تفسير سفر اللاويين ٢٦ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح السادس والعشرون
البركات واللعنات
غاية هذا السفر هو التمتع بالحياة المقدسة بالله القدوس، وقد جاء هذا الأصحاح أشبه بخاتمة للسفر يكشف عن البركات التي تحل بالإنسان الذي يقبل عمل الله في طاعة لوصاياه كما أعلن اللعنات التي تحل بمن يرفض الوصية ولا يقبل الحياة المقدسة، هذه اللعنات هي ثمرة طبيعية للخطية والعصيان.
1. عبادة الله القدوس [1-2].
2. بركات الطاعة لله القدوس [3-17].
3. اللعنات الحالة على العصاة [18-39].
4. قبول الخطاة التائبين [40-46].
1. عبادة الله القدوس:
إذ يطالبهم بالإرتباط به سألهم ألا يقيموا تمثالاً منحوتًا من الحجارة أو نصبًا من الخشب ولا يصوروا حجرًا ليسجدوا له للعبادة كما يفعل الوثنيون.
أما علامة ارتباطهم به فهي “سبوتي تحفظون ومقدسي تهابون أنا الرب” [2]… هذه الوصية بفرعيها أي حفظ السبت أي تقديسه للرب والسلوك بمهابة في مقدس الرب أو بيته هما علامة حبنا لله وإرتباطنا. حفظ السبت يعني تقديس الزمن لحساب الرب، ومهابة المقدس يعني تقديس المكان، وكأن المؤمن يقدس كل زمان حياته وكل موضع ليكون مكرسًا للرب بلا انقطاع. نحفظ السبت حتى يرفعنا الله بروحه القدوس إلى ما هو فوق الزمن، أي ينطلق بنا إلى أبديته، ونهاب مقدسه لكي ننعم بمقادسه السماوية، بهذا نحيا للرب أبديًا على مستوى سماوي.
2. بركات الطاعة لله القدوس:
إذ يدعونا للعبادة له دون سواه، معلنين قبولنا ملكوته بتقديس سبته أبديًا ومهابتنا لمقدسه السماوي، يكشف لنا بركات هذا اللقاء مع الله، خاصة خلال الطاعة لوصيته وحفظنا وصاياه، متجاوبين مع القدوس بالخضوع لدستوره المقدس:
أولاً: التمتع بالمطر في حينه “إذا سلكتم في فرائضي وحفظتم وصاياي وعملتم بها، أعطي مطركم في حينه” [3-4]. فالمطر في صورته الحرفية هو عطية الله للكل، إذ يمطر الله على الأبرار والظالمين (مت 5: 45)، وليس مكافأة خاصة بحافظي وصاياه وحدهم. أما في المفهوم الروحي فهو خاص بالعصر المسياني، ففي دراستنا لكثير من أسفار الأنبياء رأينا المطر هو إحدى سمات هذا العصر الأساسية، إذ هو عطية الروح القدس التي وهبت بفيض على الكنيسة في يوم الخمسين لكي يحيا المؤمنون ثابتين في المسيح بالروح القدس، الذي يمطر عليهم ليحول قلبهم القفر إلى فردوس مثمر وجنة سماوية تبهج قلب العريس.
ويرى العلامة أوريجانوس في المطر إشارة إلى التمتع بالكلمات الإلهية بإدراكها روحيًا، هذه التي تنعش نفوسنا، إذ يقول: [إبحث في الكتب المقدسة أي مطر يوهب للقديسين وحدهم؟!… جاء في سفر التثنية: “إنصتي أيتها السموات فأتكلم، ولتسمع الأرض أقوال فمي يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي” (تث 32: 1-2). هل هذا القول هو من عندياتي؟! ألم يعلن موسى هذا المطر؟!… بجانب ما جاء في الأنبياء أن الله يفتح فمه فينزل كلماته كالمياه على وجه الأرض (خر 34: 26)، يقول الرسول بولس: “لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة وأنتجت عشبًا صالحًا للذين فلحت من أجلهم تنال بركة من الله، ولكن إن أخرجت شوكًا وحسكًا فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها للحريق” (عب 6: 7-8). يقول الرسول عن هذه الأرض أنها تنال بركة الرب متى شربت المطر وأنتجت الثمر، وتحل عليها اللعنات من عند الرب متى حُرمت من المطر فأخرجت شوكًا وحسكًا. فإن استقبلت أرضنا – أي قلبنا – مطر تعليم الناموس الذي يسقط علينا دائمًا، وإذا حملت ثمار الأعمال تتمتع بالبركات. وبالعكس إن لم يكن لها أعمال روحية يكون لها الشوك والحسك أي هموم هذا العالم وشهواته فتكون قريبة من الهلاك وتستحق الحرق[312]].
إذن لنتقبل كلمة الرب كمطر سماوي يروي أرضنا الداخلية فتأتي بالثمر المتزايد وتتحول أعماقنا إلى جنة مفرحة، هذا المطر يسقط “في حينه“، لا بمعنى أنه يُقدم في وقت ولا يقدم في وقت آخر، وإنما يقدم هذا المطر للمؤمنين حسب إمكانيتهم واستعدادهم، البعض يتقبله خفيفًا والآخر كسيول سريعة، إذ تقدم كلمة الله تارة كلبن للأطفال (1 كو 3: 2)، وأخرى كدسم بيته من نهر نعمته (مز 36: 8). ولعل قوله “في حينه” يُشير إلى فيض عطية الروح القدس الذي حلّ على الكنيسة كمطر غزير بعد صلب السيد وقيامته وصعوده.
ثانيًا: “وتعطي الأرض غلتها” [4]، ما هي هذه الأرض التي تعطي غلتها إلاَّ الجسد الترابي الذي يتقدس بمطر الروح القدس فيُنزع عنه قفره ويتحول إلى فردوس روحي مثمر؟! ما هذه الأرض التي أثمرت إلاَّ جسدنا الذي عاش زمانًا هذا مقداره بلا ثمر حتى أخذه كلمة الله بتجسده فقدم ثمرًا فائقًا يبهج قلب الآب؟! لذا يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: [باركت طبيعتي فيك[313]].
يرى البعض أن هذه الأرض التي أثمرت هي القديسة مريم التي هي أرض مثلنا قدمت أعظم ثمر، هو ربنا يسوع المسيح بتجسده في أحشائها.
ثالثًا: “وتعطي أشجار الحقل أثمارها” [4]. رأى حزقيال النبي في الهيكل الجديد إذ تفيض المياه من عتبة البيت من جهة المذبح فصارت أشبه بنهر عظيم إذا بأشجار من كل نوع على الجانبين (حز 47)، ويشبه المرتل المؤمن بشجرة مغروسة على مجاري المياه تعطي ثمرها في حينه.
يحدثنا العلامة أوريجانوس عن الأشجار الداخلية فيقول: [في داخلنا أشجار إما صالحة أو رديئة (مت 7: 18)، فالأبرار لا يمكنهم أن يحملوا ثمارًا رديئة، بل أشجارًا تأتي بثمار جيدة. أتريد أن أعرفك بأسماء الأشجار التي في داخل نفوسنا؟ إنه لا يوجد فيها شجر تفاح أو كرم عنب، إنما توجد شجرة تسمى البر وأخرى تسمى اليقظة، وأيضًا القوة والإعتدال. إن أردت أن تعرف ففي داخلنا أنواع كثيرة من الأشجار تمثل جنة الرب، يزرعها الرب بنفسه. بالحق توجد أشجار التقوى والحكمة والتعليم ومعرفة الخير والشر، وفوق هذا كله توجد شجرة الحياة (تك 2: 9)[314]].
رابعًا “ويلحق دراسكم بالقطاف، ويلحق القطاف بالزرع، فتأكلون خبزكم بالشبع” [5]. يقصد بالدارس درس الغلات فيمتد موسم الدرس من كثرة المحصول حتى يأتي وقت قطاف الثمار من الأشجار، ويقطفون ثمار الأشجار حتى يأتي وقت الحصاد، وكأن حياتهم تتحول إلى فيض لا ينتهي، يقضي المؤمن حياته كلها يجني كل يوم ثمرًا جديدًا ويتمتع بحصاد لا ينقطع، لذا قيل “يأكل الودعاء ويشبعون” (مز 22: 26). في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [لا يكون في حياتنا فراغ… “من يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية” (غلا 6: 8)[315]]. كما يقول: [لا أفهم القول “تأكلون خبزكم بالشبع” على أنه بركة جسدية، كما لو أن الذي يحفظ ناموس الرب ينعم بالخبز العادي حتى يشبع، فإنه حتى الملحدين والمجرمين يأكلون منه لا بشبع فحسب بل وبشهوة!… إنما لننظر إلى القائل: “أنا هو الخبز النازل من السماء، من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد” (يو 6: 51). لنتأمل أن الناطق بهذا هو “الكلمة” (يو 1: 1)، الذي يشبع النفوس. هكذا نفهم الخبز الذي من عند الرب هو الخاص بالبركات… يقدم لنا سليمان إعلانات متشابهة في الأمثال، إذ يقول عن البار أن الصديق يأكل لشبع نفسه أما بطن الأشرار فتحتاج (أم 13: 5)… البار يأكل خبز الحياة على الدوام بغير توقف فتشبع نفسه بالطعام السماوي الذي هو كلمة الآب وحكمته[316]].
خامسًا: “وتسكنون في أرضكم آمنين” [5]. جاء في مناظرات القديس يوحنا كاسيانحين سُئل أحد الآباء: كيف يتحقق وعد الله بأن من يترك بيوتًا وأراضي من أجل الرب يرد له في هذا العالم مائة ضعف بينما نجد الرهبان تركوا ولم يملكوا شيئًا؟ أجاب الأب بأن الراهب قد ترك بيته كي يجد الكل إخوته، وترك أرضًا ليجد الأرض كلها بين يديه. ونحن نرى إلى يومنا هذا كمثال الأب الراهب عبد المسيح الأثيوبي كيف ترك الكثير لكنه نال حتى في الأمور الزمنية أعظم مما ترك، ينام في الصحراء في أي موضع بلا أبواب مغلقة ولا تستطيع الوحوش المفترسة أن تقترب إليه وتؤذيه، بينما كثيرون لهم بيوت ويحاولون تأمين الأبواب غير أن قلبهم مضطرب وحياتهم مهددة وسلامهم مفقود.
وللعلامة أوريجانوس تعليق على هذا الوعد الإلهي، إذ يقول: [لا يكون الظالم في أمان قط إنما هو في اضطراب مستمر، إنه محمول بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة الضلال (أف 4: 14)، أما البار إذ يحفظ ناموس الرب يسكن في أرضه آمنًا، له الفكر الصليب القائل للرب: “قويني يارب بكلامك” (مز 118: 28). لتقوني أمنًا، ولتغرسني فأسكن في الأرض الصخرة المؤسسة في الإيمان (كو 1: 23، أف 3: 17)، إذ لا يكون بيته مؤسسًا على الرمل (مت 7: 24، 26)[317]].
يكمل الرب وعده، قائلاً “وأجعل سلامًا في الأرض فتنامون وليس من يزعجكم” [6]. هذا هو السلام الذي يحل في أرض قلبنا الداخلية، “سلام الله الذي يفوق كل عقل” (ف 4: 7). فبعد أن كانت أرضنا مسرحًا للإضطراب المستمر والقلق والمرارة إذ تقدست بربنا يسوع المسيح وتمتعت بعمل روحه القدوس صارت هيكلاً لله مملوءًا من سلام الله الفائق، لا يستطيع الأسد أي الشيطان بكل ملائكته أن يرهبها (رؤ 12: 7)، فيقول الإنسان مع المرتل “لا تخشى من خوف الليل ولا من سهم يطير في النهار ولا من وباء يسلك في الدجى” (مز 91: 65)، وأيضًا: “الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟! الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟!” (مز 27: 1)، وأيضًا: “إن نزل عليّ جيش فلا يخشى قلبي” (مز 27: 3).
خلال هذا السلام الفائق ننام حتى في وسط سجن الضيقات، لا نوم الخمول أو التراخي، إنما الإطمئنان كما فعل بطرس الرسول حين أيقظه الملاك في السجن ليخرج به ويعبر به حتى الباب الخارجي… بهذا نفهم الوعد الإلهي أن يعطي أحباءه نومًا!
سادسًا: “طرد الحيوانات الرديئة من الأراضي” [6]. إن كانت أبوابنا قد انفتحت لكل وحش رديء، وصارت حياتنا الداخلية مأوى لكل شر ودنس، إن كانت مدينتنا الداخلية بلا أسوار تتسلل إليها وحوش البرية بلا عائق، فقد جاء ربنا يسوع المسيح ليطرد هذه الوحوش الرديئة عن أرضنا التي هي أرضه، ليسكن هو فيها.
يقول العلامة أوريجانوس: [الحيوانات الرديئة الروحية هي التي يسميها الرسول “أجناد الشر الروحية في السمويات” (أف 6: 2). عن هذه الحيوانات يقول الكتاب: “الحية كانت أمكر من جميع الوحوش التي على الأرض” (تك 3: 1)… كما قيل: “إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو فقاوموه راسخين في الإيمان” (1 بط 5: 8-9). إن أردت أن تعرف حيوانات أخرى رديئة يعلمك إشعياء النبي إذ دعاها في رؤى أنها الدابة في البرية، قائلاً: “في أرض شدة وضيق منها اللبوة والأسد الأفعى والثعبان السام الطيار يحملون على أكتاف الحمير ثروتهم وعلى أسنمة الجمال كنوزهم إلى شعب لا ينفع” (إش 30: 6). هل يتم هذا مع حيوانات البرية المادية؟! كيف يمكن للبوة والأسد والأفعى والثعبان السام أن يحملوا ثروتهم على ظهر حمار أو جمل؟! واضح إذن أن النبي المملوء بالروح القدس يعدد القوى العدوانية التي لأفظع الشياطين. يود أن يقول بأن الشياطين تضع ثروتها التي هي خداعاتها للنفوس، وذلك خلال الحماقة (الحمار) والدنس (الجمل)، ولكي لا نُسلم لهذه الوحوش يلزم للنفس التي تخاف الله أن تقول: “لا تسلم للوحش نفس يمامتك” (مز 74: 19)[318]].
سابعًا: الأمان من السيف، يعلق العلامة أوريجانوس على العبارة: “لا يعبر السيف في أرضكم” [6]، بقوله: [كثيرة هي السيوف التي تعبر في أرضنا إن لم نحفظ ناموس الرب ونتبع وصاياه! ليدخل كل واحد إلى نفسه وليتأمل داخله لئلا تكون أرضنا أي جسدنا مثارة بروح الزنا أو مضطربة بروح الغضب والهياج، أو بحركة البخل، أو بقوس الشهوة واللذات… هذا يعرفه الرسول بولس إذ يقول: “هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله” (2 كو 10: 5)، فلا نخضع لهذا السيف ولتلك الحروب بل يحفظ الرب أرضنا في أمان[319]].
ثامنًا: “تطردون أعداءكم” [7]. يقول العلامة أوريجانوس: [أي أعداء هؤلاء إلاَّ الشيطان وملائكته، أي الأرواح الشريرة والشياطين الدنسة (لو 4: 33)؟! إذ نتبعهم فنطردهم، إن حفظنا الوصايا الإلهية يسحق الله الشيطان تحت أرجلنا (رو 6: 20)، فيسقط الأعداء تحت أقدامنا مائتين[320]].
“يطرد خمسة منكم مائة، ومائة منكم يطردون ربوة، ويسقط أعداءكم أمامكم بالسيف” [8]. من هم الخمسة الذين يطردون المائة، إلاَّ الحواس المقدسة التي تحمل قوة فتهزم جمهور الشر وجموع الخطية؟! ومن هم المائة الذين يطردون الربوة إلاَّ جموع أفكارنا المقدسة وجمهور طاقتنا المباركة بالرب إذ تطرد ربوات الأرواح الشريرة؟!
هكذا يمسك الإنسان بكلمة الله كسيف ذي حدين به يسقط الخطية كعدو ويفسد حيل الشياطين، فيدوس العدو تحت قدميه (1 كو 15: 5).
تاسعًا: النمو المستمر: “وألتفت إليكم وأثمركم وأكثركم” [9]. لا يقف الأمر عند تحطيمنا للعدو مهما بدا ضخمًا في عدده، عنيفًا في قوته، وإنما أيضًا نتزايد نحن قوة وعددًا، إذ قيل عن عمل الله حتى في العظام اليابسة التي لنا: “قاموا على أقدامهم جيش عظيم جدًا جدًا” (حز 37: 1)… “فتعلمون إنيّ أنا الرب تكلمت وأفعل يقول الرب” (حز 37: 14).
أما سرّ القوة الروحية فهي “ألتفت إليكم“… يكفي نظرة الله إلينا لتهب أثمارًا كثيرة. وكأن نظراته أشبه بأشعة الشمس التي إن أشرقت على الزراعة جاء المحصول متزايدًا، أما إن احتجبت الشمس عن حقلنا الداخلي فلا يستطيع أن يقدم حصادًا.
يلتفت إلينا لا ليديننا هنا وإنما ليفي ميثاقه معنا [9]، إذ يقول: “وأوفي ميثاقي معكم، فتأكلون العتيق المعتق وتخرجون العتيق من وجه الجديد” [9-10]. يقول العلامة أوريجانوس: [كيف نخرج العتيق ليجد الجديد له موضعًا؟.. نخرج حرف الناموس لكي نحفظه حسب الروح (جديدًا)… يمكننا أن نقول إنه قبل مجئ السماوي ويولد، كنا كلنا أرضيين ولنا صورة الترابي (1 كو 15: 47)، والآن جاء “الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله” (أف 4: 22)، فأخرجنا القديم بخلع الإنسان العتيق ولبس الجديد (أف 4: 22)، الذي بحسب الإنسان الداخلي يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16)[321]].
عاشرًا: يختم الله حديثه عن بركات الطاعة لوصيته بأعظم وعد، ألا وهو حلوله وسط شعبه، وفي داخل مؤمنيه، إذ يقول: “وأجعل مسكني في وسطكم، ولا ترذلكم نفسي، وأسير بينكم وأكون لكم إلهًا وأنتم تكونون ليّ شعبًا” [11-12]. وفي وضوح يقول السيد ليلة آلامه: “إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً” (يو 14: 23)… وقد دعيت أورشليم السماوية “مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعبًا والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم” (رؤ 21: 23). هذه هي العطية الأبدية، يسكن الله معنا ويقبلنا عنده كشعب سماوي له وهو يكون لنا إلهًا يتجلى فينا.
سكنى الله فينا ينزع عنا فراغنا الداخلي الذي لن يشبعه إلاَّ الله نفسه، إذ لا تشبع النفس التي على صورة خالقها إلاَّ بالأصل ذاته. يقول القديس ايريناوس: [إن الإنسان إما أن يكون فارغًا أو مملوءًا وفمن يقبل الله ساكنًا فيه يكون مملوءًا، أما من ليس له معرفة الآب السماوي وليس له الروح القدس ولا قبل فيه المسيح الحياة فيكون فارغًا[322]].
يقول القديس أغسطينوس: [ماذا يعني قوله بالنبي “وأكون لكم إلهًا وأنتم تكونون ليّ شعبًا” سوى أنني أكون كفايتهم، أكون كل شيء يطلبه الناس بوقار: الحياة والصحة والقوت والرخاء والمجد والكرامة والسلام وكل صلاح؟! هذا ما يفسره أيضًا قول الرسول “يكون الله الكل في الكل” (1 كو 15: 28). إنه يكون نهاية اشتياقاتنا التي بلا نهاية![323]].
3. اللعنات الحالة على العصاة:
بعد أن قدم الجانب الإيجابي معلنًا عطايا الله للإنسان الحافظ لوصيته، بدأ في الجانب السلبي يعلن الثمر الطبيعي لرفض الوصية، إذ يُحسب هذا نكثًا للميثاق معه [15] ورفضًا لشخصه، أما هذا الثمر المرّ فهو:
أولاً: “أُسلط عليكم رعبًا وسلاً وحمى تفنى العينين وتتلف النفس” [16]. إن كان الله يُعاقب الإنسان بالرعب وبمرض السل والحمى وفقدان البصيرة إنما هذا يتم بتخلي الله عن رافضه فيسقط الإنسان في هذه المرارة ليعيش بلا سلام داخلي ولا صحة جسدية وبدون بصيرة! يفقد قلبه (سلامه) وجسده وبصيرته! ولعل الله يسمح بهذه الأمور الظاهرة حتى يتفطن إلى ما أصابه داخليًا بسبب عصيانه، فيأتي التأديب كترمومتر يعلن الفساد الداخلي، ليقول “روحي تلفت، أيامي انطفأت” (أي 17: 1).
ثانيًا: “وتزرعون باطلاً زرعكم فيأكله أعداؤكم” [16]. إنهم يعملون لكن ليس لحساب الرب إنما يزرعون زرعهم الذاتي، فلا يباركه الرب إنما يصير نهباً للأعداء.
ثالثًا: “وأجعل وجهي ضدكم فتنهزمون أمام أعداءكم ويتسلط عليكم مبغضوكم وتهربون وليس من يطردكم” [17]. إذ يفقد الإنسان سلامه الداخلي ويخسر شركته مع الله يصير ضعيفًا أمام الأعداء الروحيين حتى وإن كان العدو في ذاته كلا شيء، وكما يقول الحكيم: “الشرير يهرب ولا طارد” (أم 28: 1). سرّ الضعف والهزيمة لا في قوة العدو وإنما في إنهيار الإنسان داخليًا.
رابعًا: إن لم نستجب أمام هذه الضعفات بالتوبة يؤدب الله بتأديب مضاعفة، إذ يقول: “فأحطم فخار عزمكم وأصير سماءكم كالحديد وأرضكم كالنحاس فتفرغ باطلاً قوتكم، وأرضكم لا تعطي غلتها وأشجار الأرض لا تعطي أثمارها” [19-20]. يبدأ الله بتأديب خلال الأمراض ونهب الأعداء فإن لم نتفطن يضاعف الضربات خلال المذلة لتحطيم كبريائنا، يقف الإنسان في مذلة إذ يجد الطبيعة ذاتها وكأنها تقسو عليه، فتصير السماء كالحديد لا تهطل مطرًا، والأرض كالنحاس لا تصلح للزراعة. إن رفع الإنسان عينيه إلى السماء لعلها تستجيب له يجدها حديدًا جامدًا، وإن تطلع إلى الأرض يجد كل من حوله قد صار نحاسًا لا يرق له.
إن كانت السماء تُشير إلى النفس البشرية والأرض إلى الجسد، فحينما لا ينصت الإنسان للوصية الإلهية ولا يتجاوب مع كلمة الله، ينال مكافأته فورًا إذ تصير
نفسه كالحديد وجسده كالنحاس لا يخضعان له ولا يستجيبان لصوته الداخلي…
خامسًا: إفتراس الوحوش لهم “أطلق عليكم وحوش البرية فتعدمكم الأولاد وتقرض بهائمكم وتقلقكم فتوحش طرقكم” [22]. حين تذمر الشعب في البرية ترك الحيات المحرقة تلدغهم (عد 21: 5-6)، وحين استهزأ بعض الأولاد بأليشع النبي سمح بدبتين قتلتا منهم إثنين وأربعين شخصًا، وحينما أرسل ملك أشور أناسًا وثنيين يسكنون أرض كنعان بعد سبيه للشعب الإسرائيلي أرسل الله وحوشًا تفترسهم (مل 17: 24، 26).
ما هذه الوحوش التي تنطلق علينا إلاَّ الخطايا التي يحفظنا الله منها مادمنا في حضرته نستجيب لصوته، فإن أعطيناه القفا لا الوجه ترك الوحوش تعدمنا أولادنا أي ثمارنا الداخلية وتقرض بهائمنا أي تفسد جسدنا؟!
سادسًا: ضربة السيف والوبأ [25]. بمعنى التأديب خلال سيف العدو، والسماح بالوباء حتى تنحل قوة الأشرار فلا يقدرون على مقاومة العدو.
سابعًا: ضربة القحط [26]، “بكسري لكم عصا الخبز تخبز عشر نساء خبزكم في تنور ويرددون خبزكم بالوزن، فتأكلون ولا تشبعون” [26]. يكسر الله لهم عصا الخبز أي يقطع عنهم خبز الحياة، الكلمة الإلهية، فتعيش نفوسهم في جوع لا تجد عصا تتكئ عليها. أما علامة القحط فهو عوض أن يكون لكل سيدة تنور خاص بها تضع فيه الخبز لتسويته، تستخدم كل عشر نساء تنورًا واحدًا، إذ ليس لديهم خبز يحتاج إلى تنور، أو ليس لديهن الوقود اللازم لإشعال أكثر من تنور. العلامة الثانية للقحط هي الحرص في الخبز فيستخدمونه بالوزن لقلة كميته وانتزاع البركة عنهم. ويصل القحط مداه حين تمتد أيدي الوالدين لأكل لحوم أولادهم، كما حدث في أيام يهورام بن آخاب ملك إسرائيل إذ اتفقت إمرأتان أن تطبخ كل منهما ولدها في يوم لتأكلاه معًا (2 مل 6: 24-30)، وأيضًا في أيام حصار ملك بابل لأورشليم، إذ قيل: “أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهن، صاروا طعامًا لهن في سحق بنت شعبي” (مرا 4: 10)، وتكرر الأمر حين حاصر تيطس الروماني أورشليم.
حين نعطي ظهورنا للوصية الإلهية يصيبنا قحط داخلي يفقدنا الطعام الضروري، فتمتد أيدينا إلى أولادنا أي الثمار الداخلية لنأكلها ونموت!
ثامنًا: “وأضرب مرتفعاتكم، وأقطع شمساتكم، وألقي جثثكم على جثث أصنامكم وترذلكم نفسي” [30]. حين رفض الشعب الوصية عبدوا الأصنام في الأماكن المرتفعة، وأقاموا الشمسات أي التماثيل الخاصة بعبادة الشمس، أو ربما قصد أقاموا مظالاً يقيمون فيها عند عبادتهم على المرتفعات حتى لا تضربهم الشمس… الله في غيرته يُحطم الآلهة الغريبة التي اتكأ عليها مخالفو الوصية، معلنًا نهاية رفض الوصية: الموت المحتم وفقدان الآلهة التي من صنع أيدينا! بإلقاء الجثث تفوح رائحة الموت والنتانة لذلك يقول “ترذلكم نفسي“.
تاسعًا: إذ يرفض الإنسان وصية الله تتحول المدن المحصنة إلى خراب، والمقادس إلى أماكن موحشة ليس من يلجأ إليها، حتى الأرض التي يسكنونها ترفضهم فتلقي بهم إلى الأمم ليصيروا مشتتين ومضطهدين. في شرهم لم يكونوا ملتزمين بالسنة السبتية لتستريح الأرض، وها هي الأرض تلقي بهم خارجًا عنها (تسبت) منهم.
يطردون ليعيشوا في أرض غريبة بروح الجبن، يسقطون بلا طارد حقيقي، إنما طاردهم هو شرهم الداخلي.
4. قبول الخطاة التائبين:
بعد أن أعلن مرارة ما يصل إليه الإنسان بسبب عصيانه لله يعود فيؤكد أن العلاج الوحيد لتمتع الإنسان بالبركة عوض اللعنة هو الرجوع إليه بالتوبة، فيذكر الله وعده، معلنًا إنهم حتى في أشر لحظاتهم لم يرد الله إبادتهم بل تأديبهم.
سفر اللاويين – أصحاح 26
تفاسير أخرى لسفر اللاويين أصحاح 26
تفسير لاويين 25 | تفسير سفر اللاويين القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير لاويين 27 |
تفسير العهد القديم |