تفسير سفر اللاويين ٤ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الرابع
ذبيحة الخطية
في الذبائح والتقدمات السابقة كما نرى وجهًا معينًا للصليب أنه “موضع سرور الآب” أما في ذبيحتي الخطية والإثم فنرى الجانب الآخر القاتم إذ لا نسمع هذا النغم العذب بل نرى في الصليب الكلمة المتجسد حاملاً خطايانا على كتفيه ليدفع عنا الثمن، أو بمعنى آخر حاملاً لعنة الناموس التي سقطنا نحن تحتها، وكأنه يقبل وهو الإبن المحبوب أن يحتل مركزنا نحن الذين تحت الغضب الإلهي لكي يرفعنا ويسندنا. هذا هو نغم ذبيحتي الخطية والإثم.
وقد جاء تقسيم أنواع ذبيحة الخطية لا حسب نوع التقدمة كما في الذبائح والتقدمات السابقة إنما حسب مركز الخاطئ ودورة في الجماعة.
1. مقدمة في ذبيحة الخطية:
أولاً: يكشف عن غاية هذه الذبيحة بقوله: “إذا أخطأت نفس سهوًا في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها” [2]. فهي ذبيحة مقدمة عن الخطاة الذين يسقطون عن ضعف أو جهل أو سهو في إحدى المناهي مخالفين أوامر الرب ووصاياه لكن ليس عن عناد أو مقاومة متعمدة.
يعلق القديس أوريجانوس[68] على تعبير “نفس” هنا، فيقول أنه يدعو الخاطئ نفسًا، وليس روحًا ولا إنسانًا، فبالخطية لا يسلك الإنسان بالروح فلا يدعى روحًا، كما يفقد صورته لله التي خلق عليها فلا يدعى “إنسانًا”، إنما يدعى نفسًا بكونه يسلك كإنسان طبيعي كما سبق فرأينا في تفسير الأصحاح الثاني[69].
يتساءل البعض ما الفارق بين ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم؟
أ. يرى بعض الدارسين أن ذبيحة الخطية تمثل بالأكثر تكفيرًا عن مقدم الذبيحة أكثر منها ذبيحة عن خطية معينة، حتى وإن قدمها الإنسان بمناسبة إرتكابه خطأ معين. أما ذبيحة الإثم فهي تمثل تكفيرًا عن إثم معين إرتكبه مقدم الذبيحة. لذلك نجد ذبيحة الخطية تُقدم في الأعياد عن كل الشعب كتكفير عام وجماعي ولا تقدم ذبيحة إثم (لا 28: 29).
ب. يرى بعض من الدارسين أن ذبيحة الخطية تقدم عن إنسان إرتكب خطأ لا يحتاج الأمر إلى تعويض لآخر أصابه خسارة، أما ذبيحة الإثم فتقدم عمن إرتكب خطأ يحتاج إلى تصحيح بتقديم تعويض مادي، سواء كان هذا الخطأ ضد الهيكل أو ضد إنسان.
ثانيًا: لا نسمع في هذه الذبيحة إنها للرضى، فمن جانب لا يقدمها الخاطئ أو الخطاة برضاهم إنما عن إلتزام لأجل تقديسهم، وفي نفس الوقت لا تمثل سرورًا للرب بل تكشف المرارة التي ذاقها المخلص، الذي دخل إلى الموت لأجلنا (1 بط 2: 24). إنها رمز للحمل الإلهي الذي لم يعرف خطية فصار خطية لأجلنا، لذا يصرخ “نفسي حزينة جدًا حتى الموت” (مت 26: 38، مر 14: 34).
ثالثًا: إن كنا كلنا كبشر ساقطين تحت الضعف، لكن ذبيحة الخطية تكشف عن خطورة الخطية في حياة المسئولين والقادة الروحيين، حسب دورهم. فالكاهن إن أخطأ يعثر الشعب، والرئيس يعثر مرؤوسيه، أما أحد العامة فعثرته أقل. الكاهن الممسوح (رئيس الكهنة) يقدم ثور بقر صحيحًا، وأيضًا إن أخطأت الجماعة ككل، أما الرئيس العلماني فيقدم تيس ماعز ذكرًا، وأحد العامة يقدم أنثى ماعز أو أنثى ضأن… الكل محتاج إلى دم ربنا يسوع للكفير عن خطاياه لكن عثرة كل واحد تختلف عن الآخر.
2. ذبيحة الخطية عن الكاهن الممسوح [1-12].
يبدأ الحديث عن ذبيحة الخطية بتلك التي تقدم عن الكاهن الممسوح أي رئيس الكهنة، ليس تكريمًا له عن غيره وإنما لكي يدرك الكهنة ضعفهم ويشعروا أنهم أكثر من غيرهم محتاجون إلى التكفير عن خطاياهم، فيترفقوا بإخواتهم الضعفاء. يشعر الكاهن إنه ليس بمعصوم عن الخطأ ولا هو من طبقة غير طبقة الشعب، إنما هو خادم الجميع وأكثرهم إحتياجًا. هذه الإحساسات أعلنها الرسول بولس بقوله: “صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا” (1 تي 1: 15)، كما يقول: “فإن الناموس يقيم أناسًا بهم ضعف رؤساء كهنة” (عب 7: 28). وفي القداس الإلهي كثيرًا ما يكرر الكاهن هذه العبارة: [إقبل هذه الذبيحة عن خطاياي وجهالات شعبك].
سجل لنا القديس يوحنا الذهبي الفم الكثير عن شعوره بالضعف كأسقف، لذا فهو يئن مع أنات شعبه ويشعر بضعفهم. كما أعلن كثيرًا عن حاجة الكاهن إلى مراجعة نفسه فإن الحرب عليه أشد من غيره، فمن كلماته: [ينبغي على الكاهن أن تكون روحه أنقى من أشعة الشمس ذاتها… إنه معرض لتجارب أكثر يمكن أن تنجسه إن لم يكن منكرًا لذاته، مجاهدًا بإستمرار[70]]. ويقول العلامة أوريجانوس: [“فإن الناموس يقيم أناسًا بهم ضعف رؤساء كهنة” (عب 7: 28)، حتى يستطيعون بالأكثر بسبب ضعفهم أكثر من الشعب أن يقدموا ذبائح. أنظر مدى تدبير الحكمة الإلهية، إذ يقيم الله كهنة ليس ممن لا يقدرون أن يخطئوا وإلاَّ كانوا ليس بشرًا… لهذا فرئيس الكهنة “يقدم ذبائح أولاً عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب” (عب 7: 27) [71]].
يتلخص طقس ذبيحة الخطية التي يرتكبها الكاهن سهوًا في تقديم ثور من البقر، يؤخذ من دم الذبيحة إلى القدس لينضح على الحجاب الذي يفصل القدس عن قدس الأقداس، وعلى مذبح البخور، علاوة على سكب باقي الدم إلى أسفل مذبح المحرقة.
وبعد إيقاد الشحم على نار المذبح يُخرج جميع اللحم والجلد خارج المحلة ويحرق ولا يسوغ لأحد أن يأكل من لحمها، يُحرق في مرمى الرماد [12] وهو المكان الذي تُطرح فيه بقايا الذبائح، ويعتبر طاهرًا لأنه مخصص لعمل مقدس.
يلاحظ في هذا الطقس الآتي:
أولاً: يضع الكاهن الذي من أجله قدمت الذبيحة يده على رأس الثور معترفًا بخطاياه (مز 32: 5)، فإن كان الكاهن يقبل إعترافات الآخرين يلزمه – أيًا كانت رتبته- أن يمارس الإعتراف. إنه يعترف هو أيضًا بخطاياه، معلنًا أنه يسلك مع الشعب طريق التوبة الدائمة والتذلل أمام الله والإعتراف بخطاياه.
ثانيًا: يتركز طقس ذبيحة الخطية في “الدم”، ونظرًا لخطورة خطية رئيس الكهنة، يُدخل دم الذبيحة إلى خيمة الإجتماع ليغمس الكاهن أصبعه في الدم وينضح منه سبع مرات أمام الرب أي قدام تابوت العهد الذي يمثل عرش الله: على الحجاب وربما على الأرض أمام التابوت ثم على قرون مذبح البخور الذهبي، ثم يصب باقي الدم أسفل مذبح المحرقة النحاسي الذي في دار الخيمة الخارجية.
ما يتم بالدم بهذه الدقة لا يمارس بلا هدف، وإنما إذ أخطأ رئيس الكهنة الذي يتوسط لدى الله عن الشعب خلال تابوت العهد مخترقًا الحجاب وخلال مذبح البخور الذهبي ومذبح المحرقة النحاسي، صار هو نفسه محتاجًا لمن يشفع فيه. فينطلق الدم الذي يرمز لدم السيد المسيح يشفع فيه مقدسًا له الطريق. كأنه بالدم الثمين الذي يتمسك به رئيس الكهنة يستطيع أن يخترق الحجاب منطلقًا إلى تابوت العهد لينعم باللقاء مع الله الذي يتجلى على غطاء التابوت فوق كرسي الرحمة، وبالدم يرفع الصلوات كما على مذبح ذهبي، وبه يتقبل الله ذبائح محبته كما من المذبح النحاسي. هكذا ينضح بالدم سبع مرات علامة التقديس الكامل ليمارس رئيس الكهنة عمله الكهنوتي من جديد، فيقبل الله صلواته ويستمع لطلباته ويشتّم تقدماته عن الشعب رائحة ذكية.
من ناحية أخرى، يتمسك رئيس الكهنة الذي أخطأ بالدم لأجل التقديس في داخل قدس الأقداس كما في القدس وفي الدار الخارجية، فإن كانت الخطية تفسد الإنسان بكليته روحًا ونفسًا وجسدًا، فبالدم يتقدس في أعماقه حيث روحه (قدس الأقداس)، ونفسه (القدس) كما في الخارج (الدار الخارجية)… بالدم تغفر خطايانا فتتقدس حياتنا كلها.
يحدثنا القديس أغسطينوس عن فاعلية هذا الدم، قائلاً: [سفك دم المخلص وأبطل الدين. هذا هو الدم الذي سفك عن كثيرين لمغفرة الخطايا[72]]. أما القديس يوحنا الذهبي الفم فيقول: [كان يرمز لهذا الدم (الخاص بالعهد الجديد) على الدوام قديمًا على المذبح وخلال الذبائح التي قدمها الأبرار. هذا هو ثمن العالم، به اشترى المسيح الكنيسة لنفسه، وبه زينها جميعها… الذين يشتركون في هذا الدم يقفون مع الملائكة ورؤساء الملائكة والقوات العلوية، يلبسون ثوب المسيح الملوكي ويكون لهم سلاح الروح، لا فإنني لم أقل بعد شيئًا، إذ هم يلتحفون بالملك نفسه[73]].
ثالثًا: عادة كان الجلد واللحم من نصيب الكهنة، لكن هذه الذبيحة إذ هي عن خطية رئيس الكهنة فيحرق كل شيء حتى الجلد [11]، علامة كراهية الرب للخطية ورذله إياها.
3. ذبيحة الخطية عن الجماعة [13-21].
تقدم هذه الذبيحة من أجل خطية جماعية أرتكبت سهوًا بجهالة، أي دون أن يفطنوا إليها… فكما يليق برئيس الكهنة أن يكون مدققًا في تصرفاته، هكذا يلزم على الجماعة المقدسة أن تحتفظ بنقاوتها ولا تشوه جمالها الروحي ولو بخطأ سهو.
يكاد يكون الطقس هنا مطابقًا ذبيحة الخطية التي من أجل رئيس الكهنة، لأن ما يرتكبه رئيس الكهنة يمس الجماعة كلها، وما ترتكبه الجماعة ككل يُسأل عنه رئيس الكهنة.
في الذبيحة السابقة يضع الكاهن الممسوح يده ليعترف بخطاياه، أما هنا فيضع الشيوخ أياديهم نيابة عن الشعب كله معترفين بخطاياهم… هنا لا يضع رئيس الكهنة يده بل الشيوخ ليس تبرئة لرئيس الكهنة من خطايا الشعب الجماعية وإنما مشاركة للشيوخ معه في المسئولية، فلا يعمل رئيس الكهنة بمفرده بل يسنده الشيوخ في التدبير العام لشئون الشعب الروحية.
في هذه الذبيحة أيضًا تبرز أهمية الدم الذي يُدخل به إلى خيمة الإجتماع لينضح منه على الحجاب وقرون مذبح البخور الذهبي ويصب باقي الدم أسفل مذبح المحرقة… إلخ.
4. ذبيحة الخطية عن رئيس (غير ديني) [22-26].
هذه الذبيحة تخص أصحاب السلطان المدني كالملوك والشيوخ والقضاة، وقد ميزت الشريعة خطيتهم عن خطايا عامة الشعب لأنهم قادة ومسئولون، كل خطأ يرتكبه أحدهم يمكن أن يعثر الكثيرين، ولو ارتكبه إنسان سهوًا أو عن جهل.
كانت الذبيحة في مثل هذه الحالة تيسًا من الماعز ذكرًا، وهنا لا يدخل بالدم إلى القدس كما في حالة الكاهن بل يسكب أسفل مذبح المحرقة فقط بعد أن يرش بعضه على قرون المذبح. إن كان المسئولون وهم قادة لهم دورهم ويمكن أن يتعثر بهم مرؤوسوهم لكن خطورة خطاياهم أهون على الجماعة من رئيس الكهنة، ولا تمس المقدسات الداخلية…
في طقس هذه الذبيحة لا يحرق الجلد واللحم كما في الذبيحة الخاصة بخطية رئيس الكهنة، بل يكونا من نصيب الكهنة. ويقدم لنا الفيلسوف اليهودي الإسكندري فيلون تفسيرًا مقبولاً لذلك، إذ يقول إن أكل الكهنة للحم من ذبيحة الخطية يعطى طمأنينة لمقدمها أن الله غفر خطاياه وقبله [لأن الله لن يسمح لخدامه أن يشتركوا فيها لو لم يكن قد نزع الخطية وغفرها تمامًا عمن كفر عنه[74]].
5. ذبيحة الخطية عن أحد العامة [27-35].
تقدم ذبيحة عن الخطأ السهو الذي يرتكبه أحد العامة من الشعب عبارة عن عنز من المعز أنثى صحيحة أو أنثى من الضأن. ولعل تحديد الأنثى لأنها أرخص وفي متناول يد الكثيرين.
يعلق العلامة أوريجانوس على تعبير “نفس من عامة الأرض” [27]، مركزًا على تعبير “عامة الأرض”، إذ يقول: [يلزمنا أن نميز بين من هو من عامة الأرض وليس ممن قيل عنهم: “مدينتنا نحن هي في السموات التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع المسيح” (في 3: 20)… فإن مثل هذه النفوس ليست متحدة مع الأرض بل هي بكاملها في السماء، وفي السماء تقطن “حيث المسيح جالس عن يمين الآب” (كو 3: 1). إنها تود أن تنطلق وتكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا، لكنها تُلزم أن تبقى في الجسد (في 1: 24-25) [75]].
في طقس هذه الذبيحة لا يدخل الدم إلى القدس كما في حالتي رئيس الكهنة والجماعة.
سفر اللاويين – أصحاح 4
تفاسير أخرى لسفر اللاويين أصحاح 4
تفسير لاويين 3 | تفسير سفر اللاويين القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير لاويين 5 |
تفسير العهد القديم |