تفسير سفر حزقيال ٣٧ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السابع والثلاثون

القيامة من الأموات

إذ يتحدث عن الإصلاح الداخلي من خلال المعمودية المقدسة والتمتع بالقلب الجديد والروح الجديد. ونوالهم الروح القدس في داخلهم التزم أن يحدثهم عن عمل الروح فيهم بكونه “إقامة من الأموات”.

وادي العظام اليابسة     [1-6].

إذ طرد الشعب من وطنه بسبب رجاساته الوثنية وسفكه الدماء تحولت مدنه إلى خراب لا يسكنها أحد، فصارت وكأنها بقعة ملآنة عظامًا كثيرة ويابسة جدًا. صارت أشبه بأرض معركة قتل فيها كل الرجال ولم يوجد من يدفنهم، فصاروا عظامًا كثيرة مبعثرة، لفتحها الشمس وهبَّت عليها الرياح زمانًا طويلاً فجفت جدًا. بمعنى آخر صارت كأنها قبر مفتوح يضم عظامًا بلا حياة! هذه ليست صورة المدن بل بالأحرى هي صورة الشعب نفسه الذي تشتت في مواضع كثيرة بنفس محطمة فصار أشبه بوادي الموت يحوي عظامًا يابسة تحتاج إلى من يقيمها من موتها، ويجمعها من جديد ويهبها الحياة.

هذه الرؤيا في الحقيقة قدمت لنا القيامة من الأموات كعمل إلهي مستمر عبر التاريخ من جوانب متعددة، منها:

أ. قيامة الشعب القديم برده من السبي البابلي مرة أخرى إلى أرض الموعد كمملكة واحدة بقلب واحد جديد…

ب. قيامة النفوس من موت الخطيئة للدخول إلى حياة البر والقداسة، الحياة السماوية الروحية الإلهية، ذلك بفعل كلمة الله المتجسد واهب الحياة.

ج. قيامة كنيسة العهد الجديد من كل الأمم والشعوب، هؤلاء الذين قبلوا الإيمان فأنعم عليهم بالقيامة من الموت إلى الحياة، ليعيشوا عروسًا سماوية، من خلال الكرازة بالإنجيل.

د. قيامة أجساد القديسين في يوم الرب العظيم حيث تتقبل النفوس التي سبق أن تمتعت بالقيامة من خلال إيمانها بالسيد المسيح، الأجساد التي لها، ليبقى الإنسان نفسًا وجسدًا في الأمجاد الأبدية. فقد استخدمت عبارات هذا الأصحاح في الكنيسة الأولى كشهادة عن القيامة. نذكر على سبيل المثال العلامة ترتليان الذي وافق أن هذه النبوة تشير إلى قيامة الشعب من الموت (السبي)، وفي نفس الوقت يرى فيها إعلانًا عن حقيقة الجسد الذي لا يمكن إنكارها[294]. كما يقول القديس أمبروسيوس: [يا لعظمة محبة الرب المترفقة فقد أخذ النبي كشاهد للقيامة المقبلة، فنراها نحن من خلال عينه. إذ لا يمكن أن يؤخذ الكل كشهود عيان، ففي هذا الواحد صرنا نحن شهودًا[295]].

هـ. يرى البعض أن هذا الأصحاح يتنبأ عن قيام إسرائيل وقبولها الإيمان بالسيد المسيح في أواخر الدهور، فيعمل الروح القدس فيهم ويقيمهم من موت عدم الإيمان.

أما بخصوص الرؤيا فقد جاء وصفها يُعبِّر بدقة عن عمل الله في إقامتنا من الأموات. يبدأ الرؤيا بقوله: “كانت عليَّ يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظامًا، وأمرَّني عليها من حولها، وإذا هي كثيرة جدًا على وجه البقعة وإذا هي يابسة جدًا” [1-2]. إن كانت يد الرب – كما سبق أن رأينا – تشير إلى الأقنوم الثاني، ابن الله المتجسد، فكأنه ما كان يمكن لحزقيال النبي أن ينزل إلى البقعة ولا أن يرى العظام اليابسة الكثيرة المبعثرة ولا أن يشاهد القيامة ما لم يمسك السيد المسيح بيده ويقوده بروحه وينزل به إلى البقعة.

إنه عمل السيد المسيح – يد الرب – أن يخرجنا بروح الرب من ذواتنا وينطلق بها أولاً إلى البقعة، فننزل هناك ونرى ما نحن عليه من موت ليعود فيرفعنا إلى بهجة القيامة معه. إنه وعد بإرسال روحه القدوس ليبكت على الخطيئة (يو 16: 8)، هذا الروح الإلهي الذي يفتح بصيرتنا، فنتعرف على موتنا، وعندئذ نتقبل القيامة فينا.

بمعنى آخر لو أن حزقيالنا الداخلي أراد أن ينزل بنفسه إلى البقعة لما استطاع أن يخرج من “الأنا”، لأن هذا هو عمل روح الرب أن يخرجه ليرى بمنظار الرب لا بالمنظار البشرى القاتم. ولو أنه نزل واكتشف الموت لتحطم تمامًا، لأنه ما كان يمكنه أن يلمس القيامة ويختبرها إلا من خلال السيد المسيح نفسه القائم من الأموات. لهذا يميز الآباء القديسون بين التوبة الصادقة والندامة البشرية، الأولى هي ثمر الروح الإلهي الذي يملأ النفس عزاءًا ورجاء في أمر لحظات التوبة ووسط الدموع، أما الندامة البشرية فتدفع إلى اليأس كما حدث مع يهوذا حين بكَّته ضميره دون الالتجاء إلى المخلص وطلب عمل روح الرب فيه.

عودة الحياة للعظام      [7-10].

إذ تنبأ حزقيال النبي كما أمره الرب صار صوت فرعش وعندئذ تقاربت العظام، كل عظم إلى عظمه [7]. لعل الصوت يشير إلى “كلمة الله” أو الصوت الإلهي الذي يهب الحياة والقيامة، أما الرعش فيشير إلى تدخل روح الله. أما تقارب العظام كل عظم إلى عظمه فيتم بخطة إلهية دقيقة، فيه إشارة إلى تجميع الشعب اليهودي من الشتات وضم أفراد كل سبط معًا. وفيه أيضًا إعلان عن تكامل جسد المسيح الذي هو الكنيسة التي تجمعت من كل جنس ولسان وأمة وكأنها عظام مبعثرة يابسة، ضمها الروح القدس معًا لتصير جسد المسيح المقدس الواحد، العامل معًا. وفي هذا العمل أيضًا صورة حية لعمل الروح القدس في النفس البشرية وقد صارت حطامًا، فإنه يضم العظام معًا بطريقة فائقة لتعمل طاقات الإنسان ومواهبه معًا في انسجام بخطة إلهية.

“قال السيد الرب: هلم ياروح… وهُبَّ على هؤلاء القتلى ليحيوا” [9]. إنه عمل الله الذي يرسل روحه القدوس على النفس وقد صارت كالقتيل فيهبها حياة. وهنا لا يقف عمل الروح عند ذلك، وإنما يجعلها تحمل قوة عمل وخدمة، إذ يجعل منها “جيشًا عظيمًا جدًا جدًا” [10]. وكأن الإنسان في موته يكون مجموعة عظام كثيرة ويابسة جدًا، وفي قيامته بالله يصير جيشًا عظيمًا جدًا جدًا. حياتنا الروحية لا يعرف فيها أنصاف الحلول، إما موت قاتل أو حياة قوية وفعالة. ففي مزمور التوبة إذ التقى المرتل بالله مخلصه لم يكتف بتوبته ورجوعه إلى الحياة بعد الموت بل قال “أعلم الأثمة طرقك والمنافقون إليك يرجعون (مز 51: 13)… لقد ذاق الحياة بعد الموت فلا يكف على أن يكرز بهذه الحياة لكل أثيم ومنافق لكي يدخل الكل معه إلى هذه الحياة الجديدة.

قيامة القلب             [11-14].

لئلا يظن السامع أن ما رآه حزقيال النبي يخص مجرد رجوع الشعب من السبي إلى أرض الموعد أكد الرب بوضوح أن هذه الرؤيا أيضًا تعلن قيامة النفس التي ماتت باعتزالها إلهها، وقيامة القلب الذي حطمه اليأس فصار قبرًا يضم عظامًا يابسة. لهذا يقول الرب: “ها هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا. قد انقطعنا… هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي” [12]. إنه يتحدث مع أناس أحياء حسب الجسد أموات حسب الروح، لهذا يفتح قبورهم الداخلية ويقيم نفوسهم. هنا يكرر تعبير “يا شعبي“… فبعد أن كان يدعوه “الشعب” صار الآن بقوة القيامة “شعب الله”، يفرح الرب بأن ينسبه إليه.

القيامة والوحدة         [15-28].

طلب الرب من حزقيال النبي أن يأخذ عصا يكتب عليها ليهوذا ولبنى إسرائيل رفقائه وأخرى يكتب عليها ليوسف عصا أفرايم وكل بيت إسرائيل رفقائه، ويقرنهما معًا كعصا واحدة في يده. وكأن في هذا العمل الرمزي نبوة عن اتحاد يهوذا مع أفرايم، أي مملكة الجنوب مع الشمال… ويلاحظ في هذا الرمز والتفسير الذي قدمه الرب نفسه بطريقة مطولة الآتي:

أ. أن القيامة ليست عملاً فرديًا، لكنها وإن كانت عملاً شخصيًا يتذوقه كل إنسان وينعم به شخصيًا لكنه يتقبل القيامة بكونها دخول به إلى العضوية في الشعب الواحد، الكنيسة الواحدة، عروس المسيح الواحد. حينما تحدث الرسول بولس إلى أهل أفسس عن الكنيسة بكونها جسد المسيح المتمتع بالقيامة معه، تحدث عنها لا كأعضاء منعزلة بعضها عن بعض، بل كأعضاء لبعضها البعض تنعم بإمكانيات السيد المسيح لها. يقول عن الكنيسة: “يجمع كل شيء في المسيح” (أف 1: 10)، “التي هي جسده ملء الذي يملأ الكل في الكل” (1: 23). “الذي فيه كل البناء مركبًا معًا ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب، الذي فيه أنتم أيضًا مبنيون معًا مسكنًا لله في الروح” (2: 21-22). ففي المسيح أجتمع مع كل إخوتي بوحدانية الروح لكي يعلن الجسد كاملاً، وفيه أنمو ليس منفردًا لكنني كجزء لا يتجزأ من الهيكل المقدس الواحد، وأمثل نصيبًا حيًا في مسكن الله الواحد، أي في مقدساته. قيامتي إنما هي جزء لا يتجزأ من قيامة الكنيسة الجامعة، وقيامة الجسد كله إنما هو سر قيامتي في الرب.

ب. اختار الرب في المثل عصوين صارتا في يد النبي عصا واحدة، وكأنهما عارضتا الصليب، العارضة الطولية والعارضة العرضية اجتمعتا في يد الرب فأعلنت الوحدة من خلال الصليب. وقد سبق ليأن عرضت أقوال الآباء عن عمل الصليب وفاعليته بضمنا إلى وحدة طولية وأخرى عرضية[296]. وحدتنا الأولى مع الله وحدة السماء مع الأرض، أما الوحدة العرضية فهي وحدة الأمم والشعوب أو وحدة البشر معًا خلال الصليب، إذ يقول الرسول “ولكنى الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح… يصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به” (أف 2: 13-16). بالصليب قتل العداوة بين السماء والأرض، وقتل العداوة التي كانت بين البشر وبعضهم البعض.

ج. نقشت أسماء الأسباط جميعًا من المملكتين على الصليب (العصوين) ليجد كل إنسان له موضعًا في أحشاء المصلوب المملوء حبًا بلا تمييز.

د. سر هذه الأمة الواحدة أو الشعب الواحد الذي تمتع بالقيامة من الأموات هو إقامة “ملك واحد يكون ملكًا عليهم كلهم” [22]. معلنًا هكذا: “داود عبدي يكون ملكًا عليهم ويكون لجميعهم راعٍ واحدٍ” [24].

سر الوحدة أن ندخل جميعنا “في المسيح يسوع” راعينا الواحد، ونوجد في المحبوب (أف 1: 6)، نجتمع معًا: السمائيون والأرضيون (أف 1: 10). فيه ننعم بالخليقة الجديدة (أف 2: 10)، ويضمنا نحن الذين كنا غرباء وبعيدين فصرنا قريبين إليه (أف 2: 7) ليكتمل بناؤنا فيه كمقدس إلهي حيّ وهيكل الله الأبدي.

هـ. إنه يقيمنا كنيسة واحدة تتمتع بالحياة المقامة أي بحياته الإلهية من خلال العهد الأبدي الذي قطعه معنا، عهدًا مؤبدًا، فيه يتعهد لا بقيامتنا فحسب بل ونموّنا الدائم من خلال إقامته في وسطنا وفوقنا… أي يحل في وسط شعبه، ويصير شعبه عرشًا إلهيًا كالكاروبيم يحملونه فوقهم. هذا ما عناه بقوله “وأقطع معهم عهد سلام فيكون معهم عهدًا مؤبدًا وأقرهم وأكثرهم وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد ويكون مسكني فوقهم” [26-27]. لقد سلمنا هذا العهد في أيدينا فصار معنا نتمسك به، من خلاله نتقدس بحلوله فينا وقبولـه إيانا عرشًا له… هذا هو سر تقديسنا، إذ يقول: “فتعلم الأمم إني أنا الرب مقدس إسرائيل” [28]. هذا هو إسرائيل الجديد الذي قبل الله كَسِر تقديسه!

 


 

من وحي حزقيال 37

وادي العظام اليابسة

v   ماذا ترى فيّ يا مخلصي؟

إني وادي العظام اليابسة!

بروحك القدوس تهبني الحياة المقامة!

عوض الموت تهبني الحياة!

عوض الفساد تهبني النقاوة والقداسة!

عجيب هو عملك أيها القائم من الأموات،

تقيمنى وتجعل مني جيشًا عظيمًا جدًا جدًا!

v   بروحك القدوس تقدس عواطفي وأحاسيسي،

تقدس قلبي وفكري،

تقدس مواهبي وإمكانياتي،

تقدس أفكاري وأقوالي وأعمالي…

وتقيم من هذا كله جيشًا عظيمًا جدًا جدًا!

v   تقيمني فأتحد مع بقية إخوتي!

تجعلنا عصا واحدة،

بقلب واحدٍ وروحٍ واحدة!

أنت هو قيامتنا وسر وحدتنا!

لتملك أيها الرأس القائم من الأموات،

فتجعلنا كنيسة واحدة تنعم بالحياة المُقامة!

زر الذهاب إلى الأعلى