تفسير سفر العدد ١١ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الحادي عشر
تذمر الشعب
لم يمضِ كثيرًا على تقديم الرؤساء تقدمات الفرح لله على مستوى الجماعة كلها ومستوى كل سبط، حتى تذمر الشعب مرتدًا إلى الشهوات القديمة.
- اشتعال النار في المَحَلَّة 1-3.
- اشتهاء اللحم 4-9.
- موسى يستثقل المسئوليّة 10-15.
- اختيار السبعين شيخًا 16-25.
- ألْداد وميداد يتنبآن 26-29.
- الله يطعم شعبه 30-35.
- اشتعال النار في المَحَلَّة:
“كان الشعب كأنهم يشتكون شرًا في أذني الرب، وسمع الرب فحمي غضبه” [1]. هذه هي طبيعة الإنسان القديم فينا، إنه دام الشكوى والتذمر بلا سبب حقيقي. ففي الوقت الذي قدَّم فيه الرب الناموس وأوصى بعمل الخيمة وكل ملحقاتها وأدواتها ليسكن في وسطهم، ونظَّم لهم المَحَلَّة وأقام لهم طقس سيامة اللاويّين، وكان الكل فرحًا متهللاً، يأتون بالتقدمات للرب، صار في داخلهم شكوى. علة هذه الشكوى فراغ القلب، إذ أفقدته الخطيئة سلامه الداخلي، فيتلمس أي علة للتذمر والقلق.
إن كان سفر العدد كما قلنا هو سفر البريّة، فإنه في البريّة إذ يلتقي الله بالإنسان يعلن له وصيته وإحساناته ورعايته المستمرة، وفي نفس الوقت ينفضح الإنسان أمام الله وأمام نفسه بكل ضعفاته الداخليّة. في البريّة تكررت حالات التذمر تارة بعد عبورهم البحر الأحمر وتقديمهم تسبحة النصرة مباشرة (خر 15: 24)، وأخرى بعد تحويل المياه المُرّة إلى مياه عذبة (خر 16: 3) مشتهين الموت في أرض العبوديّة بجوار قدور اللحم يأكلون خبزًا عن هذا العمل الإلهي، وثالثة بعدما وهبهم المن المجاني (خر 17: 2) الخ… وكأنه بعد كل عطيّة ما أن يفرحوا بها قليلاً حتى يشعروا بالجوع والفراغ فيسقطون في التذمر. بالحقيقة هذا السفر هو سفر الكشف عن ضعفات الطبيعة البشريّة ليس فقط في حياة الجماعة ككل لكن حتى في حياة أعظم قائد روحي العظيم موسى النبي الذي شهد له الرب نفسه أنه كان أمينًا في كل بيته (عد 12: 7)، وفي حياة أخته مريم المرنمة التي صارت برصاء وعطلت الموكب أسبوعًا كاملاً (عد 12)، وأيضًا هرون، بجانب قورح وداثان وأبيرام مع مئة وعشرين رؤساء الشعب (عد 16)، وأيضًا النبي الوثني بلعام (عد 22-25)… أقول أنه السفر الذي كشف عن جراحات الطبيعة البشريّة، لكي يسمع كل منا ما سمعه ملك بابل أنه وُزن في الموازين فوُجد ناقصًا.
حقًا ما أحوجنا إلى البريّة لكي نتلمس معاملات الله معنا، ونتلمس أعماق ضعفاتنا في داخلنا فنلجأ إليه!
يحدثنا الوحي عن ثمر هذا التذمر، قائلاً: “اشتعلت فيهم نار الرب وأحرقت في طرف المَحَلَّة، فصرخ الشعب إلى موسى. فصلى موسى إلى الرب فخمدت النار” [1-2]. كان الله قبلاً يترفق بهم جدًا يعطيهم طلبتهم دون تأديب، أما الآن فقد سمح أن تشتعل ناره في طرف المَحَلَّة، فمن قبل كانوا بلا خبرة طويلة مع الله، يعاملهم كأطفال صغار، أما وقد غمرهم بكل هذه البركات على مدى أكثر من عام ووهبهم سكناه في وسطهم خلال الخيمة المقدَّسة فقد حمي غضبه لتأديبهم!
كان التذمر في بدايته خفيًا في القلب لكن الرب فاحص القلوب سمع أفكارهم الخفيّة، إذ قيل: “كأنهم يشتكون شرًا في أذني الرب، وسمع الرب” [1]، فسمح الرب بإشعال النار في طرف المَحَلَّة، وكأنه أراد أن يكشف بطريقة ماديّة ملموسة عمل نار الشر الداخلي في النفس. أراد أن يفضح الضعف لكي يعطي فرصة للتوبة، ولا يبقى الفساد كامنًا في الداخل بلا علاج. أما كون النار تشتعل في طرف المَحَلَّة فإنها في أبعد مسافة عن الخيمة، ولعله في ذلك الموضع انطلقت أول شعلة للتذمر، لأنه كلما ابتعد الإنسان عن الله انفتح قلبه للشر.
وسط الضيقة يتجلى حب موسى النبي ورعايته الأمينة إذ صرخ للرب فخمدت النار. هذا هو عمل الراعي المُحب أن يشفع في أولاده لدى الله والرب يستجيب له!
ولئلا ينسى الشعب هذا الحدث فيعود ويسقط تحت التذمر، دُعي الموضع “تبعيرة” التي تعني “اشتعال”.
- اشتهاء اللحم:
أوضح الرب كيف انطلقت شعلة نار الشهوة في هذا الشعب بقوله: “واللفيف الذي في وسطهم اشتهى شهوة” [4]. هذا اللفيف الذي أشعل هذه النار هم الذين خرجوا معهم من مصر (خر 12: 38) وصاروا في وسطهم وهم غالبًا من المصريين. هؤلاء أثاروا الكل فبكوا واشتهوا اللحم. هذا اللفيف يمثل الفكر الغريب الذي يدخل إلى النفس فيفسد أعماقها. لهذا السبب كان الرب يطلب من الشعب متى دخلوا مدينة يبيدوها تمامًا رمزًا لعدم ترك أي آثار للخطيئة في ذهننا حتى لا تعود فتثور الخطيئة فينا من جديد.
هذا اللفيف يدخل إلى حياة الكنيسة ليفسد حريتها في المسيح يسوع ربنا ويذلها بعبوديّة الخطيئة، إذ يقول الرسول: “ولكن بسبب الإخوة الكذبة المدخلين خفية الذين دخلوا اختلاسًا ليتجسسوا حريتنا التي لنا في المسيح كي يستعبدونا، الذين لم نذعن لهم بالخضوع ولا ساعة ليبقى عندكم حق الإنجيل” (غل 2: 4-5). هكذا يليق بنا أن نتمثل بالرسول فلا نذعن لصوتهم ولا لساعة واحدة حتى لا نرتد إلى اشتهاء قدور لحم أرض العبوديّة بل نبقى دومًا في حرية حق الإنجيل.
ويحدثنا الرسول يهوذا عن هذا اللفيف قائلاً: “لأنه قد دخل خلسة أناس قد كُتبوا منذ القديم لهذه الدينونة فُجَّار يحولون نعمة إلهنا إلى الدعارة وينكرون السيد الوحيد الله وربنا يسوع المسيح” (يه 4).عمل هذا اللفيف الذي دخل خلسة متسللاً بين المؤمنين أن يفسد عمل النعمة الإلهيّة في حياتنا ويدخل بنا إلى الدعارة وعدم الإيمان.
ما أحوجنا إلى التنقية من هذا اللفيف، سواء على مستوى الجماعة المقدَّسة حتى لا تفسد الخميرة الفاسدة العجين كله، أو على مستوى العضو فلا يفسد ذهن المؤمن أو قلبه خلال التساهل مع فكر غريب أو خطيئة تبدو تافهة وصغيرة. لهذا يحذِّرنا الكتاب: “خذوا لنا الثعالب الثعالب الصغار المفسدة الكروم” (نش 2: 15).
استطاع اللفيف الصغير أن يرد هذه الملايين بقلوبهم إلى أرض العبوديّة. بينما أراد الله لشعبه حياة مقدَّسة متحررة فعزلهم عن هذه الأرض فصلاً بلا رجعة لكنهم الآن يبكون قائلين: “من يطمعنا لحمًا؟ قد تذكَّرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانًا والقثاء والبطيخ والكرَّات والبصل والثوم. والآن قد يبست أنفسنا ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن” [4-6].
ما أعجب الإنسان في جحوده لله، يتذكَّر الشعب السمك المجاني الذي غالبًا ما كان السمك الصغير الذي يُعطى للعبيد، ويشتهي القثاء والبطيخ والكرَّات والبصل والثوم، ولا يذكرون الجلدات وضرب الأسواط وفقدان الحريّة وانتزاع إنسانيتهم وإذلالهم في عمل اللبن تحت كل أنواع الضغط. حقًا تبقى الخطيئة موضوع شهوة الكثيرين بالرغم مما تقدمه من إذلال وعبوديّة.
يدهش القدِّيس يوحنا الذهبي الفم لتصرف هذا الشعب قائلاً: [إن كانوا قد تركوها بعد حدوث هذه الأمور (أعمال العبوديّة القاسية)، ومع هذا كانوا يذكرون مصر بعبوديتها القاسية ويشتهون العودة إلى الطاغية السابق، فماذا يكون الأمر لو لم يعاملوا هكذا بمثل هذه البربريّة[39]؟].
لم تقف خطيئتهم عند تذكر لذة الماضي ونسيا ذله، لكنهم تطلَّعوا إلى عطيّة الله السماويّة في استخفاف قائلين: “الآن قد يبست نفوسنا“. هذا هو لسان حال البشريّة في كل العصور إذ تطلب متعة الجسد المؤقتة كأنها كمال الحريّة وسرّ الفرح، أما عطيّة الله الروحيّة ففي نظرهم جفاف وحرمان وضيق. إنهم يستخفون بالعطيّة الإلهيّة من أجل التمتع باللذة المؤقتة الجسديّة. في هذا يقول القدِّيس ﭽيروم: [احتقروا خبز الملائكة وناحوا من أجل لحم مصر. صام موسى على جبل سيناء أربعين نهارًا وأربعين ليلة، مظهرًا أن الإنسان لا يعيش على الخبز وحده بل على كلمة الله[40]].
لم يكن العيب في اللحم ولا في طلبه إنما في الاستخفاف بعطيّة الله والاشتهاء مع التذمر!
- موسى يستثقل المسئوليّة:
في حديثنا عن موسى النبي في سفر الخروج (أصحاح 32) رأينا صورته المشرقة التي تحجب غضب الله عن شعبه، لكننا هنا نرى لحظات ضعف يمرّ بها هذا العظيم بين الأنبياء. إنه يتهم الله كأنه قد أساء إليه وثقَّل عليه أكثر مما يحتمل حتى اشتهى ولو قتله الله قتلاً ولا يرى بعينيه هذه البليّة التي حلَّت بشعبه. لقد ظن موسى النبي في لحظات ضعفه أنه هو الذي حبل بهذا الشعب وولده والتزم به، يعولهم ويحمل أتعابهم… وكأن الله لا يرعى شعبه!
إذ “سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم كل واحد في بيت خيمته وحمي غضب الرب جدًا ساء ذلك في عيني موسى، فقال موسى للرب:
لماذا أسات إلى عبدك؟
ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليَّ؟
ألعلي حبلت بجميع هذا الشعب؟
أو لعلي ولدته حتى تقول لي احمله في حضنك كما يحمل المربي الرضيع إلى الأرض التي حلفت لآبائه!…
إن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً إن وجدت نعمة في عينيك فلا أرى بليتي” [10-15].
هل نسى موسى أنه إن كان قد حمل أبوة لهذا الشعب كله والتزم بحمله في حضنه إنما يقبل هذه الأبوة كعطيّة من الله الذي وحده أب كل البشريّة والمحتضن شعبه؟
على أي الأحوال، قَبِل الرب من موسى هذا العقاب بالرغم مما حمله من ضعف شديد، لكن فيه حب قوي نحو أولاده… لهذا تدخل الله لنزع روح التذمر من حياة الشعب بعد أن أعطى لموسى النبي فرصة لاختيار سبعين شخصًا يسندونه في العمل الروحي… ثم عاد يمدحه قائلاً: “وأما الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض” (عد 12: 13).
- اختيار سبعين شيخًا:
إذ استثقل موسى المسئوليّة طلب الله منه أن يجمع سبعين شيخًا يعلم أنهم شيوخ الشعب وعرفاؤه (ع 16)، يقفوا معه في العمل، فلا يحمل ثقل الشعب وحده (ع 17).
استخدم الله لحظات الضعف في نبيه لبنيان الجماعة فأقام السبعين شيخًا حتى يكتمل التنظيم الكنسي لا بوجود النبي ورئيس الكهنة والكهنة واللاويّين ورؤساء الأسباط فقط وإنما أيضًا بإقامة سبعين شيخًا من العلمانيّين يهبهم روحه القدوس ليشتركوا في التدبير، وكأن الله منذ القديم أراد تأكيد دور العلمانيّين- إن صح هذا التعبير- سواء عن طريق رؤساء الأسباط أو السبعين شيخًا.
في الوقت الذي ترك فيه لموسى حرية اختيار السبعين شيخًا ألزمه أن يكونوا بحق شيوخًا وعرفاء للشعب (ع 16). فالشيخ ليس بكثرة السنين ولا بشيبة الشعر بل بالحكمة والمعرفة. لهذا كتب القدِّيس ﭽيروم في إحدى رسائله هكذا: [أخي المحبوب، لا تُقدِّر استحقاقي بعدد السنوات فإن شيب الشعر ليس حكمة بل الحكمة صالحة كشيب الشعر. يقول سليمان “الحكمة هي شيب الشعر” (حك 4: 9). موسى في اختياره السبعين شيخًا ليكونوا معه التزم أن يختار من يعرف أنهم شيوخ بحق لا حسب أعمارهم بل حسب تمييزهم. فإن دانيال دان شيوخًا وهو ولد، وحكم على عدم طهارة شيوخ وهو صبي (قصة سوسنة)[41]].
يقول الرب لموسى: “آخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم فيحملون معك ثقل الشعب فلا تحمل أنت وحدك” [17]. ماذا قصد الرب بهذه الكلمات؟ يرى البعض أنه في هذه العبارة قد خسر موسى شيئًا من بهاء إكليله، فإن الله هو العامل سواء كان موسى وحده أو معه السبعين شيخًا، العمل لا يتغير، لأن الله هو الراعي الخفي. فلو لم يختار هؤلاء الرجال لتعب موسى أكثر لكان إكليله كان يزداد بهاءً. ما كان الله سيعمله بموسى وحده يعمله الآن به ومعه الرجال السبعون. على أن هذه العبارة لا تعني أن موسى قد فقد شيئًا من قوة الله أو سحب منه شيء، إنما تعني أن الله الذي أعطى موسى أن يعمل بروحه أعطى هؤلاء الرجال، فيسلكون معه بالروح الواحد. يقول العلامة أوريجينوس: [كان موسى بالروح الذي عليه كمصباح ساطع للغاية، منه أنار الله السبعين الآخرين، إذ بسط لمعان الأول على المصابيح الأخرى دون أن يضعف المصدر[42]]. ويقول القدِّيس أغسطينوس: [هذا يعني أعطيهم الروح القدس الذي سبق فأعطيته لك[43]].
يُعلِّق العلامة أوريجينوس على حلول الروح القدس على السبعين شيخًا هكذا: [الروح- كما جاء في الكتاب المقدَّس- لا يحل على أي إنسان بل على القدِّيسين والطوباويّين، إذ يحل على أنقياء القلب (مت 5: 8) الذين يتطهرون من الخطيئة. وبالعكس لا يسكن الروح في جسد تتسلط عليه الخطيئة، حتى وإن سكن في هذا الجسد إلى حين. الروح القدس لا يمكنه احتمال المشاركة مع روح الشر، فإنه بلا شك في لحظة الخطيئة يكون روح الشر داخل نفس الخاطيء يلعب دوره فيها. عندما نترك المجال لروح الشر أن يدخل، ونستقبله فينا بأفكار دنسة ورغبات نجسة فإن الروح القدس وهو مملوء حزنًا وضيقًا يُطرد منا، إن أمكنني التجاسر والقول بهذا التعبير. لهذا يقدم الرسول النصيحة “لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء” (أف 4: 30)… بالخطيئة نجعل الروح القدس يحزن، وخلال الحياة الصالحة المقدَّسة نمهد مكانًا ليعمل الروح القدس فينا[44]].
لا يمكننا قبول هذا الرأي كما هو خاصة خلال العهد الجديد، فإنه بالسيد المسيح- ممثل البشريّة- صار لنا أن نتقبل الروح القدس فينا خلال سرَّي العماد والميرون، إذ تهيئنا المعموديّة لنكون هيكلاً مقدسًا له وبالميرون يحلّ الروح علينا ويستقر فينا. بالمسيح يسوع الابن الوحيد، الذي وحده لن ينفصل عنه الروح القدس لأنه روحه، صرنا نحن أيضًا هيكلاً للروح، يقدِّسنا على الدوام، فإن أخطأنا يحزن لكنه لا يفارقنا. يرى القدِّيس فيلوكسينوس أن روح الرب لن يفارق المؤمن إلاَّ عند إنكاره الإيمان. إنه يرى الروح القدس أشبه بالطيب الذي لا ييأس قط من شفاء المريض، بل يلازمه لكي يسنده ويشفيه.
يقول القدِّيس فيلوكسينوس: [لا توجد خطيئة سواء بالفعل أم بالفكر تقدر على أن تدمر هيكل الله. على ثمة فارق بين الخطايا التي ترتكب بالفعل وبين الارتداد عن الله. وذلك أنه إذا فعلنا خطيّة، فإن إيماننا بالله يظل سليمًا فلا نفقد بنوتنا لله مثل الابن حسب الطبيعة الذي مهما أخطأ في حق والده وأغضبه كثيرًا فإن هذا لا يحرمه من أن يُدعى ابنًا. ومهما أخطأ الابن وارتكب من هفوات فإن ذلك لا يفقده كرامته كابن لا سيما إذا كان أبوه لا يهدف إلى حرمانه منها…].
[قد يقال أن الروح القدس يفارقنا بسبب بعض الخطايا وعندما نتوب عنها يعود إلينا… ما هذا الكلام؟ فإنه إذا ما فارقنا الروح، فمن الذي يعمل فينا لكي نتوب عن خطايانا؟ فإن التوبة لا تحدث بدون الروح القدس، وكل ما نفعله بقوة الروح القدس في الصوم والسهر والصلاة والصدقة وتوبيخ القلب والدموع التائبة والتنهد…].
[وهكذا فإن الروح القدس يسكن فينا، أي في الذين اعتمدوا إلاَّ أنه لا يرغم بالقوة أي إنسان يريد أن يخطيء، بل يعلمه ويحذره من السقوط].
[ليس صحيحًا القول بمفارقة الروح للنفس ساعة الخطيّة وعودته ساعة التوبة، واعتباره هكذا ضعيفًا ومترددًا وجبانًا، يقف بعيدًا يرقبنا منتظرًا أن نتوب عن خطايانا ونعود إلى حالة التبرير كي يعود يسكن فينا. وبكل يقين، فما هي الفائدة التي ستعود عليَّ إذا عاد إليَّ وسكن فيَّ عندما أتبرر في حين أنه في ساعة السقوط لم يقف إلى جواري، لكي يمد لي يدّ المساعدة ويقيمني على قدمي؟].
[إن من يلبس الروح في مياه المعموديّة إنما يلبسه ولا يخلعه إلاَّ بالارتداد عن الإيمان. لأنه إذا كان بالإيمان يلبس الإنسان الروح، فبإنكار الإيمان يفارق الروح القدس النفس، لأن الإيمان والارتداد ضدان مثل النور والظلمة[45]].
يرى الكثيرون أن الروح القدس لن يفارق المؤمن قط ليس فقط عندما يخطيء وإنما أيضًا عندما يرتد عن الإيمان، لهذا إذا رجع إلى الكنيسة مرة أخرى لا تعيد المعموديّة ولا مسحة الميرون. من أصحاب هذا الرأي القدِّيس أغسطينوس[46].
إن عدنا إلى السبعين شيخًا فبلا شك كان هؤلاء الرجال على علاقة بموسى النبي وأدركوا الكثير من أعمال الله معه، لكنهم لا يقدرون أن يسندوه أو يرافقوه في العمل ما لم يهبهم الرب قوة الروح العامل في موسى النبي. وكأن التلمذة في حقيقتها ليست مجرد اقتداء بالمعلم أو امتثال به في تصرفاته وسلوكه، وإنما في جوهرها هي تلمذة للرب نفسه خلال المعلم لكي يحمل التلميذ روح الرب نفسه العامل في المعلم.
- ألْداد وميداد يتنبآن:
غالبًا هما أخوان، الأول يُدعى ألْداد أي “من يحبه الرب”، والثاني ميداد أي “محبوب”. لقد اختارهما موسى بين السبعين شيخًا لكنهما لم يخرجا مع بقية الشيوخ حوالي الخيمة بل بقيا في المَحَلَّة، فحلّ عليهما الروح وتنبآ مثل بقية الشيوخ.
لقد سمح الله بهذا ليؤكد للشعب أن الروح الذي حلّ على الشيوخ هو عطيّة الله نفسه وليس عطيّة موسى، لهذا وهبه حتى لغير الحاضرين. بهذا لا يساء فهم القول: “أخذ من الروح الذي حلّ عليه وجعل على السبعين رجلاً الشيوخ” [25].
يُعلِّق القدِّيس كيرلس الأورشليمي على هذا الأمر قائلاً: [اندهش يشوع بن نون الذي خلف موسى، فأتى إليه وسأل: ألم تسمع أن ألْداد وميداد يتنبآن؟ لقد دُعيا ولم يأتيا يا سيدي موسى، اردعهما! أجاب موسى: لا أستطيع أن أردعهما لأن هذه النعمة من السماء! كلا! حاشا لي أن أمنعهم، بل أشكر الله على ذلك. إنني لست أظن أنك قلت هذا عن حسد، هل أنت تغار لي لأنهما يتنبآن وأنت لا تتنبأ إلى الآن؟ انتظر الوقت المناسب. ياليت كل شعب الرب يكونون أنبياء حين يجعل الرب روحه عليهم.
لقد نطق بهذا متنبأ “حين يجعل روحه عليهم”… لقد لمح في السرّ ما كان مزمعًا أن يحدث بيننا في يوم البنطيقستي، لأن الروح القدس بنفسه حلَّ بيننا[47]].
كأن ما حدث لألْداد وميداد كان نبوءة لحلول روح الله القدس على كنيسة الأمم التي كانت قبلاً خارج المَحَلَّة، لقد ضم الرب إليه الذين كانوا قبلاً في الخارج.
مرة ثانية يعلق القدِّيس كيرلس الأورشليمي على هذا الأمر هكذا: [ليس بمعنى أن الروح القدس قد انقسم إنما وزع نعمته حسب الأواني وسعة القابلين. كان حاضرًا ثمانية وستون شيخًا فتنبأوا، أما ألْداد وميداد فلم يكونا حاضرين. من هنا يظهر أنه ليس موسى واهب العطيّة بل الروح هو الذي عمل. إن ألْداد وميداد اللذين دُعيا مع عدم حضورهما في ذلك تنبآ أيضًا[48]].
لعل الله اختار هذين الشيخين بالذات لنوال هذه النعمة الإلهيّة لأن الأول اسمه يعني “من يحبه الرب” والثاني “محبوب”، وكأن عطيّة الروح القدس إنما هي عطيّة المحبة، قدَّمها الله لكنيسته من أجل محبته لها. إنها محبوبته تتقبل روحه الذي يقدسها ويهيئها عروسًا سماويّة تدخل إلى حجاله الأبدي تشاركه أمجاده الأبديّة.
- الله يطعم شعبه:
استصعب موسى النبي الأمر حين أمر الله أن يتقدس الشعب ليعطيهم سؤل قلبهم فيأكلون لحمًا لا يومًا واحدًا ولا يومين ولا خمسة أيام ولا عشرة أيام ولا عشرين يومًا بل شهرًا من الزمان (ع 19-20) إن كان عدد الرجال المشاة حوالي ست مائة ألف نسمة بخلاف النساء والأطفال واللاويّين… وكأن تعدادهم يبلغ حوالي 2 مليون نسمة، كيف يأكل هؤلاء جميعًا لحمًا في البريّة لمدة شهر من الزمان؟ قال موسى: “أيذبح لهم غنم وبقر ليكفيهم أم يجمع لهم كل سمك البحر ليكفيهم؟” [22]. وكأنه يقول إن الأمر يحتاج إلى ذبح كل المواشي أو صيد كل سمك البحر… لكن الرب أجابه: “هل تقصر يدّ الرب؟ الآن ترى أيوافيك كلامي أم لا” [23]. لقد أشبعهم الرب لحمًا لا بذبح مواشي ولا بصيد أسماك، إنما أرسل لهم طيرًا صغيرًا “السلوى” أو “السمّان” ساقها إليهم بريح نحو المَحَلَّة. هكذا يعطينا الله أكثر مما نسأل وفوق ما نطلب وبطريقة لا نتوقعها معلنًا أن يده لا تقصر، قائلاً: “لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود” (زك 4: 6).
يرى البعض في تصرف الله أن هذا الإنسان ينبغي أن يشبع كل احتياجات طفله ولا يحرمه من شيء حتى لا يشتهي شيئًا، فقد أشبع الله الشعب وأعطاهم أكثر مما يطلبون، غير أن الرأي المضاد يرى أن الإنسان إذ يعتاد على حياة الترف في طفولته لا يقدر أن يتخلى عنها[49].
لقد قدَّم الله لهم لحمًا بكثرة، وإذ انقضوا عليها بشراهة وشهوة غضب الرب عليهم وضربهم ضربة عظيمة جدًا (ع 33)، ليس لأنهم يأكلون اللحم ولكن من أجل الشهوة التي تملكت عليهم، وكما يقول المرتل “بل اشتهوا شهوة في البريّة وجربوا الله في القفر، فأعطاهم سؤلهم وأرسل الله هزالاً في أنفسهم” (مز 106: 15).
قبل أن ننهي الأصحاح نذكر تعليق العلامة أوريجينوس على قول الوحي: “خرج موسى وكلَّم الشعب بكلام الرب” [24]: “مادام موسى يصغي إلى كلام الرب ويستلم التعاليم يكون في الداخل، يعيش في خلوة أكثر سرية، لكنه عندما يتكلم مع الجموع لا يقدر أن يبقى في الداخل بل يقول الكتاب أنه خرج… أظن أن بولس أيضًا كان يفعل هكذا، فإنه كان في الداخل عندما قال: “نعلم بحكمة بين الكاملين ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر، ولا من عظماء هذا الدهر” (1 كو 2: 6). انظر كيف كان بولس في الداخل ينظر إلى أسرار الحكمة الإلهيّة الداخليّة أثناء تسلمه هذه التعاليم. لكنه عندما يخرج للشعب اسمع بماذا يعلم: “لا تخرج كلمة رديئة من أفواهكم” (أف 4: 29)، “لا يسرق السارق فيما بعد” (أف 4: 28) الخ… هذه الكلمات وما على نمطها إنما هي تعاليم الرسول ينطق بها حين يخرج خارجًا ليعلم الشعب كما فعل موسى النبي[50].