تفسير سفر القضاة ٦ للقس أنطونيوس فكري

الإصحاح السادس

نجد هنا صورة متكررة لقد أراح الله الأرض 40 سنة فعوضاً عن أن يشكروا الرب على إحساناته نسوا الله وعاشوا فى الخطية، وهى صورة متكررة فى سفر القضاة وفى حياة كل منّا. وهنا تركهم الرب للمديانيين، ليس مديانيين الجنوب حيث عاش يثرون حمو موسى بل مديانيين الشرق الذين كانوا قد إتحدوا مع موآب فى موضوع بلعام وكان هؤلاء أشرار مملوئين عنفاً، وكانوا أول من أستخدم الجمال المدجنة على نطاق واسع ممّا جعل الإغارة من مكان قصى أمراً سهلاً عليهم. وقد إتفقوا مع العمالقة وبنى المشرق (قبائل من عرب البادية) على مضايقة الإسرائليين فهرب منهم الإسرائيليون إلى كهوف الجبال، وكلما زرع الإسرائيليون أتلفوا حقولهم وإستولوا على محصولاتهم وسلبوا حيواناتهم حتى لم يتركوا لهم القوت الضرورى للحياة.

 

الآيات (1-6): “عمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد مديان سبع سنين. فاعتزت يد مديان على إسرائيل بسبب المديانيين عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال والمغاير والحصون. وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق يصعدون عليهم. وينزلون عليهم ويتلفون غلة الأرض إلى مجيئك إلى غزة ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة ولا غنما ولا بقرا ولا حميرا. لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم ويجيئون كالجراد في الكثرة وليس لهم ولجمالهم عدد ودخلوا الأرض لكي يخربوها. فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب.”

إلى مجيئك إلى غزة =أى من الأردن إلى غزة أى بكل عرض البلاد.

 

الآيات (7-10): “وكان لما صرخ بنو إسرائيل إلى الرب بسبب المديانيين. أن الرب أرسل رجلا نبيا إلى بني إسرائيل فقال لهم هكذا قال الرب اله إسرائيل أنى قد أصعدتكم من مصر وأخرجتكم من بيت العبودية.و أنقذتكم من يد المصريين ومن يد جميع مضايقيكم وطردتهم من أمامكم وأعطيتكم أرضهم. وقلت لكم أنا الرب إلهكم لا تخافوا إلهة الاموريين الذين انتم ساكنون أرضهم ولم تسمعوا لصوتي.”

الله يرسل لهم نبياً يكشف لهم سبب تسلط مديان عليهم ألا وهو الخطية. وهذا النبى حدثهم عن محبة الله ليجذبهم للتوبة فلا خلاص سوى بالتوبة. وهكذا جاء يوحنا المعمدان قبل المسيح لينادى بالتوبة.

 

الآيات (12،11): “وأتى ملاك الرب وجلس تحت البطمة التي في عفره التي ليواش الابيعزري وابنه جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها من المديانيين. فظهر له ملاك الرب وقال له الرب معك يا جبار إلباس.”

ملاك الرب = هو أحد ظهورات المسيح قبل التجسد. ودليل هذا قوله أما أرسلتك (14) وإنى أكون معك (16). ولاحظ جلوس الملاك تحت البطمة = والبطمة شجرة لأن خلاص جدعون رمز لخلاص المسيح بصليبه الخشبى. عفرة =قرية لمنسى غرب الأردن ابيعزر =هو إبن جلعاد إبن ماكير إبن منسى. يخبط حنطة فى المعصرة = كان يضرب الحنطة بالعصا لينتزع عنها الحبوب فهو أولاً فقد أدوات الدرس بسبب هجمات العدو وثانياً كان يعمل هذا فى المعصرة حيث لا يتصور المديانيين أن هناك حنطة تدرس فى المعصرة وإلاّ أتوا وأخذوها. فهو كان مختبئاً عن عيونهم. وعموماً الضرب بالعصا يستخدم مع الكميات القليلة خصوصاً للفقراء الذين ليس لهم ماشية ولا أدوات للدرس. وكانت السنابل التى يخبطها جدعون هى الباقية بعد النهب ومعنى إسم جدعون = مصارع. وإذا كان جدعون يرمز للمسيح فالمسيح يصنع هذا أيضاً فهو يفصل الحنطة (أولاد الله) عن التبن (أولاد العالم) ليقدم أولاد الله للأب. وهو صنع هذا بصليبه(كما كان جدعون يخبط الحنطة بعصا). الرب معك يا جبّار البأس يبدو أن جدعون كان معروفاً بشجاعته. والله يستخدم الأقوياء كما الضعفاء ونلاحظ أن جدعون كان من أصغر عشيرة فى منسى رمزاً للمسيح جبار البأس الذى صار عبداً.

 

آية (13): “فقال له جدعون أسألك يا سيدي إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه وأين كل عجائبه التي اخبرنا بها آباؤنا قائلين ألم يصعدنا الرب من مصر والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان.”

نلاحظ هنا إهتمام جدعون بشعبه وغيرته عليهم، فالله يختار خدامه ممن كانت قلوبهم ملتهبة حباً لإخوتهم (هكذا كان موسى ويشوع وداود وأرمياء الباكى على شعبه) وكلمات جدعون لا تحمل معنى الشك فى مواعيد الله إنما العتاب بدالة المحبة يطلب المراحم لإخوته. مثل هذا يرسله الله لينقذ شعبه فالرب يفرح بقلب مثل هذا.

 

آية (14): “فالتفت إليه الرب وقال اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان أما أرسلتك.”

الله يرسله. بقوتك هذه = أى بغيرتك المقدسة.

 

الآيات (16،15): “فقال له أسألك يا سيدي بماذا اخلص إسرائيل ها عشيرتي هي الذلى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبى. فقال له الرب أنى أكون معك وستضرب المديانيين كرجل واحد.”

جدعون المملوء غيرة لا يعتذر عن العمل بل يقبل لكن يسأل كيف يخلص وهو الأصغر. ويرد الله إنى أكون معك. وهذا منهج روحى كامل يشعر أى خادم بأنه لا شئ وأنه الأصغر ولكن الله معهُ يقدر أن يغلب.

 

الآيات (17-24): “فقال له أن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فاصنع لي علامة انك أنت تكلمني. لا تبرح من ههنا حتى أتى إليك واخرج تقدمت وأضعها أمامك فقال أنى أبقى حتى ترجع. فدخل جدعون وعمل جدي معزى وايفة دقيق فطيرا أما اللحم فوضعه في سل وأما المرق فوضعه في قدر وخرج بها إليه إلى تحت البطمة وقدمها. فقال له ملاك الله خذ اللحم والفطير وضعهما على تلك الصخرة واسكب المرق ففعل كذلك. فمد ملاك الرب طرف العكاز الذي بيده ومس اللحم والفطير فصعدت نار من الصخرة وأكلت اللحم والفطير وذهب ملاك الرب عن عينيه. فرأى جدعون انه ملاك الرب فقال جدعون أه يا سيدي الرب لاني قد رأيت ملاك الرب وجها لوجه. فقال له الرب السلام لك لا تخف لا تموت.فبنى جدعون هناك مذبحا للرب ودعاه يهوه شلوم إلى هذا اليوم لم يزل في عفره الابيعزريين.”

استكثر جدعون على نفسه أن يكلمه الله بل يرسله كقاض للشعب فيطلب علامة حتى لا يظن أن ما يحدث كان حلماً أو خيالاً. وغالباً تصوَّر جدعون فى أول الأمر أن إنساناً عادياً يكلمه فهو مسافر معه عكاز، وهذا الشخص العادى كان يدفعه للقتال ليخلص شعبه ثم مع مرور الوقت ظهر أن هذا الشخص يتكلم بسلطان “أنا معك.. أنا أرسلك” فبدأ يشك هل ما يراه حقيقة أم خيال وهل من يكلمه هو الله لذلك أراد أن يقدم لهُ ما يقدم لله بحسب الشريعة (ذبيحة وفطير) فلو قبله يكون هو الله وعلامة قبول الله نزول نار من السماء لتقبل التقدمة، أمّا لو أكل المسافر الطعام بطريقة عادية لكان شخصاً عادياً. وكانت الصخرة هنا تقوم بدور المذبح. وجدى المعزى يشير للخطية التى قُدِّم بسببها المسيح ذبيحة خطية بصليبه أى العكاز فخرجت نار الروح القدس لتحرق خطايانا، فهو روح الإحراق. وبعد إختفاء الملاك تأكد جدعون أنه الرب فخاف فطمأنه الله، وأمام هذا الحب أقام جدعون مذبحاً لله الذى وهبه السلام يهوة شلوم = الله سلام (يو 14 : 27).

 

الآيات (25-32): “وكان في تلك الليلة أن الرب قال له خذ ثور البقر الذي لأبيك وثورا ثانيا ابن سبع سنين واهدم مذبح البعل الذي لأبيك واقطع السارية التي عنده. وابن مذبحا للرب إلهك على راس هذا الحصن بترتيب وخذ الثور الثاني واصعد محرقة على حطب السارية التي تقطعها. فاخذ جدعون عشرة رجال من عبيده وعمل كما كلمه الرب وإذ كان يخاف من بيت أبيه وأهل المدينة أن يعمل ذلك نهارا فعمله ليلا. فبكر أهل المدينة في الغد وإذا بمذبح البعل قد هدم والسارية التي عنده قد قطعت والثور الثاني قد اصعد على المذبح الذي بني.29 فقالوا الواحد لصاحبه من عمل هذا الأمر فأسالوا وبحثوا فقالوا أن جدعون بن يواش قد فعل هذا الأمر. فقال أهل المدينة ليواش اخرج ابنك لكي يموت لأنه هدم مذبح البعل وقطع السارية التي عنده. فقال يواش لجميع القائمين عليه انتم تقاتلون للبعل أم انتم تخلصونه من يقاتل له يقتل في هذا الصباح أن كان إلها فليقاتل لنفسه لان مذبحه قد هدم. فدعاه في ذلك اليوم يربعل قائلا ليقاتله البعل لأنه قد هدم مذبحه.”

إذ ظهر الله لجدعون، وتقدس الموضع بهذا الظهور، لم يكن ممكناَ أن يبقى البعل مع الظهور الإلهى ولا أن تقدم محرقات للرب مع ذبائح للبعل. وكانت أوامر الرب لجدعون أن:

  1. يهدم مذبح البعل الذى أقامه والده ويقطع السارية التى عنده وهى عمود خشبى يقام فى موضع مرتفع عنده تقدم العبادة للبعل والعشتاروت زوجته.
  2. خذ ثور البقر الذى لأبيك = على جدعون أن يأخذ الثور من أمام أبيه لأن أبوه كان يُعِّدْ هذا الثور ليقدمه ذبيحة للبعل(ويستعمله سواء للجر أو كطعام).
  3. يأتى بثور 7 سنوات (بعدد سنوات ذل الشعب للمديانيين 6 :1) وكأن بموت هذا الثور تنتهى سنوات الذل لمديان. وهناك رأى بأن الثور الثانى كان ملكاً لأهل القرية وكانوا يعدونه أيضاً ليقدم ذبيحة (وهذا سبب هياج أهل القرية).
  4. أن يبنى مذبحاً للرب يقدم عليه الثور الثانى ويستخدم خشب السارية كحطب (وقود) وما طلبه الله من جدعون هو بصورة استثنائية فجدعون ليس من سبط لاوى ولا هو كاهن. وما عمله جدعون ليس إغتصاباً للكهنوت فهو يطلب من الله وليس شهوة كهنوت ولكن غالباً كان اللاويين هاربين بسبب المديانيين. بل غالباً ما طلبه الرب من جدعون ليس تقديم ذبيحة خطية أو محرقة بل إظهار ضعف البعل وأنه غير قادر على الدفاع عن نفسه. فالذبائح لا تقدم سوى فى خيمة الإجتماع. إذاً تقديم الثور ذبيحة ليس عملاً كهنوتياً بل إظهار أن عبادة البعل باطلة وهذا عمل استثنائى. ونلاحظ فساد المدينة التى هاجت على جدعون ورجاله العشرة. فعابدى البعل أكثر كثيراً من عابدي يهوه فطبيعة عبادة البعل تتمشى مع طبيعة الإنسان الساقطة ويبدوا أن يؤأش والد جدعون كان يعبد البعل بينما كان جدعون يقاوم هذا العمل. ويبدو أن رجالة العشرة كانوا معه ضد عبادة البعل. وحينما طلب أهل المدينة قتل جدعون تشدد أباه وساند ابنه، فهناك نفوس تتشجع إذا وجدت من يبدأ العمل. ويؤاش سخر من قوم يدافعون عن إلههم المحطم. من يقاتل له يقتل هذا الصباح أي من يدافع عن البعل يقتل سريعاً هذا الصباح. ودعا يؤاش ابنه يربعل = أي من بنيه وبين البعل قتال. وصار هذا الاسم شهرة لجدعون بعد ذلك. ليقاتله البعل هذه سخرية من البعل الذي عليه أن يقاتل جدعون إذا استطاع بعد أن هدم مذبحه.

 

الآيات(33-35): “واجتمع جميع المديانيين والعمالقة وبني المشرق معا وعبروا ونزلوا في وادي يزرعيل. ولبس روح الرب جدعون فضرب بالبوق فاجتمع ابيعزر وراءه. وأرسل رسلا إلى جميع منسى فاجتمع هو أيضا وراءه وأرسل رسلا إلى اشير وزبولون ونفتالي فصعدوا للقائهم.”

وادى يزرعيل = هذا الوادى فى قلب فلسطين لذلك كثيراً ما كان موقعاً للمعارك. وهذا الوادى يمتد من جبل الكرمل إلى وادى الأردن. وتجمع المديانيين كان :

  1. أنه وقت الحصاد فهم أتوا لغنم الغنيمة (ودليل هذا أن جدعون كان يخبط الحنطة).
  2. لتأديب جدعون ومن معهُ على هدم مذبح البعل وربما شعروا أن هدم مذبح البعل هو ثورة ضدهم أرادوا إجهاضها بعنف. فضرب بالبوق = من كان يضرب الحنطة سراً من الخوف، بعد أن لبسه روح الرب تغير تماماً ليصبح قائداً للجيش. وهذا ما حدث مع التلاميذ يوم الخمسين. بل أن روح الرب حرّك عشيرته فاجتمعت وراءُه. هؤلاء الذين ثاروا عليه بسبب هدم مذبح البعل الأن يتحركون وراءُة للحرب. والروح القدس قادر أن يجعل جسدى المستعبد للخطية أداة فى يد الرب للخدمة كأداة بر. ولقد إستدعى جدعون أخرين وإستجابوا لهُ.

 

الآيات (36-40): “وقال جدعون لله أن كنت تخلص بيدي إسرائيل كما تكلمت. فها أنى واضع جزة الصوف في البيدر فان كان طل على الجزة وحدها وجفاف على الأرض كلها علمت انك تخلص بيدي إسرائيل كما تكلمت. وكان كذلك فبكر في الغد وضغط الجزة وعصر طلا من الجزة ملء قصعة ماء. فقال جدعون لله لا يحم غضبك علي فأتكلم هذه المرة فقط امتحن هذه المرة فقط بالجزة فليكن جفاف في الجزة وحدها وعلى كل الأرض ليكن طل. ففعل الله كذلك في تلك الليلة فكان جفاف في الجزة وحدها وعلى الأرض كلها كان طل.”

جدعون يطلب علامة ليخرج للحرب. وفى هذه العلاقة رأى الأباء تفسير لطيف. فالندى الذى على الجزة هو الإيمان الذى كان فى اليهود فكلمة الله تنزل كندى (تث 32 : 2) بينما كان العالم كله جافاً بسبب خضوعه لإبليس. والعكس فالندى على الأرض كلها ما عدا الجزة هو رفض اليهود وقبول الأمم. (مت 15 : 24 + أش 5 : 6 + مز 72 : 6) لقد تحول المجرى الإلهى إلى قلوب الأمم (رو 5:5). وهذا يعنى أن المسيح ترك خراف بيت إسرائيل الضالة لأنها رفضته وتحول للأمم.

فاصل

سفر القضاة : 123456789101112131415161718192021

تفسير سفر القضاة: مقدمة123456789101112131415161718192021

زر الذهاب إلى الأعلى