تفسير سفر القضاة ١١ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الحادي عشر
إقامة يفتاح قاضيًا
كان يفتاح ابنًا لامرأة زانية طرده إخوته لكي لا يرث في بيت أبيهم، ولكنه حمل قلبًا متسعًا لهم، وإذ كان روح الرب عليه قام ليخلصهم.
- هروب يفتاح من إخوته [1-3].
- شيوخ جلعاد ويفتاح [4-11].
- حوار مع ملك بني عمون [12-28].
- نذر يفتاح المرير [29-40].
١. هروب يفتاح من إخوته:
كلمة “يفتاح” تعني (الذي يفتح)، ولعله بهذا الاسم حمل صورة رمزية لسمة السيد المسيح وتصرفاته الخلاصية. فإذ كان قلب إخوته مغلقًا فطردوه من بينهم حتى لا يرث في بيت أبيهم، اضطر إلى الهروب إلى أرض طوب أي (الطيبة) شرق الأردن، خارج حدود إسرائيل كما يبدو من (2 صم 10: 6) حيث استأجر حانون ملك عمون جنودًا منها عندما أهان داود الملك، ويقال أنها تبعد 10 أميال جنوب جدة وتسمى الآن مقيس أو أم قيس، ومع هذا فقد فتح يفتاح قلبه ليقوم ويقودهم مخلصًا إياهم من بني عمون. كأنه رمز للسيد المسيح الذي أغلقت البشرية أبوابها أمامه فلم يجد له موضعًا يولد فيه بين الناس، فولد في مذود بقر، وفي خدمته أعلن صراحة أن ابن الإنسان ليس له موضعًا يضع فيه رأسه (مت 8: 20)، لكنه وهو المطرود من اليهود بكل فئاتهم مع الأمم فتح قلبه بالحب على الصليب ليضم الجميع ويحملهم إلى حضن أبيه، مصالحًا إيانا معه أبديًا (2 كو 5: 18).
السيد المسيح هو يفتاح الحقيقي، الذي يفتح ولا أحد يغلق (رؤ 3: 7)، يفتح لمؤمنيه أبواب الفردوس بعد أن أحكمنا إغلاقه بالعصيان.
وقد دُعي يفتاح بالجلعادي من جانبين؛ لأنه نشأ في جلعاد، ولأن أبيه يُدعي “جلعاد”.
أكدّ الكتاب أنه “ابن زنى”، لكن هذا لا يعيبه، فالابن لا يُطالب بخطية أبيه (حز 18: 20)، إنما إن أخطأ هو يموت. حقًا لقد حرمته الشريعة من دخول جماعة الرب، أي من العضوية في المجمع، لكنها لم تحرمه من قيادة الجيش والقضاء ولا من التمتع بالميراث الأبدي (تث 23: 2-3). في هذا يقول القديس جيروم: [كان يفتاح الذي يحسبه الرسول في عداد الأبرار (عب 11: 32) ابن زانية. لقد قيل: “النفس التي تخطئ هي تموت” (خر 18: 4). النفس التي لا تخطئ تحيا. هكذا لا تنسب فضائل الوالدين أو رذائلهم للأبناء؛ الله لا يحاسبنا إلاَّ من الوقت الذي فيه وُلدنا في المسيح من جديد[101]].
كان يليق بأخوة يفتاح أن يكسبوا أخاهم لا أن يخسروه بلا ذنب ارتكبه هو، فبغير حكمة طردوه، فاجتمع معه رجال بطالون كانوا يخرجون معه ربما للسلب والنهب… فجرفوه إلى الالتصاق بالأشرار وممارسة ما لا يليق، الأمر الذي كان لا يبرر يفتاح لكنه لا يعفي إخوته من المسئولية أيضًا.
- شيوخ جلعاد ويفتاح:
طُرد يفتاح من إخوته فهرب إلى ما وراء إسرائيل، إلى أرض طوب…. وكأنه بالسيد المسيح المطرود من خاصته ليهرب خارج إسرائيل، منطلقًا إلى الجلجثة بكونها “أرض طوب الحقيقية”، إذ هناك تجلت طيبة الرب وأُعلنت أحشاؤه الملتهبة بالحب نحو كل أحد. وكما قال الرب نفسه: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16).
حين طُرد يفتاح من جلعاد استند اخوته بلا شك على حكم قضائي صدر من شيوخ جلعاد، والآن جاء الشيوخ أنفسهم يسألونه العودة لمحاربة بني عمون، قائلين له: “تعال وكن لنا قائدًا فنحارب بني عمون” [6]. ويبدو أنهم طلبوه كقائد حرب فقط بكونه جبار بأس، لكنه لم يقبل أن يسندهم في الحرب ويطردوه في السلم، معلنًا احتجاجه: “أما أبغضتموني أنتم، وطردتموني من بيت أبي، فلماذا أتيتم إليَّ الآن إذ تضايقتم؟!” [7]. وحينما سألوه أن يكون لهم رأسًا (أي في حالتي الحرب والسلم)، أكد لهم: “فأنا لكم رأسًا” [9]… ودخل يفتاح في علاقة مع الرب في المصفاة [11].
يفتاح يمثل شخصية فريدة، فقد اعتدنا أن نجد أبطالاً روحيين حين تسلموا مراكز قيادية انحرفوا، إذ ابتلعتهم محبة السلطة والكرامة، أما يفتاح فقد بدأ حياته مع رجال بطالين كانوا يخرجون معه، وحينما سُئل أن يكون قائدًا للحرب اشتهى أن يكون رأسًا دائمًا لإسرائيل في الحرب كما في السلم… لكنه ما أن تسلم العمل حتى رأيناه رجل إيمان عجيبًا في تصرفاته. فإن كان البعض لا يحتملون المسئولية ولا الكرامة فينهارون روحيًا، فإن البعض الآخر ترهبهم المسئولية داخليًا لينطلقوا إلى بدايات جديدة لعمل روحي نامٍ في الرب.
تسلم يفتاح العمل بعد حواره مع شيوخ جلعاد لا من أيديهم بل من أيدي الرب نفسه لهذا لم يعتمد على ذاته، ولا على رجاله بل على الرب نفسه، قائلاً: “إذا أرجعتموني لمحاربة بني عمون ودفعهم الرب أمامي…” [9]. إن كانوا هم يرجعونه لكنه يحارب بالرب نفسه، سرّ غلبته ونصرته، بهذا الروح يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لا نقدر أن نجري في طريق الله إلاَّ محمولين على أجنحة الروح[102]].
- حوار مع ملك بني عمون:
بدأ يفتاح عمله بحكمة روحية عالية فلم ينطلق لمحاربة بني عمون بالرغم من إذلالهم لشعب إسرائيل سنوات طويلة، لكنه بروح الحكمة أرسل ليطلب سلامًا، قائلاً: “مالي ولك أنك أتيت إليَّ للمحاربة في أرضي؟!” [12]. أرسل إليه بلطف يسأله ألاَّ يحاربه في أرضه، لكن ملك بني عمون أجابه أنه يحاربه لأنه قد اغتصب أرضه عندما صعد إسرائيل من مصر ودخل أرض الموعد. حقيقة الأمر أن إسرائيل قد مُنع من محاربة بني موآب وبني عمون (تث 2: 9، 19)، لكن الأرض موضع خلافهم كانت في الأصل لبني عمون وقد استولى عليها الأموريين (عد 21: 26)، وإذ منع سيحون ملك الأموريين إسرائيل من العبور عليها بسلام وخرج لمحاربتهم غلبوه واستولوا على أرضه التي هي في الأصل غالبيتها لبني عمون ولبني موآب، فما استولوا عليه إنما من الأموريين. فمطالبة بني عمون بأرضه الممتدة من نهر أرنون والذي يعني اسمه (مصّوب)، إلى نهر اليبوق والذي يعني اسمه (مفّرغ) وهو نهر الزرقاء، إلى نهر الأردن، هي مطالبة بدون حق.
هذا ومن جانب آخر فإن إسرائيل كان قد استولى على الأرض منذ حوالي 300 عامًا فصارت حقًا له بوضع اليد [26].
أما الحجة الثالثة التي قدمها يفتاح للملك فهي أن ما ناله إسرائيل في الواقع ليس من بني عمون أو بني موآب ولا من الأموريين، إنما تسلمها من الرب نفسه، كعطية إلهية: “والآن الرب إله إسرائيل قد طرد الأموريين من أمام شعبه إسرائيل، أفأنت تمتلكه؟! أليس ما يملكك إياه كموش إلهك تمتلك، وجميع الذين طردهم الرب إلهنا من أمامنا فإياهم نملك؟!” [ 23-24]. وكأن موضع الحوار وموقعه ليس الأرض وإنما مملكة الله، فالله وهبهم أن يملكوا ويطردوا الأمم فهل يرفضون عمل الله معهم؟ الأرض في ذاتها – في عيني يفتاح – تحمل علامة ملكية الرب وقبول المؤمنين لوعوده وعطاياه، وكل تراخٍ في امتلاكها يُحسب إهانة موجه ضد الله شخصيًا. بهذا الفكر تطلع الرسول بولس إلى أعضاء جسده وكأنها بالأرض التي ملك عليها بنو عمون وبنو موآب والأموريين زمانًا، لكنه إذ طرد الله الشر عن هذه الأعضاء ليملك بنفسه عليها، فهل يسلمها الإنسان للأمم الوثنية (للخطايا والشهوات) مرة أخرى؟! وكما يقول الرسول بولس: “أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية؟!” (1 كو 6: 15).
لقد سلمنا الله حياتنا متجددة فيه بالروح القدس، وكأنها بالأرض الممتدة من أرنون (المصّوب) إلى اليبوق (مفّرغ) إلى الأردن حيث نجد السيد المسيح حالاً فيه. هكذا تمتد حياتنا من الأرنون أي نبدأ بعمل التصويب أو تصحيح حقيقي داخلي بروح الله القدوس، إلى اليبوق حيث يحدث تفرغ كامل من الشر وكل أعمال إبليس الذي احتل الموقع، إلى الأردن ليملك السيد المسيح في مياهه معلنًا نصرته على لويثان الساكن في المياه وفاتحًا أبواب السماء لنسمع صوت الآب المفرح وحلول الروح القدس! إذ تسلمنا هذه الحياة الجديدة في الرب أو الأرض المفرّغة من إبليس ليملك الرب عليها، لا يليق بنا أن نترك العدو يحتلها مرة أخرى !
ما أجمل ما قاله يفتاح: “فامتلكوا من أرنون إلى اليبوق، ومن القفر إلى الأردن” [22]! كأنه يقول أن المؤمن يملك من موضع التصويب الداخلي إلى التفريغ… أي يسلكوا في حياتهم الروحية عمليًا، فإذ يطلبون تصحيحي حياتهم وتجديدها في الرب يتفرغون تمامًا عن إبليس وأعماله. أما قوله: “من القفر إلى الأردن”، فتعني كمن ينتقل من القفر والقحط إلى الفردوس حيث يوجد السيد المسيح شجرة الحياة داخله. فالأردن أو المعمودية ليس إلاَّ عودة إلى الحياة الفردوسية على مستوى سماوي، إذ هي دخول إلى الاتحاد مع الآب في ابنه يسوع المسيح كعضو في جسده المقدس، بالروح القدس. هذه احساسات آباء الكنيسة عند حديثهم مع الموعظين، إذ كانوا يشعرونهم أنهم يقودونهم إلى الفردوس عينه، من هؤلاء الأباء القديس يوحنا الذهبي الفم والأب ثيؤدور الميصي.
أخيرًا، إذ أراد يفتاح من ملك بني عمون أن يراجع نفسه في قراره بمحاربة إسرائيل سأله أن يتمثل بملك موآب، فإنه فقد أيضًا أرضه كبني عمون، لكنه لم يحارب إسرائيل، أو ربما بعدما بدأ بالمحاربة عاد ليراجع نفسه فامتنع عن المحاربة.
- نذر يفتاح المرير:
“ونذر يفتاح نذرًا للرب قائلاً: إن دفعت بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأصعده محرقة” [30-31].
كان هذا النذر- في رأي كثير من الأباء – لا يحمل شيئًا من الحكمة، ولعل الله أراد أن يلقن يفتاح بل وكل المؤمنين عبر الأجيال درسًا قاسيًا، فسمح بخروج ابنته الوحيدة العذراء للقائه، فصار يفتاح في مرارة. لما رآها مزق ثيابه، وقال: “أه يا بنتي قد أحزنتني حزنًا، وصرتِ بين مكدري، لأني قد فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع” [35]. يقول القديس أمبرسيوس: [كان نذرًا قاسيًا، لكن تحقيقه كان أكثر مرارة، فإذ تممه دخل في علة شديدة للحزن… إنه من الأفضل ألاَّ تنذر من أن تنذر مالا يرغب الله في تقديمه له[103]]. كما يقول: [كان الأفضل له ألاَّ ينذر بالمرة من أن يقوم بإماتة ابنته[104]].
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله لم يوقف تقديم هذه الذبيحة كما فعل في ذبح إسحق بالرغم من عدم قبوله الذبائح البشرية، وذلك لكي تكون درسًا للبشرية، فلا يتسرع أحد بتقديم نذر بقسم لئلا يفقدون أولادهم إذ يقول: [بسماحة تحقيق مثل هذا النذر وضع الله نهاية لتكرار مثل هذا في المستقبل[105]]. كما يقول: [حقًا إنه لم يوقف تحقيق هذه الذبيحة، وإن كان قد عبر عن سروره بمنعها في حالة إسحق إذ لم يسمح بإتمامها (تك 22: 12)، مظهرًا أنه في كلتى الحالتين لا يُسر بمثل هذه الذبائح[106]].
على أي الأحوال بالرغم من كراهية الله للذبائح البشرية لكن يفتاح وابنته – ربما بعدم معرفة –اشتاقا أن يقدما أغلى ما لديهما لله، فيفتاح لم يتراجع عن نذره مع أن ابنته عذراء ووحيدة، بمعنى آخر يفقد نسله إلى الأبد. وقدمت ابنته حياتها بالرغم من مرارة نفسها لأنها تموت بلا نسل ويلحقها العار، ولهذا السبب قالت لأبيها: “أتركني شهرين فأذهب وأنزل على الجبال وأبكي عذراويتي أنا وصاحباتي” [37]. كانت تبكي عذراويتها إذ كانت كل فتاة في إسرائيل تشتاق أن يكون لها نسل لعل المسيا المخلص يأتي منه، والآن إذ تموت عذراء تفقد هذا الرجاء… على أي الأحوال كان يمكن لها أن تفلت بطريق أو بآخر لكنها منذ البداية قالت لأبيها: “أفعل بيّ كما خرج من فيك” [36]، وبعد الشهرين عادت بكامل حريتها تسلم نفسها للموت بيدي أبيها.
لقد قدم يفتاح ابنته ذبيحة لله، وكان في هذا يحمل رمزًا للإنسان الذي يقدم حياته (ابنته الوحيدة) ذبيحة حب لله. لهذا عندما فقد أحد النبلاء الأثرياء يوليان زوجته وبنتيه كتب إليه القديس جيروم ليدخل إلى الرهبنة، مقدمًا لله حياته نذرًا بتكريسها للعبادة لله، الأمر الذي يُفرح قلب الله أفضل من تقدمات كثيرة. يقول له: [قدم يفتاح ابنته العذراء، لهذا وضعه الرسول في عداد القديسين (عب 11: 32). لا أريدك أن تقدم للرب ما قد يسرقه لص منك أو يستولي عليه عدو…. إنما قدم لله ما لا يستطيع عدو أن ينزعه عنك، ولا طاغيه أن يغتصبه منك، بل يذهب معك إلى القبر، لا بل إلى الملكوت، إلى نعيم الفردوس[107]].
أخيرًا يعلل القديس يوحنا الذهبي الفم سرّ نحيب العذارى بقوله [بهذا يجعلن الرجال أكثر حكمة في المستقبل، فيدركون أن ما حدث لم يكن متفقًا مع فكر الله[108]].
سفر القضاة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 – 17 – 18 – 19 – 20 –21
تفسير سفر القضاة: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 – 17 – 18 – 19 – 20 –21