأكيد فهي تشبه أشعار المصريين فالله يستغل إمكانيات أولاده ومواهبهم. وهنا الله استغل ثقافة موسى وترمز هذه التسبحة لتسبحة المفديين في السماء، إذ خلصهم الله وعبر بهم من العالم إلى السماء (رؤ3:15) لهذ1 وضعتها الكنيسة في التسبحة اليومية بكونها الهوس الأول وكلمة هوس تعني تسبحة، لتؤكد لأولادها ضرورة التسبيح لله وتقديم الشكر المستمر من أجل عمله الخلاصي معنا. وكنيستنا تهتم بالتراتيل والتسابيح والمزامير والألحان وتعلمنا ذلك لنشكر الله على أعماله العظيمة معنا. فعلينا أن نسبح الله إذا حصلنا على أي نعمة، ونسبحه فوراً كما فعل الشعب إذ سبحوا الله حالما خرجوا، لنسبحه قبل أن نفتر وننسى.
(آية1): “حينئذ رنم موسى وبنو إسرائيل هذه التسبيحة للرب وقالوا أرنم للرب فانه قد تعظم الفرس وراكبه طرحهما في البحر.”
آرنم للرب= فالرب هو موضوع تسبيح موسى. فهو مصدر قوته (آية2). ومن شعر أن الرب قوته لابد وأن يكون الرب تسبحته ونشيده. ومن شعر أن الرب خلاصه فلابد أن يعظم اسمه= فإنه قد تعظم. وموسى شعر أن الرب خلاصه ونجاته لذلك هو يعبده ويسبحه إذ هو إلهه وإله آبائه (آية2). وعظمته ظهرت في أعماله. ومن الذي يرنم؟ هو الشعب المفدي الذي اعتمد في البحر. والآن من الذي يسبح؟ الشعب المفدي بدم المسيحي والمعمد والتائب (فالتوبة معمودية ثانية). ونحن بالمعمودية إذ ندفن مع مسيحنا المصلوب ونقوم معه في جدة الحياة ينفتح لساننا الداخلي لنسبح الرب ونشكره. الفرس وراكبه طرحهما في البحر= ونحن نسبح المسيح الذي تمجد بالصليب حيث داس إبليس وكل قواته، ليعتق الذين سبق فأسرهم. وكان هذا الجزء من الترنيمة هو القرار الذي يردده الشعب مع مريم (راجع آية21).
(آية2): “الرب قوتي ونشيدي وقد صار خلاصي هذا الهي فأمجده إله أبي فارفعه.”
إله أبي= أي أن مراحم الرب من جيل إلى جيل. هي كانت لأبائنا وهي لنا.
(آية3): “الرب رجل الحرب الرب اسمه.”
الرب رجل الحرب= هو الغالب في الحروب التي يثيرها أعداء شعبه وهو قدير في ذلك وهي تشير للإله المتجسد الذي حارب وغلب بالصليب. الرب إسمه= أي يهوه أسمه.
(آية5): “تغطيهم اللجج قد هبطوا في الأعماق كحجر.”
اللجج= الماء الكثير. هبطوا.. كحجر= القديس يكون كسحابة خفيفة فهو يشتاق للسماويات (أش1:19 هذه عن العذراء + عب1:12). أما الأشرار فهم كالرصاص ثقيل ومنجذب لأسفل (زك7:5،8). فالروح يشتهي ضد الجسد والجسد يشتهي ضد الروح فمن يستجيب للروح يصير سماوي ينتمي إلى فوق وأما الجسداني ينتمي إلى أسفل ويغرق والبحر يشير للعالم بخطاياه وأمواجه تشير لاضطراب العالم ومن يستجيب لشهوات جسده يغرق في أمواج هذا العالم ويهلك.
(آية6): “يمينك يا رب معتزة بالقدرة يمينك يا رب تحطم العدو.”
يمينك يا رب= اليمين تشير للقدرة والقوة. معتزة بالقدرة= ممجدة بقدرتها والمسيح هو قوة الله (1كو24:1). إذن الابن هو يمين الرب الذي حطّم العدو بصليبه.
(آية8): “وبريح انفك تراكمت المياه انتصبت المجاري كرابية تجمدت اللجج في قلب البحر.”
بريح انفك= قد تشير للرياح التي شقت البحر ثم جمعته ثانية ليغرق المصريين وريح الأنف تشير للغضب الإلهي على أعدائه. تراكمت المياه= أي وقفت كسد على الجانبين. تجمدت اللجج= وقفت المياه عن الجريان وصارت كجسم صلب.
(آية9): “قال العدو اتبع أدرك اقسم غنيمة تمتلئ منهم نفسي اجرد سيفي تفنيهم يدي.”
قال العدو= هذا كان تصور فرعون حينما وجد الشعب أمام البحر وهو وجيشه من وراء أن الشعب صار في قبضة يده وأنه سيفترس الشعب. وهذا هو تصور إبليس عن المسيح إذ تصور أنه يمسك به على الصليب. وهذا هو تصوره عن الشهداء وعن كل من في ضيقة أنهم سيكونون غنيمة له بسبب ضعفهم. فعمل إبليس هو الإرهاب المستمر حتى يخيفنا لعل أحد يستسلم فيقع في قبضته.
(آية11): “من مثلك بين الآلهة يا رب من مثلك معتزاً في القداسة مخوفاً بالتسابيح صانعاً عجائب.”
من مثلك= ليس لله شبيه في قدرته وحبه وفي طبيعته هو الغير مدرك وغير منظور ولا متغير. معتزاً في القداسة= الرب كلي القداسة وكل الخلائق تمجد قداسته مخوفاً بالتسابيح= أي تسبحه الخليقة في خوف.
(آية12): “تمد يمينك فتبتلعهم الأرض.”
تبتلعهم الأرض= ربما حدث زلزال فتح الأرض وابتلع أعداداً منهم (مز18:77) وهذا حدث بعد ذلك مع قورح وجماعته ولكن المقصود غالباً هو البحر والأرض كناية فالأرض تشمل الماء واليابسة، وقيلت هكذا كنبوة عن عمل المسيح ضد إبليس. والأرض تبتلع كل من وضع رجاؤه فيها ويشتهيها غير ناظر للسماويات.
الآيات (13-18): “ترشد برأفتك الشعب الذي فديته تهديه بقوتك إلى مسكن قدسك. يسمع الشعوب فيرتعدون تأخذ الرعدة سكان فلسطين. حينئذ يندهش أمراء أدوم أقوياء موآب تأخذهم الرجفة يذوب جميع سكان كنعان. تقع عليهم الهيبة والرعب بعظمة ذراعك يصمتون كالحجر حتى يعبر شعبك يا رب حتى يعبر الشعب الذي اقتنيته. تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك المكان الذي صنعته يا رب لسكنك المقدس الذي هيأته يداك يا رب. الرب يملك إلى الدهر والأبد.”
هي نبوة عن عناية الله بشعبه بعد خروجهم من مصر وحتى يصلوا إلى أرض الميعاد مسكن قدسه، أي حيث يسكن الرب في هيكله وسط شعبه. والله هو الذي قادهم برأفته ليس عن استحقاق لهم= ترشد برأفتك. يسمع الشعوب فيرتعدون= (راجع يش9:2-11 + عد21). فهذا حدث فعلاً لكنه نبوة عن فزع مملكة إبليس من عمل المسيح. حتى يعبر الشعب الذي إقتنيته= أي اشتريته فالله اشترانا بفدائه العجيب. وتكرار موسى حتى يعبر شعبك هو إعلان ان غاية العمل هو الخلاص والعبور إلى الأبدية. وربما ترديدها مرتين هو للإعلان عن أن الله سيقبل الأمم مع اليهود (أي أن العبور للشعبين). تغرسهم في جبل ميراثك لقد أقيم الهيكل فعلاً على جبل المريا. والله لا يغرس شعبه في أماكن شريرة وفاسدة بل على جبل أي في السماويات. وعلى جبل يعني أنه على أساس راسخ قوي شامخ. الله يريدنا أن نسكن في الأعالي. وقوله ميراثك لأن الله اقتني الشعب لذاته. المقدس الذي هيأته يداك= هذه تشبه الحكمة بنت بيتها (أم3:9). فهذا الأمر يخص تجسد المسيح، فإن الرب أخذ له جسداً ليس من زرع بشر بل بالروح القدس ومن بطن العذراء. الرب يملك إلى الدهر= عكس فرعون الذي هلك أمامهم.
(آية19): “فان خيل فرعون دخلت بمركباته وفرسانه إلى البحر ورد الرب عليهم ماء البحر وأما بنو إسرائيل فمشوا على اليابسة في وسط البحر.”
وبنو إسرائيل فمشوا على اليابسة وأولاد الله قادرون أن يعيشوا وسط العالم بتقلباته وأمواجه وهم كأنهم على يابسة.
(آية20): “فأخذت مريم النبية أخت هرون الدف بيدها وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص.”
لا نعرف لمريم سوى هذا التسبيح فلم يذكر لها أي عمل آخر في الكتاب. ومن نبوة ميخا (مي4:6) نفهم أن مريم كانت من القادة. وأنه لعمل عظيم أن يقود أحد شعب الله ويعلمه التسبيح. أخت هارون= فموسى تربي في القصر وظلت مريم تدعى أخت هرون طوال فترة غياب موسى في القفر ثم هربه في البرية بالإضافة إلى أن هرون هو الأكبر سناً وأن موسى يميل لإنكار ذاته. بدفوف ورقص= كان الرقص يستخدم في التسبيح وداود رقص أمام تابوت الرب. ولكن هذا بطل لأن الرقص استخدم استخداماً دنيئاً.
الآيات (22-25): “ثم ارتحل موسى بإسرائيل من بحر سوف وخرجوا إلى برية شور فساروا ثلاثة أيام في البرية ولم يجدوا ماء. فجاءوا إلى مارة ولم يقدروا أن يشربوا ماء من مارة لأنه مر لذلك دعي اسمها مارة. فتذمر الشعب على موسى قائلين ماذا نشرب. فصرخ إلى الرب فأراه الرب شجرة فطرحها في الماء فصار الماء عذباً هناك وضع له فريضة وحكما وهناك امتحنه.”
ما أن عبر الشعب وفرح وتهلل حتى بدأت التجارب والآلام، إذ شعروا بالعطش فتذمروا على موسى، إذ وجدوا ماءً مراً لا يقدر أن يرويهم. وأرشد الرب موسى عن شجرة ألقاها في المياه فصارت حلوة. وكان هذا هو أول دروس مدرسة الإيمان وقد فشل الشعب في فهم الدرس أن الله يستطيع كل شئ. كان هذا امتحان= هناك إمتحنه والله لا يمتحن شعبه ليعرف إن كان سيجتاز الإمتحان وينجح أو أنه لن يجتازه فيرسب فالله يعلم مقدماً نتيجة الامتحان. لكن الله كان قد اظهر قوته للشعب في معجزات عديدة والآن فالله يُثَّبِتْ لهم أنه قادر على كل شئ (هذه هي التمارين التي تعطى للطالب ليقوم بحلها بعد أن شرحت له النظرية، ويكون هذا لتثبيت النظرية في ذهن الطالب) والشجرة كانت ترمز للصليب الذي حول مرارة حياتنا إلى عذوبة وعوض ما نحمله من أعمال الإنسان القديم نتمتع بالطبيعة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع.
وإن تعقدت المشاكل أمامنا فلنسبح للمسيح أن يتدخل فيها فيحول ما هو للموت إلى ما هو للحياة وإن عشنا بمنطق الصليب لا يصبح فينا مرار داخلي بل سيكون كل شئ حلو في حياتنا فنحن إن قبلنا أن نحمل الصليب مع المسيح لن نتذمر وتتحول ألامنا إلى عذوبة وتسبيح.
ولنلاحظ أن أول ضربات موسى كانت تحويل الماء إلى دم وأول معجزات البرية تحويل الماء المر إلى ماء عذب وأول معجزات المسيح تحويل الماء إلى خمر (رمز الفرح). وهل يمكن وسط هذا العالم بآلامه أن يكون هناك فرح؟! هذا هو سر الصليب. فمن يقبل أن يحمل الصليب وراء المسيح تتحول حياته إلى عذوبة لأنه سيقبل داخله فرحة القيامة سيكون كل جهاد وتغصب وألم له طعم القيامة. هي حياة الرجاء في الأمور العتيدة ومن إنشغل بالحياة الأبدية فحتى الآلام ستكون لها طعم آخر.
(آية26): “فقال أن كنت تسمع لصوت الرب إلهك وتصنع الحق في عينيه وتصغي إلى وصاياه وتحفظ جميع فرائضه فمرضاً ما مما وضعته على المصريين لا أضع عليك فإني أنا الرب شافيك.”
إن سمعوا لصوت الله يحول لهم مرارة الحياة إلى عذوبة فيقيهم من الأمراض التي ضرب بها المصريين لعنادهم. وإن مرضوا يشفيهم. والله استغل درس تحويل الماء المر إلى ماء عذب ليشرح أنه قادر على تحويل الماء المر في حياتنا أو أي مرارة في حياتنا لعذوبة. هو قادر أن يحميهم ويحمينا من آلام العالم وإن أصابتهم هذه الآلام قادر أن يشفيهم ويشفينا منها. ولكن إن سلكوا بالعصيان فسيعاملهم كما عامل المصريين.
(آية27): “ثم جاءوا إلى ايليم وهناك اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة فنزلوا هناك عند الماء.”
إيليم بها تعزيات كثيرة نخيل وماء كثير. فالله يسمح لنا بأن نعبر من مارة إلى إيليم أي خلال جهادنا في حياتنا ننتقل من فترة آلام إلى فترة تعزيات إستعداداً لفترة آلام أخرى وبعدها تعزيات أخرى وهكذا وفي كل مرحلة ينمو الإيمان تدريجياً. وفترات التعزية هي عربون لأفراح السماء، كما أن إيليم هي عربون لكنعان المتجه إليها الشعب، فهذا النخيل وعيون الماء هي عربون الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. وإن سمح الله ببعض الآلام خلال الرحلة فهذه ليست النهاية بل من المؤكد أن هناك أفراح تعقب الآلام. فهناك إيليم بعد كل مارة. وتشير ال12 عين ماء للإثني عشر تلميذاً والسبعين نخلة للسبعين رسولاً (فالعبور كان من العهد القديم للعهد الجديد) ويشيروا للإثني عشر سبطاً والسبعين شيخاً بمعنى أن الله ملتزم ومتكفل بكل واحد في شعبه يعوله ويشبعه ويعزيه.
سفر الخروج – أصحاح 15
تفاسير أخرى لسفر الخروج أصحاح 15
تفسير خروج 14 | تفسير سفر الخروج القمص أنطونيوس فكري |
تفسير خروج 16 |
تفسير العهد القديم |