تفسير سفر حزقيال ٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس
حلق شعره
يكمل الرب إعلاناته – خلال الرموز – عن محاصرة أورشليم وتأديبها، فأمر حزقيال النبي أن يحلق شعر رأسه ولحيته بسكينٍ حادٍ، موضحًا له سرّ عقوبته ليهوذا وعلاماتها. ويعتبر هذا الدرس العِيانّي الرابع.
- حلق شعر النبي [1-4].
- سرّ العقوبة [5-7].
- عقوبة علنية [8].
- عقوبة فريدة [9-12].
- عقوبة إلهية [13-15].
- عقوبات مرحلية [16-17].
حلق شعر النبي:
“وأنت يا ابن آدم فخذ لنفسك سكينًا حادًا،
موسى الحلاق تأخذ لنفسك وأمررها علي رأسك
ولحيتك، وخذ لنفسك ميزانًا للوزن واقسمه.
وأحرق بالنار ثلثه في وسط المدينة إذا تمت أيام
الحصار، وخذ ثلثًا واضربه بالسيف حواليه وذر ثلثا إلي الريح” [1-2].
أوصى الله موسى أن يكلم الكهنة بني هرون هكذا: “لا يجعلوا قرعة في رؤوسهم ولا يحلقوا عوارض لحاهمولا يجرحوا جراحة في أجسادهم. مقدسين يكونون لإلههم ولايدنسوا اسم إلهم، لأنههم يقربون وقائد الرب إلههمفيكونون قدسًا” (لا 21: 5-6). كانت الوصية الإلهية واضحة وصريحة ألاَّ يمس موسى رأس كاهن أو لحيته لأنهقدس للرب، ذلك لأن ترك الشعر علي رأس المرأة هو لزينتها، أما للرجل فعلامة عدم انشغاله بالأمور الزمنية،مكرسًا كل نسمة من حياته للخدمة الكهنوتية. لهذا فإن الأمر الصادر لحزقيال النبي هو إعلان عن تدنيس الكهنةفي ذلك الوقت ورفض الرب ذبائحهم وتقدماتهم وصلواتهم.
عندما أراد الرب أن يخلص الشعب قديمًا ظهر ملاك الرب لامرأة منوح العاقر وقال لها: “ها إنك تحبلينوتلدين ابنًا ولا يعلُ موسى رأسه، لأن الصبي يكون نذيرًا لله من البطن وهو يبدأ يخلص إسرائيل من يدالفلسطينين” (قض 13: 5). هذا الذي لما حلق شعر رأسه فارقته قوة الرب وصار ضعيفًا (قض 16: 17)، بلفارقه الرب نفسه (قض 16: 20) وفقد عينيه وأوثق بسلاسل من النحاس وصار كالثور يطحن في بيت السجن (قض 16: 21)، وكان هزءًا وسخرية للوثنيين! أما الآن فإن الذي يأمر بحلق الرأس واللحية هو الله نفسه علامةمفارقته لكهنة شعبه وفقدانهم البصيرة الروحية ودخولهم إلي الأسر وصيرورتهم أضحوكة الأمم وموضوعسخريتهم.
حلق الشعر بالكامل يشير إلي رفض الله الدخول معهم في أية علاقة من خلال الكهنة أو الأنبياء،إنه لا يقبل تقدمة ولا يسمع لصلاة حتى يؤدبهم علي شرهم، كما يشير إلي رفضه شعبه بسبب إصرارهم عليالخطيئة. فإن كان الرب هو الرأس فإن حياتنا نحن إنما هي الثبوت فيه. فنزع الشعر انتهاء ثبوت الشعب فيمصدر حياته. وفي هذا يقول القديس جيروم: [يتحدث إشعياء النبي عن موسى حاد يحلق رأس الخطاةوشعر أقدامهم (إش 7: 20)، يحلق رأسه رمزًا لأورشليم التي صارت زانية (5: 1-5)، علامة أن كل ما فيها قدصار بلا إحساس ونزعت عنها الحياة[83]].
حلق الشعر بالكامل يشير إلي شدة الحزن، خاصة في حالة حدوث وفاة وكان هذا الأمر في عيني الربدنسًا، لهذا حذر شعبه قائلاً: “أنتم أولاد للرب إلهكم، لا تخمشوا أجسادكم ولا تجعلوا قرعة بين أعينكم لأجلميت، لأنك مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبًا خاصًا” (تث 14: 1-2) أما الآن فقد صارتأورشليم كمن في حكم الميت. وإذ رفض شعبه أمرهم في شخص حزقيال أن يتدنسوا بحلق شعر رأسهم.
حلق الشعر أيضًا علامة العار والذل والعبودية، فيصير الإنسان بلا كرامة، لا سلطان له حتى عليشعره أن يتركه أو يحلقه، لهذا كانت تحلق رؤوس العبيد بالكامل وأيضًا الملوك حين يؤسرون. هكذا تفعل الخطيئةبالإنسان: تفقده كل سلطان وترده من حالة الملك والقوة إلي خزي العبودية والسقوط تحت الأسر والذل. لقد خجلعبيد داود من اللقاء مع ملكهم لأن حانون ملك بني عمون شك فيهم وحلق لحاهم، فأقاموا في أريحا حتى تنبتلحاهم ويرجعوا… هكذا لا يستطيع الإنسان أن يلتقي مع الرب ملكه السماوي وهو في عار الخطيئة وخزيها بلينتظر حتى يعلن توبته وينال المغفرة ويسترد الكرامة فيكون له إمكانية اللقاء مع الله وكل جنوده السمائيينوالأرضيين.
حلق الشعر بسكين حاد يشير إلي حرب دامية حيث سمح الله للكلدانيين قساة القلب أن يغزوا يهوذا، وذلكحسب ما اقتضته عنايته الإلهية. يسمح بذلك لأن يهوذا تمردت على الله: الثُلث يبادون في حصار أورشليم،والثلث يقُتلون بالسيف دون رحمة علي أيدي جنود نبوخذنصَّر، والثُلث الباقي يُشتتون علي وجه الأرض بينالشعوب.
أما وزن الشعر فعلامة أن ما يحل بالشعب من جوع وعطش وسقوط بالسيف وتشتيت بين الشعوب لا يتمبطريقة عشوائية أو بمحض الصدفة، لكنه بتدبير إلهي، وموازين الرب عادلة وأمينة ودقيقة.
“الرب وازن القلوب” (أم 21: 2) والأرواح (أم 16: 2)، هذا الذي طرق الإنسان أمام عينيه “وهو يزنسبله” (أم 5: 21)، الذي يزن الريح ويعاير المياه بمقياس (أي 28: 25)، ويكيل تراب الأرض ويزن الجبالبالقبَّان والآكام بالميزان (إش 40: 12)، موازينه حق وعادلة، لا يطيق الغش أو المحاباة. هذه هي طبيعة اللهالتي يشتهي أن يسكبها في حياة أولاده لهذا كثيرًا ما يكرر الوصايا: “لا يكن لك في كيسك أوزان مختلفة كبيرةوصغيرة. لا يكن لك في بيتك مكاييل مختلفة كبيرة وصغيرة. وزن صحيح حق يكون لك ومكيال صحيح وحق يكونلك” (تث 25: 13-15)، “معيار فمعيار مكرهة للرب، وموازين الغش غير صالحة” (أم 20: 23)، “موازين غشٍمكرهة للرب والوزن الصحيح رضاه” (أم 11: 1). يزن الله حياتنا وللأسف يجدها “في الموازين إلي فوق” (مز 62: 9)، أو كما قال دانيال الحكيم للملك بيلشاصَّر: “وُزنت بالموازين فوجدت ناقصًا” (دا 5: 6)، والآن ماذايفعل الرب من نحونا نحن الذين وجدنا هكذا؟ إنه يحمل سر نقصنا، يحمل إثمنا عليه ويتقدم للميزان، فإذا به يثمنكعبد وهو الديان الذي يُدين المسكونة كلها. إنه في مرارة يقول: “فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة” (زك 11: 12). الرب يُقيَّم كعبد بينما يقف العبد في بره الذاتي ليقول: “ليزنّي في ميزان الحق فيعرف الله كمالي” (أي 31: 6). الكامل وُزنَ حاملاً نقصنا فصار تحت العار، والإنسان في كبرياء قلبه يريد أن يتبرر في الموازين أمامالله.
علي أيه الأحوال، وُزنَ شعر حزقيال كرمز للشعب الساقط تحت ثقل الخطيئة فوجد مستحقًا للجوع والعطشوالسيف والتشتيت… هذه هي ثمار النجاسة والشر.
إن كان الشعب قد وجد في الميزان ناقصًا، لكن الله لا ينسى القليل جدًا منهم، هؤلاء الذين بسبب أمانتهم لهوطاعتهم لكلماته يحتفظ بهم في ذيل ثوبه، تحت رعايته. هذه البقية ربما تشير إلي البقية التي تركت في أورشليمتحت قيادة جداليا. وربما تشير إلي البقية التي تبقي أمينة للرب في أيام النبي الكذاب أو المسيح الدجال. إنهاجماعة الرب الخفية المحفوظة ومستترة فيه يعرفهم بأسمائهم ويحوّط حولهم لكي لا يُفقد منهم أحد، ولا يختطفهمالعدو الشرير. لكن للأسف هذه القلة أمر الرب أن يحرق القليل منها، لأنها بعد أن دخلت تحت رعايته رفضته. هذه التي قال عنها الرسول إنهم بدأوا بالروح لكنهم يكملون بالجسد (غل 3: 3)، لهذا يوصينا السيد أن نصبرإلي المنتهي (مت 10: 12)، ويحذرنا من الأيام الأخيرة حين يخُشي علي المختارين أيضًا أن يضلوا (مت 24: 24).
- سر عقوبتها:
الله كأب يؤدب أولاده كاشفًا لهم عن سر عقوبتهم، فهو ليس بالسيد المستبد ولا بالمنتقم، إنما حتى في شدةتأديبه يود رجوعنا وتوبتنا… لهذا يكشف لنا عن ضعفاتنا حتى نتخلي عنها.
أمران يحزنان قلب الله: الوصية المكسورة والهيكل المدنس. فمن جهة الوصية يقول: “لأنأحكامي رفضوها لم يسلكوا فيها” [6]. والعجيب حينما يسقط المؤمن في العصيان يصير أكثر شرًا منغير المؤمن، إذ يقول الرب: “خالفت أحكامي بأشر من الأمم” [6]. أما بخصوص تدنيس الهيكل فيقول: “منأجل أنك نجست مقدسي بكل مكرهاتك وبكل أرجاسك، فأنا أيضًا أجُزَّ ولا تشفق عيني، وأنا أيضًا لا أعفو” [11].
تنفيذ الوصية والعبادة (الهيكل) أمران متلازمان وملتحمان في حياة المؤمن، فالوصية بطاعتها تهبنا دالةالوقوف لدي الله، والوقوف أمامه للعبادة يسند حياتنا في طاعة الوصية. كل من يظن أنه ينفذ الوصية بعيدًا عنروح العبادة يخدع نفسه وكذا من يظن أنه يرضي الرب بالعبادة دون سلوكه في طاعة الوصية.
- 3. عقوبة علنية:
إذ أُرسل لشعب يهوذا إرميا النبي يوبخهم علي خطاياهم قال له: “اذهب وناد في أذنيْ أورشليم” (إر 2: 1)، كأنه أراد أن يهمس في أذنهم حتى يتوبوا دون أن يعلم أحد بما ارتكبوه، لكنهم إذ لم يسمعوا طلب منه أن يقففي باب بيت الرب وينادي بكلمة التوبيخ (إر 7: 1)، وإذ لم يسمعوا أيضًا اضطر أن يعلن الرب تأديباته لشعبهعلانية أمام كل الأمم. لقد أخطأوا علانية بغير حياء وحاول إصلاحهم دون أن يجرح مشاعرهم، لكن إزاءتشامخهم المتزايد يقول: “سأجري في وسطك أحكامًا أمام عيون الأمم” [8]، “وأجعلك خرابًا وعارًابين الأمم التي حواليك أمام عيني كل عابر، فتكونين عارًا ولعنة وتأديبًا ودهشًا للأمم التيحواليك” [14-15].
صارت أورشليم عبرة للأمم حواليها، ودرسًا عيانيًا للعالم كله. فإن الله القدوس لا يقبل الخطية، ولا يهادنهاحتى إن ارتكبها شعبه في المدينة المقدسة!
الله كمحب البشر يستر علي خطايانا وضعفاتنا مرة ومرات لكنه إذ يجد علاجنا في فضحنا يعلن تأديباتهالقاسية علينا. هذا أيضًا ما تفعله الكنيسة مع أولادها وخدامها إنها تعالج بالحب وتستر، لكن إن استدعي الأمرللتأديب العلني لا تمتنع من أجل خلاص أولادها. ففي العصر الرسولي حكم الرسول علانية علي الساقط فيالخطيئة مع امرأة أبيه، قائلاً: “يسمع مطلقًا أن بينكم زني، وزني هكذا لا يسمي بين الأمم حتى أن تكونللإنسان امرأة ابيه… فإني أنا كأني غائب بالجسد ولكن حاضر بالروح قد حكمت كأني حاضر في الذي فعلهذا هكذا: باسم ربنا يسوع المسيح إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح أن يسلم مثل هذاللشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع… نقوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًاجديدًا كما أنتم فطير” (1 كو 5: 1-7).
- عقوبة فريدة:
لقد تباروا في الشر وسبقوا الأمم، لهذا فإن الله أيضًا يؤدبهم بتأديبات فريدة: “وأفعل بك ما لم أفعلوما لن أفعل مثله بعد بسبب كل أرجاسك. لأجل ذلك يأكل الآباء الأبناء في وسطك، والأبناء يأكلونآباءهم وأجري فيك أحكامًا وأذري بقيتك كلها في كل ريح” [9-10].
هذه هي أمرّ عقوبة يسقط تحتها المؤمنون أن يأكل أحدهم الآخر، لا بل يأكل الأب ابنه والابن أباه! فحينتتخلي نعمة الله عنهم يدب الفساد فيهم في الداخل، وخلال الانقسامات والانشقاقات يأكل العضو عضوًا آخرحتى ان كانت تربطه به قرابات جسدية أو روحية، وأخيرًا لا يبقي منهم شيء اللهم إلا رماد يذريه الرب في كلريح!
أقول إن ثمرة الخطيئة أكل الجماعة بعضها البعض بدلا من أن تسند بعضها البعض، بل يدب الانقسام فيالإنسان نفسه فيقوم علي نفسه، يفقد سلامه واتزانه وحيويته، ويصير الإنسان – بسبب الخطيئة – كالرماد لا قيمة له تذريه الرياح في كل اتجاه!
- 5. عقوبة إلهية:
أكد الرب ليهوذا أن التأديب العلني الفريد ليس صادرًا عن النبي، فهو ليس بمتكلم ضده، ولكنه صادر عنالله نفسه “أنا الرب تكلمت” [15].
إن كان الكلدانيون يحاربونك ويأسرون شعبك لكنهم في الحقيقة هم أداة في يد الله، يغير علي شعبه فيثيرضدهم الأمم لتأديبهم، لهذا يؤكد “ها إني أنا أيضًا عليك” [9]، مكررًا العبارة “أنا الرب تكلمت” وما شابههاحوالي 14 مرة في هذا السفر[84].
لهذا حين قام أبشالوم علي أبيه داود فهرب الأخير، خرج عليه شمعي بن جيرا يسب ويرشق داود بالحجارةوجميع عبيد الملك والشعب والجبابرة المحيطين به، فقال أبيشاي للملك: “لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملكدعني أعبر فأقطع رأسه” (2 صم 16: 9)، أما داود ففي حكمة واتضاع قال: “دعوه يسب لأن الرب قال له سبداود ومن يقول لماذا تفعل هكذا… لعل الرب ينظر إلي مذلتي ويكافئني الرب أخيرًا عوض مسبته بهذا اليوم”. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم في مكائد الآخرين ضدنا فرصة للتوبة، إذ يقول: [إذا أخطأنا يُنهض اللهعلينا أعداءنا لتأديبنا، لهذا يليق بنا ألا نحاربهم، بل أن نحاسب أنفسنا ونثقفها. لنقبل الآلام كقبول الأدوية منالطبيب لأجل خلاصنا وكقبول التأديب من الأب حتى نتمجد[85]].
- عقوبة مرحلية:
الله في طول أناته ومحبته بدأ بالحديث السري مع شعبه ثم بالحديث العلني وأخيرًا اضطر إلي التأديبالعلني، وهنا أيضًا يؤدب علي مراحل لعلهم يتوبون فينزع عنهم الألم. إنه يسمح أن يجوعوا، ثم يزيد من وطأتهعليهم حتى يصيروا في عوز للخبز. وإذ لا يرجعوا يهيج عليهم الوحوش البرية لتأكل أولادهم، ثم يسمح بالوبأوسفك الدماء… إنه لا يطلب النقمة بل التوبة بكل الطرق.
من وحي حزقيال 5
ثبتني فيك أيها المؤدب الحنون!
v ثبتني فيك أيها المؤدب الحنون!
سمحت لنبيك حزقيال أن يحلق شعر رأسه كله،
لتعلن حزنه الشديد علي فساد شعبك كموتي،
وتهدد شعبك بنزعهم عنك كما الشعر من الرأس،
وترفض كهنوتهم الذي تنجس،
وتؤكد لهم أنهم يعيشون كعبيد أسري محلوقي الرأس!
v أدب… ولكن لا تسلمني لآخر غيرك!
فأنت المؤدب الحنون!
v أدبتني سرًا فلم أرتدع،
هوذا أنت تفضحني بين شعبي،
لا بل وحتى بين الأمم…
فليكن… ولكن لاتحرمني من خلاصك!
فأنت المؤدب الحنون!