تفسير سفر حزقيال أصحاح ٣١ للقمص أنطونيوس فكري
الإصحاح الحادى والثلاثون
الآيات 1 – 9 :- و كان في السنة الحادية عشرة في الشهر الثالث في اول الشهر ان كلام الرب كان الي قائلا. يا ابن ادم قل لفرعون ملك مصر و جمهوره من اشبهت في عظمتك. هوذا اعلى الارز في لبنان جميل الاغصان و اغبى الظل و قامته طويلة و كان فرعه بين الغيوم. و قد عظمته المياه و رفعه الغمر انهاره جرت من حول مغرسه و ارسلت جداولها الى كل اشجار الحقل. فلذلك ارتفعت قامته على جميع اشجار الحقل و كثرت اغصانه و طالت فروعه لكثرة المياه اذ نبت. و عششت في اغصانه كل طيور السماء و تحت فروعه ولدت كل حيوان البر و سكن تحت ظله كل الامم العظيمة. فكان جميلا في عظمته و في طول قضبانه لان اصله كان على مياه كثيرة. الارز في جنة الله لم يفقه السرو لم يشبه اغصانه و الدلب لم يكن مثل فروعه كل الاشجار في جنة الله لم تشبهه في حسنه. جعلته جميلا بكثرة قضبانه حتى حسدته كل اشجار عدن التي في جنة الله.
هوذا أعلى الأرز = مترجمه فى (الكتاب المقدس بشواهد) ترجمة أخرى = “هوذا أشور كان أرزاً”. والمقصود إذاً بهذه الأرزة العالية، ملك أشور وذلك لعلو مكانته وسط الملوك. وهذه الترجمة هى نفسها المنصوص عليها فى السبعينية. والدرس الذى يعطيه الله هنا لفرعون أنه كما هلك ملك أشور لكبريائه وسقط، هكذا سيسقط فرعون إن لم يتب عن كبريائه. وكان ملك أشور يفرض سلطانه وحمايته على كل المنطقة. ولقد شبه المثل هنا إمبراطورية أشور بلبنان المملوء أشجاراً، والأشجار هنا هى الملوك الخاضعين لملك أشور وكان ملك أشور يسمى نفسه ملك الملوك، وكذلك ملك بابل يسمى نفسه هكذا حز 26 : 7 + دا 2 : 37 + أش 10 : 8 (الأخيرة عن ملك أشور)، ولأن ملك أشور كان فوق كل الملوك، أسماه هنا أعلى الأرز. فالأرز يشير للملوك (حز 17 : 3) وكل الأرز أى الملوك حوله لم تفقه، بل كانوا بجانبه كأنهم أشجار سرو ودلب وهى أشجار قصيرة بالنسبة للأرز (آية 8). بل كان فى علوه كأن فرعه بين الغيوم وفرض حمايتة على من حوله = أغبى الظل. وكانت خيرات مملكتة وفيرة = قد عظمته المياه. فالأنهار تشير للخيرات الزمنية. وعششت فى أغصانه كل طيور السماء = أى أن كل الملوك حوله إحتموا به، فكان كأنه يظللهم. وكثرت أغصانه = إشارة لإمتداد إمبراطورية أشور. وحسده كل من حوله = حتى حسدته كل أشجار عدن التى فى جنة الله = التشبيه يشير لفرعون، بأن ملك أشور وهو أعظم منه قد هلك، فليحذر هو، فهذا مصير كل متكبر. ولكن هذه الآية الأخيرة والتى تكلمت عن جنة عدن، جنة الله، ربما تشير لأشور كما قلنا وذلك لأن مملكة أشور جغرافياً تحتل مكان جنة عدن. ولكن هذه الآيات السابقة تشير لأبعد من ملك أشور، فالذى خلق فى الجنة هو آدم ولكبريائه سقط. ‘ذاً فهذه المرثاة هى على الإنسان الذى سقط، وحزن الله عليه. فكما حدثنا إصحاح 28 عن سقوط إبليس، وإصحاح 30 عن كسر ذراع إبليس يحدثنا هذا الإصحاح عن سقوط آدم. والله أقام الإنسان كأجمل ما يمكن = جميل الأغصان فهو خلقه على صورته ومثاله، وكان آدم على صورة الله فى المحبة، فالله محبة وأفاض آدم من محبته على الخليقة حوله، وشعرت الحيوانات بمحبته وسلطته فإحتمت به =عششت فى أغصانه كل طيور السماء، وكان سلطانه على كل الخليقة = أغبى الظل. وكان مخلوقاً ينتمى للسماء مترفعاً عن الأرضيات = قامته طويله ولاحظ أن جمال آدم وحواء يوم خُلِقا كان لأنهما كانا ينظران الله وجهاً لوجه. فموسى حين رأى جزء بسيط من مجد الله لمع وجهه خر 20:33-23 + خر 29:34، مع أن موسى لم يرى وجه الله، أما آدم قبل الخطية ما كان شئ يمنعه من أن يرى وجه الله، فكم كان نور وجهه والمجد الذى كان عليه، وكم كان جماله. هذه المرثاة هنا هى على ما فقده آدم من جمال ومجد قامته طويلة = كالأرز أعلى الأشجار وأطولها عمراً أيضاً، إشارة لأن آدم خلق ليكون مخلوقاً سماوياً (أعلى الأشجار) ويحيا للأبد (أطول الأشجار عمراً). وهذه من صفات الله، ألم يكن آدم مخلوقاً على صورة الله. لأن أصله كان على مياه كثيرة = المياه تشير لنعمة الله التى يفيض بها على آدم وبنى آدم. وكانت أكبر نعمة أعطاها الله للإنسان ولا يقاس بجانبها أى شئ آخر هى أن يسكن الروح القدس فى الإنسان. فالمياه رمز للروح القدس. ولكن الإنسان بعد سقوطه حرم من سكنى الروح فيه بسبب خطاياه تك 6 : 3 ولكن بعد المسيح عاد الروح القدس ليسكن عند المؤمنين. ومن جمال آدم والنعم التى حصل عليها حسدته الشياطين = حسدته كل أشجار عدن
فرعه بين الغيوم = يشير للحياة السماوية التى كان آدم يحياها، وفى مجد.
الآيات 10 – 13 :- لذلك هكذا قال السيد الرب من اجل انك ارتفعت قامتك و قد جعل فرعه بين الغيوم و ارتفع قلبه بعلوه. اسلمته الى يد قوي الامم فيفعل به فعلا لشره طردته. و يستاصله الغرباء عتاة الامم و يتركونه فتتساقط قضبانه على الجبال و في جميع الاودية و تنكسر قضبانه عند كل انهار الارض و ينزل عن ظله كل شعوب الارض و يتركونه. على هشيمه تستقر جميع طيور السماء و جميع حيوان البر تكون على قضبانه.
كان الله يشتهى أن يراه عالياً جميلاً، أعلى من الغيوم، ولكنه بكبريائه سقط حين إرتفع قلبه بعلوه. قارن مع الآية 3 فى نفس الإصحاح تجد أن الله هو الذى خلقه وفرعه بين الغيوم = فهذه أرادة الله أن نكون فى منتهى العلو. إذن أين الخطية ؟ هى داخل القلب.. هى أن ننسب جمالنا وقوتنا لأنفسنا وليس لله. خذ مثال لذلك :- ملك عظيم تزوج فتاة من فقراء الشعب وتوجها كملكة فسجد لها عظماء المملكة… ما هو المنتظر منها ؟ من المؤكد أن الملك كان ينتظر منها أن تشعر فى داخلها أنها عظيمة به، وأن عظمتها ليست راجعة إلى نفسها، فإن قالت للملك “أنا عظمتى من نفسى.. ليس مثلى فهى تحزن قلب الملك الذى يحبها إذ فصلت نفسها عنه كسر جمالها وعظمتها ومجدها. وهذا ما حدث بين الله وآدم حين قال له الله لا تأكل من هذه الشجرة التى أكل منها الشيطان قبلك فسقط وهلك. فإن أكلت يا آدم ووقعت فى نفس الغواية وإنفصلت عنى بأن تنسب قوتك وجمالك لنفسك لا لله، تموت، فكل ما أنت فيه من نعمة سببها هوالله، والإنفصال عن الله الحى يعنى الموت. وحتى الآن فنحن نقع فى هذه الغواية، ونفضل أن نتكلم عن أنفسنا ونجاحاتنا وذكائنا ولا ننسب هذا لله، ولذلك يقول يعقوب “لا تضلوا.. كل عطية صالحة وكل موهبة هى من فوق نازلة من عند أبى الأنوار يع 1 : 16، 17” ويقول بولس الرسول وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ 1كو 4 : 7. ومن يعطيه الله موهبة فيفتخر بها ويظن فى نفسه شيئاً، فهو يبدأ طريق السقوط والإنفصال عن الله كما سقط آدم من قبل، لذلك يحذر بولس الرسول قائلاً “إذاً من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط 1كو 10 :12”
وكانت نتيجة كبرياء أشور أن ملك أشور سقط أمام ملك بابل = أسلمته إلى يد قوى الأمم فيفعل به فعلاً = أى يذله. وهذا ما حدث للإنسان فالله أسلمه ليد قوى الأمم أى الشيطان فإستعبده
رو 8 : 20. لشره طردته = طرد ملك أشور من ملكه وطرد الإنسان من الجنة. ويستأصله الغرباء عتاة الأمم = البابليون لأشور، والشياطين لآدم، هذا يحدث حين تتخلى نعمة الله عن الإنسان، وسيفقد الإنسان الصورة الجميلة التى خلقه الله عليها، وسيفقد طبيعته المحبة التى جعلت الحيوانات تتآوى تحته = وتتساقط قضبانه = أى تسقط فروعه على الجبال وفى جميع الأودية = أنظر كم كان الإنسان عالياً، فحين بدأت فروعه تتساقط، تساقطت أولاً على الجبال العالية، ثم كانت النتيجة الطبيعية… إستمرار الإنحدار، فسقطت فروعة فى جميع الأودية. وتنكسر قضبانه عند كل أنهار الأرض = أنهار الأرض غير أنهار الله هذه التى تفرح مدينة الله والتى تشير لعمل الروح القدس (مز 46 : 4). أما أنهار الأرض فهى تشير إلى لذات الأرض التى سينجذب إليها الإنسان بعد سقوطه فيزداد إنكساراً لإزدياد إبتعاده عن الله. والنتيجة الطبيعية أن يتركه كل من كان يحتمى به من شعوب الأرض بالنسبة لملك أشور = ينزل عن ظله أى أن ملك أشور فقد سلطانه على كل الملوك الذى كان هو أعلى منهم. وبالنسبة لآدم فقد سلطانه على كل الحيوانات والطيور الذى سلطه الله عليها يوم خلقه مز 8 : 5 – 8. بل على هشيمه تستقر جميع طيور السماء = فجثث جيش أشور تركت للطيور وجميع حيوان البر تكون على قضبانه = أى ذل وصل إليه الإنسان بعد سقوطه
آية 14 :- لكيلا ترتفع شجرة ما و هي على المياه لقامتها و لا تجعل فرعها بين الغيوم و لا تقوم بلوطاتها في ارتفاعها كل شاربة ماء لانها قد اسلمت جميعا الى الموت الى الارض السفلى في وسط بني ادم مع الهابطين في الجب.
معناها أن الموت صار علاجاً، الموت كان نتيجة للخطية، ولكن الله سمح بهذا (حتى بعد قيامة المسيح وإنتصاره على الموت) حتى لا ينتفخ أى إنسان حصل على نعمة الله = أى شجرة شاربة ماء. فبدون الموت سينتفخ الإنسان ويضع رأسه بين الغيوم، فيهلك أبدياً. الله سلم الإنسان للموت، ليذكر دائماً نهايته فلا يرتفع ولا ينتفخ = قد أسلمت جميعاً إلى الموت إلى الأرض السفلى وسط بنى آدم = إذاً الأشجار كانت كناية عن بنى آدم
آية 15 :- هكذا قال السيد الرب في يوم نزوله الى الهاوية اقمت نوحا كسوت عليه الغمر و منعت انهاره و فنيت المياه الكثيرة و احزنت لبنان عليه و كل اشجار الحقل ذبلت عليه.
فى يوم نزوله للهاوية = ليس المقصود هنا بالهاوية جهنم، ولكن حكم الموت الذى صدر ضد الإنسان. ويا لمحبة الله الذى أقام نوحاً = فقلب الله حَزِن على الإنسان حين مات، لذلك بكى يسوع على قبر لعازر كأنه يود أن يقول لنا “هذه لم تكن إرادتى يا إنسان، بل أنت أخترت هذا الطريق لنفسك” والنتيجة الطبيعية لما وصل إليه الإنسان هى فقدانه لنعمة الروح القدس = فنيت المياه الكثيرة = فخسر ثمار الروح أى الفرح = أحزنت لبنان عليه = أى باقى الشجر وكسوت عليه الغمر = كأن الكل يلبس سواداً. لقد كان إسم الجنة.. عدن أى بهجة، ولكن بعد أن “إختطفت لى قضية الموت” ودخل الموت إلى العالم، فقد العالم الفرح الحقيقى، وحزن الله على ما آل إليه حال الإنسان. ولنتأمل فى محبة الله الذى يحزن على حال البشر “ففى كل ضيقهم تضايق أش 63 : 9 هذه الحالة للطبيعة وللعالم المشبهة هنا هكذا أحزنت لبنان عليه.. كسوت عليه الغمر.. كل أشجار الحقل ذبلت = هى الحالة التى صارت عليها الأرض بعد أن لعنها الله بسبب الخطية تك 3 : 17. ولكن هذه الحالة ستنتهى إذ ستعتق الخليقة من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله رو 8 : 21.
آية 16 :- من صوت سقوطه ارجفت الامم عند انزالي اياه الى الهاوية مع الهابطين في الجب فتتعزى في الارض السفلى كل اشجار عدن مختار لبنان و خياره كل شاربة ماء.
أرجفت الأمم = حين يسقط ملك جبار متعظم مثل ملك أشور يرتجف كل واحد، فإن سقط هذا فالدور القادم علىَ أنا الأضعف منه. ونلاحظ هنا صورة أخرى معاكسة فى الهاوية أى مكان إنتظار الأموات حين يدخل هذا العظيم المتكبر يتعزى الباقين. فهذه الأرزة العالية أصبحت مثلهم. فجنود ملك أشور الذين سبق وماتوا فى المعارك سيجدون أن مصير هذا العظيم مثلهم، وأن الله لم يظلمهم ولم يحابى هذا العظيم لمكانته بل الكل واحد.
آية 17 :- هم ايضا نزلوا الى الهاوية معه الى القتلى بالسيف و زرعه الساكنون تحت ظله في وسط الامم.
كل جنوده وعظمائه، كل من إحتمى به من الصغار، فالموت هو حادثة واحدة تقع لكليهما جا 3 : 19 أى العظيم والحقير، بل حتى للحيوانات.
آية 18 :- من اشبهت في المجد و العظمة هكذا بين اشجار عدن ستحدر مع اشجار عدن الى الارض السفلى و تضطجع بين الغلف مع المقتولين بالسيف هذا فرعون و كل جمهوره يقول السيد الرب
هنا الكلام موجه لفرعون من أشبهت فى المجد = أى حتى لو كنت مثل ملك أشور فى مجده ستحدر معه = أى تموت مثله فى عار = تضجع بين الغلف = هذا عار عند المصريين الذين يهتمون بالختان، والمقتولين بالسيف = بلا دفن، وهذا عار أيضاً عند المصريين الذين يهتمون ببناء المقابر والأهرمات للدفن ومعنى هذه وتلك أنه سيصير فى أدنى الدرجات فى العالم السفلى.
والآيات من 16 – 18 :- موجهة لكل إنسان متكبر، ليذكر النهاية فيتضع، لأن نهاية المتكبر هى عار. ويصبح معنى أرجفت الأمم = أن الله يسمح بميتات صعبة لبعض العظماء والمشاهير حتى نرتجف جميعاً ونتضع فنجد خلاصاً لنفوسنا