تفسير سفر حزقيال ٦ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السادس

تحذير لترك الوثنية

بعد أن أوضح خطته في التأديب، وكشف عن غايتها، أكّد أنه وإن كان قد أقام شعبه كجبال مقدسة لاتتزعزع، لكنها قد تدنست بعبادتهم للأصنام وممارستهم للفساد، لهذا يزعزع هذه الجبال ويحولها إلى مقابرجماعية. في الموضع الذي فيه يتم الفساد ينال الإنسان التأديب ليتذوق ثمر خطاياه. وفي هذا كله لا ينسى الربأبراره المقدسين مهما كانوا قلة قليلة.

  1. نبوة ضد جبال إسرائيل [1-7].
  2. قبول البقية التائبة          [8-10].
  3. آثار الشر                    [11-14].
  4. نبوة ضد جبال إسرائيل:

أخذ اليهود عن الوثنيين عبادتهم الأصنام على الجبال والتلال والأنهار والوديان[86]، لهذا طلب الرب منحزقيال النبي أن يوجه نظره إلى جبال إسرائيل التي تدنست بالعبادة الوثنية ويتنبأ ضدها. إنه يتطلع كالقاضيالذي ينظر نحو المتهم ليحكم عليه مواجهة ليهز أساساته ويبيدها.

للجبال مفهومها الرمزي في الكتاب المقدس، فإن “الأرض” غالبًا ما تشير في الكتاب المقدس إلى النفسالتي نزلت إلى الفكر الأرضي، فأسرها الجسد الترابي بشهواته وربطها بالماديات، أما “الجبال” فغالبًا ما تشيرفي الكتاب المقدس إلى النفوس المرتفعة فوق الأرضيات لتسكن معه في العلويات، كنيسة مقدسة سماوية. لهذاكثيرًا ما ينسب الله الجبل لنفسه فيدعوه “جبل قدسه” (مز 2: 6)، (9: 9، إش 65: 11، 25، يؤ 2: 1، عو 16: 1)، كما يسميه الكتاب المقدس “أورشليم جبل قدسك” (دا 9: 16، إش 66: 20)، “صهيون جبلقدسى” (يؤ 17: 18).

لقد طلب الملاكان من لوط أن يهرب إلى الجبل لئلا يهلك (تك 9: 17)، وكأنهما يطلبان منه أن يرتفع فوقالزمنيات لئلا تقتنصه في دوامتها. واشتهي المرتل أن يسكن في جبل قدس الرب (مز 15: 1)، أي يرتفع قلبهإلى فوق، هناك يلتقي مع الله الساكن في الأعالي والذي يستجيب له (مز 30: 4).

النفس التي تصير جبلاً مقدسًا تصير كجبل حوريب، حيث يتقدم إليها الرب لا ليعطيها شريعته منقوشةعلى الحجارة كما لموسى بل بالروح القدس ينقش وصيته في قلبها. يجلس فيها السيد كما جلس على الجبل يعظالجماهير بكلماته مجتذبًا إياها إليه بسلطان (مت 5). إنها تصير كجبل التجربة يرتفع الرب نفسه عليها ليقودالمعركة الروحية ضد الشيطان محطمًا سلطانه، فتصير للنفس إمكانية الغلبة وتأتي الملائكة لتخدمها. إنها تصيركجبل تابور حيث تنعم النفس بالشركة مع رجال العهد القديم (موسى وإيليا) ورجال العهد الجديد (بطرس ويعقوب ويوحنا) في حضرة السيد المسيح نفسه الذي يظللها بسحابته المنيرة، ويعلن لها بهاءه في داخلها. إنهاتصير كجبل الزيتون حيث يجلس فيها السيد يبكي أولاده الساقطين الذين قتلوا الأنبياء ورجموا رسله، فتصيرمركز عمل وخدمة روحية، أو تصير بالحري كجبل الجلجثة فتنعم بصليب السيد المسيح مزروعًا في داخلها،تشارك عريسها آلامه وصلبه لكي تنعم بقوة قيامته. وباختصار فإن للجبال المذكورة في الكتاب المقدس ذكرياتتدفع النفس للتمتع بحياة الاتحاد مع الله في المسيح يسوع بصورة أو بأخرى.

ويرى القديس جيروم أن هذه الجبال المقدسة إنما هم الأنبياء والرسل، إذ يقول: [نفسر الجبال بطريقتين: في العهد القديم هم الأنبياء، وفي العهد الجديد الرسل. عن هذه الجبال يقول الكتاب المقدس: “رفعت عيني إلىالجبال من حيث يأتي عوني” (مز 120: 1). على هذه الجبال استقرت مدينة الله، إذ “لا تختفي مدينة قائمةعلى جبل” (مت 5: 12). ونحن أيضًا الذين كنا في الظلمة وظلال الموت أشرق علينا الرب من جباله الأبدية، أيمن خلال أنبياء ورسله[87]].

وكما يقيم السيد الرب أولاده جبالاً مقدسة يسكنها، فإن عدو الخير أيضًا يقيم من خدامه جبالاً دنسةومُعثرة. فإن كان الجبل المقدس يعني ارتفاع النفس إلى السمويات بالروح القدس. فإن الجبل الشرير يعنيكبرياء النفس وعصيانها للوصية الإلهية. فبدلاً من أن تكون النفس جبلاً ينطلق إليه السيد ليُصلي (مز 6: 46)،هذا “الذي اشتهاه الله ليسكن فيه إلى الأبد” (مز 68: 16)، يصير دنسًا ترعى فيه الخنازير (لو 8: 32). وبدلاً من أن تكون النفس ذاك الجبل الذي تصعد إليه الكنيسة مع عريسها كما على جبل تابور، تصير علة تيهان (عب 11: 38). لهذا يعلن الرب غضبه على الجبال الشريرة ويزعزع أساساتها، أو كما يقول المرتل: “انقلبتالجبال إلى قلب البحار” (مز 46: 2)، “مالكن أيتها الجبال قد قفزتن مثل الكباش؟!” (مز 114: 2). يهددالرب هذه الجبال قائلاً: “هأنذا عليك أيها الجبل المهلك يقول الرب المهلك كل الأرض فأمد يدي عليك وأدحرجك علىالصخور وأجعلك جبلاً محرقًا فلا يأخذون منك حجرًا لزاوية ولاحجرا لأسس، بل تكون خرابًا إلى الأبد يقول الرب” (إر 51: 25-26)؛ كما يقول: “أبغضت عيسو وجعلت جباله خرابًا وميراثه لذئاب البرية” (ملا 1: 3)، “أقيمواراية على جبل أقرع، ارفعوا صوتا إليهم” (إش 13: 2).

انحرف الشعب إلى العبادة الوثنية، لذا هددهم الرب على لسان النبي بحلول الشر في كل موضع استخدمللشر. سواء كان جبلاً أو تلاً، واديًا أو نهرًا[88]. يمتد السيف إلى صانعي الشر فيقتلون وتمحى أعمالهم،وتصير مدنهم خرابًا وقفرًا، وتباد مرتفعاتهم وتخرب مذابحهم وتنكسر شمساتهم[89] (ربما المظلات المستخدمةللحماية من الشمس أثناء العبادة، وإن كانت الترجمات الإنجليزية تقول “التماثيل موضوع العبادة”)، وتذرىعظامهم حول مذابحهم علامة تدنيسها (2 مل 23: 16). هكذا يتحطم العابدون وموضوع عبادتهم ومكانالعبادة نفسه.

هذه هي النبوة التي وجهت ضد جبال إسرائيل، وهي تهديد مُرّ لأجل دفعهم للتوبة. إنها نبوة قائمة في كلجيل ضد النفس المتعجرفة فإن الله يبيد مرتفعاتها[90]، أي يُحطم كبرياء قلبها وتشامخها، ويخرب مذابحها أييُحطم عواطفها التي أساءت استخدامها، ويكسر شمساتها أي يفضحها في وسط النهار ولا يعود يستر عليهابعد وربما قصد بالشماسات الأصنام الخاصة بعبادة الشمس. ويطرح قتلاها قدام أصنامها، أي يذلها أمامالذين ترتكب معهم الخطيئة، وتذرى عظامها حول مذبحها، أي يعلن موتها روحيًا ونفسانيًا وجسديًا ودنس حياتهافيأنف الكل منها، ويجعل مسكنها قفراً أي يترك قلبها خربًا بلا شبع، ويمحو أعمالها علامة نزع كل حيوية وطاقةللعمل في داخلها. هذا التأديب في الواقع هو الثمر الطبيعي للخطيئة في حياة الإنسان، تقتله وتقتل طاقاتهالداخلية وتحطم كل إمكانية فيه!

هنا نلاحظ أن أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلاً، والتي تشهد عن رضى الله على مؤمنيه تتحول إلى مقبرةجماعية. عوض الإثمار تصير موضع موت.

من جانب آخر يهدد الله بقتلهم بجوار مذبح الشياطين ليثبت لهم عن عجزها عن الإعانة… ولعله أراد أنيوضح لهم عدله أنهم إذ دنسوا هيكله بالأوثان يسمح بتدنيس الأوثان بقتلهم في الهياكل الوثنية وتحويلها إلىمقابر تحمل فسادًا.

  1. 2. قبوله البقية التائبة:

في كل مرة يهدد الجماعة أو الشعب كله لا ينسى التأكيد على اهتمامه بالبقية التائبة الراجعة إليه بالرغم منقلة عددهم، هؤلاء الذين يخلصون من العقوبة لا بقبولهم التأديب (السبي) وإنما بتوبتهم عن خطاياهم: “إذاكسرتُ قلبهم الزاني الذي حاد عني، وعيونهم الزانية وراء أصنامهم ومقتوا أنفسهم لأجلالشرور التي فعلوها في كل رجاساتهم” [9]. إنهم أخطأوا كإخوتهم وسقطوا في الزنا وعبادة الاصناموكل الرجاسات لكنهم قبلوا تأديب الرب بحكمة فانكسر قلبهم بالتوبة وندموا فلم يطيقوا أنفسهم بسبب ما فعلوه،لهذا يعود الرب إليهم ليخلصهم “ويعلمون أني أنا الرب” [10]... أي يهبهم معرفته الإلهية.

حقًا، لا طريق لخلاصنا إلا التوبة التي تمحو كل أخطائنا في استحقاقات الدم الكريم بالروح القدس، لهذايقول القديس مرقس الناسك: [إن الله لا يديننا لأننا أخطأنا، لكنه يديننا لأننا لم نتب].

  1. 3. آثار الشر:

لقد أمره الرب أن يصفق[91] بيده ويضرب الأرض برجليه[92] كالطفل المتمرّمرّ الذي لا حول له ولا قوة،متأوهًا على كل رجاساتهم، خاصة وقد بدأ ثمر الشر يحل بهم من قتل بالسيف وجوع ووبأ. وكأن الغضب الإلهيحل عليهم فهاج الناس عليهم، وأعلنت الأرض سخطها وأيضًا كل الطبيعة وسيكون التأديب أكثر شدة حيثالمواضع المستخدمة للعبادة الوثنية: التلال العالية ورؤوس الجبال وتحت ظلال الأشجار وبالذات البلوطة… حيثكانوا يقربون “رائحة سرورهم لكل أصنامهم” [13] فصارت رائحة الموت لهم!

لقد أعلن أن الخراب يدب في الأرض من القفر (البرية) إلى دبلة[93]. ويرى البعض أنها بلدة في موضعدبل الحديثة شمال الجليل، لكن الرأي السائد أنها ربلة[94] وهي مدينة في أرض حماة (2 مل 23: 33، 25: 20-21) وكأنه بقوله: “من القفر إلى دبلة” يعني من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. وربما أراد أن يعلنمرارة ما يحدث لهم في شخص ملكهم، فعندما ألقى القبض على صدقيا بعد هروبه من أورشليم أُتيَ به إلىنبوخذنصَّر الذي كان في ربلة، فقلع عينيه وقيده في سلاسل ليرسله إلى بابل (2 مل 25: 6 الخ، إر 39: 5-7، 25: 9-11).

 


 

من وحي حزقيال 6

الجبل المقدس!

v   عجيبة هي أعمالك يا رب!

جعلتني جبلاً مقدسًا لك أنا التراب والرمال!

احسبني كجبل حوريب تعلن عليه شريعتك،

وكجبل تابور تتجلى ببهائك عليه،

وكجبل الجلجثه تقدم عليه ذبيحة حبك الفائقة!

v   على الجبال أقام إسرائيل أصنامه كالأمم،

دنس المرتفعات برجاساته!

بحبك تؤدب فتجلب سيفًا وتبيد المرتفعات،

وتتحول المدن إلى قفر!

لكنك لا تنسى البقية المقدسة،

فإنك الاله الرءوف!

انزع عن جبالي كل الرجاسات،

احرق بنار روحك القدوس كل أشواك الخطية!

قدسني، واحسبني جبلك المقدس!

زر الذهاب إلى الأعلى