تفسير سفر حزقيال ٢٩ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح التاسع والعشرون
نبوات ضد فرعون مصر
الأصحاحات الأربعة (29-32):
ترك النبي فرعون مصر في النهاية ليفرد أربع أصحاحات يقدم فيها نبوات ومراثي عن فرعون مصر في تشبيهات كثيرة وبتوسع لسببين: الأول أن مصر في ذلك الحين كانت صاحبة سلطان ضخم، فالنبوة ضد فرعون مصر تحمل نبوة ضد العالم الوثني بأجمعه. والثاني أن يهوذا اتكل على فرعون مصر لينقذه من يديْ ملك بابل فتحطم، فصار فرعون مصر رمزًا للاتكال على الذراع البشري عوض التوبة والرجوع إلى الله.
في الأصحاح 29 تحدث عن خطية فرعون مصر “الكبرياء”.
في الأصحاح 30 تنبأ ضد فرعون مصر بانهزامه أمام بابل.
في الأصحاح 31 شبه فرعون مصر بالأرز المتشامخ يقطع ويطرح في الهاوية.
وفي الأصحاح 32 قدم مرثاة على فرعون، التمساح الذي أهلكه ملك بابل .
تحدث الأصحاح التاسع والعشرون عن:
- فرعون التمساح الكبير [1-7].
- تأديب مؤقت [8-12].
- عودة وإصلاح لمصر [13-16].
- تسليمه لملك بابل [17-21].
- فرعون التمساح الكبير:
يحدد حزقيال النبي هذه النبوة بالسنة العاشرة من السبي، حيث قدم فرعون بجيوشه نحو أورشليم ليخلصها من الحصار. لم يسمع رجال يهوذا لتحذيرات إرميا ولا حزقيال، واتكاؤا على فرعون ضد بابل، وقاموا بثورة ضد بابل، وخرج فرعون مصر ينقذهم من بابل… الأمر الذي أدَّى إلى تدمير المدينة فيما بعد وقتل الكثيرين.
لقد قدم الله التشبيه المناسب، إذ كانت صور جزيرة غنية بتجارتها، معتزة بتجارها، شبهها بالسفينة الثمينة بمواد بنائها وشحنتها، والكاملة في طاقمها وحراسها، أما فرعون مصر فيعتمد مع رجاله على نيل مصر الذي جعل مصر خصبة، لهذا شبهه بالتمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره [3] فقد اشتهر نهر النيل بالتماسيح.
دعا الله فرعون “التمساح الكبير” ربما لأن المصريين قد عبدوا التماسيح فصاروا تماسيح، ودعي ملكهم “التمساح الكبير”. من يعبد الحجارة يصير حجرًا، ومن يعبد الباطل يصير باطلاً، ومن يعبد الله الحق يصير “حقًا” ويتمتع بشركة الطبيعة الإلهية.
خطيئة صور هي استغلالها سقوط يهوذا واغتنامها بطمع هذه الفرصة، أما خطيئة فرعون فهي الكبرياء، إذ كان بجيشه القوي يظن أنه قادر أن يفعل كل شيء، “الذي قال: نهري لي وأنا عملته لنفسي” [3]. يقال إنه قصد به فرعون خفرع الذي افتخر بأمرين أنه صانع بيديه ما هو فيه من قوة وأمان، وأن هذا إنما لأجله هو. لقد أقام “الأنا” إلهًا، هي الصانعة للنهر سر خصوبة مصر وعظمتها، ولأجل نفسها صنعت ذلك. يروى المؤرخ هيرودت عن هذا الملك أنه ملك في رخاء عظيم لمدة خمسة وعشرون عامًا وقد ارتفع قلبه بسبب نجاحه قائلاً إن الله نفسه لا يقدر أن ينزعه من مملكته. تحدث إرميا النبي عن هذا الكبرياء هكذا: “من هذا الصاعد كالنيل كأنهار تتلاطم مياهها؟! تصعد مصر كالنيل وكأنهار تتلاطم المياه، فيقول أصعد وأغطى الأرض، أهلك المدينة والساكنين فيها” (إر 46: 7-8).
ماذا يفعل الله مع هذا التمساح المتكبر الذي يظن أنه خالق النهر لحساب ذاته؟!
يقول: “أجعل خزائم في فكيكَ،
وألزق سمك أنهارك بحرشفك، وأُطلعك من وسط أنهارك، وكل سمك أنهارك ملصق بحرشفك.
وأترك في البرية أنت وجميع سمك أنهارك.
على وجه الحقل تسقط فلا تجمع ولا تُلمّ.
بذلتك طعامًا لوحوش البرية ولطيور السماء” [4-5].
إذ ظن بكبرياء قلبه أن ما فيه من قوة ورخاء إنما هو صنعة يديه، لهذا يحرمه من هذه النعم، ويطرده من وسط أنهاره، ليموت كما تموت السمكة خارج المياه. وإذ ظن أن كل شيء إنما خلق لخدمة ذاته، يعمل الكل لخدمته لحسابه، لهذا يُلقى في البرية، يموت وليس من يسأل عنه ولا من يدفنه، يصير فريسة لوحوش البرية وطعامًا لطيور السماء! وإذ جمع حوله الكثيرين يحتمون به أو يحاربون معه يصيرون كالسمك الملتصق بحراشيفه، سواء كانوا أممًا أو قوادًا، أو مركبات أو جيشًا، ينالون نفس مصيره. هكذا يفقده الكبرياء خيراته وكرامته بل وحياته، ويذل حتى الملتصقين به المتكلين عليه. وقد قيل إن فرعون هذا خرج ليُحارب أهل القيروان الذين طردوا صديقه أريكيوس Aricius ملك ليبيا، ويرده إلى ملكه، لكن المصريين ثاروا عليه في غيبته فلم يعد هو ولا قواده إلى مملكته وألقى في البرية معهم.
هذا هو عمل الكبرياء في حياة واحد ينتسب إلى أكبر طغمة سمائية (إبليس) الذي فقد بكبريائه السماء ليسقط إلى الهاوية، وعوض الصداقة الإلهية دخل في العداوة مع الله، وعوض المجد السماوي دخل إلى الذل الدائم، تحطم وحطم معه كثيرين من ملائكته وأيضًا من البشريين! بذات الداء، سقط أبوانا الأولان من الفردوس وحُرما من الوجود الدائم في الحضرة الإلهية وورَّثا نسليهما كل تعب وشقاء! لقد طُردنا من نهر الحياة، وألقينا في برية هذه الحياة لنموت روحيًا ونصير غنيمة لكل وحوش البرية (شيطان الظلم والقسوة) وطيور السماء (شيطان الكبرياء).
عاد ليشبه فرعون مصر بعكاز قصب لبيت إسرائيل [6]، فهو كالعصا لكنها من القصب (البوص) إذ يتكئ عليها الإنسان تنكسر، أما المتكئ عليها فيتمزق كتفه ويضعف. عوض أن تسنده تحطم طاقاته، كقول إشعياء النبي: “فإن مصر تعين باطلاً وعبثًا لذلك دعوتها رهب الجلوس” (إش 30: 7) لقد شجع فرعون مصر صدقيا الملك ليثور ضد بابل ويخون العهد ويحنث بالقسم، فضاع حزقيا وتحطمت أورشليم وكل مدن يهوذا وانهزم فرعزن.
ومما يُلاحظ هنا أن تأديب فرعون والسمك الملتصق بحراشيفه كان بتركهم يموتون في البرية لتأكلهم وحوش البرية وطيور السماء، هذه أبشع ميته يكرهها المصريون الذين كانوا يخافون على الجثمان، وبنوا السراديب لحفظها حتى متى عادت الروح تلبس جسمها مرة أخرى.
- تأديب مؤقت:
ظن فرعون في كبرياء قلبه أنه صانع النهر العظيم، وأنه المدافع عن الأمم المحيطة به، فإذا بالرب يجلب عليه سيفًا فيستأصل الإنسان والحيوان. بالكبرياء يفقد الإنسان إنسانيته “حياته الفكرية”، وأيضًا حيوانيته “حياته الأرضية”، يفقد ما هو للعقل والجسد معًا. أما حدود هذه الخسارة فهي خسارة كاملة ممتدة من الشمال “مجدل” إلى الجنوب
“أسوان” على حدود كوش.
“مجدل migdol” اسم سامي معناه “برج”، غالبًا مدينة محصنة على تخوم مصر الشمالية الشرقية تجاه فلسطين، حاليًا تل الهير Tell-el-Her، تبعد 12 ميلاً غرب البلسم. وهي على الطريق الذي عبر منه اليهود أثناء خروجهم من مصر.
أسوان، كانت بالمصرية Sewen، على الضفة الشرقية من النهر على الحدود الجنوبية لمصر. يُقابلها من الجانب الآخر “جزيرة الفيلة”. كانت مصدرًا للجرانيت لإقامة التماثيل المصرية، كما كانت مركز دفاع قويًا على الحدود الجنوبية.
أما كوش، فغالبًا ما يقصد بها “أثيويبا” أو “الحبشة” وهنا يقصد بها بلاد النوبة.
إذن تأديب فرعون مصر تأديب شامل، فتصير أرضه خرابًا لا يسكنها إنسان أو حيوان، ممتد من أقصي الجنوب، لكنه في نفس الوقت مؤقت ولمده محددة (40 عامًا)، على عكس بقية الأمم إذ صدر الأمر أن يكون التأديب أبديًا. إنه يشتت المصريين ويبددهم إلى حين، ربما كان هذا إشارة إلى ما تحمله مصر في قلب الله من دالة بعد قبولها الإيمان بالسيد المسيح، إذ يقول في إشعياء النبي: “هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر… فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا يوفون به” (إش 19).
إنها تقضي أيام وثنيتها كمن هي في البرية تائهة لتعود إلى الإيمان بالله مخلصها وتتعبد له.
- عودة وإصلاح لمصر:
لقد أعطى الرب لفرعون مصر درسًا هذا الذي أثار ملك يهوذا وجعله لا يسمع لصوت الأنبياء، فبدلاً من أن يسنده صار هو وشعبه مشتتًا أربعين عامًا، ثم أعاد مملكة مصر إلى أرض فتروس Pathros [14]، وهي كلمة مصرية تعني “أرض الجنوب”. يقصد بفتروس صعيد مصر، مقابل “مصر السفلى والوسطى”، وقد كان الوجه البحري أو مصر السفلى أكثر شهوة من مصر العليا أو صعيد مصر. ويلاحظ أنه بعد أن أسر نبوخذنصَّر أورشليم استوطن بعض اليهود فتروس (إر 44: 1-2، 15).
كأنه يقصد بعودة المملكة إلى “فتروس” أي ضعفها وعدم إمكانيتها للحرب ومساندة الآخرين، فلا تعود بعد إلى كبريائها، ولا تخدع شعب الله بكونها سندًا لهم ضد بابل.
- تسليمه لملك بابل:
أخيرًا عوض الدفاع عن يهوذا يسقط فرعون مصر في قبضة ملك بابل، يأخذ ثروته ويغتنمه غنيمة وينهبه. يسلمه الرب لملك بابل مجازاة له على ما فعله مع صور. لقد اغتنمت صور أورشليم ونهبتها، فأثار الله بابل ضدها، وإذ حطم صور كافأها بثروة فرعون. لقد هاجم نبوخذ نصَّر مصر في السنة السابعة والثلاثين من ملكه (568-567 ق.م) ونال الكثير منها لكنها لم تصر ضمن مملكته.
أما الموضوع الرئيسي فهو ليس مكافأة ملك بابل الذي أهلك صور الشامتة بأورشليم، إنما ما يشغل ذهن الله أن يقيم قرنًا (أي قوة) لخلاص شعبه [21] ويفتح فم نبيه في وسط الشعب ليعلن عن هذا الخلاص بروح الرجاء والفرح، إذ يقول: “وأجعل لك فتح الفم في وسطهم فيعلمون أني أنا الرب” [21].
من وحي حزقيال 29
نهري لي، أنا عملته لنفسي!
v يعتز فرعون مصر بنهر النيل،
فيحسبه نهره الذي عملته يداه لنفسه!
ما أعجب الإنسان الذي ينسب لنفسه ما هو لإلهه،
عوض الشكر والتسبيح لله خالق العالم لأجله،
يظن في نفسه إلهًا!
v أدَّبت مصر إلى حين،
وأتيت إليها يا مخلص كما بسحابة خفيفة!
حطمت أوثانها وأقمت مذبحك في وسطها!
v لتسرع يا مخلص إلى نفسي!
لتهتز أوثان قلبي أمام حضرتك!
ولتقم مذبحك الإلهي في داخلي!
v انزع عني الجحود وعلمني الشكر!
نهر النيل هو من عمل يديك!
عطاياك أكثر من أن تحصى!
ماذا أرد لك يا رب من أجل كثرة إحساناتك؟!