تفسير سفر هوشع – المقدمة للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأنبياء الصغار

جاءت هذه التسمية “الأنبياء الصغار” في الترجمة السبعينية والفولجاتا، لكنها لم تُذكر في النسخة العبرية. لم تقم هذه التسمية بسبب صغر شأن هؤلاء الأنبياء بين بقية أنبياء العهد القديم، وإنما لمجرد قصر نبواتهم المكتوبة.

 اهتم اليهود بهذه الأسفار فوضعوها معًا في سفر واحد بكونها تخدم هدفًا متكاملًا، إذ هي تغطي الفترة الحالكة الظلام التي عاشتها مملكتا إسرائيل ويهوذا، سواء قبل سبي إسرائيل بيد أشور أو سبي يهوذا بيد بابل، وأثناء السبي وبعه أيضًا. وقد سبق لنا توزيع هؤلاء الأنبياء على هذه الفترة الطويلة1.

هوشع:

“هوشع” كلمة عبرية تعني (يهوه يخلص)، منها جاءت كلمة “يشوع” أو “يسوع”. وهو من أنبياء ما قبل السبي، وقد شاهد سبي إسرائيل أو سقوط السامرة عام 722 ق.م. بواسطة آشور، وقد عاصر أشعياء النبي (راجع هو 1: 1، إش 1: 1) وميخا النبي في يهوذا، كما عاصر عاموس في إسرائيل.

لعل ذكره “إفرايم” لا بمعنى سبط أفرايموحده، وإنما مملكة إسرائيل الشمالية كلها، 36 مرة، يوحي إلينا أنه كان من مواطني جبل أفرايم.

يعتبر هوشع نبيًا لإسرائيل، وإن كانت نبواته قد شملت أحيانًا يهوذا، قيل أنه في أواخر أيامه ذهب إلى يهوذا وتنبأ هناك.

ظروف النبوة

  1. يوحي لنا هذا السفر حالة الانحلال الخلقي والديني التي جاءت بعد حكم يربعام الثاني، ففي طّي نبواته صدى واضح لحوادث الفوضى وجرائم القتل وعبادة الأوثان والزنا والكبرياء، كما تحوي النبوة أيضًا وصفًا لحالة الركود الروحي التي اتسم بها الشعب في كل فئاته من قيادات دينية أو مدنية اورعية حتى نسوا الرب (هو 13: 6)، الأمر الذي جعله يتحدث عن إسرائيل بكونها أرضا، قائلًا: “لأن الأرض قد زنت” (1: 2)، “لا معرفة الله في الأرض” (4: 1)، “لذلك تنوح الأرض” (1: 3)… لقد صارت إسرائيل أرضًا وترابًا بسبب فسادها. وقد ركز كثيرًا على حرمانها من معرفة الله، مكررًا ذلك في أكثر من موضع (4: 1، 6؛ 5: 4؛ 6: 3، 6) مع أنه خطبها لنفسه بالأمانة لتعرف الرب (2: 20).
  2. كان هوشع النبي معاصرًا لستة ملوك في إسرائيل، وقد ظل العرش الملكي شاغرًا قرابة إحدى عشر عامًا، لذا قال: “إنهم الآن يقولون لا ملك لنا لأننا لا نخاف الرب” (10: 3).

ولعله بسبب هذه الظروف وعدم الاستقرار، ولأن الهجوم الأشوري كان وشيك الحدوث جاءت النبوة بكلمات شديدة الوطأة، مختصرة على قدر الإمكان.

سماته

  1. لعل أهم ما اتسم به هذا السفر هو الكشف عن علاقة الله بشعبه، فإنه كان قد شبه إسرائيل بالزوجة الزانية لكنه يكشف عن شوق الله من نحو البشريّة بكونها عروسه التي يطلب الاتحاد معها لتعيش معه في سمواته بيت الزوجية الفريد، وتقدم له أولادًا مقدسين في الحق. إنها العروس الواحدة! وكل المؤمنين إنما أعضاء في هذه العروس الواحدة، يتحدث معهم لا كأفراد مجتمعين معًا بل كأعضاء لجسد واحد!

حقًا أن علاقة الله بالبشريّة تقوم على أساس العلاقة الشخصية التي تربط الله بالإنسان داخليًا، لذا يوصينا: “أما أنت فمتى صليت فأدخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلِ إلى أبيك الذي في الخفاء…” (مت 6: 6)، لكن هذه العلاقة الشخصية أساسها ليس الفردية المنعزلة، إنما يلتقي بنا الله على أساس أننا أعضاء في عروسه المقدسة، لهذا إذ قدّم لنا الصلاة الربانية كنموذج حيّ للصلاة المقبولة لا نجد فيها طلبة واحدة فردية، إنما يصلي كل عضو باسم الجماعة كلها ولحسابها فيقول: “أبانا الذي في السموات” وليس “أبي”، “خبزنا كفافنا” وليس “خبزي”، “اغفر لنا ذنوبنا” وليس “اغفر لي ذنبي”… وكأن السيد يقدم لنا خلال الصلاة فكرًا روحيًا جماعيًا وتحطيمًا لكل ميل انعزالي.

هذا ما يؤكده سفر هوشع، بل ونلمسه في الكتاب المقدس كله خاصة أسفار الأنبياء، فهنا يتحدث النبي عن إسرائيل كجماعة واحدة تلتزم معًا بالحياة المقدسة الجماعية في الرب. وقد حسب الميل إلى العزلة والأنانية هي خطيتهم الكبرى، إذ يقول: “لأنهم صعدوا إلى آشور مثل حمار وحشي معتزل بنفسه” (هو 8: 9).

  1. أن كان هذا السفر يقدم شعب الله كعروس له، فقد أصيبت بمرض (5: 13)، لذا يتقدم عريسها كطبيبها الحقيقي الذي وحده يشفيها (14: 4)، وإذ هو يعدها بذلك كان لزامًا أن يفضح أمام عينيها مرضها من كل جوانبه لتدرك خطورة حالتها فتقبل من يديه مشرطه الذي يجرح ليشفي ويؤلم ليهب تعزية.

يمكننا في إيجاز أن نضع الخطوط العريضة لمرض الشعب كما أعلنه سفر هوشع في النقاط التالية:

أولًا: عدم معرفة: “قد هلك شعبي من عدم المعرفة” (4: 6). فقد أفسدت الخطية بصيرة الشعب والرعاة معًا، فصار الكل كعميان غير قادرين على رؤية الله والتعرف على أسراره. أن كان هذا السفر في جوهره هو دعوة للتوبة والرجوع إلى الله لننعم بالحياة معه خلال قيامتنا من موت الخطية (6: 2)، إنما لكي نتعرف عليه (6: 3). نعرفه معرفة العروس المقامة من الأموات لتحيا في حضن عريسها واهب القيامة. لهذا لا نعجب أن سمعناه يؤكد لعروسه المريضة بعدم المعرفة: “إني أريد… معرفة الله أكثر من محرقات” (6: 6).

ثانيًا: ارتباطها بالأرض: عدم معرفتها بعريسها السماوي سحبها إلى رجل آخر هو “البعل”، خلاله انحنت بكل طاقاتها نحو شهوات الجسد ومحبة الأرضيات فصارت هي نفسها أرضا. لذا يدعوها بالأرض عوض “إسرائيل”، كأن يقول: “لأن الأرض قد زنت تاركة الرب” (1: 2). تركت السماوي لتحبس نفسها في الأرضيات، وعوض القلب السماوي صارت أرضا، الأمر الذي يحتاج إلى الطبيب السماوي وحده ليردها عن هذه الطبيعة الفاسدة، إذ يقول لها: “أنا أشفي ارتدادهم” (4: 14).

ثالثًا: فقدانها الشبع: بانحنائها نحو الأرض ظنت أنها تنعم باللذات الزمنية، ولم تدرك أنها تفقد كل لذة وشبع لتصير في مرارة وجوع وعطش. لقد شخَّص الرب مرضها هكذا: “يأكلون ولا يشبعون، ويزنون ولا يكثرون، لأنهم قد تركوا عبادة الرب” (4: 10)، “إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة” (8: 7)، “أصلهم قد جف، لا يصنعون ثمرًا” (9: 16).

عوض الثمر المفرح للقلب “يطلع الشوك والحسك على مذابحهم” (8، 10)، وعوض اللذة يذوقون المرّ إذ “بنيت القضاء عليهم كالعلقم” (10: 4)، أما العريس الحقيقي، الله، فثمرته حلوة (نش 2: 3)، وكلماته حلوة (مز 119: 103)، ونوره حلو (جا 11: 7)، حتى نيره حلو للنفس (مت 11: 30).

رابعًا: عدم التمييز: أن شهوة قلب العريس السماوي أن يرى عروسه على مثاله تحمل روحه القدوس، روح الحكمة والتمييز، لكنها إذ رفضته وانحنت للتراب تغرف منه ولا تشبع صارت “كبقرة جامحة” (4: 16)، “كحمامة رعناء” (7: 11).

يتحدث عن رؤساء يهوذا قائلًا أنهم صاروا “كناقلي التخوم” (5: 10)، أيّ نزعوا العلامات الفاصلة بين تخوم مملكة الله ومملكة إبليس، بين عبادة الله الحيّ وعبادة البعل، بين الخير والشر… فقدوا روح التمييز الذي أوصى به “التمييز بين

المقدس والمحلل، وبين النجس والطاهر” (لا 10: 10)، “بين الحيوانات التي تؤكل والحيوانات التي لا تؤكل” (لا 11: 47).

خامسًا: اللامبالاة: كل ضعف يسحب العروس إلى ضعف آخر، وكل خطية تلقي بها في أحضان خطية أخرى، فروح عدم التمييز يفقد الإنسان جديته في الحياة وتطلعه إلى أبديته ليسلك بلا مبالاة. يسمع صوت الله الذي يدعوه ولا يستجيب (7: 1 – 2).

سادسًا: الكبرياء: “قد أذلت عظمة إسرائيل في وجهه” (5: 5). عوض الخضوع لله بالطاعة وقبول مشورته لشفائها اختارت مصيرها بفكرها الذاتي، فالتجأت إلى آخرين غير عريسها الشافي. “رأى إفرايم مرضه ويهوذا جرحه فمضى إفرايم إلى آشور، وأرسل إلى ملك عدو (عظيم)، ولكنه لا يستطيع أن يشفيك ولا أن يزيل منك الجرح” (5: 13)، لقد رفضوا الاتضاع أمام الله في كل تدابيرهم. “هم أقاموا ملوكًا وليس مني، أقاموا رؤساء وأنا لما أعرف” (8: 3).

سابعًا: بقدر ما أعلن الله حبه لعروسه فقبلها وهي زانية ليقدسها من جديد، وحتى عندما غضب عليها بسبب شرورها المتزايدة يقول: “انقلب عليّ قلبي، اضطرمت مراحمي جميعًا” (11: 8). أما هي فقابلت غيرته المتقدة بجفاف شديد. أن صرخوا إليه في الضيقة يقول: “لا يصرخون إليّ بقلوبهم حينما يولولون على مضاجعهم، يتجمعون لأجل القمح والخمر ويرتدون عليّ” (7: 14). كأنهم يطلبون عطاياه لا الاتحاد معه، يريدون أن ينقذهم ولا يعطونه قلبهم!

هذه بعض ملامح المرض التي كشفها الطبيب الحقيقي لمريضته المحبوبة لديه، لا ليفضحها ولا ليبرر تأديباته لها، وإنما ما هو أعظم ليردها إليه بالحب!

  1. إذ يرى النبي الشعب وقد انجرف إلى عبادة البعل وانغمس في طقوسها التي حَوَت شرب الخمر وأكل الكعك المصنوع من أقراص الزبيب والتين المضغوط، تطلع إلى الشعب نفسه ليراه عوض أن يكون الكرمة المقدسة أو شجرة التين المباركة صارت زبيبًا وتينًا يؤكل لحساب الشياطين. هذا هو ما يحزن قلب الله، أن ما كان ينبغي أن يكون مقدسًا له صار نجسًا يُستخدم في الشر. وما كان يليق أن يكون مفرحًا لله قد صار مبهجًا لعدو الخير. يقول الرب: “وجدت إسرائيل كعنب في البرية، رأيت آباءكم كباكورة على تينة في أولها، أما هم فجاءوا إلى بعل فاغور، ونذروا أنفسهم للخزي، وصاروا رجسًا كما أحبوا” (9: 10). يرى الله في كنيسته – إسرائيل الجديد – وكأنها كرم عنب وسط البرية القاحلة فيفرح بها، أو شجرة تين بكر وسط أشجار العالم غير المثمرة فيبتهج بها، قائلًا: “التينة أخرجت فجَّها، وقعال الكروم تفيح رائحتها” (نش 2: 13). إنها تينته وكرمه! لكنها للأسف أحيانًا تقدم نفسها طعامًا لعدوه “بعل فغور”، أيّ “سيد أو رب الفجور”. عوض أن تتقدم لغارسها الحقيقي الذي رواها بدمه الثمين وأنعشها بروحه القدوس كبكر عن البشريّة كلها تُسلم نفسها للفجور، فتصير عنبًا رجسًا وتينة فاسدة! هذا هو سر قوله: “أخرب كرمها وتينها اللذين قالت هما أجرتي التي أعطانيها محبيَّ وأجعلهما وعرًا فيأكلهما حيوان البرية” (2: 12).
  2. ارتكزت خطية إسرائيل في ذلك الحين بالأكثر على عبادة البعل وما شملته من ممارسة للسحر والزنا وكل أنواع الرجاسات، كما اعتمدت على الذراع البشري، فدخلت في صراع مستمر بين التحالف مع فرعون مصر أو ملك آشور ليسندها الواحد ضد الآخر. عاصر هوشع النبي تحالف إسرائيل مع آشور ضد فرعون مصر، كما أدرك الاتجاه الذي ساد في وقت آخر نحو الارتماء في أحضان فرعون ضد ملك آشور. بهذا لم تلتجئ إسرائيل إلى الله بالتوبة والرجوع إليه خلال الحياة المقدسة، بل اتكأت على الذراع البشري، فصارت كأمة بلا ملك، إذ رفضت مشورة ملكها الحقيقي، أو كمن اختارت لنفسها ملوكًا حسب أهوائها، لا يسلكون بروح الله.  يقول: “إنهم الآن يقولون لا ملك لنا لأننا لا نخاف الرب، فالملك ماذا يصنع بنا؟!” (10: 4)، وأيضًا: “قد كره إسرائيل الصلاح فيتبعه العدو، هم أقاموا ملوكًا وليس مني، أقاموا رؤساء وأنا لم أعرف” (8: 3).
  3. إذ كان إسرائيل يلجأ أحيانًا إلى فرعون مصر ليسنده ضد ملك آشور عوض الاتكال على الله، وبخه الله مذكرًا إياه كيف خلصه من عبودية فرعون حين كان غلامًا، وأخرجه إلى البرية لكي يرعاه بنفسه، ويدخل به إلى أرض الموعد، ويقيم له مدنًا حصينة، فكيف يرتد إلى فرعون مصر ليحميه؟!

يعاتبهم الرب قائلًا: “لما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني” (11: 1)؛

“الآن يذكر إثمهم ويعاقب خطيتهم، إنهم إلى مصر يرجعون، وقد نسى إسرائيل صانعه وبنى قصورًا وكثر يهوذا مدنًا حصينة” (8: 13-14).

“إنهم قد ذهبوا من الخراب، تجمعهم مصر، تدفنهم موف” (9: 6).

“يقطعون مع آشور عهدًا والزيت إلى مصر يُجلب” (12: 1).

“وأنا الرب إلهك من أرض مصر حتى أُسكنك الخيام كأيام الموسم” (12: 9).

  1. سفر هوشع من أروع أسفار الكتاب المقدس التي تعالج موضوع “التوبة” وتبرز مفاهيمه، خاصة في الأصحاح الأخير.

اتسم السفر بروح الرجاء المقدم لكل الخطاة وسط التهديدات الإلهية بالتأديبات المرة الحازمة، يقول: “هلم نرجع إلى الرب لأنه هو افترس فيشفينا، ضرب فيجبرنا” (6: 1). ما أن هدد في الأصحاح الأولأنه يؤدب ولا يرحم وأنه يتركهم فلا يكونوا له شعبه ولا هو لهم إلهًا، يعود في نفس الحديث يفتح باب الرجاء: “لكن يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يُكال ولا يُعد، ويكون عوضًا عن أن يُقال لهم لستم شعبي، يُقال لهم أبناء الله الحيّ” (1: 10). بكل حب يقول: “لكن هأنذا أتملقها وأذهب بها إلى البرية وألاطفها” (2: 14). أما موضوع رجائها فهو السيد المسيح الذي يهبها القيامة بقيامته في فجر اليوم الثالث: “يحيينا بعد يومين، في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه… خروجه يقين كالفجر” (6: 2-3). يهبنا روحه القدوس في ملء الزمان “كمطر متأخر يسقي الأرض” (6: 3).

إن كان هذا السفر قد أبرز ما بلغه الشعب من شرور حتى صار في حالة موت لكن الستار لم يُسدل عند هذا الفصل، بل أعلن النبي عظمة الخلاص المُقدم لنا، الذي يبتلع الموت إلى النهاية، قائلًا: “أين أوباؤك يا موت؟! أين شوكتك يا هوية؟!” (13: 14).

  1. كما ربط الله تأديباته الحازمة بالرجاء المفتوح لكل الخطاة حتى لا يسقط أحد في اليأس، فمن الجانب الآخر إذ يعلن محبته اللانهائية لشعبه ليكشف عن مرارته من جهة خيانة هذا الشعب له. فهو محب لعروسه لكنه لا يقبل خيانتها ولا يهادنها، يطلب يدها مقدسًا إياها من كل زنى روحي؛ بهذا ينزع عن الخطاة كل استهتار بالخطية؛ فلا حزم الله يغلق باب الرجاء، ولا حب الله يدفعنا للاستهتار.
  2. خيانة الإنسان لإلهه لا يمكن فصلها عن خيانته لأخيه الإنسان (4: 1، 4)، فالخيانة طبيعة متى سقط فيها مارسها حتى في علاقته مع نفسه. لهذا فتوبة الخاطئ ورجوعه إلى الله لا يعني مجرد تغيير خارجي في السلوك، وإنما تغيير داخلي يمس طبيعة الإنسان الداخلية. يقول: “ازرعوا لأنفسكم بالبرّ واحصدوا بحسب الصلاح” (10: 12). ليُزرع فينا السيد المسيح نفسه بالبرّ الحقيقي لنحصد صلاحه فينا، ونحمل سماته عاملة في داخلنا.

سفر هوشع ومعرفة الله

كثيرًا ما تحدث هذا السفر عن معرفة الله، فعند محاكمة الله لشعبه وجه إليهم هذا الاتهام: “لأنه… لا معرفة الله في الأرض” (4: 1)، واِعتبر خطية الزنا التي تغلغلت في وسطهم مرتبطة بعدم معرفة الرب وعلتها، إذ يقول: “لأن روح الزنى في باطنهم وهم لا يعرفون الرب” (5: 4). وفي اتهامه للكهنة ركز على نفس الاتهام، قائلًا: “قد هلك شعبي من عدم المعرفة، لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تَكهِن لي” (4: 6). وبسبب عدم المعرفة لم يقبل الله ذبائحهم ولا تقدماتهم، إذ يقول: “أريد… معرفة الله أكثر من محرقات” (6: 6).

هذا من الجانب السلبي، أما من الجانب الإيجابي، فإن هذا السفر وهو سفر الوحدة الزوجية بين الله وشعبه يعلن عن غاية هذه الوحدة: “أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب” (2: 20). هذه المعرفة التي تقتنيها الكنيسة خلال تمتعها بالقيامة مع مخلصها، إذ يقول: “في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه، لنعرف فلنتتبع، لنعرف الرب” (6: 3).

ليتنا إذن نقتني معرفة الله فينا فنسمعه يقول: “وأنا الرب إلهك من أرض مصر، وإلهًا سواي لست تعرف” (13: 4).

والآن ماذا تعني “معرفة الله” التي يقدمها الله لعروسه المقامة من بين الأموات، والتي هي غاية وحدته معها، وبدونها يرفض الكهنة ولا يقبل تقدمات الشعب؟

دراستنا لهذا السفر تعطينا إجابة صريحة عن هذا السؤال، لكن ما نريد تأكيده هنا أن معرفة الله لا تعني مجرد التعرف عليه خلال الدراسة العقيدية الفكرية البحتة، ولا إدراك أسراره الإلهية بالمنطق البشري، إنما التعرف عليه خلال الاتحاد معه في المسيح يسوع وإدراك أسرار محبته ورعايته عاملة في حياتنا، ومشاركتنا سماته الإلهية الفائقة، ودخولنا إلى أمجاده الخفية… أو في عبارة مختصرة، كما يقول القديس إيرينيؤس: [رفع الإنسان إلى حياة الله[1]]، وكما يقول القديس إكليمنضس الإسكندري هي دخول إلى: [كمال المسيح[2].]

إن كان الله يسكن في نور لا يُدنى منه (1 تي 6: 16)، ولا يقدر أحد أن يرى وجهه (حز 33: 20)، لذا لا نستطيع أن نتعرف على طبيعته إذ هي فوق إدراكنا، وإنما كما يقول القديس إيريناؤس يجعل نفسه معروفًا لدينا، معلنًا ذاته من قبيل تنازله، مانحًا هذه العطية العظمى لمختاريه حسب غنى نعمته الفائقة: [لا يقدر الإنسان على معاينة الله، لكنه إذ يريد للبشر أن يروه، ينظره المختارون، عندما يختار وكما يختار[3].] أن كنا لا نستطيع نحن أن نرتفع إلى فوق لإدراك أسراره العلوية، ففي محبته ينزل إلينا ليعلن ذاته في داخلنا ويقيم ملكوته فينا، فندرك الأمور غير المدركة ولا منطوق بها. وكما يقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [الغنوس (المسيحي التقي صاحب المعرفة) الذي أتحدث عنه يدرك ما يبدو للآخرين غير مدرك، إذ يؤمن أنه ليس شيء غير مدرك لدى ابن الله، ولا شيء لا يمكن تعلمه. فمن تألم حبًا فينا لا يخفي عنا شيئًا من المعرفة اللازمة لتهذيبنا[4].] كما يقول: [من يؤمن بالكلمة يعرف الأمور على حقيقتها، لأن الكلمة هو الحق[5].] ويقول القديس أوغريس: [لتعلم أن الثالوث القدوس لا يجعل نفسه معروفًا بنظر الكائنات الجسدية ولا بالتأمل في الكائنات الروحيّة، وإنما بتنازل النعمة في النفس لتقدم المعرفة… فإن الخلائق جاءت إلى الوجود من العدم، أما معرفة الثالوث القدوس فجوهرية وغير مدركة[6].]

اشتهى موسى أن يرى الله وجهًا لوجه، قائلًا له: “أرني وجهك” (خر33: 18). وكانت إجابة الله: “لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش”. لكن هذا لا يعني حرمان الإنسان من اللقاء مع الله ورؤية مجده، إذ أوجد الله لهذا الموقف منفذًا، بقوله لموسى النبي: “هوذا عندي لك مكان”، وكأنه يقول له، انفتح لك طريق لتحقيق شهوة قلبك، وقد أقمت لك مكان خلاله تستطيع معاينتي والتعرف عليّ عن قرب… ما هو هذا المكان الذي لموسى عند الله؟ “تقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى اجتاز ثم أرفع يدي فتنظر ورائي” (خر 33: 20، 23). يقول معلمنا بولس الرسول: “والصخرة كانت المسيح” (1 كو 10: 4). كأن المكان الذي لموسى النبي أو للبشريّة خلاله تعاين الآب، إنما هو السيد المسيح، الذي قيل عنه: “الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر” (يو 1: 18). ويقول السيد نفسه: “ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت 11: 27). ففي السيد المسيح ندرك الآب ونتعرف عليه.

إذن لندخل مع موسى في النقرة التي للصخرة، أيّ ندخل إلى أحشاء السيد المسيح، صخر الدهور،

خلال جنبه المطعون، فنلتمس أحشاء محبته الملتهبة نارًا، وندرك عمل نعمته الفائقة، ونتفهم أسراره من نحونا.

لنتعرف على الآب ولنعاينه في المسيح يسوع ربنا خلال البصيرة الداخلية المقدسة، أيّ بالقلب النقي كوعد الرب: “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 5: 8). بالتقديس الحقيقي نتعرف على الله ونعاينه كما بالخطية تنطمس بصيرتنا ولا نتعرف عليه كما لا نستحق أن يعرفنا هو. هكذا ترتبط المعرفة بالحياة المقدسة التعبدية والسلوكية. في هذا يقول الأب أوغريس: [إن كنت لاهوتيًا (صاحب معرفة) فأنت تصلي حقًا، وإن كنت تصلي بحق فأنت لاهوتي[7]]. ويقول القديس أنبا أنطونيوس: [من يعرف الله يكون صالحًا. فإذ لم يكن الإنسان صالحًا فهذا يعني أنه لا يعرف الله، والله لا يعرفه، لأن الصلاح هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله[8]]. ويقول القديس مرقس الناسك: [إن أحببت المعرفة، حب العمل أيضًا، لأن المعرفة بدون العمل تنفخ الإنسان[9]]. كما يقول: [إن أردت أن تخلص وتصل إلى معرفة الحق، حث نفسك على التسامي فوق الأمور الحسية وتمسك مترجيًا الله وحده[10]]. كما يقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [إنه بالابن ننعم بالحب، فندرك الله الآب الذي هو الحب، لأن الشبه يُعرف بالشبه[11].]

بهذا نعرف الله… بالاتحاد معه في المسيح يسوع الذي يقدسنا بروحه القدوس واهبًا إيانا البصيرة الروحيّة المستنيرة لإدراك الأسرار الفائقة، كحياة نعيشها مع الله ونتلمسها عمليًا.

سفر هوشع والعهد الجديد اقتبس العهد الجديد الكثير من عبارات هذا السفر، منها:

  1. جاء في الرسالة إلى أهل رومية: “كما يقول هوشع أيضًا، سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والتي ليست محبوبة محبوبة” (رو 9: 25)، نقلًا عن هوشع (9: 10).
  2. جاء في إنجيل معلمنا متى: “وكان هناك إلى وفاة هيرودس لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني” (مت 2: 15؛ هو 11: 1).
  3. يقول السيد: “إني أريد رحمة لا ذبيحة” (مت 9: 13؛ 12: 7؛ هو 6: 6).
  4. في حديث الرسول بولس عن قوة قيامة السيد المسيح العاملة فينا يقول: “أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هاوية؟!” (1 كو 15: 55؛ هو 13-14).
  5. جاء في سفر الرؤيا: “وهم يقولون للجبال وللصخور أسقطي علينا واخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الحمل” (رؤ 6: 16) مقتبسًا ذلك من هوشع (10: 8).

سفر هوشع ونبوتا إرميا وحزقيال

تأثر النبيان إرميا وحزقيال كثيرًا بهوشع النبي واقتبسا أيضًا من كتاباته، فتأثر إرميا النبي بما كشفه هوشع النبي عن علاقة الله بشعبه بكونها علاقة عريس بعروسه وأن الخطية هي التي تحطم هذه الوحدة الزوجية فتبطل صوت الفرح وتحول الأرض إلى خراب. جاء في سفر إرميا: “وأبطل من مدن يهوذا ومن شوارع أورشليم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس، لأن الأرض تصير خرابًا” (إر 7: 34) (راجع أر16: 9؛ 25: 10). وقد اقتبس حزقيال ذات الفكر، قائلًا: “وأبطل قول أغانيك، وصوت أعوادك لن يُسمع بعد” (حز 26: 3)، أما هوشع فيقول: “وأبطل كل أفراحها أعيادها ورؤوس شهورها وسبوتها وجميع مواسمها… ولكن هأنذا أتملقها وأذهب بها إلى البرية وألاطفها… وأخطبك لنفسي إلى الأبد” (2: 11، 14، 19).

يتحدث الله في سفر حزقيال معاتبًا شعبه الذي تسلم من يديه عطايا وبركات استخدمها لحساب الشر: “وأخذتِ أمتعة زينتك من ذهبي ومن فضتي التي أعطيتك وصنعت لنفسك صور ذكور وزينت بها، وأخذت السميذ والزيت والعسل الذي أطعمتك وضعتها أمامهم رائحة سرور” (حز 16: 17، 19). إنها ذات الكلمات التي عاتب بها الله شعبه في هوشع (2: 8 – 9).

 في حزقيال أيضًا يتحدث الله عن الريح الشرقية التي يبَّست ثمرة الأرض، أيّ أفسدت إسرائيل، قصفت ويبست فروعها القوية، أكلتها النار (حز 19: 12)، وهي ذات الريح التي تحدث عنها هوشع: “وإن كان مثمرًا بين إخوة تأتي ريح شرقية، ريح الرب طالعة من القفر فتجف عينه وييبس ينبوعه، هي تنهب كنز كل متاع شهي” (13: 15).

اقتبس أيضًا حزقيال من هوشع وصفه إسرائيل كأرض يابسة محرومة من المطر الذي يروي النفس، أيّ من عمل الروح القدس، فيقول: “والآن غرست في القفر في أرض يابسة عطشانة” (حز 19: 13). وفي هوشع: “وأجعلها كقفر وأصيرها كأرض يابسة وأميتها بالعطش” (2: 3).

يحدثنا إرميا عن الخلاص المقدم لإسرائيل خلال داود ملكهم، أيّ خلال “ابن داود” المسيّا المخلص (إر 30: 9)، الأمر الذي أكده حزقيال من بعده (حز 34: 23) وقد سبقهما في ذلك هوشع (3: 5).

سفر هوشع من الجانب الأدبي

  1. جاء هذا السفر في غالبيته شعرًا، عباراته وتعبيراته قصيرة ومركزة للغاية، أشبه بإنذار خطير دوى سريعًا وبقوة ليحذر من الخطر المحدق.
  1. هذا السفر مليء بالتشبيهات والاستعارات مثل: النار (8: 14)، النور (6: 5)، المطر (2: 6)، سحاب الصبح والندى (6: 4؛ 13: 3)، العث (5: 12)، السوس (5: 12)، الأسد والشبل (5: 14)، الأسد والنمر والدب (13: 7-8)، الحمار الوحشي (8: 9)، طيور السماء (7: 12؛ 9: 11)، الحمامة الرعناء (7: 11)، النسر (8: 11)، العصفور (11: 11)، الريح والزوبعة (8: 7)، السحابة والندى والدخان (13: 3؛ 14: 4)، المحبوبة للأجرة (9: 1)، الماخض التي تلد (13: 13)، الفخ والشبكة (5: 1؛ 7: 12)، التنور (7: 4، 7)، القوس (7: 16)، الرحم المسقط والثديان اليابسان (9: 14)، والسوسن (14: 5)، شجرة الزيتون (14: 6)، الحنطة والخمر والكرم (14: 7)، السروة الخضراء (14: 5)، العوسج (9: 6) إلخ…

أقسام السفر:

1.حال إسرائيل

   

1-3.

2. الرب يحاجج شعبه

   

4-10.

3. التأديب مع إشراقة الخلاص

   

11-13.

4. ثمار التوبة

   

14.

فاصل

سفر هوشع : 1234567891011121314 
تفسير سفر هوشع : مقدمة1234567891011121314

زر الذهاب إلى الأعلى