تفسير سفر حزقيال ٢٥ للقمص تادرس يعقوب
الباب الرابع
نبوات ضد الأمم لتأديبهم
[ص 25- ص 32]
إذا دخلت أورشليم في الحصار وسقطت تحت التأديب بدأ حزقيال النبي يعلن عن إقامة الملكوت الجديد، الأمر الذي يحتاج أولاً إلى تحطيم الشر، فجاءت النبوات ضد الأمم الغريبة الشامتة في الشعب رمزًا لتحطيم قوى عدو الخير إبليس للدخول في الإصلاح الحقيقي في العصر المسياني، وعودة البشرية من سبي الخطيئة، وكأن الإصلاح يتحقق بواسطة جانبين متلازمين ومتكاملين: هدم مملكة الشر، وإقامة مملكة الله.
هذا ما رأيناه في دراستنا لليتورجيات الخاصة بالمعمودية[214]، فقد ظهر الخط واضحًا في جحد الشيطان وطرد قوى الشر من جانب وقبول مملكة المسيح من جانب آخر. وكأن طالب العماد، لكي يُقبل في الجيش الروحي للخلاص، يلتزم باعتزاله جيش إبليس. لهذا يقول الأب ثيؤدور المصيصي لطالبي العماد: [مادام الشيطان الذي أطعتموه مرة خلال رأس جنسكم (آدم) هو علة كل الشرور التي تلحق بكم لهذا يجب أن تتعهدوا بتركه[215]]، [الآن قد أُخْتِيرت لملكوت السموات، ويمكن التعرف عليك، إن فحصك أحد يجدك جنديًا عند ملك السماء[216]].
عددهم الرمزي:
لاحظ القديس جيروم في تفسيره للمزامير أن عدد الشعوب المقاومة في العهد القديم كما وردت في (مز 83) أحد عشر وليس اثنى عشر. فإنهم وإن كانوا أقوياء ومعاندين لكنهم لم يبلغوا رقم الكمال (12) الذي يشير لملكوت الله على الأرض… يبدو العدو قويًا لكننا متى تسلحنا بالله نفسه يضعف للغاية. لهذا إذ صرخ المرتل قائلاً: “اللهم لا تصمت لا تسكت ولا تهدأ يا الله، فهوذا أعداؤك يعجبون ومبغضوك قد رفعوا الرأس” (مز 83: 1-2) يعود فيقول: “يا إلهي اجعلهم مثل الجل، مثل القش أمام الريح، كنار تحرق الوعر، كلهيب يشعل الجبال، هكذا اطردهم بعاصفتك وبزوبعتك روعهم. املأ وجوههم خزيًا فيطلبوا اسمك يا رب. ليخزوا ويرتاعوا إلى الأبد، وليخجلوا ويبيدوا” (مز 83: 13-17).
لهذا كان القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا ما يؤكد أن الشيطان وإن تظاهر بسلطان عظيم لكنه بلا سلطان علينا، إنما يخدعنا ويضللنا. والخطيئة وإن كان قتلاها أقوياء، لكنها في حقيقتها ضعيفة وعاجزة إن رفضناها. بخوفنا نسقط تحت أسر الشيطان ونقبل الخطيئة في داخلنا فنصير تحت ذلها.
غير أن الأمم التي تنبأ ضدهم حزقيال هم سبعة إشارة إلى تحطيم كل قوى الشر، لأن رقم 7 يشير إلى الكمال، فلا يكون لها مجال في ملكوت الله. كما يلاحظ أنه لم يذكر بابل ضمن هذه الأمم الغريبة ربما لأنها هي الأداة التأديبية التي يستخدمها الله.
أخيرًا فإن حزقيال لم ينفرد وحده بهذه النبوات بل أعلنها أيضًا إرميا (46-51) وإشعياء(13-23) وعاموس (1، 2) وصفنيا (2: 4-15).
الأصحاح الخامس والعشرون
نبوات ضد أربع أمم شامته
إن كانت إسرائيل في العهد القديم تشير إلى شعب الله فإن الأمم المعادية لها كانت في القديم رمزًا للشر والخطيئة، لهذا فإن كان الله قد أعلن تأديبه لشعبه في أحاديث طويلة وبطرق متنوعة، لكنه يعود فيعلن تحطيمه للشر من خلال هذه الرموز. وقد بدأ بالأعداء الأربعة الذين ترجع عدواتهم للشعب إلى ما قبل قيام المملكة، وإن كانت العداوة تزايدت على مر الأيام، هؤلاء الأعداء هم: بنو عمون، موآب، أدوم، الفلسطينيون.
- نبوات ضد بني عمون [1-7].
- نبوات ضد موآب [8-11].
- نبوات ضد آدوم [12-14].
- نبوات ضد الفلسطينين [15-17].
- نبوات ضد بني عمون:
بنو عمون من نسل بني عمِّي[217]، ابن لوط (تك 19: 38). كانوا قساة القلوب، يقدمون أولادهم ذبائح للإله مَلْكوم (1 مل 11: 5-33)، كما كانوا يعبدون كموش إله الموآبيين في أيام يفتاح (قض 11: 24). تحالفوا مع بني موآب ضد بني إسرائيل، لذلك حكم الله عليهم ألا يدخل منهم أحد في جماعة الرب حتى الجيل العاشر (تث 23: 3).
كانوا في حرب دائمة معهم (1 صم 11: 1-10، 2 صم 12: 26-31، 2 أي 20: 1، 2 مل 24: 2). وحينما سقطت يهوذا تحت السبي البابلي أقام ملك بابل جدليا في أورشليم حاكمًا من قبله فصار يجمع البقية الباقية من اليهود، فأرسل بعليس ملك بني عمون إسماعيل بن نثنيا وقتله ليُشتت اليهود (إر 40، 41)، وكانوا دائمًا يسخرون باليهود ويهزأون بهم في سبيهم لهذا هددهم إرميا النبي بالدمار (49: 1-6)، وعاموس (2: 13-15) وصفنيا (2: 8، 11). وقد عارضوا نحميا في بناء السور بعد السبي (نح 4: 3، 7). أخيرًا حاربهم اليهود في عهد المكابيين وانتهى تاريخهم بالتدريج في العهد اليوناني والعهد الروماني، وأقيمت مدينة عمان على بقايا عاصمتهم ربة عمون.
لقد طلب الرب من حزقيال النبي أن يجعل وجهه ضد بني عمون ويتنبأ عليهم [2]، وكأنه يمثل الله إذ “وجه الرب ضد عاملي الشر ليقطع من الأرض ذكرهم” (مز 34: 16). فإن كان الرب قد أعلن تأديباته ضد إسرائيل إنما لتوبتهم، أما بنو عمون وهم يمثلون خطية الكبرياء فإن الله يوجه وجهه ضدها ليبيدها.
يمثل بنو عمون خطية الكبرياء، التي هي أولى الرذائل، إذ يقول: “من أجل أنك قلت هه على مقدسي… من أجل أنك صفقت بيديك وخبطت برجليك وفرحت بكل إهانتك للموت على أرض إسرائيل…” [3-6]. لقد وقفت في عجرفة تتفاخر على مقدس الرب، وتهلل بيديها وتخبط برجليها وتفرح بما حلّ بأورشليم، الأمور التي لم يَرَها حزقيال إذ كان في أرض السبي لكن الرب كشفها له. لهذا يذلها الرب ويسلمها لبني المشرق [4] يستغلون كل إمكانياتها ويجعلون عاصمتها “ربة” مناخًا للإبل وكل مدنها مربضًا للغنم [5].
في كبرياء شمتت في خراب يهوذا وبليتها ولم تعلم أنه بعد خمس سنوات يعود نبوخذنصَّر ويهاجمها ويخرب عاصمتها المدينة الجميلة الغنية “ربة”[218] فتصير خرابًا وتأتي القبائل من شرق عمون: قبائل الآراميين Aramaean والعربية وتستخدمها مناخًا (اصطبلاً) للإبل وتتحول مدنها إلى مربض للأغنام.
حينما يتعالى الإنسان بالكبرياء يسقط، فيصير بهاؤه خرابًا، ويصير قلبه مرعى للحيوانات: “تربض في وسطها القطعان كل طوائف الحيوان” (صف 2: 14). يتحول الإنسان من إنسانيته الرقيقة التي خلق بها على صورة الله ومثاله إلى الحيوانية المفترسة غير العاقلة. هذا ما فعلته الكبرياء بالملك بلطشاصَّر، طُرد من بين الناس وصار مسكنه مع حيوان البر وطعامه العشب كالثيران (دا 4: 25). لهذا كان الآباء الكنسيون يهتمون جدًا بالتمتع بروح الاتضاع والهروب من الكبرياء، حتى قال أحدهم: “لا تسكن في موضع له اسم، ولا تجالس إنسانًا عظيم الاسم”[219]. كما قال القديس باسيليوس الكبير: [إن أردت أن تكون معروفًا عند الله فاحرص ألا تكون معروفًا عند الناس[220]]. وقال الأنبا تيموثاوس: [إذا كرَّمك الناس فخف جدًا… اهرب من كرامة الكثيرين، لئلا يغرقوا مركبك[221]].
- نبوات ضد موآب:
أن كان بنو عمون هم نسل بني عمى ابن لوط من ابنته الصغرى، فإن موآب هو الابن الذي من ابنته الكبرى، وقد دعي هكذا لأن أمه أنجبته من أبيها لوط فدُعِىَ موآب أي “من الأب” أنجبته من أبيها وهو في حالة سكر وعدم وعي. هذا ما دعى القديس جيروم أن يعتبر موآب يشير إلى الشيطان والخارجين عن الله أبيهم، الذين لا يفكرون في أبيهم[222].
امتدت ذرية موآب في شرقي بحر لوط وطردوا الإيميين من هناك (تث 2: 11)، وعبدوا الإله كموش. كانت علاقتهم بالعبرانيين أحيانًا طيبة، فقد أوصى الله العبرانيين ألا يأخذوا أرضهم (تث 2: 11)، لكن غالبية الوقت كانت العلاقة عدائية، ففي أيام القضاة أخضع الموآبيون العبرانيين ووضعوا عليهم جزية إلى أن قتل أهود عجلون ملك موآب (قض 3: 12-30)، وكانت راعوث الفتاة المحبة لحماتها موآبية.
حارب شاول الملك الموآبيين، وحينما هرب داود من أمام وجهه جعل والديه تحت حمايتهم (1 صم 22: 3-4)، لكنه إذ صار ملكًا ضربهم بشدة (2 صم 8: 2) وجعلهم عبيدًا له. وبعد موت سليمان صارت موآب جزءًا من المملكة الشمالية، وفي مُلك يهوشفاط هجموا على اليهودية لكنهم انهزموا أمامها (2 مل 3)، وبعد ذلك صارت موآب تارة خاضعة وأخرى مستقلة. وفي أيام الملك يهوياقيم حالفت موآب الكلدانيين ضد يهوذا (2 مل 24: 2).
في نبوته ضد موآب ربط بها سعير [8] مركز الأدوميين لاتحادهما في الشر. ويلاحظ أن كلمة “سعير” عبرية تعني “كثرة الشعر”، أطلقت على الأرض التي استولى عليها عيسو أو أدوم ونسله من الحوريين (تك 32: 3)، وكانت تسمى جبل سعير لأنها منطقة جبلية، تقع على الجانب الشرقي من البرية العربية، وهى جبل سعير الذي في أرض يهوذا (يش 15: 10).
إن كانت دولة بني عمون تشير إلى خطيئة الكبرياء، فإن موآب تشير إلى “روح عدم التمييز”، فقد ظنت أنه لا فرق بين الله الحيّ والإلهة الوثنية، وحسبت بهلاك يهوذا وتدمير أورشليم أنه لا خلاص للشعب مرة أخرى: “يقولون هوذا بيت يهوذا مثل كل الأمم” [8]. لهذا يؤدبهم الرب بفتح مدنهم الحصينة التي على الحدود “بيت بشيموت[223] وبعل معون[224] وقريتايم[225]” التي هي سر قوتهم ليُحطمها الكلدانيون ويتركوها خرابًا فيأتي بنو المشرق ويستخدمونها للحيوانات كما يفعلون ببني عمون.
إن كان بنو عمون قد فقدوا حياتهم بسبب كبريائهم. هكذا يفقد بنو موآب حياتهم بسبب عدم التمييز أو الإفراز. وكما يقول القديس مار إفرام السرياني: [وبغير طين لا يُبنى البرج، بغير معرفة لا تقوم فضيلة[226]].
- نبوات ضد آدوم:
“آدوم” معناها “أحمر” أو “دموي (سافك دم)”، كما تعني “من الأرض”[227] لهذا يشير بنو آدوم إلى سفك الدم أو خطيئة الظلم.
“آدوم” هو لقب عيسو الذي كان عنيفًا يحمل عداوة ضد أخيه يعقوب، أُطلق هذا الاسم على الإقليم الذي يسكنه عيسو، أي على أرض سعير (تك 32: 3)، وهو إقليم جبلي وعر، استولى عليه عيسو ونسله بعد طردهم الحوريين (تث 2: 12). لم يأذنوا للعبرانيين أن يعبروا في أرضهم بعد خروجهم من مصر (عد 20: 14-41)، وإن كانوا يُعتبرون إخوة لهم (تث 23: 7-8). غزا داود آدوم وأقام عليها حراسًا (عد 24: 18)، فهرب هدد – أحد أمراء آدوم – إلى مصر وصار خصمًا لسليمان (1 مل 11: 14-22). في أيام يهوشفاط غزا الأدوميون والعمّونيون والموآبيون يهوذا لكنهم عادوا يحاربون بعضهم البعض (2 أي 1: 20، 22، 23). وقد عاون الأدوميون إسرائيل ويهوذا في حربهم ضد ميشع ملك موآب (2 مل 3: 4-27) لكنهم ثاروا في أيام حكم يورام بن يهوشفاط فقهرهم، لكنه لم يقدر أن يخضعهم (2 مل 8: 20، 1 أي 21: 8-10). وقتل أمصيا عشرة آلاف من الأدوميين إذ طوح بهم من فوق قمة الصخرة فقتلهم في وادي الملح وأخذ منهم سالع[228] عاصمتهم (2 مل 14: 7، 2 أي 25: 11-12). غزا الأدوميون سبط يهوذا، وأخذوا منهم أسرى في أثناء حكم آحاز… وقد ابتهجوا عند تخريب نبوخذنصَّر أورشليم (مز 137: 7). كما استولوا عليها حتى مدينة حبرون. وقد تنبأ الأنبياء ضدها بسبب عدائها الشديد لإسرائيل، كما تنبأوا بإدماجها ضمن ملكوت الله (إر 49: 7-22، مرا 4: 21-22، يؤ 3: 19 الخ). وفي القرن الخامس ق.م طردهم الأنباط من جبل سعير، وفي القرن الثاني ق.م استولى يهوذا المكابي على حبرون وغيرها من المدن التي استولى عليها الأدوميون (1 مكابيون 5)، وقد أرغم يوحنا هركالوس الأدوميين على الاختتان وأدخلهم ضمن جماعة اليهود[229]، وكان هيرودوس الكبير أدوميًا.
إن كانت أدوم تشير إلى خطيئة الظلم وسفك الدم، فإنه بالكيل الذي به تكيل يكال لها. هي انتقمت لهذا يقول الرب “أمد يدي على أدوم وأقطع منها الإنسان والحيوان” [13]. ومن يقتل بالسيف فبالسيف يقتل. إنه صيِّرها خرابا من التيمن[230] في الشمال إلى دوان[231] في الجنوب حيث يسقطون بالسيف.
- نبوات ضد الفلسطينيين:
كان الفلسطينيون في العهد القديم يمثلون عداوة شديدة لشعب الله، ويفسر القديس جيروم اسمهم “موت بسبب جرعة سامة” لذلك كانوا في رأيه يمثلون الذين يشربون كأس غواية الشيطان فيسقطون سريعًا[232]، إنهم انتقموا من يهوذا مثل بني آدوم، ولعل الأخيرون قد أغووهم على ذلك. على أيه الأحوال هزمهم نبوخذنصَّر بعد سقوط أورشليم بوقت ليس بطويل.
استئصاله الكريتيين، ربما قصد بهم جماعة فلسطينية كانوا قد قدموا من جزيرة كريت في الربع الأول من القرن الثاني عشر ق.م.
العداوة بين العبرانيين والفلسطينيين قديمة من بعد دخول الأولين أرض الموعد حيث احتلوا بعض مدنهم بعد موت يشوع (قض 1: 18)، لكن الفلسطينيون استردوا مدنهم وسقط العبرانيون في قبضتهم (قض 10: 6-7)، ثم أُنقذوا. عاد الفلسطينون فأذلوا العبرانيين أربعين سنة حتى أنقذهم شمشون (قض 14-16). وفي عهد صموئيل النبي استولوا على تابوت العهد (1 صم 4-6) ثم عاد فهزمهم صموئيل بعد عشرين عامًا… ودخلوا في حرب مع العبرانيين أيام شاول الملك، والتجأ إليهم داود الملك مرتين، ولما ملك حاربهم. وبعد موت داود لم نسمع عنهم كثيرًا…
من وحي حزقيال 25
حطم يا رب فساد الأمم فيّ!
v إني أعلم حبك لكل بني البشر، لجميع الأمم!
ما تنبأ عنه أنبياؤك إنما لتحطيم الشر الذي فيّ!
من هم بنو عمون إلا الكبرياء الذي يحدر نفسي؟!
من هم بنو موآب إلا رفضي أبوتك وانتسابي إلى أب آخر؟!
من هم الأدوميون إلا طبيعتي العنيفة سافكة الدماء؟!
من هم الفلسطينيون القدامى إلا الارتباك الداخلي؟!
حطم يا رب فسادي لكي أتقدس لك!
انزع كبريائي فأنعم باتضاعك!
ردني إلى أبوتك فأترك أبوة إبليس!
جدد قلبي الحجري فيترفق بكل أحد!
انزع كل ارتباك في داخلي لأحمل سلامك الأبدي!